عرض مشاركة واحدة

قديم 04-03-14, 04:35 AM

  رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

- النجدة الصليبية

ماذا حدث بعد سقوط بيت المقدس والمدن الفلسطينية المختلفة ؟ , لقد وصل مندوب البابا - رئيس أساقفة بيزا دايمبرت - إلى الشام في صيف 1099م بعد سقوط بيت المقدس، ووصلته هذه الأنباء، وإجتمع مع بوهيموند أمير أنطاكية ليتباحثا معًا أحوال القوات الصليبية، وكان ذهن دايمبرت يعمل في اتجاه الحصول على أملاك تخص الكنيسة، واستغل بوهيموند هذه الرغبة، ووجَّه أطماع دايمبرت إلى ميناء اللاذقية .

ولماذا اللاذقية بالذات ؟ ,, لقد سيطرت الدولة البيزنطية على ميناء اللاذقية بمساعدة الأمير ريمون الرابع ، وحيث إن هذا الميناء يقع في جنوب أنطاكية فهو يمثل خطورة كبيرة على بوهيموند الذي صار معاديًا بصراحة للدولة البيزنطية، ومن ثَمَّ دفع بوهيموند الأسقف دايمبرت لاستغلال أسطول بيزا القوي لحصار اللاذقية وإسقاطها، ووافق الأسقف دايمبرت دون تفكير كثير على هذه الخطوة ؛ خشية ألا تبقى هناك مدن مناسبة للاحتلال مع مرور الوقت، وبالفعل تمَّ الحصار، وكادت المدينة أن تسقط لولا حدوث أمر غيَّر الأحداث !

لقد جاء ريمون الرابع بجيشه في هذه اللحظة حيث فشل كما رأينا في الحصول على إمارة في فلسطين ، فجاء يكرر سعيه للحصول على إمارة في الشام أو لبنان ، وفُوجئ ريمون بالحصار المشترك بين بوهيموند ودايمبرت لميناء اللاذقية، فتدخل مسرعًا، وقام بزجر بوهيموند، وقال لدايمبرت : إنه ليس من الحكمة مطلقًا أن نخطو الآن خطوة نستعدي بها الدولة البيزنطية ، وأن هذا سيقضي على آمال توحيد الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية تحت زعامة بابا روما ، وأن فرصة دايمبرت أكبر في فلسطين حيث توجد القدس.
ووجد دايمبرت أن الكلام مقنع ، ومن ثَمَّ - وعلى غير رغبة بوهيموند - رفع دايمبرت الحصار، ودخل ريمون البلدة ليرفع فيها علمه إلى جوار علم الإمبراطورية البيزنطية ، وليتجه دايمبرت ومعه بوهيموند أمير أنطاكية وأيضًا بلدوين أمير الرها إلى القدس. لقد ذهبوا جميعًا لدفع الأمور إلى تعيين دايمبرت في أسقفية القدس، ليكون بذلك لهم يدٌ عند دايمبرت ومِن ورائه البابا .

وسار الموكب المكون من جيوش دايمبرت وبوهيموند وبلدوين، ولاقى بعض المصاعب في الطريق، غير أنه وجد كل الترحيب من ابن عمار أمير طرابلس حيث قدَّم لهم التموين، ولكن دون فتح أبواب المدينة خشية أن يحتلوها .

ووصل الموكب الكبير إلى بيت المقدس، وسُرَّ جودفري برؤية هذه الأعداد الضخمة من الصليبيين لأنه أصبح في حاجة إلى الجنود ، ولكن هؤلاء جاءوا بهدف ، وهو عزل الأسقف الموجود وهو أرنولف مالكون، وتعيين دايمبرت مكانه ، ووجد جودفري نفسه مضطرًا إلى هذا الأمر حيث إنه محتاج إلى أسطول بيزا القوي ، كما يحتاج أيضًا إلى تأييد البابا، وهكذا دُبِّرت محاكمة سريعة للأسقف القديم أثبتوا فيها أن تعيينه كان باطلاً، ومن ثَمَّ عُزِل ، ووُلِّي دايمبرت على الأسقفية !

غير أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل بدأ دايمبرت يتدخل في شئون بيت المقدس السياسية، فهو لم يكن يريد هذا المنصب ليمارس شعائر دينية، إنما كان يريده ليفرض نفسه على الأوضاع ليصير هو السيد المتحكم في الأمور ، بل وصل الأمر في سنة (493هـ) فبراير 1100م إلى نزاعٍ معلن بين جودفري ودايمبرت حول ملكية البلاد المحتلة؛ فقد كان دايمبرت يريد لنفسه ملكًا خاصًّا في يافا، وأيضًا في بيت المقدس ، بل إن جودفري عرض صراحة أن ينتقل ملك المدينتين إلى دايمبرت بعد وفاة جودفري، ولكن هذا لم يعجب دايمبرت، فعرض عليه أن ينتظر حتى يستولي على مدينتين غيرهما من المسلمين، فيعطي حينئذٍ بيت المقدس ويافا لدايمبرت، ولكن هذا لم يعجب أيضًا دايمبرت، فهو لا يستطيع الانتظار ! وهكذا ظل الصراع بين زعيم بيت المقدس وزعيم الكنيسة هناك دون الوصول إلى نتيجة !!

إنها حرب الجشع والطمع والاستحواذ ، ولا مكان فيها لدين أو صليب ! وكذلك فعل بوهيموند النورماني !

لقد عاد بوهيموند بعد إختيار دايمبرت أسقفًا لكنيسة القدس ليواصل أحلامه التوسعية، ولم يقاتل في جبهة واحدة بل قاده جشعه أن يقاتل في أربع جبهات في آنٍ واحد !
لقد حاول في البداية أن يستولي على قلعة فامية في حوض نهر العاصي ، والمملوكة للأمير العربي سيف الدولة خلف بن ملاعب ، وهو أخو أمير حمص جناح الدولة حسين بن ملاعب ، غير أن بوهيموند فشل في الاستيلاء على القلعة الحصينة، ومن ثَمَّ اكتفى بحرق المزارع حول القلعة ، وإتجه إلى الجبهة الثانية وهي مدينة حلب، حيث التقى مع رضوان بن تتش أمير حلب في موقعة شديدة في (493هـ) يوم 5 من يوليو 1100م نجح فيها بوهيموند في إنزال هزيمة قاسية برضوان، وأخذ الكثير من الغنائم، وأسر أكثر من خمسمائة مسلم ، مما جعل رضوان يستنجد بأمير حمص جناح الدولة حسين بن ملاعب، وهذه كانت إهانة كبيرة لرضوان، وضربة لكرامة السلاجقة المتنازعين دومًا مع العرب ، ومنهم حسين بن ملاعب، إضافةً إلى صغر سن حسين بن ملاعب وصغر مقامه كأمير لحمص بالقياس إلى حلب، وهذه العوامل جعلت رضوان يسيء الأدب في استقبال جناح الدولة حسين بن ملاعب، مع أن رضوان هو الذي استنجد به، ولا شك أن هذا ترك أثرًا سلبيًّا سيئًا في نفس جناح الدولة حسين بن ملاعب .

وكان بوهيموند ينوي في ذلك الوقت أن يضرب حصارًا شديدًا على حلب ليسقط هذه المدينة العريقة، ويضمها إلى إمارته، فتصبح بذلك نقلة نوعية هائلة لإمارة أنطاكية والنورمان ، إلا أن بوهيموند الجشع قرر أن ينتقل فجأة إلى حصار مدينة مرعش في الشمال ، وهي مملوكة الآن للدولة البيزنطية بعد أن سيطر عليها الصليبيون قبل ذلك بعامين ، ويبدو أنه فعل ذلك لإحساسه أن حصار حلب الحصينة سيطول ، ولشعوره أن فرصة سقوط مرعش في يده كبيرة لصغر الحامية البيزنطية بها، ولهذا ترك جبهة حلب وانتقل إلى الجبهة الثالثة مرعش، وحاصرها عدة أيام لكنها استعصت عليه، وفي أثناء محاولاته لإسقاطها جاءته استغاثة من حاكم ملطية ، وهي مدينة أخرى إلى الشمال من مرعش غالب سكانها من الأرمن، وكانت محاصرة من الملك غازي كمشتكين بن الدانشمند ، فاستنجد حاكمها الأرمني جبريل ببوهيموند ، فوجدها بوهيموند فرصة، فترك مرعش وأخذ فرقة من خمسمائة فارس لقتال الملك غازي والاستيلاء على ملطية!
هكذا قاده غروره أن يفتح على نفسه أربع جبهات: في قلعة فامية، وفي حلب، وفي مرعش، وفي ملطية ؛ وهو يقاتل في هذه الجبهات العرب والسلاجقة والبيزنطيين والدانشمند , إنه الغرور الذي يُعمِي الأبصار؛ إذ وزَّع قواته هنا وهناك، وتوغَّل بخمسمائة فارس فقط في أراضي آسيا الصغرى !

