عرض مشاركة واحدة

قديم 04-03-14, 04:49 AM

  رقم المشاركة : 16
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

نشأة عماد الدين زنكي

لا يحسبنَّ أحدٌ أن كل ما ذكرناه من فضائل في حياة قسيم الدولة آق سنقر كانت تخفى على الطفل الصغير عماد الدين زنكي ! فعقول الأطفال أوسع بكثير مما نتخيل ، وكان رسول الله يعرض على الأطفال قضايا في منتهى الحساسية ، وفي قمة العمق ، وما أروع عرضه للإسلام على الطفل الصغير عليّ بن أبي طالب ! وما أروع شرحه للعقيدة بكل تفصيلاتها للطفل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ! وما أروع إستشارته للطفل أسامة بن زيد رضي الله عنهما في قضية أهل بيته عائشة رضي الله عنها هل يطلِّقها أم يبقيها !!

إن عقول الأطفال تستوعب تصرُّفات الآباء في سنٍّ مبكِّرة جدًّا ، خاصَّةً في هذا الزمن الأول ، حيث كان الطفل يحفظ القرآن في عمر السابعة ، ويحفظ كتب الفقه والحديث وهو لم يبلغ العاشرة ، وكان يجاهد في سبيل الله وهو لم يبلغ الخامسةَ عشْرَةَ ، وكان يقود الجيش وهو لم يبلغ الثامنةَ عشْرَةَ ، وكان يحكم البلاد وهو لم يبلغ العشرين !!

إنها حياة جادَّة تستوعب إمكانيات الطفل وتنميها ، فتضيف إلى عمره أعمارًا جديدة ، بدلاً من الحياة اللاهية التي يبلغ فيها الشابُّ الثلاثين من عمره وأكثر ، وهو لا يمتلك بعدُ الخبرة التي تمكِّنه حتى من الإعتماد على نفسه .

مات آق سنقر ، وترك عماد الدين زنكي محمَّلاً بحبِّ الشريعة والجهاد ، وراغبًا في نصرة الدين والمسلمين ، وشاعرًا تمامًا بهموم أُمَّته ومشاكلها ؛ لذلك إختار عماد الدين زنكي في هذه السنِّ الصغيرة أن يحيا حياة الجهاد والجدِّيَّة .

ترك عماد الدين زنكي حلب بعد مقتل أبيه ، فلم يكن يستطيع - على رغم حبِّ كل الناس له - أن يعيش في بلدٍ يحكمه تتش قاتل أبيه ، وخاصَّة أن تتش كان ظالمًا فاسدًا لا ينظر مطلقًا إلى مصالح أُمَّته ، بل لا يصرف وقته ولا جهده إلا لمصالحه الخاصَّة فقط ..

فإلى أين انتقل عماد الدين زنكي ؟! , لقد انتقل إلى الموصل !

ولعلَّ هذا الإنتقال في الأساس كان لولاية كربوغا على الموصل، وكربوغا هو أمير تركماني تحدَّثنا عنه أيام بدايات الحروب الصليبية ، وكان صديقًا شخصيًّا لآق سنقر ، فلما مات إستقدم إبنه عماد الدين زنكي، وضمَّه إلى جيشه ، وكان هذا في سنة 489هـ ، وعماد الدين زنكي في الثانيةَ عشْرَةَ من عمره .

وأخذ يوالي تدريبه على الفروسيَّة والقتال وإدارة الجيوش ، وهكذا قَيَّض الله لعماد الدين زنكي من يصقل شخصيته ، وينمِّي مواهبه .

وإشترك عماد الدين زنكي فعلاً في القتال مع كربوغا لأوَّل مرَّة حين كان يخضع بعض الولايات لحكم السلطان بركياروق ، وكان عماد الدين زنكي لا يتجاوز في هذه المعركة الرابعةَ عَشْرَةَ من عمره .

وفي حياة كربوغا - وتحديدًا في سنة (491هـ) 1097م - إحتلَّ الصليبيون مدينة أنطاكية ، وأرسل السلطان بركياروق جيشًا بقيادة كربوغا لحرب الصليبيين ، ولكن الجيش مُنِيَ بالهزيمة كما مرَّ بنا ، ولا ندري إن كان الطفل عماد الدين زنكي كان مشاركًا في هذا القتال أم لا ، ولكن المؤكد أنه عاش قضية الصليبيين من أوَّلها ، فلا شكَّ أن كل الأحاديث التي كان يسمعها في بلاط كربوغا كانت تدور حول الصليبيين .

لقد عاش عماد الدين زنكي القصة من أوَّلها !

ومات كربوغا سنة (495هـ) 1102م ، وكان عماد الدين زنكي في الثامنةَ عَشْرَةَ من عمره ، وكان من توفيق الله أنَّ الذي تولَّى الإمارة في الموصل بعد ذلك كان جكرمش ، وكان أيضًا من أخلص أصدقاء الأب قسيم الدولة آق سنقر ، ومن ثَمَّ إستكمل مسيرة كربوغا في تربية عماد الدين زنكي ، وفي تقديمه على غيره ، وتعليمه كل فنون القيادة والإدارة .

إننا نرى بوضوح أن الله يُسَخِّر لعماد الدين زنكي مَن يضع قدمه على الطريق ، ويوجِّه خطواته التوجيه الأصوب .

وعند عزل جكرمش سنة (500هـ) 1106م ، حكم الموصل جاولي سقاوو ، لكن جاولي كان على خلاف الأمراء السابقين ، لقد كان ظالمًا فاسدًا لا يفكِّر إلاَّ في مصالحه ، بل وصل الأمر في سنة (501هـ) 1107م ، أي بعد سنة واحدة أن قرَّر جاولي أن ينفصل بحكم الموصل عن سلطة السلطان محمد السلجوقيّ ، وهو السلطان الذي خَلَف أخاه السلطان بركياروق منذ سنة (494هـ) 1100م ، وهنا يتَّخذ عماد الدين زنكي موقفًا عجيبًا ! لقد كان آنذاك في الرابعة والعشرين من عمره فقط ، ومع ذلك فقد قرَّر أن يخرج من جيش جاولي ، وهو رئيسه المباشر ، لينضمَّ إلى السلطان محمد السلجوقي ، وكانت هذه الخطوة في منتهى الخطورة عليه ، لكنه أقدم على هذه الخطوة دون تردُّد مُكَرِّرًا ما فعله أبوه قبل ذلك بخمسةَ عَشَرَ عامًا بحذافيره ! لقد كانت الرؤية واضحة تمامًا عند عماد الدين زنكي أن ولاءَه الرئيسي للسلطان العادل محمد السلجوقي ، وليس للأمير الظالم جاولي ، ولا بُدَّ أن يعلن هذا الولاء ، ولو كان الثمن منصبه ، بل ولو كان الثمن حياته !

ولكن الله سلَّم ، وحَفِظ عماد الدين زنكي ، وباءت ثورة جاولي بالفشل ، وعَرَف السلطان محمد السلجوقي القائد الشابّ الجديد عماد الدين زنكي إبن قسيم الدولة المشهور والمحبوب إلى ملكشاه والد السلطان محمد ، وأوصى السلطان محمد بعماد الدين زنكي خيرًا ، ورفع ذلك إسمه في عيون الجميع .

ثم كانت لحظة فارقة في حياة عماد الدين زنكي ، حين تولَّى أمرَ الموصل شخصيةٌ من أعظم الشخصيات في التاريخ الإسلامي ، وهو مودود بن التونتكين رحمه الله ، وقد مرَّ بنا طرف من حياته ، وكانت هذه الولاية مدة ستِّ سنوات ، كان فيها عماد الدين زنكي من أقرب الناس إلى مودود ، ومَنْ أدراك مَنْ مودود !!

إنه - كما مرَّ بنا - من أصلح الأمراء ، وأتقاهم لله ، وأحبهم للعبادة ، وأعدلهم مع الرعيَّة ، وأخلصهم في الجهاد في سبيل الله ، وأرغبهم في وَحْدَة المسلمين ، وأكرههم للصليبيين ، لقد أدرك عماد الدين زنكي مودودًا رحمه الله ، وكان عماد الدين زنكي في ريعان شبابه ، فقد صحبه حين كان يبلغ من العمر أربعة وعشرين عامًا ، وقُتِل مودود ، وقد بلغ عماد الدين زنكي ثلاثين عامًا ..

إنها فترة النضج الحقيقية في حياة المجاهد عماد الدين زنكي ، شَرِب فيها عماد الدين زنكي كل توقير وتقدير للشريعة .

وشرب فيها كيف يمكن بذل الوقت والجهد والنفس في سبيل إعلاء كلمة الله في الأرض ..
وشرب فيها كل المهارات القيادية والفنية والقتالية التي يتمتَّع بها مودود .
وشرب فيها الشجاعة والجرأة والفكر العسكريّ الصائب .
وشرب فيها في ذات الوقت كراهية كبيرة للصليبيين الذين إستباحوا بلاد المسلمين ، وللباطنية الذين قتلوا مودودًا رحمه الله ، وللزعماء التافهين الذين تركوا مودودًا في أزمته ، بل أغروا به سفهاءهم ليقتلوه !

ومع مودود - وفي سنة 507هـ\ 1113م - شهد عماد الدين زنكي موقعة الصِّنَبَّرة ، حيث ذاق حلاوة النصر على الأعداء ، وذاق طعم العزَّة والكرامة ، وأبلى عماد الدين زنكي في هذه الموقعة بلاءً حسنًا غير مسبوق ، وأظهر شجاعة نادرة ، ومقدرة قتالية فذَّة ، حتى إكتسب شهرة واسعة في كل بلاد المسلمين ، وصار حديث الناس ، كما كان أبوه حديث الناس وأشدّ !

ثم قُتِلَ مودود رحمه الله .

وكانت صدمة كبيرة لعماد الدين زنكي ، فقد أحبَّه حبًّا شديدًا من أعماقه ، ثم إنها كانت صدمة لإكتشافه بحجم المؤامرات الدنيئة في العالم الإسلامي ، وعَلِم على وجه اليقين أن قتال الصليبيين مستحيل في وسط هذه الأجواء ، وليس هناك بُدٌّ من إصلاح الداخل قبل الصدام مع الأعداء الخارجيِّين .

ثم تولَّى آق سنقر البرسقي ولاية الموصل للمرَّة الأولى ، وذلك من سنة (507هـ) 1113م إلى سنة (509هـ)1115م ، وإشترك معه عماد الدين زنكي بقوة في معاركه ضد الصليبيين ، وحاصر معه الرها وسُمَيْساط وسروج ، مما زاد من شهرة عماد الدين زنكي لدى الجميع .

ثم بعد عزل آق سنقر البرسقي سنة (507هـ) 1115م ، وتولية جيوش بك دخل عماد الدين زنكي تحت زعامة الأمير الجديد ، وعندما حاول جيوش بك أن يقوم بمحاولة إنقلابية على السلطان محمود سنة (514هـ)\ 1121م ، رفض عماد الدين زنكي أوامر قائده الأقرب جيوش بك ، وأصرَّ على الولاء للسلطان الأعلى محمود ، وقد فشلت هذه المحاولة الانقلابية ، ورفع هذا كثيرًا من أسهم عماد الدين زنكي عند السلطان محمود .

ثم أُعِيد تولية آق سنقر البرسقي على الموصل سنة 515هـ ، فعاد عماد الدين زنكي من جديد إلى تبعيَّته آق سنقر البرسقي ، وعندما إنتُدِبَ آق سنقر لإدارة الأمن في بغداد للسيطرة على بعض الأمور الخطيرة سنة (516هـ) 1122م ، وكان دُبَيْس بن صَدَقَة قد قاد ثورة في بغداد للسيطرة على الحكم هناك ، أخذ آق سنقر عماد الدين زنكي معه لثقته في قدراته العسكرية والإدارية ، بل إن آق سنقر البرسقي ولَّى عماد الدين زنكي منطقة واسط حيث المركز الرئيسي لدبيس بن صدقة ليكون في مواجهته مباشرة ، ممَّا يدلُّ على عظيم ثقة آق سنقر في القائد العظيم عماد الدين زنكي .. وبالفعل إستطاع عماد الدين زنكي أن ينتصر على دبيس ويعيد الأمور إلى نصابها ، ولما هاجمت الأعراب مدينة البصرة هجمات متكرِّرة أعطى آق سنقر ولاية البصرة لعماد الدين زنكي للسيطرة على الأوضاع هناك ، فنجح في فترة وجيزة أن يُسَيْطِر على الأعراب ويمنع هجماتهم ، مما جعله بحقٍّ رجل المهام الصعبة في الدولة السلجوقية .

وكان ولاء عماد الدين زنكي في كل هذه الأحداث للسلطان السلجوقيّ وأمرائه ، ولم يكن للخليفة العباسي ، إنما كان يُدَافِع عن الخليفة العباسي في بغداد لأن مصالح السلطنة كانت متوافقة مع مصالح الخلافة، ولكن عند تَعَارُض مصالح السلطنة مع الخلافة ، مثل الخلاف الذي حدث سنة 519هـ بين السلطان محمود والخليفة المسترشد بالله ، كان عماد الدين زنكي يقف إلى جوار السلطان دون تردد ، وهذا في رأيي أمر طبيعي ومُتَوَقَّع ، مع أنه قد يُسَبِّب لنا حرجًا في الفهم ، عندما نجد أن عماد الدين زنكي يقف بجيشه أحيانًا في وجه الخليفة ، لكنْ تعالَوْا نفهم حقيقة الأمر بهدوء ، وهذا سيساعد في فهم كثير من الأحداث المستقبليَّة ..

لقد عاش خلفاء بني العباس منذ فترة طويلة جدًّا تجاوزت المائتي سنة تحت السيطرة العسكرية لغيرهم، فكانت السيطرة تارة للأتراك ، ثم أخرى للبويهيين الشيعة ، ثم أخيرًا للسلاجقة ، وفَقَدت كلمة الخلافة كل معنًى لها ، وصار الحكم كله في يَدِ الحاكم العسكري الذي يملك الجيوش والوزارات والأموال والقرارات والإتفاقات الدُّوَلِيَّة ، والأمور الداخلية الأمنية وغيرها ؛ وفي ظلِّ هذه الأوضاع توارث الخلفاء اللقب والثروات الشخصيَّة فقط ، وكان أقصى أحلام كلِّ خليفة أن يُسَيْطِرَ فقط على الأمور في بغداد ، ولا أقول العراق !

بمعنى أنَّ الخليفة في أفضل أحواله كان كالمحافظ على بغداد ، بينما السلطان المهيمن على الحكم يحكم دولة شاسعة من الصين إلى الشام ، وتضمُّ بين طيَّاتها العراق بما فيه بغداد ، وكان السلاطين - وخاصة السلاجقة - يحافظون على بقاء الخليفة كرمز ليجمع الأُمَّة حول معنًى واحدٍ ، ويُعِيد إلى أذهانهم دومًا أنهم أُمَّة واحدة ، وصار وضع الخليفة في الدولة الإسلامية كوضع الملك أو الملكة الآن في البلاد التي أصبحت تُدَارُ بنظام جمهوري كإنجلترا وإسبانيا وكندا وهولندا ؛ فهو مجرَّد رمز يذكِّر الناس ببعض المعاني الجميلة ، ولكن ليس له دخلٌ في الحكم أو الإدارة أو أيِّ قرار .

ولكن أحيانًا كان الخليفة - كما في حالة المسترشد بالله في قصَّتنا - يجد في نفسه قوَّة ، وتُرَاوِدُه الطموحات الكبيرة أن يُعِيَد للقب "الخليفة" هيبته الحقيقية ، فيُكَوِّن جيشًا من أهل بغداد وما حولها ، ويبدأ بمهاجمة السلطان ، ومحاولة فرض الرأي عليه ولكن هذا في الحقيقة وضع مقلوب ، فبعيدًا عن الألقاب فإنَّ تَشَتُّتَ السلطة بين خليفة وسلطان يُضعف الولاء عند الجميع ، ويُدْخِل البلاد في حالة من الاضطراب غير المقبول ؛ ولذلك كان عماد الدين زنكي يقف بصرامة مع السلطان القويِّ في مواجهة الخليفة الضعيف ، مع أنَّ قوَّة الخليفة كانت أحيانًا تقوى محلِّيًّا حتى تتغلَّب على جيوش السلطان المحلِّيَّة في بغداد أو ما حولها ، لكنها تبقى في النهاية محلِّيَّةً .

ثم إنَّ عماد الدين زنكي بدأ في الظهور أكثر وأكثر نتيجة النجاحات المتتالية التي يحقِّقُها ، ممَّا جعل السلطان محمود سلطان السلاجقة العظام في فارس يستدعيه إلى أصفهان ، ويُقَرِّبه منه ، ويُولِيه ثقته ، ويزوِّجه أرملةَ كندغدي ، وهو أحد أكبر أمراء السلطان ، ثم ولاَّه على إمارة البصرة في سنة 518هـ ، ثم عيَّنه في سنة 521هـ في منصب خطير ، وهو "شِحْنَة العراق" أي مدير أمن العراق بكاملها ، بل وزاده على ذلك أمرًا عظيمًا ، وهو أن جعله بالإضافة إلى إدارة الأمن في العراق "أتابكًا" لولديه ألب أرسلان ، وفروخ شاه ؛ والأتابك هو المربِّي ، فأصبح عماد الدين زنكي هو الأتابك عماد الدين زنكي ، وأصبح مسئولاً عن تنشئة أولاد السلطان تنشئة عسكرية سياسية شرعية متميزة ..

لقد كان طريقًا طويلاً صعبًا بدأه عماد الدين زنكي في سنٍّ صغيرة مبكرة ، وعاش حياة جدية تمامًا ، ولم يكن يلهو في حياته كما يلهو الأطفال أو الشباب ، إنما كان رجلاً بمعنى الكلمة ، يعيش هموم أُمَّته ، ولا يهتم بسفاسف الأمور ؛ فأجرى الله على يديه من الخير الكثير ، وحقَّق نجاحات عظيمة ، وكان كلُّ ذلك تأهيلاً لما هو آتٍ، فقد كان على موعد في مستقبله مع مهمة أثقل ، ووظيفة أصعب ، وهي مواجهة الكيان الصليبي الذي إستقرَّ في بلاد الإسلام منذ ثلاثين سنة ، وباءت محاولات المسلمين في كل السنوات السابقة بالفشل في إخراج الصليبيين من الأراضي التي إحتلُّوها ، فكانت هذه المهمة تحتاج إلى رجلٍ من طراز عماد الدين زنكي !

لقد كان من قدر الله أن سخَّر الرسولين اللذين أرسلهما جاولي - المملوك الذي سيطر على الأمور في حلب - ليعرضا على السلطان محمود إسم عماد الدين زنكي ليتولى أمور الموصل وحلب ، وبالتالي يواجه الصليبيين بمهارته المعروفة ، ووجد الإسم قبولاً عند السلطان محمود دون تردد ، ومن ثَمَّ عهد إلى عماد الدين زنكي في 3 من رمضان 521هـ\ 13 من سبتمبر 1127م بولاية الموصل والجزيرة (شمال العراق) وما يفتحه من بلاد الشام ، لتبدأ بذلك مرحلة مهمة في التاريخ الإسلامي تُعرف بالدولة الزنكية التي بدأ تأسيسها عماد الدين زنكي في سنة 521هـ ، وتبدأ في نفس الوقت مرحلة جديدة من مراحل الصراع الإسلامي- الصليبي في قصة الحروب الصليبية .