وكأن لا بد للقائد المغرور أن يقع في أخطاء , راجعوا قصة نابليون بونابرت وسقوطه في روسيا .. وراجعوا قصة هتلر وسقوطه في فرنسا وروسيا ، بل راجعوا قصة فرعون الذي شاهد البحر ينفلق ، فإذا به في غرور عجيب ، يصل إلى حدِّ الغباء والعمى يأخذ جيشه ويقتحم البحر حتى يهلك !!

لقد سقط المغرور بوهيموند في كمين تركي صنعه الملك غازي بن الدانشمند، وسقط معه في نفس الكمين خمسمائة فارس هي كل القوة التي كانت معه ، وسرعان ما كُبِّل الأمير بوهيموند بالأغلال، وقُتل عدد كبير من فرسانه وأسر الباقي !

لقد كان صيدًا ثمينًا في وقت حرج جدًّا من أوقات الغزو الصليبي، وكان ذلك في سنة (493هـ) أوائل أغسطس سنة 1100م، وقبل أن يسقط بوهيموند في الأسر أرسل رسالة نجدة إلى بلدوين حاكم الرها، فتحرك بسرعة بسرية مكونة من مائة وأربعين فارسًا فقط لنجدته ! وكان من الممكن أن يلقى نفس المصير الذي لاقاه بوهيموند ، لولا أن الملك غازي انسحب مسرعًا بصيده الثمين حتى وصل إلى قلعة نكسار على ساحل البحر الأسود في أقصى شمال آسيا الصغرى ليؤمِّن أسر الأمير النورماني .

وجد بلدوين الطريق مفتوحًا إلى ملطية، فدخلها بسريته، ورحب به أهلها، وكذلك زعيمها جبريل، وسرعان ما ضمها بلدوين إلى إمارة الرها؛ ليوسِّع بذلك إمارته! إن النية لم تكن خالصة لإنقاذ بوهيموند، والتنافس بينهما قديم، ولكن هي يدٌ يقدمها الآن لعلها تنفع غدًا، وفي نفس الوقت هي فرصة ذهبية لضم مدينة تطلب النجدة !

ولم يفكر بلدوين بالطبع في مغامرة تتبع القوات التركية إلى قلعة نكسار، وإنما عاد إلى الرها بعد أن ترك خمسين فارسًا في ملطية كنوع من إثبات الوجود، وللدلالة على تبعية المدينة له .
وقد ترك أسر بوهيموند فراغًا سياسيًّا وعسكريًّا كبيرًا في المنطقة؛ فإمارة أنطاكية إمارة مهمة جدًّا، والأطماع فيها كثيرة، فهناك المسلمون السلاجقة وعلى رأسهم قلج أرسلان في آسيا الصغرى، وهناك كذلك الأمير رضوان الذي يعتبر أنطاكية من نصيبه في الميراث! وهناك الدولة البيزنطية الطامعة في أنطاكية منذ زمن بعيد، بل إن هناك ريمون الرابع الذي يبحث له عن إمارة، وأبدى قبل ذلك رغبته الشديدة في حكم أنطاكية، أو على الأقل اقتسام حكمها. ثم إن إمارة أنطاكية لم تعد مدينة واحدة، بل ضمت إليها عدة مدن وقرى وقلاع مجاورة، وهي أغنى الإمارات وأحصنها .

إن هذا الفراغ السياسي الكبير قد يقود إلى صراع مرتقب بين أطراف عدة. ماذا يفعل الجيش النورماني المسيطر على أنطاكية قبل أن تحدث الكارثة وتتكالب القوى المختلفة على أنطاكية ؟! وماذا يفعل بنو الدانشمند المسلمون وقد امتلكوا ورقة رابحة جدًّا من أوراق اللعبة؟ وماذا يفعل المسلمون بصفة عامة إزاء هذا التطور الإيجابي الأخير ؟

وقبل أن يفكر نورماني أو مسلم في الوضع الجديد إذا بحدث آخر مُجَلْجِل يحدث في بيت المقدس، يُغيِّر من كل الحسابات، ويزيد الموقف تعقيدًا !! لقد مات فجأة جودفري بوايون زعيم بيت المقدس ، لتتفجر بذلك مشكلة في حجم مشكلة أنطاكية ، أو لعلها أكبر !

إنه فراغ سياسي جديد في مدينة القدس قد يؤدي إلى كارثة صليبية جديدة ، وخاصةً أن مدينة القدس ذاتها محل صراع كبير بين الصليبيين أنفسهم قبل المسلمين .
لقد حدثت هذه الوفاة المفاجئة بينما تانكرد ودايمبرت في حصار عكا ثم حيفا ! ولعلنا نتساءل : ماذا يفعل الأسقف الديني في حصار عسكري ؟! إنه يبحث عن مدينة يقودها أو قرية يملكها ! وأثناء حصار حيفا وصلت أنباء موت جودفري ، وكاد تانكرد ينسحب بجيشه عندما علم بأن جودفري قد أوصى قبل موته بإعطاء حيفا لأمير صليبي إسمه جالدمار ، لولا أن دايمبرت أقنعه بالبقاء في نظير أن يعطيه مدينة حيفا بعد سقوطها، وفي هذا الوعد من دايمبرت إشارة واضحة إلى أنه كان يعتقد تمام الاعتقاد أن حكم بيت المقدس سيئُول له، وبالفعل سقطت حيفا بعد مقاومة ، وعاد الجميع إلى بيت المقدس لمناقشة القضية الكبرى : من سيحكم بيت المقدس ؟!

لقد حكم جودفري بوايون القدس سنة واحدة فقط ، ولم يترك وريثًا شرعيًّا له يحكم البلاد كما هو معتاد في النظام الأوربي الغربي آنذاك ، وكان جودفري يحكم حكمًا وسطًا بين العلمانية الملكية الموافقة لرغبات الزعماء العسكريين للحملة الصليبية، وبين الحكم الديني الموافق لرغبات الكنيسة ، فلما مات جودفري قامت قوتان كبيرتان تتنازعان الحكم في بيت المقدس .

أما القوة الأولى : فهي القوة الدينية متمثلة في دايمبرت أسقف القدس صاحب الأطماع الكبيرة، والمرشح الأول في داخل مدينة القدس، ومندوب البابا الذي حرَّك الجموع الأوربية لهذه الحملة، وأسقف المدينة المقدسة. وهذا الأسقف كان على دراية بالأوضاع السياسية والموازنات في الجيش الصليبي، فعقد على الفور اتفاقًا مع تانكرد لمساعدته في الوصول إلى كرسي الحكم في القدس ، وأرسل رسالة إلى صديقه بوهيموند أمير أنطاكية يستحثه فيها على القدوم إلى بيت المقدس لتزكية ولايته عليه ، ولم يكن خبر أسر بوهيموند قد وصل إلى القدس .

أما القوة الثانية : فهي العلمانية الملكية ؛ ففرسان جودفري بوايون يملئون القدس، وهم جميعًا يرفضون الحكم الثيوقراطي - أي الديني - ويرفضون أن تُعطى القدس للكنيسة بعد كل هذا المشوار الطويل من الجهد والعطاء ، ولقد وقف إلى جوار هذا الفريق أتباع الأسقف المعزول أرنولف مالكون، والذين رفضوا حكم دايمبرت مع أنه حكم ديني لا لشيء إلا نكاية في دايمبرت ! فليست القضية قضية مبدأ ، إنما الصراعات الشخصية والأطماع الخاصة .

ومن هو يا ترى مرشح الحكم والقيادة عند فرسان جودفري ؟!

إنهم - ولعقليتهم الأوربية الوراثية - ذهبوا بفكرهم إلى أقرب الناس إلى جودفري بوايون، وهذا هو بلدوين أخوه حاكم الرها! ولم يذهبوا مثلاً إلى تانكرد الذي ساهم بجهد وفير في تذليل الصعاب والسيطرة على الأوضاع في منطقة بيت المقدس ويافا وحيفا، وهو الذي كان يرأس إقليم الجليل في عهد جودفري ، ولم يذهبوا أيضًا بعقولهم إلى ريمون الرابع الأمير الذي يبحث عن إمارة ، إنما ذهبوا إلى الأخ الذي يحكم بالفعل إمارة أخرى هي الرها، وهو الأخ الذي لم يبذل جهدًا قَطُّ في إسقاط بيت المقدس !

وأرسل فرسان جودفري رسالة سرية سريعة إلى بلدوين في الرها تحثه على القدوم بسرعة لتسلُّم مقاليد الحكم في بيت المقدس ! ووجدها بلدوين فرصة لا تعوض، فشتَّان بين الرها وبيت المقدس ؛ ومن هنا أسرع بلدوين بترك إماراته لابن عمه بلدوين دي بورج، وترك معه حامية قوية، وأخذ حامية أخرى وإنطلق مسرعًا إلى بيت المقدس ، وقد حاول دقاق ملك دمشق الإمساك به في الطريق ، ولكن إبن عمار زعيم طرابلس الشيعي قدم المساعدات لبلدوين ليقاوم عدوهما المشترك دقاق السلجوقي السني ! ومن ثَمَّ استطاع بلدوين أن ينتصر على دقاق ، بل وغنم كمية كبيرة من المال والسلاح !!
إن الوضع كان مزريًا حقًّا !