- عماد الدين زنكي أتابك الموصل

عماد الدين زنكي شخصية فريدة في التاريخ الإسلامي ، ورأينا كيف كانت جذوره طيبة ، وقد ترك له والده آق سنقر الحاجب رحمه الله كلَّ خير ، ورأينا كذلك تدرجه في الأعمال والمناصب حتى وصل إلى رئاسة إمارة الموصل ، وهو منصب رفيع جدًّا ، لكن كم من الأمراء وصلوا إلى هذا المنصب قبل ذلك ، ولم يغيِّروا أحداث التاريخ ! لكن عماد الدين زنكي لم يكن كعامة الأمراء بل كان متميزًا متفردًا مؤثرًا في كل من حوله ، ناقلاً للأمة الإسلامية بكاملها نقلة نوعية كان لها من الأثر ما تجاوز عشرات السنين !

وما أبلغ ما قاله عماد الدين الأصفهاني وهو يصف عماد الدين زنكي رحمه الله حين قال : " كان قطبًا يدور عليه فلك الإسلام !" .. لقد صوَّر العماد الأصفهاني عماد الدين زنكي بأنه أصبح مركزًا لكل عمل مهم في الأمة الإسلامية ، فصار كل شيء إسلامي في زمانه مرتبطًا به ، متأثرًا بأفعاله ! وهي درجة لا يصل إليها إلا أعاظم المسلمين ، وأكابر المجددين .

إنني أعتبر عماد الدين زنكي بشخصيته المتميزة "رجل المرحلة"! إنه الرجل المناسب الذي توفرت فيه الصفات التي تؤهِّله للأخذ بيد الأمة في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ الأمة ، وهذا من فضل الله عليه وعلى الناس ، وهذا من رحمة الله بالمسلمين ، فهو يرزقهم في كل مرحلة من مراحل حياتهم قائدًا يحمل من الصفات ما يصلح لعبور هذه المرحلة بكل ما فيها من أزمات .

ولقد جمع عماد الدين زنكي من الصفات ما تجعله يصلح أن يكون "نموذجًا" للحاكم المسلم ، بحيث تصبح أقواله وأفعاله وأخلاقه واختياراته معيارًا تستطيع أن تحكم به على صلاح حاكم أو فساده ، وليس هذا مبالغة ، بل هو قليل من كثير .. ولعله من المناسب أن نقترب أكثر من شخصية عماد الدين زنكي فنطَّلع على جوانبها وصفاتها وأهم مميزاتها ، وذلك قبل الخوض في تفصيلات قصته في إمارة الموصل ، وخطوات تغييره للواقع الأليم الذي كانت تعيشه الأمة ، وهذا الإقتراب من شخصيته سيضع أيدينا على المفاتيح المهمة التي ينبغي لكل مصلح أن يتحلى بها ؛ ولذلك فهي من أهم النقاط في هذا البحث الخاص بالحروب الصليبية .. وصفات الخير فيه كثيرة ، ولكن من أهمِّها ما يلي :

أولاً: الإخلاص والتجرد لله

وهذه كانت صفة غالبة على كل حياته رحمه الله، وبها كان يُنصر ويتمكن ، ولعل القارئ يتعجب من ذكر صفة الإخلاص كصفة واضحة في حياة عماد الدين زنكي ؛ لأن الإخلاص صفة قلبية ، وهي بين العبد وبين الله ، ولا يطَّلع عليها عموم الناس، ولكن الإخلاص له شواهد وعلامات ، وكل هذه العلامات والشواهد رأيناها بوضوح في حياة عماد الدين زنكي ؛ لذلك نشهد له بهذا ، ونسأل الله أن يتقبل كل أعماله الصالحة .

فمن شواهد الإخلاص في حياته مثلاً ثباته على الفكرة طيلة أيام عمره ؛ فقد جعل قضية إخراج الصليبيين من بلاد المسلمين قضية حياته ، فبذل جهده في هذه القضية عشرين سنة متصلة هي مدة حكمه للمسلمين ، هذا غير السنوات التي سبقت إمارته ، والتي كان فيها يشارك الأمراء السابقين في غزو الصليبيين وجهادهم .

إن الرجل الذي يتذبذب بين الإخلاص لله والعمل للذات وللنفس ، يغيِّر كثيرًا من قضاياه تبعًا للظروف ، أما أن تمر الأعوام تلو الأعوام وعماد الدين زنكي لا يتغير ولا يتبدل ، فهذا معناه أنه رجلٌ يعمل لله .

ومن شواهد إخلاصه أيضًا تقديمه لمصالح المسلمين على مصلحته الشخصية ، فقد خاطر كثيرًا بملكه الشخصيّ في سبيل نصر المسلمين ، وما أروع ما فعل حين وُضع في مأزق عسكري في أحد حروبه ضد الصليبيين سنة (532هـ) 1137م ، فقرر الإستعانة بجيوش السلطان السلجوقي مسعود ، فقال له أحد المستشارين : إن هذا قد يشجِّع السلطان على ضم حلب إلى أملاكه ؛ فتضيع بذلك من زنكي .. فقال عماد الدين زنكي : " إن هذا العدو (الصليبيين) قد طمع في البلاد ، وإن أخذ حلب لم يبق بالشام إسلام ، وعلى كل حال فالمسلمون أولى بها من الكفار!" .

وهذه الرؤية الرائعة تختلف كثيرًا عن رؤية عموم الأمراء الذين رأيناهم في قصة الحروب الصليبية ، حيث كان الأمير لا يخاطر بالإستنجاد بأميرٍ آخر خوفًا من أن يتملك هذا الأمير الجديد كل شيء ، بل لا يمانع بعض الأمراء من الإستعانة بالصليبيين في سبيل الحفاظ على ملكهم ، بل وأكثر من ذلك فقد دبَّر بعض الأمراء مؤامرات لقتل الزعماء المسلمين المجاهدين خوفًا من دخول إماراتهم تحت سلطة الزعيم المجاهد ، وما أحداث قصة مودود رحمه الله منا ببعيد !

ومن شواهد إخلاصه أيضًا أنه كان يخاطر بحياته في المعارك فلا يقاتل في أخريات الصفوف ، أو بمنأى عن المخاطر ، بل كان يتقدم الجميع ، وكثيرًا ما يكون أقرب الناس إلى العدو ؛ ولقد فَرَش في ليلة من الليالي بساطًا كبيرًا ، ووضع عليه الطعام ، وكان محاصِرًا لإمارة الرها ، فنادى في جيشه قائلاً : " لا يأكل معي على مائدتي هذه إلا من يطعن معي غدًا في باب الرها!" أي أنه سيصل في قتاله غدًا إلى أقرب النقاط من الحصن ، حيث سيباشر محاولات كسر الباب بنفسه ، وهذا سيجعله في مرمى سهام العدو ، وسيعرِّض حياته للهلكة ، لكنه كان يفعل ذلك دومًا رحمه الله ؛ وعندما قال كلماته هذه لم يتقدم إليه ليأكل معه غير أمير واحد ، وصبي آخر لا يعرفه ! فقد أحجم الجميع لمعرفتهم بإقدام عماد الدين زنكي ورغبته الصادقة في الشهادة ، وقد قال الأمير للصبي الصغير : ما أنت وهذا المقام؟ فكأنه يستصغر شأنه ، ويشك في ثباته ، فقال عماد الدين زنكي: " دعه ؛ فإني أرى - والله - وجهًا لا يتخلف عني !"، وقد كان وثبت الصبي معه !

ومن شواهد إخلاصه أيضًا إجتماع الناس على حبِّه ؛ فقلوب العباد بين أصابع الرحمن سبحانه وتعالى ، وقد رأينا اجتماع أهل البلاد المختلفة على حبه ، ورأينا إجتماع الوزراء والقضاة وعلماء الدين على هذا الحب أيضًا ، ومن اجتمع له حب الناس بهذه الصورة فهو دلالةٌ على حب الله له ، والله لا يحب إلا المخلصين له .

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة ، أن رسول الله قال : " إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحْبِبْهُ ؛ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ ؛ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ" .. فإذا رأيت حاكمًا قد وُضع له القبول في الأرض فأحبه الناس ، فهذا علامة على إخلاص هذا الحاكم وحب الله له .

ومن شواهد إخلاصه رحمه الله أيضًا أن الله نصره في معظم لقاءاته مع الصليبيين ، والله لا ينزل نصره إلا لأحبابه وأنصاره ومن أخلصوا له ، والآيات في هذا المعنى كثيرة؛ ومنها على سبيل المثال : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) ، ومنها : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ ) ، (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) .

ومن شواهد إخلاصه أخيرًا حسن الخواتيم ، فسوف نرى أنه سيُقتل رحمه الله في ميدان الجهاد ، فهذه الخاتمة في هذا الميدان هي من أسعد الخواتيم ، وهي أمنية الصالحين ، ولقد قال رسول الله فيما رواه أحمد عن عمر الجُمَعِيِّ : " إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا إستعمله قبل موته" .. فسأله رجل من القوم ، وما أستعمله ؟ قال : "يهديه الله إلى العمل الصالح قبل موته ، ثم يقبضه على ذلك" .

فهذه بعض الشواهد على إخلاصه رحمه الله ، وهي سر تفوقه وتميزه ، فإن الله كان معه في كل خطواته ، مع نشأته يتيمًا ووحيدًا إلا أن الله سخَّر له من يتولى شئونه ، ويرعى أموره حتى صار إلى ما صار إليه .