ووصل بلدوين سالمًا إلى بيت المقدس في سنة (493هـ) 10 من نوفمبر سنة 1100م.
وكان فرسان جودفري وأتباع الأسقف القديم أرنولف مالكون قد هيَّئُوا الشعب في داخل بيت المقدس لهذا الموقف؛ فما أن دخل بلدوين المدينة إذا بجميع النصارى والفرسان يخرجون في استقبال بلدوين في مظاهرة كبرى يطالبون فيها بحكمه، ويعلنون رغبتهم الجماعية في سيادته عليهم !

وإزاء هذه المفاجأة لم يستطع دايمبرت أن يواجه الرأي العام المسيحي في بيت المقدس، خاصةً أن فرسان جودفري الراحل، وأيضًا فرسان بلدوين القادمين معه كانوا على أهبة الاستعداد لبذل سيوفهم في سبيل قيام ملكية علمانية بعيدة عن هيمنة الكنيسة، وآثر الأسقف دايمبرت السلامة، وقنع بكرسيه في الأسقفية ، ومن ثَمَّ تُوِّج بلدوين زعيمًا على بيت المقدس، ولكنه في هذه المرة لم يَتَسَمَّ بلقب (حامي بيت المقدس) ، كما فعل أخوه من قبل، ولم يتسمَّ بلقب أمير كما فعل بقية الزعماء ، إنما تلقَّب بلقب ملك ! وهذا يعني أنه لا يتبع أحدًا، بل الجميع يتبعونه، وهذا إن لم يكن واقعًا الآن فسيكون واقعًا في المستقبل، فهو أقوى الزعماء، وهو الذي يحكم أهم المدن ، ولهذا تلقَّب بملك بيت المقدس، وهكذا أسست مملكة بيت المقدس ليكون أول زعمائها هو بلدوين الذي عُرِف ببلدوين الأول، وكان ذلك بداية من 11 من نوفمبر 1100م ، وإن كان التتويج الرسمي تمَّ في يوم عيد الميلاد الغربي الكاثوليكي، وهو 25 من ديسمبر سنةَ 1100م .

وكان بلدوين الأول من الذكاء بحيث إنه لم يعزل دايمبرت فورًا عن مركزه، وإن كان يعلم أنه كان منافسًا له على كرسي الحكم، وذلك حتى لا يحدث فراغًا في الكنيسة قد لا يستطيع أن يملأه بسهولة، ولكي لا يستعدي دايمبرت ووراءه الأسطول البيزيّ الذي كان بلدوين الأول في أشد الحاجة إليه .

وهكذا إلتفت بلدوين الأول إلى إقرار الأوضاع في بيت المقدس ، وإلى تأمين الطرق حوله، وكذلك إلى توزيع الإمارات والمراكز على أعوانه ومقربيه ، ولا شك أن هذا الوضع الجديد كان على غير رغبة تانكرد تمامًا، فتانكرد لا ينسى أنه كان متنازعًا مع بلدوين هذا على مدينة قليقية منذ ثلاث سنوات عند بداية الغزو الصليبي، كما أن تانكرد راهن على الحصان الخاسر في المعركة وهو دايمبرت؛ لذلك علم تانكرد أن بلدوين لن يلبث أن يعزله من إمارة الجليل التابعة لبيت المقدس، وسيقع تانكرد صاحب الأحلام العريضة في مشكلة كبيرة .

غير أن الأيام حملت مفاجأة كبيرة سارَّة لتانكرد وهي مفاجأة أسر خاله بوهيموند !! ولا يحسبنَّ أحدٌ أن تانكرد كان حزينًا لهذا الخبر، فليذهب بوهيموند كما يقولون إلى الجحيم! فتانكرد يبحث عن مصالحه هو لا عن مصالح خاله، وقد رأينا ذلك في قصته قبل ذلك حين ترك خاله في أنطاكية وآثر أن ينزل إلى مكان آخر يبحث له فيه عن إمارة بعيدًا عن خاله القوي بوهيموند؛ ولهذا فعندما وصل خبر أسر بوهيموند وصلت معه رسالة من الجيش النورماني في أنطاكية باستدعاء تانكرد ليكون أميرًا مؤقتًا على أنطاكية لحين فك أسر بوهيموند، وكان هذا الاستدعاء نجدة لتانكرد وأحلامه، كما كان نجدة لبلدوين الأول الذي تخلص من أمير مكروه لديه دون مشكلة أو صراع .

وهكذا وفي سنة 494هـ\ أوائل 1101م صار بلدوين الأول ملكًا على مملكة بيت المقدس، وتانكرد أميرًا على أنطاكية، وبلدوين دي بروج أميرًا على الرها، وما زال ريمون الرابع يبحث عن إمارة في منطقة طرابلس، وما زال بوهيموند أسيرًا في يد الملك غازي بن الدانشمند .

وفي وسط كل هذه الأحداث الساخنة والمتلاحقة، يجب أن نتساءل وبقوة : أين كان المسلمون ؟!

لقد كانت هذه الأزمات القوية التي تعرض لها الصليبيون فرصة للمسلمين أن يستعيدوا توازنهم، وأن يجمعوا صفهم، وأن يوحدوا هدفهم، لكن - للأسف - تشعبت بهم الأهواء، ولم يكن لهم زعيم مخلص يُجمِّع ويعلِّم ويوجِّه، فضاعت الفرص تلو الفرص، وأَلِف المسلمون الهوان والذل، وقبلوا بالواقع المرير الذي يكرهونه جميعًا ، ولم تتحرك فيهم نوازع رفع الظلم ، وتغيير المنكر .. وهكذا مرت الأيام والشهور بل والسنوات ، والصليبيون كالمرض العضال يزداد توحشًا وتمكنًا من الجسد الإسلامي الضعيف .

إن الصليبيين في هذه الظروف، وهم يرون المسلمين لا يحركون ساكنًا، بل يسعون إلى عقد اتفاقيات سلام، ومباحثات جوار، وعقود تنازل، في هذه الظروف رأى الصليبيون أن يسرعوا بتوسيع أملاكهم، واستغلال أزمة المسلمين بأقصى درجة .

ففي بيت المقدس بدأ بلدوين الأول يقوم ببعض الحملات العسكرية الخاطفة حول المدينة ليختبر قواته العسكرية، وليكتشف الطرق، ويدرب جنوده على الأوضاع الجديدة، ثم ما لبث أن أخذ جيشه وحاصر أرسوف التي سقطت في يده بعد قليل بمساعدة أسطول بحري قدم من جنوة الإيطالية ، ثم أتبع ذلك بحصار قيسارية فسقطت هي الأخرى ، وتعرضت بعد سقوطها لمذبحة بشعة قُتل فيها عدد ضخم من السكان المدنيين ، بل إن السكان عندما احتموا بمسجد المدينة لحقهم الصليبيون بقيادة بلدوين الأول - الذي تصفه المصادر التاريخية بالحكمة!- وقاموا بذبح كل مَن في المسجد من الرجال والنساء والأطفال، حتى تحول المسجد إلى بركة هائلة من دماء المسلمين والمسلمات !

وفي أنطاكية خرج تانكرد ليمارس نشاطه التوسعي بسرعة قبل أن يفكر أحد في ضعف إمارته لفقدها زعيمها بوهيموند، ولقد كان تانكرد لا يقل شراسة ولا قوة ولا خبرة ولا مهارة عسكرية عن خاله بوهيموند ، ولقد استطاع في غضون شهور قليلة جدًّا أن يستولي على ثلاث مدن مهمة في إقليم قليقية شمال أنطاكية ، هي مدن طرسوس وأذنة والمصيصة، وكانت تحت السيطرة البيزنطية ، بل إنه حاصر مدينة اللاذقية المهمة جنوب أنطاكية، والتي اضطر بوهيموند قبل ذلك بأكثر من سنة أن يرفع عنها الحصار بسبب ريمون الرابع وموالاته للدولة البيزنطية ، أما الآن فتانكرد لا يحسب حسابًا أبدًا للإمبراطورية العجوز ، ولذلك نصب جيشه حول اللاذقية بغية إسقاطها ، وهو ما تمَّ له بالفعل، ولكن بعد قرابة السنتين !!

أما في إمارة الرها فقد بدأ بلدوين دي بروج نشاطه بمهاجمة مدينة سروج المسلمة، والتي حاول سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا - وهو من الأمراء المسلمين - أن يستردها عند رحيل بلدوين الأول إلى بيت المقدس ، غير أنه - للأسف - لم يتلقَّ أي مساعدة من الأمراء المسلمين في المنطقة؛ مما أدى إلي إنتصار بلدوين دي بورج عليه بعد قتال شديد، واستبيحت سروج، وأُخذ منها عدد كبير من الأسرى .

كان هذا هو الوضع في مملكة بيت المقدس وإمارتي أنطاكية والرها، فماذا فعل ريمون الرابع ؟! لقد فشل ريمون الرابع في رفع حصار تانكرد من حول اللاذقية، وكنا قد علمنا قبل ذلك أن ريمون يسيطر على اللاذقية لصالح الدولة البيزنطية ، ومن ثَمَّ فقد ترك ريمون المدينة وإنطلق إلى القسطنطينية ليتباحث مع ألكسيوس كومنين كيفية تخليص اللاذقية ، غير أنهم فوجئوا بحدث مهم ضخم غيَّر من حساباتهم ، وأوشك أن يغيِّر من خطط الجميع !!

لقد وصلت جموع هائلة من الغرب الأوربي تسعى للمشاركة في الحملة الصليبية ! لقد سمع الأوربيون بأخبار تأسيس ثلاث إمارات في داخل أراضي المسلمين ، وسمعوا بأخبار الغنائم والأموال والأسلاب، وسمعوا بأخبار الموانئ الإسلامية التي تتساقط في أيدي الصليبيين، وسمعوا عن العقود التجارية التي فازت بها أساطيل الجمهوريات الإيطالية ، وسمعوا عن إستكانة المسلمين غير المتوقعة وفرقتهم وتشرذمهم، لقد دفعتهم كل هذه المعلومات إلى تجميع الأعداد الكبيرة للاستفادة من هذا الموروث السهل !

ولقد وصلت هذه الجموع الهائلة إلى القسطنطينية في (494هـ \ مارس سنة 1101م (خريطة 19) ، وكان أول المجموعات وصولاً هي مجموعة اللمبارديين ، وهم أهل شمال إيطاليا، وكان على رأسهم (أنسلم) رئيس أساقفة ميلانو ، وكان بصحبتهم أيضًا مجموعة من الأمراء الإيطاليين مثل ألبرت وجيوبرت وهيومن وغيرهم ، غير أن عموم الحملة كانوا من الفلاحين والعوام ، وأيضًا من النساء والأطفال ، وكانت هذه الحملة أشبه ما تكون بحملة بطرس الناسك ووالتر المفلس ، ولعلنا نلاحظ أن الحملة العسكرية الأولى كانت بقيادة أدهمار المندوب البابوي (أسقف بوي) ، ثم كانت النجدة الثانية بقيادة دايمبرت رئيس أساقفة بيزا ، وها هو أنسلم رئيس أساقفة ميلانو يقود النجدة الحالية ، ليبرز لنا بوضوح دور الكنيسة في تحريك الجموع بغزو البلاد الإسلامية .

وعندما وصلت هذه الجموع إلى القسطنطينية قاموا بالإفساد الذي تعوَّد عليه شعب أوربا في ذلك الوقت ؛ مما دفع ألكسيوس كومنين أن يعجل بنقلهم عبر مضيق البسفور إلى أرض آسيا الصغرى، حيث توجهوا إلى مدينة نيقية، ليكونوا في انتظار بقية الجموع ، ثم اتفق ألكسيوس كومنين مع ريمون الرابع على أن يرأس ريمون الرابع هذه الجموع لخبرته في المنطقة ، ولدرايته بحروب المسلمين، وليضمن كذلك أن توجه الحملة إلى أطماع ألكسيوس كومنين، لا إلى أطماع تانكرد أو بلدوين الأول أو غيرهما !!

ثم مرَّ شهر أو يزيد ووصلت جموع أخرى من الصليبيين، وخاصة من فرنسا وألمانيا ، وانضمت إلى القوات الأولى في نيقية، ليصل مجموع الحملة الصليبية إلى مائتي ألف في أقل تقدير ! بينما يصل بهم ابن الأثير إلى ثلاثمائة ألف !!

لقد كان جيشًا هائلاً تولى قيادته ريمون الرابع ، وسار بهم في إتجاه دوريليوم ليلحق ببقية الصليبيين في الشام ، وكانت هذه هي رغبة ألكسيوس كومنين أيضًا، حيث كان يريد إعادة السيطرة على المدن التي ضاعت منه هناك ، وكان ريمون يريد لهذه الجموع أن تساعده في إسقاط طرابلس لينشأ له إمارة هناك، إلا أن جموع اللمبارديين رفضت هذا التوجُّه، وأرادت أن تنحرف بالحملة إلى الاتجاه الشمالي الشرقي لتغزو مناطق بني الدانشمند، وذلك بغية فك الزعيم النورماني الكبير بوهيموند من أسره ، ولا ننسى أن جموع اللمبارديين من إيطاليا بلد الزعيم المأسور، وعندما أشار ريمون الرابع إلى صعوبة تحرير بوهيموند المحبوس في قلعة نكسار الحصينة في مناطق جبلية وعرة على ساحل البحر الأسود رفض اللمبارديون إشارته ، وقالوا: إنهم إن فشلوا في تحريره فإنهم على الأقل سيدمرون أهم مدينتين في أقاليم بني الدانشمند ، وهما مديتنا أماسية وسيواس ، وأمام إصرار القوة الرئيسية في الجيش رضخ ريمون الرابع ، وإنحرف بالجيش في الاتجاه الشمالي الشرقي ، فوصلوا إلى أنقرة في (494هـ) أواخر يونية 1101م وإستولوا عليها في سهولة بالغة ، ثم أكملوا طريقهم في اتجاه قسطموني شمالاً !

إنهم يتجهون الآن إلى عمق بلاد الأتراك المسلمين ، فماذا كان ردُّ فعل الملك غازي كمشتكين ؟ وماذا فعل قلج أرسلان الذي كان يتخذ من قونية قاعدة له ؟ ,, لقد قام الملك غازي بالفعل الصائب إذ أرسل إلى قلج أرسلان السلجوقي ليستعين به في حروب الصليبيين، ولم يخيِّب قلج أرسلان ظنَّه ، وجمع جيشه وإنضم إليه ، بل وانضم إليهما بعد ذلك بعض جنود رضوان بن تتش زعيم حلب !

لقد كان خليطًا عجيبًا من زعماء تناحروا قبل ذلك كثيرًا، ولكنهم رأوا أن الدائرة ستدور عليهم قريبًا، وخاصةً أن هذه الجموع تجاوزت المائتي ألف ؛ ولذلك توحدوا !! ومع كون التاريخ غير مبشِّر ، ومع كون القلوب غير صافية إلا أن الوَحْدة - مهما كانت - تؤتي ثمارًا ونتائج ، نعم قد تكون ثمارًا مؤقتة إن لم تكن هذه الوحدة لله ، ولكنها تظل أفضل من الفرقة والتشتت , وهكذا على الرغم من عدم قناعتنا الكاملة بهذه الشخصيات فإنهم استطاعوا أن يفعلوا شيئًا، وشيئًا كبيرًا، لتبقى القاعدة الذهبية الأصيلة : " يد الله مع الجماعة!" .

ماذا فعلت الجيوش الإسلامية المتحدة ؟!

لقد تقدمت فرقة قلج أرسلان أمام الجيش الصليبي ، ثم بدأت تظهر الإنسحاب أمامه لتشجعه على الاستمرار في التقدم ، وفي أثناء هذا الإنسحاب كان السلاجقة يقومون بحرق المزروعات في الحقول ، وبردم الآبار ، وتدمير المؤن والأغذية حتى لا يتركوا فرصة للجيش الصليبي للتزود بأي تموين ، وطال الطريق على الجيش الصليبي ، وبدأ يشعر بالتعب والإنهاك ، وخاصةً أن هذه الأحداث كانت تدور في شهر يوليو من سنة 1101م، والحرارة عالية، وطبيعة الطريق الجبلية والصخرية مرهقة، وأكثر من ذلك أن السلاجقة كانوا يمارسون مع الجيش حروب استنزاف سريعة أثناء حركة الجيش جعلت الحالة النفسية للصليبيين مضطربة، وحاول ريمون أن يثني الجيش الصليبي عن عزمه باقتحام أرض الدانشمنديين ، إلا أن الجيش أصرَّ على تخليص بوهيموند ليكون قائدًا لهم في غزو بلاد الشام !

وإجتاز الصليبيون نهر هاليس ليدخلوا بذلك إلى أرض بني الدانشمند ، وواصلوا تقدمهم شرقًا حتى وصلوا إلى مدينة مرسيفان في منتصف الطريق تقريبًا بين نهر هاليس ومدينة أماسية ، وأدركت عيون الأتراك في ذلك الوقت أن الصليبيين قد بلغوا درجة كبيرة من الإعياء، فنصبوا كمينًا خطيرًا للجيش الصليبي ، وبدأ الصدام المروّع ..

ومع كثرة أعداد الصليبيين فإنَّ اللقاء لم يكن متكافئًا ، فالصليبيون في حالة مزرية من الجوع والعطش والإرهاق وإرتفاع درجة الحرارة، إضافةً إلى وجود أعداد كبيرة من الفلاحين غير المحترفين للقتال ، مع جهل الجميع بطبيعة الأراضي ومسالكها .