ثانيًا : توقيره رحمه الله للشريعة والدين

وهذا أمر واضح في حياته رحمه الله ، فقد حرص على إقامة الحدود الشرعية في كل المناطق التي يحكمها ، وكان يلتزم بحكم الشريعة ويلزم بها الناس ، وما أكثر المواقف في حياته التي كان يجمع فيها الفقهاء ليأخذ رأيهم في المسألة ! وكان يُعطِي العلماء في إمارته منزلة عظيمة ؛ قال ابن الأثير عن القاضي بهاء الدين الشهروزري : "أن عماد الدين زنكي كان لا يصدر إلا عن رأيه" .

ومثل هذا الكلام قيل في معظم العلماء الذين عاصروا عماد الدين زنكي ، وقد إستقدم عماد الدين زنكي العلماء من كل مكان ، وأوكل لهم رعاية أمور الناس ، بل أوكل لهم تربية أبنائه ، فخرج أبناؤه على نفس الصورة البهية وأكثر ، وخاصةً نور الدين محمود وسيف الدين غازي ..

ولعل مما يؤكد على حبه للدين أنه سمَّى أولاده كلهم بأسماء مرتبطة بالدين ، فأولاده هم : سيف الدين ، ونور الدين ، وقطب الدين ، ونصرة الدين ؛ وهذه - والحمد لله - كانت سمة عامة في هذا الجيل ؛ ولذلك كتب الله له النصر ، فآق سنقر سمَّى إبنه عماد الدين ، ووُلد في هذه الفترة أيضًا صلاح الدين الأيوبي ، وكان القاضي لعماد الدين هو بهاء الدين ، وكان نائبه هو نصير الدين ، وهكذا؛ وهذا على خلاف الفترة السابقة لهذا الجيل ، حيث كانت أسماء الملوك والأمراء ترتبط بالدولة والملك ؛ ولذلك كثرت حينها الأسماء مثل : شرف الدولة ، وجناح الدولة ، وعضد الدولة ، وبهاء الدولة ، وتاج الملوك ، وشمس الملوك ، وما شابه ذلك من أسماء تدل على التمسك بالحكم لا بالدين .

ومع هذا التوقير الشديد للعلماء إلا أن عماد الدين زنكي رحمه الله ما كان يبخل بالنصح والإرشاد للعلماء بقدر طاقته ، وما أروع ما قاله لهبة الله بن أبي جرادة ، وهو من العلماء الأجلاء ، عندما ولاَّه قضاء حلب حيث قال له : " هذا الأمر قد نزعته من عنقي ، وقلدتك إياه ، فينبغي أن تتقي الله "!! وهذا من شدة توقيره للشريعة والدين ، حتى أصبح آمرًا للعلماء أن يتقوا الله .

ثالثًا : الشجاعة

وهذه صفة لازمة حتمية لكل من أراد أن يتولى شئون القيادة والإمارة ، وما أتعس الأمة لو تولى شئونها من يتصف بالخوف ، أو يغلب عليه الجبن !

وليست الشجاعة في ميدان الحروب فقط ، ولكن الشجاعة تكون قبل ذلك في مرحلة القرار ، فكثير من القواد لا يملك الشجاعة لأخذ قرار الجهاد أصلا ويتعلل بأنه لا يريد لأمته أن تعيش ويلات الحروب ! مع كون البلاد محتلة ، والكرامة مهانة ، والحقوق ضائعة ! لكن عماد الدين زنكي رحمه الله كان شجاعًا في كل شيء ؛ فكان شجاعًا في قراراته ، وشجاعًا في مواقفه المختلفة ، وشجاعًا في معاركه الكثيرة ، وهذا منذ أيامه الأولى ، وإلى آخر لحظات حياته .

ولقد شاهدنا شجاعته قبل ولايته حين كان يصحب أمراء الموصل كربوغا وجكرمش ومودود وآق سنقر البرسقي ، وإستمرت هذه الشجاعة بل زادت عندما تولى الإمارة ، وما أصدق الوصف الذي ذكره أبو شامة في حق عماد الدين زنكي حين قال : " وأما شجاعته وإقدامه ، فإليه النهاية فيهما ، وبه كانت تضرب الأمثال" !

أما إبن الأثير فقد قال عن عماد الدين زنكي : " وكان له الشجاعة في الغاية "! وقال في موضع آخر : "وكان أشجع خلق الله "! وفي موضع ثالث يقول : "وقد أظهر خلال معاركه شجاعة فائقة لم يُسمع بمثلها "! وفي موضع رابع : "فأظهر من الشجاعة ما لا يوصف" !

وهكذا كانت حياته كلها ، مما يدل على أن الشجاعة كانت صفة متأصلة فيه ، وليست عابرة في ظرف من الظروف ، أو موقف من المواقف .

رابعًا : العدل

لا بد أن يكون العدل صفة لازمة لأي حاكم صالح ؛ لأن الحاكم يملك القوة لفرض ما يريد ، فلو أراد الظلم لم يستطع أحد أن يمنعه ، ولو أراد العدل سعد به شعبه ، بل سعدت به الدنيا .

والعدل كان من السمات الرئيسية المميزة لعماد الدين زنكي ، حتى قال إبن الأثير في وصف فترة حكمه رحمه الله : " لا يقدر القوي على ظلم الضعيف !" .. وكان يوصي أمراءه دائمًا بالتخفيف على الرعية ، وتجنب أعمال السخرة ، وكان صارمًا في هذا الباب تمامًا ، ولقد إعتقل وزيره أبا المحاسن العجمي ؛ لأنه صادر بعض أموال الناس ، ولم يقبل له حجته ، فكان الشعب عنده مقدَّمًا على القادة والأمراء ، وكان شديد الحرص على ممتلكات الفلاحين البسطاء ، فيأمر جنوده بأن يسيروا وسط المزارع في منتهى الحذر ؛ لئلا يدوس أحدهم زرعًا لفلاح ، ولم يكن في زمانه يجسر جندي على أن يأخذ تبنًا لفرسه من فلاح بلا ثمن ، مع أن التبن سيؤخذ علفًا لخيول الجهاد إلا أن ذلك لا بد أن يكون بالثمن !
وإذا كان عماد الدين زنكي لا يسامح جنوده في تبنٍ أخذوه بغير ثمن ، فما بالك بالأراضي والأملاك والديار ؟!

لقد كان من عادة الأمراء قبله أنهم إذا دخلوا مدينة أو قرية كانت في حوزة غيرهم أخذوها وقسموها على الأجناد ، وبذلك تضيع ملكيات المالكين الأصليين ، حتى جاء عماد الدين زنكي فأقر نظام الإقطاعيات ورفض نظام الأملاك ، بمعنى أنه كان يعطي الأمير أو الجندي إقطاعية معينة في البلد المفتوحة يتولى إدارتها وتنظيمها وحمايتها دون أن يتملكها ، بل تبقى الملكية في يد المالك الأصلي ، ويدفع المالك ضريبة معينة مخففة للحكومة نظير التأمين والرعاية ، ومن هذه الضريبة يأخذ الأمير صاحب الإقطاع شيئًا ؛ أما الأرض فتبقى في يد مالكها ويتوارثها أبناؤه .. ولما ذهب إليه بعض أمرائه وجنوده الكبار يطلبون أملاكًا ، كما يفعل الزعماء غير عماد الدين زنكي ، قال لهم عماد الدين زنكي كلامًا من نور ! حيث قال لهم : " ما دامت البلاد بأيدينا (أي نحكمها) ، فأيُّ حاجةٍ بكم إلى الأملاك ؟! فإن الإقطاعات تغني عنها ، فإن خرجت البلاد من أيدينا ، فإن الأملاك تذهب معها (أي إذا تملك الصليبيون البلد ، فلن تنفع حينئذٍ ملكيته) ، ثم يكمل ويقول : "ومتى صارت الأملاك لأصحاب السلطان ظلموا الرعية ، وتعدوا عليهم ، وغصبوهم أملاكهم" .

إنه في هذا التصرف العادل يضع مصلحة الشعب والفقراء والبسطاء والضعفاء فوق مصلحة الأمراء والقادة ورجال الحكومة ، لكنه في الوقت نفسه طمأن قلوب الأمراء بأنه جعل لهم الإقطاعيات ، بمعنى مراكز القيادة والإدارة ، وجعل لهم دخلاً يتناسب مع حجم الإقطاعية ، فتحقق لهم ربح وفير دون الإخلال بحقوق الشعب ، بل إنه أدخل نظام التوارث في الإقطاعية ، فكان كثيرًا ما يُعطِي منصب حاكم الإقطاعية لإبن الأمير حال وفاة الأمير ؛ ليطمئن الأمير على مستقبل أولاده ، فلا يسعى في حياته إلى ظلمٍ يحفظ به أولاده بعد مماته .

ومن أروع مواقف عماد الدين زنكي بخصوص قضية الأملاك والإقطاعيات ما حدث عند فتحه للمعرَّة ، وأخذها من يد الصليبيين بعد إحتلال عدة سنوات !

لقد كان عماد الدين زنكي حنفيَّ المذهب ، وفي مذهب أبي حنيفة أن الأرض إذا إحتلها الأعداء غير المسلمين صارت دار حرب ، ثم إذا ردَّها المسلمون بعد ذلك صارت من أملاك الدولة ، فيأخذها بيت المال ، ويقسِّمها بمعرفته على مَن شاء من الناس دون النظر إلى الملكية السابقة للأراضي والديار .

فعند فتح المعرة جاء أهلها السابقون من كل مكان يطلبون أملاكهم القديمة ، فجاء عماد الدين زنكي بالفقهاء ليقولوا رأيهم في المسألة ، فأفتوا جميعًا برأي أبي حنيفة ؛ حيث إنهم جميعًا كانوا من العراق حيث ينتشر المذهب الحنفي ، وقالوا : إن الأرض لم تعد ملكًا لهم ، بل لبيت مال المسلمين (أي للدولة) !