لقد كان قتالاً من جانب واحد ، إستطاع فيه المسلمون أن يحققوا نصرًا ساحقًا ، حيث هلك أربعة أخماس الجيش الصليبي، وأُسر معظم الباقين، ولم ينجُ من الجيش إلا مجموعة من الأمراء على رأسهم ريمون الرابع ، والذين نجوا بأنفسهم عندما رأوا الدائرة تدور على جيشهم، ووصلوا في فرارهم إلى القسطنطينية !

فَقَد الجيش الصليبي في هذه المعركة أكثر من مائة وستين ألف مقاتل، وفقدوا نساءهم وأطفالهم وأموالهم وسلاحهم ، وفقدوا سمعتهم وهيبتهم، وكانت هذه الأحداث في (494هـ) أوائل أغسطس سنة 1101 .

ولم تكن هذه هي الكارثة الأخيرة للصليبيين في هذه الظروف ، إذ إنه في هذه الأثناء وصلت مجموعة أخرى من الصليبيين للقسطنطينية ، وكانت هذه المجموعة مكونة من خمسة عشر ألفًا من الفرسان والمشاة الفرنسيين ، على رأسهم وليم الثاني كونت نيفرز Nevers ، وكان وصول هذه المجموعة في أثناء القتال الدائر في مرسيفان ، وانطلق وليم الثاني في أراضي آسيا الصغرى، ووصل إلى أنقرة ودخلها بسهولة ، غير أنه لم يدرك أي الطرق سلك الجيش الصليبي الأول ، وحيث إن الجيش الصليبي الأول قد هلك بكامله تقريبًا، ومن فرَّ منه فرَّ في اتجاه الشمال ؛ فإن الكونت وليم لم يعرف إلى أي الاتجاهات يسير ، ثم إنه في النهاية توجه بجيشه جنوبًا إلى هرقلة ، وهناك كانت الأنباء قد وصلت إلى القوات الإسلامية المتحالفة بوصول هذا الجيش الصليبي الجديد، فنزلوا مسرعين في اتجاه هرقلة ، وهم في حالة معنوية مرتفعة جدًّا لإنتصارهم الباهر في المعركة السابقة ، وكان اللقاء حاميًا في هرقلة في أواخر أغسطس سنة 1101م، وكان بالنسبة للمسلمين نزهة عسكرية بالقياس إلى اللقاء السابق ! وما هي إلا ساعات قليلة وفَنِي الجيش الصليبي بكامله، ولم ينجُ منه إلا زعيمه الكونت وليم الثاني كونت نيفرز، ومعه ستة من خاصَّته وأتباعه ! وتُعرف هذه المعركة في التاريخ بمعركة هرقلة الأولى؛ تمييزًا لها عن معركة هرقلة الثانية التي دارت بعدها بأقل من أسبوعين .

أما قصة معركة هرقلة الثانية فتبدأ بوصول المجموعة الثانية من هذه النجدة الصليبية التعيسة، حيث وصل إلى القسطنطينية ستون ألف مقاتل من فرنسا وألمانيا ، على رأسهم وليم التاسع دوق أكوتيين وولف الرابع دوق بافاريا ، وإتجهت هذه المجموعة مباشرة إلى هرقلة عبر قونية ، ومارس معها المسلمون نفس الأسلوب الذي مارسوه مع الحملة الأولى، حيث استدرجوهم إلى هرقلة بعد إتلاف المزروعات وطَمْر الآبار، فوصل الجيش الصليبي إلى هرقلة في أوائل سبتمبر من سنة 1101م في حالة مأساوية من الجوع والعطش والإنهاك ، وما لبثت المعركة أن بدأت لتصل في خلال ساعات إلى نفس النتيجة حيث أُبيد الجيش الصليبي بكامله ، ولم ينجُ إلا الأمراء الذي هربوا إلى أنطاكية !!

ولعله من الملاحظ في المعارك الثلاثة أن أمراء الجيش الصليبي كانوا يفتحون لأنفسهم طريقًا للهرب تاركين الجموع المسكينة لمصيرهم المشئوم !

وهكذا دائمًا طبيعة الجيوش التي تفتقر إلى قضية ، ولا يحرك القائد فيها إلا شهوته للتملُّك ورغبته في التوسع ! لقد كان ثلاث معارك هائلة في أقل من شهرين فَقَد فيها الصليبيون قرابة ربع مليون مقاتل ، إضافةً إلى الغنائم والسبي ، ولا شك أن حدثًا كبيرًا كهذا كان له من الآثار ما لا يحصى ، ولعله من المناسب أن نقف وقفة لنتدبر في نتائج هذه المعارك المهمة، وأثرها على سير الأحداث :

أولاً : إرتفعت معنويات المسلمين في كل مكان، ليس في آسيا الصغرى فقط ولكن في كل العالم الإسلامي، فالمسلمون كانوا يفتقرون إلى نصر يعيد لهم ثقتهم في أنفسهم، ويُهوِّن عندهم قوة الصليبيين، وهذه المعنويات المرتفعة - وإن لم يكن لها مردود سريع - رسَّختْ في الأذهان فشل الادِّعاء القائل بأن الصليبيين قوة لا تقهر ، وهذه خطوة مهمة في بداية التغيير .

ثانيًا : من المفترض أن المسلمين فهموا بعد هذه المعارك الثلاث بعض أسباب النصر ، ولعل من أبرز هذه الأسباب وضوحًا الجهاد والوحدة .

فالحقوق لا تعود إلى أصحابها عن طريق إقناع المعتدين بالعدول عن إعتدائهم ، ولا عن طريق طاولة مفاوضات، ولا عن طريق وساطة غربية ولا شرقية، إنما تعود الحقوق بالدفاع الجريء عنها، وبالصمود الطويل ، وبالصبر الجميل، وبالإعداد والتجهيز، وبذل الوسع والطاقة؛ وهو ما وَضَح لنا جميعًا في خطوات سير المعارك الثلاث .

كما أن الوَحْدة بين قلج أرسلان وكمشتكين ضاعفت القوة ، وسددت الرمية ، وأزعجت الأعداء، وأرهبت صدورهم؛ مما قاد إلى النصر بشكل طبيعي مفهوم .

ثالثًا : للأسف الشديد، وللمرة الثانية في حروب السلاجقة والدانشمنديين، لم نر التوجه الإسلامي واضحًا في الحرب التي خاضوها ، ولم تنقل المصادر إلينا إشتياقًا إلى الشهادة ، أو رغبة في دخول الجنة ، إنما أخذت المعارك الطابع القومي والوطني ، وطابع الحفاظ على الأراضي والديار والأملاك ، وهذا وإن كان من الممكن أن يحقق نصرًا كما رأينا ، إلا أن هذا النصر يكون مرحليًّا غير ممتد؛ لأن الله لا يتم نصره إلا لمن قاتل في سبيله ، ووحَّد وجهته كلها لله , ومما يؤكد قومية التوجه عند الأتراك في هذه المعارك أنهم لم يسعوا إلى إستغلال هذا النصر والتفوق في تحرير المدن الإسلامية المحتلة ، مع قربها الشديد من أرضهم ، وخاصةً أنطاكية والرها .

رابعًا : مع حلاوة هذا النصر وبريقه فإنَّ قادة المسلمين في الشام كانت على أعينهم غشاوة سميكة جدًّا، فلم يفهموا هذا النصر ، ولم يعلموا أسبابه ، بل لم يفكروا في إستغلال أزمة الصليبيين بفقدان هذا العدد الهائل من الجنود ، ومن ثَمَّ لم يسعوا إلى تحرير أوطانهم وديارهم .

خامسًا : تفرغ الأتراك في آسيا الصغرى بعد هذه المعارك إلى بسط سيطرتهم على المدن هناك، فسيطر قلج أرسلان على وسط آسيا الصغرى ، واتخذ قونية عاصمة له ، بينما ركَّز كمشتكين بن الدانشمند جهوده في الشرق، وأسقط ملطية تحت سيطرته .

سادسًا : أغلقت هذه المعارك الطريق البري من القسطنطينية إلى أرض الشام أمام القوات الصليبية ، وظل هذا الطريق مغلقًا قرابة قرن كامل من الزمان حتى زمان الإمبراطور الألماني فردريك باربروسا في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي ؛ مما يشير إلى مدى الرهبة التي تُلقى في قلوب أعداء الأمة إذا رُفعت راية الجهاد والمقاومة .

سابعًا : أدى انغلاق الطريق البري لأرض الشام أن نشطت جدًّا حركة السفن في البحر الأبيض المتوسط للوصول بالإمدادات والمؤن والجيوش إلى الموانئ الشامية والقسطنطينية، ولما كانت معظم هذه السفن مملوكة للجمهوريات الإيطالية فإنَّ دور هذه الجمهوريات أصبح مؤثرًا جدًّا في أحداث الحروب الصليبية، ولعشرات السنوات المقبلة .
ثامنًا: أدت هذه الانتصارات الإسلامية إلى قلق الصليبيين في الشام ، وهذا أدى بدوره إلى توقف حركاتهم التوسعية ، وقناعتهم بالاكتفاء بالحفاظ على ما بأيديهم ، خاصةً أن هزيمة الصليبيين كان لها وقع سيِّئ جدًّا على الغرب الأوربي مما عوَّق جهود الكنيسة في جمع المقاتلين .

تاسعًا : أدت هذه الانتصارات إلى اقتناع الدولة البيزنطية أن قوتها أضعف من أن تخوض قتالاً مباشرًا مع الأتراك في داخل آسيا الصغرى ، ومن ثَمَّ لم تحاول أن تدخل جيوشها إلى هذه المناطق إلا بعد وفاة قلج أرسلان بعد ذلك بست سنوات .

عاشرًا : نتيجة سلبية خطيرة لهذا النصر ، وهي أن البيتين التركيين الكبيرين : البيت السلجوقي ، والبيت الدانشمندي دخلا في صراع محتدم بعد هذا الإنتصار، فقد تفرَّغ كل منهما للآخر ، ولم يفهما قيمة الوحدة التي أنعم الله بها عليهما في وقت من الأوقات ، ومن ثَمَّ نظر كل طرف إلى مصالحه الخاصة، وإلى أطماعه التوسعية ؛ ولما كانت مساحة آسيا الصغرى محدودة ، فكان لا بد من التوسع على حساب الطرف الآخر ! كما أن وفرة الغنائم وكثرة الأموال كانت من العوامل التي أغرت الطائفتين بنسيان الأصول الإسلامية ، والتفرُّغ لجمع الدنيا !!

لكن على العموم فإن هذه المعارك التي حدثت أدت إلى خروج آسيا الصغرى تقريبًا من موازنات الحروب الصليبية ، حيث أخرجها الصليبيون من حساباتهم لفترة طويلة ، كما أخرج سكانها المسلمون بقيَّة القضايا الإسلامية - وعلى رأسها احتلال الشام وفلسطين - من حساباتهم ، وصارت قضية احتلال القدس وغيرها من المدن الإسلامية وكأنها من قضايا الشأن الداخلي التي تخص الفلسطينيين والشاميين ، ولا دخل لبقية المسلمين فيها، وهذا - لا شك - قصور كبير في الفَهْم، وبُعد هائل عن حقيقة الشرع وطبيعة الدين !

عودة إلى الإمارات الصليبية في الشام وفلسطين !

قبل أن تصل أخبار الهزيمة الصليبية الفادحة إلى بيت المقدس كان بلدوين الأول يرتب أمور مملكته الجديدة ، وبينما هو منهمك في هذا الترتيب إذ بالجيوش العبيدية (الفاطمية) تظهر في الصورة !

لقد رغبت الدولة العبيدية - كما شرحنا قبل ذلك - في التفاهم مع الصليبيين لتقسيم البلاد معهم، فتكون الشام للصليبيين وتكون فلسطين للدولة العبيدية، غير أن هذا لم يعجب الصليبيون، وإستمروا كما رأينا في احتلال الأراضي حتى أخذوا فلسطين بكاملها، وأسقطوا بيت المقدس في قبضتهم في (492هـ) يوليو 1099م، ولا شك أن هذا لم يأتِ موافقًا لأطماع ورغبات الدولة العبيدية ، ولم يكن هذا بالطبع لأي نخوة إسلامية، ولا لتقديس مدينة القدس ومسجدها الأقصى، إنما كان لرغبات التوسع والتملك والسيطرة، ولتأمين الحدود الشرقية المتاخمة مباشرة لفلسطين .. وبعد ما يقرب من سنتين، وتحديدًا في (494هـ) مارس 1101م فكر العبيديون في استرداد بيت المقدس وقتال بلدوين الأول، وجاءوا بجيش كبير يقوده سعد الدولة القواسي الذي كان حاكمًا لبيروت من قبلُ ، وعسكر هذا الجيش في عسقلان، وهي - كما نعلم - ما زالت تحت السيطرة العبيدية، وبدأ الجيش في الاستعداد لخوض معركة مهمة مع الصليبيين، ولكن من الواضح أن خطوات الجيش العبيدي كانت متثاقلة جدًّا، فقد أخذوا أكثر من ستة أشهر في الاستعداد، وأخيرًا خرجوا في (494هـ) أوائل سبتمبر سنة 1101م لقتال الصليبيين، مضيعين بذلك فرصة الصيف الحار الذي لا يألفه الأوربيون، إضافةً إلى إعطاء الصليبيين فرصة التجهز والاستعداد للمعركة المقبلة .

وفي منطقة الرملة ، وفي يوم 7 من سبتمبر سنة 1101م، حدث الصدام الذي يعرف في التاريخ بموقعة الرملة الأولى بين الجيش العبيدي في عدد كبير، والجيش الصليبي بقيادة بلدوين الأول في أعداد قليلة لكن حسنة التنظيم ، ومع أن أعداد العبيديين كانت تفوق كثيرًا أعداد الصليبيين فإنهم هُزموا سريعًا ، وسقط قائدهم سعد الدولة القواسي صريعًا في أرض المعركة ، وقُتل منهم عدد كبير، وفر الباقون إلى عسقلان الحصينة ، وغنم الصليبيون كل ما كان مع الجيش العبيدي من سلاح ومؤن وآلات .

لقد كانت ضربة موجعة للدولة العبيدية في مصر!

وإهتز الوزير الأفضل بن بدر الجمالي المسيطر على الأمور في مصر، وقرَّر أن يرسل حملة أخرى لرد الاعتبار ، لكن تجهيز هذه الحملة أخذ أكثر من ثمانية أشهر، جعلت الأمور تستقر إلى حد كبير في منطقة بيت المقدس ! وهكذا وصلت أنباء الهزيمة القاسية للجيوش الصليبية في آسيا الصغرى مع أنباء هزيمة الدولة العبيدية في الرملة ، مما أعاد الثقة نسبيًّا إلى الصليبيين .

ورأى ريمون الرابع كونت تولوز - الذي فشل حتى هذه اللحظة في تحقيق أي طموح - أنَّ عليه أن يسعى حثيثًا لتكوين إمارة له في منطقة لبنان ، وقد رأينا رغبته السابقة في منطقة طرابلس الحصينة، ورأينا فشله في تحقيق مطامع بالمنطقة؛ نتيجة تنافسه مع زعماء الحملة الصليبية جميعًا، ورأينا فشله في تحقيق طموح مع القوات الصليبية الجديدة التي إنتهى أمرها - كما رأينا - إلى السحق التام تحت أقدام المسلمين ، ووجد ريمون الرابع أن علاقته بالإمبراطور البيزنطي لم تساعده في شيء، بل أعطت انطباعًا عند زعماء الحملة الصليبية أن ريمون خائن لهم وللمشروع الصليبي، لدرجة أن ريمون الرابع عندما غادر القسطنطينية في (495هـ) يناير 1102م متجهًا إلى ميناء السويدية جنوب أنطاكية ليمارس نشاطه من جديد في محاولة إنشاء إمارة خاصة به، قبض عليه أحد رجال تانكرد أمير أنطاكية بتهمة الخيانة للصليبيين ، واعتقله تانكرد بالفعل في سجن أنطاكية ، وإتهمه بالتواطؤ مع الدولة البيزنطية ، بل وبتعمد إهلاك الجيوش الصليبية لصالح البيزنطيين، وكادت أن تحدث مشكلة ضخمة بين الصليبيين؛ لأن ريمون الرابع وراءه جيش كامل من البروفينساليين ؛ ولذا تدخل زعماء الصليبيين عند تانكرد لإطلاق ريمون، فلم يطلقه إلا عندما اشترط على ريمون أن يكفَّ عن المطالبة بأية حقوق في أنطاكية أو اللاذقية، ووافق ريمون وأطلق سراحه، وخرج من أنطاكية مسرعًا في اتجاه لبنان، وفي طريقه إلى هناك حاصر طرطوس (في سوريا الآن) ، وسانده في هذا الحصار أسطول جنويّ ، وبالفعل سقطت طرطوس في (495هـ) فبراير 1012م، واتخذها ريمون قاعدة لأعماله، ومركزًا للانطلاق نحو طرابلس بعد ذلك .

ومع أن جيش ريمون كان قليلاً جدًّا يقدر بالمئات فقط، فإنَّه لم يتردد في حصار طرابلس بهذا العدد القليل من الجند ! إنها معركة البقاء والوجود! إن خسائره أصبحت كثيرة، ولا بد من العمل الجاد قبل أن يفقد كل شيء .

وفي داخل طرابلس وجد ابن عمار - الذي كان شيعيًّا منفصلاً عن الدولة العبيدية - نفسَه وحيدًا في حصاره ، ولم يفكر في الاستنجاد بالدولة العبيدية لأنه يعلم مطامعها في إمارته، فأرسل رغمًا عن أنفه إلى اثنين من ألدِّ أعدائه وهما : دقاق ملك دمشق ، وجناح الدولة ملك حمص ؛ فهما أقرب المدن إليه، ولكنهما من السُّنَّة، والخلاف بينهما عميق، ولم يكن ابن عمار يتردد في إرشاد الجيوش الصليبية إلى الطرق التي تنجِّيهم من جيوش دقاق، أما الآن فالوضع مختلف، والقضية - لا شك - ليست قضية إسلامية، لا عند ابن عمار، ولا عند دقاق أو جناح الدولة، ولكنها المصالح الذاتية فقط !