فماذا فعل عماد الدين زنكي رحمه الله ؟! , لقد قال عماد الدين زنكي في فقهٍ عميق : " إذا كان الفرنج (الصليبيون) يأخذون أملاكهم ، ونحن نأخذ أملاكهم ، فأيُّ فرقٍ بيننا وبين الفرنج ؟ كل من أتى بكتاب يدل على أنه مالك لأرض فليأخذها " .. وبذلك ردَّ عماد الدين زنكي إلى الناس جميع أملاكهم ، ولم يتعرض لشيء منها .

وكان من منهجه رحمه الله ألا يبقي على مفسد ، وأنه يهتم بالأمن ونظامه في كل مكان ، فساد الأمن في كل مكان ، وقد كان هذا الأمن مضطربًا جدًّا خلال الفترة التي سبقت حكم زنكي ، وكان الناس لا يستطيعون قطع المسافات الطويلة دون حراسة ، حتى إن أهل الموصل كانوا لا يستطيعون الذهاب إلى الجامع الكبير الذي أُنشِئ خارج البلد إلا في يوم الجمعة ؛ وذلك خوفًا من السير بمفردهم دون حراسة ، لكن بعد حكم زنكي إنتشر الأمن والأمان ، بل زاد العمران ، وعمت البركة ، وتوسع الناس في البناء .

وهكذا سخَّر عماد الدين زنكي قوته لإرساء العدل ، فتحقق مراده ، بل أنعم الله عليه وعلى شعبه بما لا يتخيلون من خير وبركة .

ولم يكن هذا العدل خاصًّا برعيته المسلمين فقط ، بل شمل اليهود والنصارى ، فقد كان في ذات يوم في جزيرة إبن عمر ، فدخل عليه يهوديٌّ يشتكي أن عز الدين أبا بكر الدبيسي - وهو من أكبر أمراء عماد الدين زنكي - أخذ داره ليسكن فيها مدة بقاء الجند في الجزيرة ، فنظر عماد الدين زنكي نظرة غضب شديدة لعز الدين ولم يكلمه كلمة واحدة ، فتأخر عز الدين القهقرَى ، وعاد إلى البلد فأخرج خيامه ونصبها خارج البلد في مطر شديد ، ولم يستطع أن يؤخِّر إعادة الحق إلى اليهودي ليلة واحدة !

خامسًا : رقة القلب والمشاعر

ولعل الكثيرين يتعجبون من وجود هذه الصفة في عماد الدين زنكي ، أو في معرض حديثنا عن صفات الحاكم المسلم متمثِّلة في عماد الدين زنكي !

ووجه العجب أن الذي يشتهر عادةً عن القادة العسكريين هو الغلظة والجفاء وقسوة القلب ، كما أن الحاكم بما يقيمه من حدود ، وبما في يده من وسائل للعقاب قد يأخذ صورة مخالفة للرقة والرأفة ، غير ما إشتهر - للأسف الشديد - في بعض الكتب عن عماد الدين زنكي شخصيًّا أنه كان قاسيًا غليظًا !

وواقع الأمر أن صفة رقة القلب والرحمة من الصفات اللازمة للحاكم المسلم، وقد كان رسول الله أرحم الناس ، مع كونه حاكمًا وقائدًا ومجاهدًا من الطراز الأول .. وكانت هذه الصفة موجودة أيضًا في عماد الدين زنكي ، ولكن لجديته الشديدة ولإنشغاله طيلة حياته بالأمور الجسيمة العظيمة ، وبتحرير بلاد المسلمين من الغاصبين أُخذ عنه الإنطباع بالقسوة والغلظة على خلاف طبيعته .

إن ما ذكرناه سابقًا عن رفقه بالفلاحين ، وخوفه على أرزاقهم وأملاكهم وزرعهم وتبنهم ، لا يمكن أن يكون إلا من قلب رقيق مفعم بالمشاعر .

ثم إنه كان لا يؤاخذ الناس بالخطأ الأول ، وكان يعفو ويصفح إلى أبعد الحدود ، ولا يعزل أحدًا من منصبه إلا بتكرار الخطأ ، أو بإرتكاب ما لا يجوز معه الغفران ؛ ولذلك فإن معظم من عيَّنهم في الإمارات المختلفة ظلوا معه إلى آخر لحظات حياتهم ، أو إلى آخر حياة عماد الدين زنكي نفسه ؛ لأنه كان دائم الصفح عنهم .

وكان من عادته رحمه الله أن يتصدق جهرةً كل جمعة بمائة دينار ، وذلك رحمة منه على الفقراء والمساكين ، وكان يفعل ذلك جهرة ليشجع الأغنياء على الإقتداء به ، فيعم الخير على الجميع ، لكنه كان له في كل يوم صدقةٌ كبيرة لا يعرفها إلا وزيره فقط وفي هذا تُروى قصة لطيفة !

كان عماد الدين زنكي في يوم يركب خيله فعثرت به ، وكاد يسقط من فوقه ، فنادى على أمير كان معه ، وقال له كلامًا وهو حزين أو غاضب ، فلم يتبين الأمير ماذا قال عماد الدين زنكي ، ولكنه شعر بغضب عماد الدين زنكي ، وظن أن هذا الغضب تجاهه هو ، ولم يتجاسر على سؤاله ، فأسرع إلى بيته ليعلن لزوجته خوفه الشديد من أن يكون قد أخطأ ، فنصحته زوجته أن يذهب إلى نصير الدين جقر نائب عماد الدين زنكي ، ويحكي له القصة ، لعله يجد حلاًّ عنده ! وبالفعل ذهب إلى نصير الدين جقر وحكى له ، فقال : لا عليك ، إنما كان يطلب منك هذه الصُّرَّة .. وأخرج صُرَّة كانت معه وأعطاها للأمير ! فحملها الأمير إلى عماد الدين زنكي فأخذها راضيًا ، فرجع الأمير إلى نصير الدين جقر وقال له : كيف علمت أنه يريد الصرة ؟ فقال : إنه يتصدق بمثل هذا القدر كل يوم ، يرسل إليَّ يأخذه من الليل ، وفي يومنا هذا لم يأخذه ، ثم بلغني أن دابته عثرت به حتى كاد يسقط إلى الأرض ، فأرسلك إليَّ ، فعلمت أنه ذكر الصدقة .

لقد ربط عماد الدين زنكي بين تأخُّره في إنفاقه للصدقة ، أو نسيانه لها وبين تعثر دابته ، وهذا من شدة حساسيته ، ورقة مشاعره ، وإلتفاته إلى الإشارات والحوادث ، ولا يأتي كل ذلك إلا من قلب رقيق .. ثم انظر إليه وهو في غاية الشغل كل يوم بقتال وخطة وإدارة دولة كاملة ، ثم هو لا ينسى أن يتصدق يوميًّا على الفقراء والمحتاجين .

إنه لا يتكلف الرحمة ، إنها مزروعة في قلبه !

ومن رقة مشاعره أنه كان لا ينسى من أسدى إليه معروفًا ، حتى لو مر زمان طويل على هذا المعروف ، وقصته مع نجم الدين أيوب معروفة ؛ إذ إن نجم الدين أيوب أسدى معروفًا إلى عماد الدين زنكي في سنة (526هـ) 1131م حيث آواه في قلعته التي يحكمها في تكريت حين هُزم زنكي في أحد معاركه ، وردَّ له زنكي الجميل بعد ذلك بثماني سنوات في سنة (534هـ)1139م ، عندما ولاه حكم مدينة بعلبك بعد فتحها ، ولا يخفى على أحد أن هذا الرجل الذي يتذكر جميلاً فُعل فيه منذ ثماني سنوات هو رجل وفيّ ، رقيق المشاعر .

بل إنه لم ينس ناصر الدين كوري بن جكرمش فأقطعه إقطاعًا ؛ إعترافًا بجميل والده ، مع العلم أن والده جكرمش قدَّم لعماد الدين خدمةً برعايته ، والإهتمام به منذ أكثر من خمسة وعشرين عامًا !

لقد كان عماد الدين زنكي رجلاً وفيًّا رحيمًا رقيقًا غير أن الإنطباع الذي أخذ عنه بالقسوة لم يكن لشيء إلا لأنه كان جادًّا جدًّا في حياته ؛ مما أوهم كثيرًا من الناس أنه غليظ الطباع ، وهو على العكس من ذلك تمامًا ، ولعل الصفة التالية التي سنتحدث عنها ستفسر لنا هذا التناقض الذي يراه بعض المؤرخين .

سادسًا : الجدِّيَّة

وُلد عماد الدين زنكي ونشأ وعاش في ظروف تفرض عليه الجدِّيَّة في كل أموره ، فقد وُلد في زمان فتن ، كان التصارع فيه بين الأمراء المسلمين مشتهرًا، وقُتل أبوه في واحد من هذه الصراعات ، ونشأ عماد الدين زنكي يتيمًا ووحيدًا ؛ إذ كان لا أخ له ، وترك موطن نشأته حلب وإتجه إلى الموصل، وعاش حياة عسكريَّة منذ نعومة أظافره ، ورأى الصليبيين يجتاحون بلاد المسلمين ، فعاش القضيَّة بكل ذرَّة في كيانه ، وكان لا ينسى أبدًا أن الأقصى أسير في يد الصليبيين ، وأن أنطاكية والرها وبيروت وعكَّا وطرابُلُس وغيرها أيضًا في يد الصليبيين ، وأن أرواح المسلمين تُزْهَق ليلَ نهارَ ، وأموالهم وأعراضهم تُستباح بشكل متكرِّر .

هذه الظروف جعلت منه شخصًا جادًّا تمامًا ، وأيُّ شخص يفقد جدِّيَّته في مثل هذه الظروف هو رجل منزوع المروءة ، ليِّن الدين والعقيدة .