ولم يتردد الزعيمان المسلمان في قبول المساعدة، فهي فرصة قد تعطيهم إمارة طرابلس، وجيوش ريمون قليلة يسيرة، وهزيمته كانت قريبة في آسيا الصغرى على يد قلج أرسلان وكمشتكين بن الدانشمند، وهكذا انطلق الزعيمان لنجدة ابن عمار !

ومع كون الجيوش الإسلامية الثلاثة لدقاق وجناح الدولة وابن عمار كانت أكثر بكثير من جيش ريمون، فإنَّ ريمون استطاع أن ينتصر عليهم، وأن يشتِّت شملهم، بل يروي ابن الأثير أن ريمون قتل من المسلمين سبعة آلاف، مع أن جيشه كان بضع مئات! وفر جيش ابن عمار إلى داخل طرابلس، وهربت جيوش دقاق وجناح الدولة إلى مدنهما، وعاد ريمون إلى حصار طرابلس. وإزاء هذا الوضع عرض ابن عمار دفع الجزية لريمون، فقَبِل ريمون نظرًا لعلمه أن إسقاط طرابلس بهذا العدد القليل يكاد يكون أمرًا مستحيلاً، وبهذا عاد ريمون إلى طرطوس في مارس أو إبريل من سنة 1102م .

لكن ريمون ما عاد إلى طرطوس ليستريح ، إنما عاد ليُعِدَّ العدة لهجوم جديد، ومن ثَمَّ فقد خرج بعد أيام من عودته في (495هـ) إبريل 1102م إلى بعض الحصون التابعة لمدينة حمص، مثل حصن طوبان وحصن الأكراد وغيرهما ، وأخذ في حصارها ومهاجمتها مستغلاًّ فرار جيوش جناح الدولة منه قبل ذلك، وبينما هو في حصاره هكذا حدثت كارثة في مدينة حمص توضح مدى الانحدار الذي وصلت إليه الأمة في ذلك الوقت؛ إذ كان هناك خلاف قديم بين رضوان ملك حلب وجناح الدولة حسين بن ملاعب ملك حمص، ومع أن حسين بن ملاعب ملك حمص كان متزوجًا من أم رضوان بن تتش، إلا أن رضوان أقدم على جريمة بشعة في توقيت خطير، وهي جريمة قتل جناح الدولة ملك حمص وزوج أمه، وقام بتنفيذ هذه المهمة عن طريقة ثلاثة من الباطنية الإسماعيلية الذين اشتهروا بمثل هذه الجرائم، حيث قُتل جناح الدولة في مسجد حمص الكبير أثناء تأديته للصلاة، وكان ذلك 495هـ\ في مايو سنة 1102م !

إنها لجريمة كبرى حقًّا !

ليست فقط لإزهاق روح مسلمة بغير وجه حق، وليست فقط لارتكابها غِيلَةً أثناء الصلاة وفي داخل المسجد، وليست فقط لأنها في حق زوج أمه، ولكن لأنها تمت في مثل هذه الظروف القاسية التي تتعرض لها الأمة !

لم ينظر رضوان مطلقًا إلى وجود حمص في مواجهة جيش ريمون الرابع، ولم ينظر إلى الأزمة التي تتعرض لها البلاد، ولم ينظر إلى حالة الاضطراب التي ستئُول إليها الأحداث بعد مقتل زعيم المدينة، وإنما نظر فقط إلى إشفاء غليله، وإرضاء نفسه، والانتقام لكبريائه !

وهكذا فقدت حمص زعيمها في وقت حرج، وعلم ريمون الرابع بهذه الأحداث، فأخذ بقية جيشه بسرعة وتوجه مباشرة إلى مدينة حمص ذاتها ليضرب عليها حصارًا بغية إسقاطها ، إلا أنهم استنجدوا بدقاق ملك دمشق ، فوجدها دقاق فرصة لتوسيع ملكه ، ومن ثَمَّ جاء بجيشه لضمها إلى دمشق ، ورأى ريمون أنه سينحصر هكذا بين جيشي حمص ودمشق؛ فرفع الحصار وعاد إلى طرطوس، ووضع دقاق يده على مدينة حمص ليضمها في (495هـ) مايو 1102م إلى مملكته، وأناب عنه في حكمها أحد قوَّاده وهو طغتكين .

واستقرت الأوضاع نسبيًّا في هذه المنطقة، حيث هدأ ريمون بعض الوقت لكي يزيد من قوته وإمكانياته استعدادًا لحصار طرابلس، ورضي منه دقاق بهذا الهدوء، فلم يسعَ مطلقًا إلى الهجوم عليه أو استفزازه، وكأنَّ البلاد التي وضع ريمون يده عليها أصبحت من حقِّه كأمر واقعي لا بد من الاعتراف به !

ونعود إلى بيت المقدس، وقد مرت الأيام والشهور ، وعاد العبيديون بجيش كبير للانتقام لهزيمتهم في معركة الرملة الأولى في سبتمبر 1101م، وكان عودتهم إلى عسقلان في شهر مايو 1102م، أي بعد مرور أكثر من ثمانية أشهر على الكارثة الأولى ، وكان جيشهم بقيادة شرف المعالي وهو ابن الوزير الأفضل بن بدر الجمالي، مما يعطينا فكرة عن أهمية هذه الحملة .

وحشد بلدوين بضعة آلاف من جنوده في منطقة يافا، وخرج في مهمة استطلاعية بين يافا والرملة، ولم يكن معه سوى مائتين من الفرسان، وباغته العبيديون هناك، حيث اضطربت صفوفه، واضطر إلى قتالٍ مفاجئ، وقُتل من رجاله عدد كبير وفر الباقون، فمنهم من فر إلى يافا، ومنهم من فر إلى الرملة، وكان بلدوين ممن فر إلى الرملة، وكان هذا في (495هـ) 17 من مايو 1102م .

حاصر العبيديون الرملة ليفتكوا ببلدوين الأول غير أنه هرب منها ليلاً متجهًا إلى يافا، وسقطت الرملة في أيدي العبيديين ، وأرسلوا فرقة سريعة لحصار يافا ، فغيَّر بلدوين الأول من مساره وذهب إلى أرسوف في شمال يافا ، وجمع من كان بها من الصليبيين، وأخذهم عن طريق البحر إلى يافا لنجدة الجيش الصليبي هناك، وإستعان بأسطول إنجليزي مكون من مائتي سفينة كان يحمل كثيرًا من الجنود والحجاج، ودخل بلدوين الأول فعلاً إلى يافا من الميناء البحري على الرغم من وجود السفن العبيدية ، وأخذ في تنظيم جيوشه في داخل المدينة ، ثم في (495هـ) يوم 27 من مايو 1102م خرج بلدوين الأول على رأس جيوشه لمقابلة الجيش العبيدي خارج أسوار يافا ، وللأسف فإنه في خلال بضع ساعات هُزم الجيش العبيدي هزيمة ساحقة ، ولم يفقد الجيش الصليبي عددًا يذكر من رجاله، وفرَّ العبيديون إلى عسقلان للمرة الثانية في خلال ثمانية أشهر لتتفاقم الأزمة العسكرية للدولة العبيدية، بينما يزداد الصليبيون ترسيخًا لأقدامهم في المنطقة!
وعاد بلدوين الأول إلى بيت المقدس ليرتب أوضاعه فيها، وكان من أهم الأعمال التي قام بها استقبال مندوب البابا باسكال الثاني الذي جاء للتحقيق في أمر دايمبرت أسقف بيت المقدس، وكان بلدوين الأول قد أرسل إلى البابا يشكو له سوء سلوك دايمبرت، وأن هناك الكثير من الشبهات في تصرفاته، وجاء مندوب البابا - وهو الأسقف إبرمار - وحقق في الأمر، وسرعان ما أثبت - بمعونة بلدوين الأول بالطبع - أن دايمبرت مُدان في تصرفاته، وتم عزله عن الأسقفية المهمة، وتولى إبرمار مكانه، وبذلك تخلص بلدوين الأول من أشد منافسيه على الكرسي ، ولم يعبأ بلدوين الأول بعد ذلك باعتراضات تانكرد النورماني أمير أنطاكية، فقد صار بلدوين أقوى زعماء الصليبيين بلا منازع .