وهذا الجِدُّ الذي تميَّز به عماد الدين زنكي كان يمنعه من الإستسلام للراحة ، فلا يستريح ولا يَقْبَل بالترف ، وليس معنى هذا أنه لم يكن يبتسم، فالرسول كان أكثر الناس تبسُّمًا ولكنه كذلك كان أكثر الناس جديَّة ، وأكثرهم بُعدًا عن الهزل والمزاح ، وكان في مزاحه القليل لا يكذب ولا يتجاوز ، وهكذا كان نهج عماد الدين زنكي في حياته ، لقد كان دائم الفكر، كثير الصمت ، لا يتكلَّم مع الناس إلاَّ قليلاً ؛ لأن ذهنه دائم العمل لصالح المسلمين ، ودائم التدبير للأمور العظام ، وهذا كان يعطيه هيبة عظيمة ، كتلك التي كان يلاحظها الجميع على عمر بن الخطاب ، وهي هيبة غير منكرة طالما ليس فيها ظلم أو تجاوز أو كبر .

والأشخاص العظيمة دائمًا لها هيبة ، وراجعوا بعض المواقف من حياة رسول الله حتى نعرف أن هذه الهيبة غير منكرة بضوابطها الشرعية .

روى إبن ماجه عن أبي مسعود قال : أتى النبيَّ رجلٌ فكلَّمه ، فجعل ترعد فرائصه ، فقال له: " هَوِّنْ عَلَيْكَ ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ ".

فهذا رجل يرى الرسول فترتعد فرائصه ، مع أن الرسول كان أرحم الناس ، ولكن لهيبته ولمركزه ولإحترام الناس له إرتعدت فرائص الرجل ، فهوَّن عليه رسول الله وطمأن قلبه وهكذا كان عماد الدين زنكي رحمه الله .

خرج يومًا من قلعته ، وكان الحارس نائمًا ، فأيقظه حرَّاس عماد الدين زنكي ، فلمَّا إستيقظ ورأى عماد الدين زنكي سقط على الأرض من الخوف ، فقلبوه ، فوجدوه ميتًا !!

وليس معنى هذا غلظة في عماد الدين زنكي أو قسوة ، فما عُلِمَ عنه تجاوزٌ في معاملة الناس أو الرعيَّة ، ولكنها الهيبة التي جعلت له مكانًا عظيمًا في قلوب الناس .

وقد عاش عماد الدين زنكي حياة الجدِّيَّة دون تكلُّف ، فهو لم يكن يُرغم نفسه على الجدِّيَّة ، بل كان يأْلفها ويأنس بها ، حتى قال إبن الأثير في حقِّه : " كانت أصوات السلاح ألذَّ في سمعه من غناء القينات " .. فبينما كان هناك مَنْ يستمتع بسماع الموسيقى والأغاني ، كان عماد الدين زنكي يجد متعته في سماع أصوات السلاح ، سواء في ميادين الجهاد أو في ساحات التدريب .

وقد أثَّرت هذه الجدِّيَّة في هواياته رحمه الله ، فكان إذا أراد التخفُّف قليلاً من الأعباء الثقيلة التي عليه ، وأن يُرَوِّح عن نفسه ساعة فإنه كان يقوم بواحدة من ثلاث :

إمَّا أن يخرج إلى صيد الطيور والوحوش ، ولا يخفى ما في ذلك من تدرُّبٍ على الرماية والمناورة والتخفِّي ، وهو بذلك يُساعد نفسه على مهارة أعلى تعود عليه بالنفع في ميادين الجهاد، وكانت أحبُّ الهدايا إليه ما كان صيدًا ، وكذلك كان يُهدِي هو إلى الملوك والأمراء ما اصطاده هو من فهودٍ وصقور ونحو ذلك .

وإمَّا أن يتمرَّن على الفروسيَّة ويعقد مسابقات الخيل ، وكان رحمه الله من أمهر الخيَّالين ، وأعظم الفرسان .

وإمَّا أن يأخذ قاربًا ويتنزَّه منفردًا في نهر دجلة ، سابحًا في ملكوت الله ، متفكِّرًا في السموات والأرض ، أو متدبِّرًا في الأحداث والمواقف ، وهذه الخلوات كانت كثيرًا ما تفيض عليه بفكرة جميلة ، أو حيلة ذكيَّة ، أو بخشوع في القلب ، أو سكينة في الجوارح .

هذه هي لحظات الترفيه في حياة المجاهد العظيم عماد الدين زنكي رحمه الله !

سابعًا : الحسم

وهي صفة من ألزم صفات الحاكم الواعي ، ومن ألزم صفات عماد الدين زنكي أيضًا ؛ فكم أضاع التردُّد فُرَصًا على المسلمين ، وكم أدخل المسلمين في أزمات ومشاكل ! لقد كان عماد الدين زنكي حاسمًا في كل أموره ، فكان سريعًا ما يقطع بما يفيد ، ويبدأ في التنفيذ دون تردُّد .

ففي بداية ولايته أدرك أنه لا طاقة له بحرب الصليبيين قبل أن يُعِدَّ العُدَّة ، فعقد معهم هدنة مؤقَّتة ، ثم بعد ذلك تَراه يحارب ويجاهد ، ولا يقبل بأطروحات السلام من الصليبيين ، وفي كِلا الأمرين كان حاسمًا في عرضه للهدنة وفي سعيه للجهاد ، وكثيرًا ما قرَّر الهجوم في النهاية ، وفي ظروف أخرى كان يُقَرِّر الإنسحاب ، ويرى أنَّ الظروف لا تحتمل حربًا وقتها ، فلا يُكابر أو يعاند ، إنما يفكِّر سريعًا ، وينفِّذ سريعًا ، ويُرِيح الجميع بقراره الحاسم ..

والأمثلة هنا أكثر من أن تُحْصَى ، بل هي كلُّ حياته ، والتفصيلات في الصفحات القادمة عند الحديث عن خطواته في حكمه وجهاده ستبيِّن لنا ذلك بوضوح .

ثامنًا : حسن السياسة

وَصَفَ إبنُ الأثير عماد الدين زنكي بأنه كان عظيم السياسة ، والسياسة كما عرَّفها إبن عقيل رحمه الله أنها : "ما كانت فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد ، وإنْ لم يضعه الرسول ولا نزل به وَحْيٌ " ..

وهذا هو التعريف الذي يعتمده إبن القيم رحمه الله ، ومفهوم طبعًا أنها لا تعني خروجًا عن الشرع ، ولكنها تعني إبتكار الوسائل المناسبة للعصر وللظروف لإصلاح حياة الناس وإبعادهم عن الفساد .

أمَّا السياسة في التعريفات المعاصرة فهي كما جاءت في معجم روبير : " فنُّ إدارة المجتمعات الإنسانيَّة ".. وكما جاءت في المعجم القانوني : " أصول أو فنُّ إدارة الشئون العامَّة" .
وسواء إعتمدنا التعريفات الإسلاميَّة الأصوليَّة ، أو التعريفات القانونيَّة الحديثة فإنَّ عماد الدين زنكي قد بلغ الغاية في السياسة بكل تعريفاتها .

لقد عاش عماد الدين زنكي في زمان مُلِئَ بالتقلُّبات والأحداث ، وتعامل مع شتَّى أنواع البشر ، ومختلَف الزعامات والقيادات، فكان حكيمًا في كل تصرفاته ، سياسيًّا في كل عَلاقاته ، وكان نادرًا ما يفقد إنسانًا ، أو يقطع عَلاقاته بأمير ، وكانت له من الأفكار السديدة ما يفلح به في إدارة المجتمعات الإنسانيَّة مهما كانت معقَّدة .

كان يُدرك رحمه الله مراكز القوى ، ويُقَدِّر قوَّة الخصوم بعناية ، وكان لا ينخدع بالألفاظ ولا بالألقاب ، وعَلِمَ من أوَّل أيَّامه أنَّ سلاطين السلاجقة أقوى بكثير من الخلفاء ؛ ولذلك جعل ولاءه واضحًا لهم ، لكنه لم يغفل حسن معاملة الخلفاء والتقرُّب إليهم ، لكن عند حدوث صدام حتميٍّ بين السلاطين والخلفاء ، كان يقف إلى جوار السلاطين لوضوح الرؤية عنده .

وعندما ضعف أمر السلاطين ، وصار عماد الدين زنكي هو القوة العظمى في الأُمَّة الإسلاميَّة ، لم يُعلن ذلك ليتجنَّب حدوث فتن ومكائد ، ولكنه أعلن أنه يحكم باسم ألب أرسلان السلجوقي ، مع أنه لم يكن لألب أرسلان أيُّ وزن إلى جوار عماد الدين زنكي ، ولكنه حُسْنُ السياسة الذي سكَّن جوارح ألب أرسلان والسلاجقة من ورائه ، وسكَّن جوارح العامَّة .

وكان له رحمه الله من الأساليب الذكيَّة التي يُفَرِّق بها بين الأحزاب المتحالفة ضدَّه ، وما أروع ما فعله لفكِّ تحالف الصليبيين مع البيزنطيين ، وكذلك لفكِّ التحالفات الإسلاميَّة ضدَّه ! وكلُّها أساليبُ يصلح أن تدرَّس في فنِّ السياسة .

وكانت له سياسته الخاصَّة في تحقيق النصر ، وإسقاط القلاع ، وفتح البلاد بأقلِّ خسارة ممكنة ، وكان بعضهم يتَّهمه بالغدر عند بعض المواقف ، لكنه كان يعتمد مبدأ "الحرب خدعة" ، وهو منهج نبويٌّ حكيم ، فكان يتجنَّب به الدخول في أزمات هائلة ، وسنأتي في تفاصيل قصَّته على بعض المواقف التي أخذوها عليه ، وتبرير فعله في هذه المواقف ..

وكان يُقَدِّر الشخصيات المعادية له ، ويحاول الإستفادة منها حتى لو كانت فاسدة وما أحكم ما فعله مع جاولي - وهو الأمير الذي كان يطمع في الولاية بعد مقتل آق سنقر البرسقي ، فذهبت الولاية إلى عماد الدين زنكي - إذ أقطعه عماد الدين زنكي إقليم الرحبة في حلب ! ولم يُقْصِه عن كلِّ شيء ؛ وبذلك تجنَّب أذاه، وأراح قلبه ، وإستفاد من طاقاته وقدراته .

بل فعل أكثر من ذلك مع دُبَيْس بن صدقة ، وهو زعيم قبيلة بني مزيد ، وكان شيعيًّا اثني عشريًّا ، وكان فاسدًا ، أظهر الفوضى والإضطراب في بغداد ، وحاول أن يخلع الخليفة ، وكان متعاونًا مع الصليبيين ، وكان شخصيَّة مكروهة بكل المقاييس ، ومع ذلك إستنقذه من أَسْرِهِ بدمشق ، ورفض تسليمه للخليفة ، بل إستخدمه وولاَّه بعض الإقطاعات ، وكان يهدف إلى إستخدامه في السيطرة على قبيلته الكبيرة بني مزيد ، وكان يستفيد أيضًا من عَلاقاته ومخابراته ، ولقد أرشد دبيسُ بن صدقة عماد الدين زنكي ذات مرَّة إلى مؤامرةٍ كان يحيكها له السلطان السلجوقي مسعود ، فعرف السلطان أن دبيسَ بن صدقة هو السبب في كشف المؤامرة فأمر بقتله فقُتِلَ ، فعندها قال عماد الدين زنكي : "فديناه بالمال (أي من الأسر) ، ففدانا بالرُّوح !" .

وكان يقرأُ أطماع مَن يحالفونه من القادة ، فيُريح بالهم ، ويعطيهم ما يريدون ؛ فيضمن بذلك ولاءهم وطاعتهم ، وإن كانت العَلاقات بينهم متوتِّرة وغير طبيعيَّة .

وكان يُحسن سياسة جنده ويُتْقِن سياسة الترغيب والترهيب ؛ فبينما كان يضاعِف لهم رواتبهم ، ويتعامل معهم بالرأفة والمودَّة كان عقابه صارمًا ، ولا يقبل تهاونًا أبدًا في أداء الوظيفة ، ولقد سمع مرَّة أنَّ أحد قوَّاده تعرَّض للنساء ، بينما كان عماد الدين زنكي وجنوده في سفر بعيد ، فأرسل فورًا مَنْ يعزله من منصبه ، ويجرِّده من كل ممتلكاته ، بل لمَّا عَلِمَ أنَّ الأمر تجاوز التعرُّض إلى التحرُّش الصريح أمر بقتله ، ثم قال كلمته الصارمة : " إن جنودي لا يفارقوني في أسفاري ، وقلَّما يُقيمون عند أهليهم ، فإنْ نحن لم نمنع مِن التعرُّض إلى حُرُمهم هلكْنَ وفسدْنَ " .. وبعدَ هذا العقاب الرادع لم يتجاسر أحدٌ على التعرُّض للنساء طيلة حكم عماد الدين زنكي رحمه الله .

ففي هذا الموقف نَرَاه قد جذب قلوب الجنود إليه من ناحية بعد أن أظهر حرصه الشديد على نسائهم ، وعَزَلَ قائدًا من أجلهم ، وفي نفس الوقت أظهر الردع المناسب لمن يخالف الأوامر ، ويتعدَّى على حدود الشرع ، ويأتي بالأفعال المنكرة القبيحة .

والحديث عن سياسة زنكي حديث لا ينقطع ، فقد إستطاع بتوفيق من الله أنْ يتعامل مع ظروف قاسية كأفضل ما يكون التعامل ، فصار بلا جدال من أعظم السياسيين في تاريخ الأُمَّة .

تاسعًا : كان عارفًا بالرجال

وهذه ملكة فريدة عزيزة يفتقر إليها كثير من الزعماء ، أمَّا عماد الدين زنكي رحمه الله فكان متميِّزًا فيها أشدَّ التميُّز ، فقد كان يمتلك القدرة على تقييم الناس ، فيعرف أصحاب المعادن الطيِّبة والمواهب النادرة فيقرِّبهم ، ويعرف خبثاء النفس ضِعاف القدرات فيُقصيهم ، ومن هنا فقد إلتفَّتْ حوله بطانة صالحة كان لها أشدُّ الأثر في تقوية مُلْكه ، وتثبيت حكمه .

ويكفي أنه اختار من رجاله جمال الدين الأصفهاني رحمه الله فأقطعه نصيبين ، وكان من أعظم علماء المسلمين ، وكان كريمًا واسع الكرم حتى لُقِّبَ بالجواد ، وكان إذا مرَّت بالناس ضائقة أنفق من جيبه الخاصِّ حتى يرفع الله الأزمة ، وكان من أعظم الناصحين ، وأوفى الأوفياء ؛ بل إنه لم يحفظ عماد الدين زنكي فقط ، بل حَفِظ أولاده من بعده ، وكان من أشدِّ الناس مساعدة لهم وفاءً لأبيهم .

وكان من رجاله أيضًا نصير الدين جقر ، وكان سياسيًّا عبقريًّا ، وعسكريًّا ماهرًا ، وكان نائبه على الموصل ، وكان الرجلَ المناسب حقًّا في المكان المناسب ، فقد كانت الموصل تموج بالفتن ، عند ولاية عماد الدين زنكي ، فضبط نصير الدين جقر الأمور ، ونظَّم حركة الأموال ، وحفظ الأمن ، وحصَّن المدينة ، وكان وفيًّا تمام الوفاء لعماد الدين زنكي ، وعرَّض نفسه لمخاطر كثيرة ليحفظ مُلْكَ عماد الدين ، حتى وصل الأمر إلى أنْ صَبَرَ على حصار الخليفة للمدينة ثلاثة أشهر كاملة ، فلم يُسَلِّم له ، مع أن الخليفة لو أسقط المدينة لكان مصير نصير الدين هو القتل ، بل إن نصير الدين دفع حياته ثمنًا لوفائه ، فقد دُبِّرت له مؤامرة قُتل فيها ؛ ليحاول المتمرِّدون السيطرة على الموصل ، لولا أن الله قيَّض آخرين لحفظ الحُكم لعماد الدين زنكي .

وأمَّا ما يتناوله بعض الناس عن ظلم نصير الدين جقر أو سفكه للدماء فهو تحليل لا يَنْظُر إلى الظروف التي كانت بالمدينة ، والأخطار التي أحدقت بها ، وليس إتخاذ التدابير لحفظ الأمن ظلمًا ، وليس القصاصُ من القتلة ومثيري الفتن سفكًا للدماء ، وقد ذكر إبن القلانسي في كتابه "ذيل تاريخ دمشق" في حقِّ نصير الدين جقر أنه كانت له أخبار في العدل والإنصاف ، وتجنّب الجور والإعتساف ، وذكر كلامًا كثيرًا يدور كله حول نفس المعنى ، ومن ثَمَّ فهو يستنتج في النهاية أن سلوك نصير الدين جقر محمودٌ من ولاة الأمور ، وأن قصده كان سديدًا في سياسة الجمهور .

وإستوزر عماد الدين زنكي أيضًا ضياءَ الدين أبا سعيد إبن الكَفَرْتُوثيّ ، وكان كما وصفه المؤرِّخون حَسَنَ الطريقة ، جميل العقل ، كريم النفس ، مرضيَّ السياسة ، مشهورًا بالنفاسة والرئاسة .

وكان زين الدين عليّ كجك بن بكتكين من أبرز رجال عماد الدين ، وإنظر إلى كلام إبن الأثير عنه ، إذ يقول : " كان زين الدين رجلاً صالحًا ، وكان معروفًا بالقوَّة والشجاعة والإقدام ، رءوفًا بالفقراء ، مواسيًا للمرضى ، إشتهر بالمحافظة على حسن العهد ، وأداء الأمانة ، ولم يمارس غدرًا قطُّ " .

وهذا قليل من كثير ، ولا يتَّسع المقام لذكر كلِّ نوَّاب عماد الدين زنكي وقوَّاده ووزرائه ، فهذه هي حكومته ، وهذه هي بطانته، وهؤلاء هم رجاله .

ولم يكن عماد الدين زنكي يُهْدِر الفرص ، بل كان يلتقط الرجال الأفاضل في حكمة بالغة ، ويستفيد من قدراتهم في مهارة فائقة ، ومن أمثلة ذلك أنه سمع بهرب أحد القادة من دمشق ، وكانت دمشق معادية على طول الخطِّ لعماد الدين زنكي ، وكان هذا القائد هو سوار بن أبتكين ، وقد سمع عماد الدين زنكي عن كفاءته ومهارته ، فإستقدمه وقرَّبه ولم يُقلِّل من شأنه وهو محتاج ، بل أكرمه وشرَّفه ، وأجرى له الإقطاعات الكثيرة ، بل أعطاه ولاية حلب وما يلحق بها من أعمال ، وإعتمد عليه في قتال الصليبيين ، وكانت لسوار بن أبتكين بصيرة بالحرب وتدبير الأمور ، وهكذا أسدى سوار خدمات جليلة لعماد الدين زنكي في أكثر من موقعة عسكريَّة ، وفي الدفاع عن حلب ، وقد إستمرَّ سوار في منصبه منذ قدومه من دمشق سنة 524هـ إلى مقتل عماد الدين سنة 541هـ ، أي سبعةَ عشَرَ عامًا كاملة .