ولا ينبغي أن يجعلنا هذا التصرف من بلدوين أن نفهم أن سلطان الكنيسة ذهب بالكلية عند قيام حكومة علمانية ملكية في بيت المقدس، بل ظل للكنيسة نفوذ كبير، وإن كان في معظمه نفوذ بعيد عن سلطة أخذ القرار السياسي، وإنما هو نفوذ اقتصادي واسع؛ فقد تميزت الأديرة والكنائس في الإمارات الصليبية بوفرة الثروة واتِّساع الأملاك، ويكفي أن نعرف أن دير جبل صهيون في بيت المقدس - على سبيل المثال - امتلك في سنة (583هـ) 1178م حيًّا بأكمله في مدينة القدس ذاتها، وكذلك كان لنفس الدير ممتلكات وأراضٍ وبساتين وأسواق في عسقلان ويافا ونابلس وقيسارية وعكا وصور وأنطاكية وقليقية، بل إن الدير نفسه كان يملك ضياعًا وأملاكًا في أوربا: في صقلية، وإيطاليا، وفرنسا! ولا شك أن هذه الأملاك الواسعة أثارت حقد النبلاء والأمراء، خاصةً أن أملاك الكنيسة كانت مُعفاة من الضرائب ، وكان رجال الكنيسة معفيين من الخدمة العسكرية كذلك، فهذا رفع تساؤلات ضخمة في أذهان الأمراء الذين ما شعروا أن للدين أثرًا في حياتهم يوازي هذه المكانة الضخمة التي تتمتع بها الكنيسة، ومع ذلك فهذا واقع كان لا بد من قبوله، ولم يثر عليه عامة الأوربيين إلا بعد عدة قرون !

وهكذا بينما نحن نتحدث عن استقرار الأوضاع الداخلية في الإمارات الصليبية كانت الأحوال تزداد سوءًا في الإمارات الإسلامية! ولم يقف الحد عند النزاع بين الإمارات بعضها وبعض، وإنما وصل إلى النزاع الداخلي في كل إمارة، وليس أدل على ذلك مما حدث في الموصل في (495هـ) أواخر سنة 1102م عندما مات كربوغا أمير الموصل، فتنازع الملك في الموصل بعده اثنان هم سنقرجة وموسى التركماني، فقُتل سنقرجة في النزاع وتولى موسى التركماني، ليُقتَل بعد قليل على يد جكرمش الذي تولى إمارة الموصل، ولن يدوم الأمر له طويلاً بل سيظهر من ينافسه وهكذا !!

إنه في ظل هذه الأوضاع المتردية ، من غياب الشرع في حياة الناس ، وحب السلطة والتملك، وذهاب الوحدة، وانفصام العروة، كان لا بد للكيان الصليبي أن يُزرع في داخل قلب الأمة الإسلامية! ولا عجب إن قلنا إنه في أثناء هذا الصراع في الموصل، وفي (495هـ) أواخر سنة 1102م سقطت مدينة اللاذقية - وهي ميناء شامي في غاية الأهمية - في يد تانكرد أمير أنطاكية بعد حصار سنة ونصف تقريبًا، دون أن يتحرك لها أحد من المدن القريبة: حلب أو حماة أو حمص، وهكذا صار لإمارة أنطاكية واجهة عريضة على البحر سهَّلت لها بعد ذلك - ولمدة عشرات السنين - وصول الإمدادات البحرية من أوربا؛ مما أسهم في طول بقائها وإستقرارها .

ولعل من الأحداث التي رأيناها في سنة (496هـ) 1103م ما يدلنا أيضًا على تردِّي الأخلاق بدرجة كبيرة عند زعماء المسلمين، فلم تكن القضية - كما كانت في الموصل - نزاعًا على كرسي الحكم فقط، بل وصل الأمر عند البعض إلى المخاطرة بكل مصالح المسلمين من أجل حفنة من دنانير، أو اتفاقية تعاون مشترك مع الصليبيين !

من هذا ما حدث في سنة (496هـ) أوائل 1103م من تفاوض بشأن الأمير الأسير بوهيموند النورماني ، والذي ظل كما نعرف في قبضة الملك غازي كمشتكين ثلاث سنوات كاملة حتى الآن ، وكان حبيسًا في قلعة نكسار الحصينة على ساحل البحر الأسود في شمال آسيا الصغرى .

لقد أراد بلدوين دي بورج أمير الرها بالاشتراك مع برنارد بطرك أنطاكية أن يسعى لتحرير بوهيموند من الأسر، وذلك لخشية بلدوين دي بورج من أحلام تانكرد التوسعية ؛ ولما كان بلدوين دي بورج يعلم أن الحل العسكري لن يجدي في هذه القضية، خاصةً أن أخبار الحملة الصليبية الفاشلة في سنة (494هـ) 1101م لا يمكن أن تُمحى من الذاكرة، أراد بلدوين دي بورج أن يحل الموقف سياسيًّا، فدعا إلى مباحثات مشتركة مع الملك غازي كمشتكين أمير الدانشمند لينظر فيما يطلب لإطلاق سراح بوهيموند النورماني، وتمَّ اللقاء فعلاً، ودُرس الموقف، لكن لم يتوصل الفريقان إلى نتيجة حاسمة . في ذلك الوقت علم الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين بهذه المفاوضات ، وكان الإمبراطور البيزنطي يكره بوهيموند كراهية شديدة، ويشعر أنه لعب به ، وأغراه بالصداقة والولاء والتبعية، ثم تنكَّر لكل ذلك وامتلك أنطاكية، بل تجرأ تابعه وإبن أخته تانكرد على أخذ مدن أذنة والمصيصة وطرسوس في أقليم قليقية شمال أنطاكية ، ثم أخيرًا أسقط تانكرد اللاذقية المتنازع عليها بين الصليبيين والبيزنطيين ، وبذلك ضربت كرامة الدولة البيزنطية في الأعماق، وخاصةً أن تاريخ بوهيموند في عدائه للبيزنطيين طويل، ويسبق الحروب الصليبية بسنوات عديدة؛ ولذلك لما علم الإمبراطور البيزنطي بهذه المفاوضات قرر أن يدخل في اللعبة السياسية ويتفاوض مع الملك غازي على بوهيموند، وبالفعل تقدم بعرضٍ في غاية السخاء قيمته مائتان وستون ألف دينار في مقابل تسلُّم بوهيموند النورماني ! وكان الإمبراطور البيزنطي لا يريد فقط الانتقام من بوهيموند، بل كان ينوي أن يفعل ما لم يفكر المسلمون أن يفعلوه طيلة السنوات الثلاثة التي امتلكوا فيها أمر بوهيموند، فقد كان يريد أن يساوم النورمان في أنطاكية على بوهيموند، ومن ثَمَّ يستطيع امتلاك مدينة أو عدة مدن نظير إطلاق بوهيموند، ولا شك أن الإمبراطور البيزنطي كان يعلم قيمة بوهيموند عند النورمان، وليس أدل على ذلك من توجه الحملة الصليبية التي أتت في سنة (494هـ) 1101م بكاملها لنجدة بوهيموند، لولا أنها هلكت كما تبيَّن لنا.
وجاء العرض مغريًا جدًّا للملك غازي كمشتكين بن الدانشمند ! إنه لا يقاتل إلا من أجل التملك والتوسع وتكثير الأموال والثروات، وها هو مبلغ هائل سيدخل جيبه دون جهد يذكر !

إن الأمر يستحق فعلاً أن يُعطى جانبًا كبيرًا من التفكير!!
ومن علم أيضًا بأمر هذه المفاوضات؟!!
لقد علم بها القائد السلجوقي الشهير قلج أرسلان، وهو الذي يقود البيت التركي الثاني في أرض آسيا الصغرى، وهو الذي ورث هو وإخوانه العداء مع بيت بني الدانشمند، فسال لعابه لهذه الثروة الطائلة التي ستدخل عما قريب لخزينة الدانشمنديين، فأرسل من فوره رسالة إلى الملك غازي يطالب فيها بنصف المبلغ عند تسلُّمه، وذلك نظير المساعدة التي قدمها قلج أرسلان في سنة (494هـ) 1101م للملك غازي في حربه ضد الحملة الصليبية .

إنها لم تكن حربًا لله إذن !

إن الحرب كانت دفاعًا عن الوجود والسلطة، وهي أيضًا طلبًا للمال والثروة، أما المعاني الإسلامية الرفيعة من إخلاص وتجرد ونصرة للدين وحب للجنة وجهاد في سبيل الله، فهذه ليست لها مكانة في قلوب زعماء ذلك الزمن !

وفكر الملك غازي في طلب قلج أرسلان، إنه بذلك لن يحصل إلا على مائة وثلاثين ألف دينار، وهذا وإن كان مبلغًا كبيرًا جدًّا، إلا أنه يطمع في الأكثر والأكثر، ثم إنه لا يقبل أن يرضخ لطلب من طلبات قلج أرسلان .

إنه في حيرة حقيقية من أمره !! وفي هذه الأثناء تدخل طرف آخر في المفاوضات؛ لقد تدخل بوهيموند نفسه! ولا شك أنه في ظل هذا الفساد سيكون هناك من يتطوع في نقل الأخبار إلى بوهيموند في سجنه نظير وعد بمال أو إقطاع أو غير ذلك، وإزاء هذه العروض من الإمبراطور