وكان عماد الدين زنكي يُحْسن تقييم الرجال ، وبالتالي يُقَدِّر ما يصلح لمعاشهم ورواتبهم ، وقد كان يُعطي كمال الدين الشهْرُزُورِيّ عشَرَة آلاف دينار في السنة ، وهذا مبلغ هائل ، فقيل له : إن هذا كمال الدين يحصل له في كلِّ سنة ما يزيد على عشرة آلاف دينار ، وغيره يقنع منه بخمسمائة دينار .. فقال عماد الدين زنكي : بهذا العقل والرأي تُدَبِّرون دولتي ، إن كمال الدين يَقِلُّ له هذا القدر ، وغيره يكثر له خمسمائة دينار ، وإنَّ شغلاً واحدًا يقوم به كمال الدين خير من مائة ألف دينار .

وكان عماد الدين زنكي رحمه الله إذا تردَّد في أمر إنسان إختبره ؛ ليرى إن كان يصلح للقيادة ولحفظ الأمانة أم لا ، ومن ألطف ما يُحكى في هذا المضمار ما فعله عماد الدين زنكي مع مسئول ملابسه (طشت دار) ، إذ أراد أن يختبر أمانته وحُسن تصرُّفه ودرجة إهتمامه ، فأعطاه كعكة بالفستق واللوز فأمره أنْ يحتفظ بها حتى يطلبها منه ، وبعد سنة كاملة أرسل إلى الرجل وطلب كعكته ، فأخرجها الرجل من منديل كان معه ، وكان قد حفظها من الفساد بصورة من الصور ، فسُرَّ بذلك عماد الدين زنكي ، وعيَّن الرجل قائدًا لقلعة كَوَاشَى ، وهي إحدى قلاع الموصل .

فانظر إلى عماد الدين زنكي كيف كان يُدَبِّر شئون دولته ، واعلم أن هذه ملكات وقدرات قلَّ أن يوجد مثلها .

عاشرًا : الكفاءة الإدارية الفائقة

وهذه خاصية لا بد منها إلى جوار إختيار الرجال وحسن السياسة ، فالقائد قد يحسن إختيار أعدائه ، وقد يحسن أيضًا سياستهم فيجذب قلوبهم إليه ، ويضمن طاعتهم لأوامره ، لكنه قد يفشل في تنظيم حركة العمل بحيث يحقق أكبر نفع بأقل مجهود وأقل خسارة ، وبحيث يُنشِئ نظامًا محكمًا لا يتأثر بظروف طارئة أو أحوال عابرة .

ولقد كان عماد الدين زنكي رحمه الله إداريًّا من الطراز الأول ؛ فمع أن عماد الدين زنكي كان يؤمن بمركزية القرار والحكم ، إلا أنه كان يطبِّق هذا المبدأ في الأمور المصيرية المتعلقة بمستقبل الدولة ككل ، أما في أعمال الوزارات والإمارات والدواوين فكان يُعطِي صلاحيات كبيرة لنوَّابه ، وكان يفوضهم في أخذ القرار وتنفيذه ، وكان يوليهم ثقة كبيرة تدفعهم إلى الإبتكار والإبداع ، وكان قليل اللوم لهم ؛ مما دفعهم إلى الإحساس بالمسئولية ، وأشعرهم أن البلد بلدهم ، ومن ثَمَّ أفنوا حياتهم في سبيل الرقي بدولتهم ، وكان عماد الدين زنكي قليل التغيير لإدارته وعمَّاله ؛ فشعر الجميع بالإستقرار والأمن والإطمئنان ، ومن ثَمَّ إستقرت الأعمال وأحوال الناس .

وكان يهتم جدًّا بجمع المعلومات ، وكان له نوَّاب وعيون في كل مكان حتى في الإمارات المجاورة له ، فكانت لا تفوته صغيرة ولا كبيرة ؛ لذلك كان قليلاً ما يُفاجَأ في حياته بأمر بعد فوات الأوان ، بل كان دائمًا يعلم الأمور قبل تفاقمها ، ومن ثَمَّ كان يحسن التصرف فيها .

ولدقة عيونه وجهاز إستخباراته فإنه كان يستحيل على ملك أو أمير أن يعبر من أراضيه الواسعة دون علمه ، مع أن الحدود لم تكن واضحة كأيامنا الآن ، ولم يكن رسول يجرؤ على إجتياز مملكته دون إذنه ، وكان يرسل مع الرسول فرقة ترافقه من لحظة دخوله إلى لحظة خروجه ؛ لكي لا يُعطِي الرسول فرصة للتجول في البلاد ؛ فينقل أخبارًا قد تكون خطيرة .

وكان يوزِّع أمواله وأموال الدولة في الموصل وحلب وسنجار ، ولا يجعل خزينة الدولة في مكان مركزي واحد ، وكان يقول : " إن جرى على بعض هذه الجهات فتقٌ ، أو حيل بيني وبينه ، إستعنت على سدِّ الخرق بالمال في غيره " .

وكان يهتم إهتمامًا واسعًا بسهولة الإتصالات ، وبسلامة الطرق وأمنها ، وبجهاز البريد ، وكان يدرك تمام الإدراك أن سرعة وصول المعلومة قد تحفظ بلدًا ، أو تكسب معركة ..

وكان يهتم بالتخصص في المهنة ، فلا يضع عسكريًّا في منصب إداري ، ولا يضع عالمًا في منصب عسكري أو نحو ذلك ، وكان إذا إستقدم كفاءة من خارج البلد فإنه يرسله إلى أهل التخصص يعلمونه أحوال البلد والناس قبل أن يتولى المنصب ، فإن كان جنديًّا أو عسكريًّا قصد الأجناد فعرف النظام العسكري المتبع وأصوله ، وإن كان صاحب ديوان قصد أهل الديوان ، وإن كان عالمًا قصد القضاة ، وهكذا تقدَّم للغريب كل معونة وخدمة ، حتى يقول أبو شامة في وصف ذلك : " فيعود كأنه أهل! " ، أي يعود الغريب بعد هذا التدريب والإستضافة كأنه في أهله وليس غريبًا .. ولا يخفى علينا كيف يكون الإنتاج غزيرًا عند هذا الغريب ، سواء كان عسكريًّا أو موظفًا أو عالمًا ، خاصةً أن الرواتب في عهد عماد الدين زنكي كانت مجزية جدًّا .

وكان عماد الدين زنكي أيضًا يضع دائمًا الخطة البديلة ، ويفترض أسوأ الإحتمالات ، ويأخذ حذره منها ؛ ولقد سيطر على قرية البوازيج قرب تكريت وحصنها ، وذلك قبل أن يدخل الموصل خوفًا من عصيان الموصل عليه ، فجعل لنفسه مكانًا يأوي إليه في هذه الحالة ، مع أن إحتمالية عصيان الموصل كانت بعيدة !

ثم أخيرًا كان عماد الدين زنكي رحمه الله يحترم تمامًا السلم الإداري ، ويرفض أن يتجاوز مرءوس رئيسه المباشر إلى الرئيس الأعلى ، وهذا سيحقق فوائد كثيرة ؛ منها حفظ الهيبة للرئيس المباشر ، ومنها سلامة العمل ودقته ؛ لأن الرئيس المباشر قد يمتلك من المعلومات ما لا يمتلك الرئيس الأعلى ، ومنها حفظ وقت الرئيس الأعلى بدلاً من أن يخوض في كل القضايا ، ومنها عدم الإعتماد على شخصية واحدة ، بل نضمن سهولة سريان العمل وسلاسته حتى في غياب الرئيس الأعلى .

ومما يُروى في ذلك أن عماد الدين زنكي رأى ذات يوم مجموعة من حرسه الخاص يجتمعون ويقفون في مكان بحيث يراهم عماد الدين زنكي ، فعلم أنهم يريدون أن يشكوا إليه أمرًا ، فأرسل إليهم ، فقالوا أن رواتبهم قد تأخرت عن موعدها ، فقال : أشكوتم إلى الديوان ؟ قالوا : لا , قال : فهل ذكرتم حالكم لأمير حاجب (وهو بمنزلة قائد الحرس الملكي)؟ فقالوا : لا , قال: فلأيِّ شيء أُعطي الديوان مائة ألف دينار ، وأعطي الأمير حاجب أكثر من ذلك ، إذا كنت أنا أتولى الأمور صغيرها وكبيرها ؟! كان عليكم أن تشكوا حالكم إلى الديوان ، فإن أهملوا أمركم قلتم للأمير حاجب ، فإن أهمل أمركم شكوتم الجميع إليَّ ؛ حتي أعاقبهم علي إهمالهم ، وأما الآن فالذنب عليكم !!

وكاد عماد الدين زنكي يعاقبهم لتجاوزهم السلم الإداري ، لولا شفاعة أحد الأمراء لهم ، ولكنه في نفس الوقت ما أهمل القضية ، بل أرسل إلى الديوان وأمير حاجب وقال لهم : إذا كنتم تهملون أمر جندي الذين تحت ركابي ، ومن هو ملازمي في سفري وإقامتي ، وبهم من الحاجة إلى النفقات في أسفارهم ما تعلمونه ، فكيف يكون حال من بَعُد عنِّي ؟!

وشعر الديوان وأمير حاجب بخطورة الموقف ، وكانت رواتب الجند لم تصل بعدُ من الخزينة العامة ، فأعطى أمير حاجب الجند رواتبهم من ماله الخاص لحين قدوم الرواتب من الخزينة !

ويعلِّق إبن الأثير على هذا الموقف الإداري الفذِّ من عماد الدين زنكي فيقول : " بهذا الإجراء أصلح عماد الدين زنكي الجند لطاعة الديوان ، وأصلح الديوان للنظر في مصالح الجند ، وعظَّم نفسه عن أن يخاطَب في هذا الأمر الحقير" .

رحم الله عماد الدين زنكي ، فقد كان أمَّةً وحده ! وقد إختاره الله في هذا التوقيت ليعيد للأمة هيبتها ، ويعلي رايتها ، ويعز شأنها ، فكان بحقٍّ "رجل المرحلة".


 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس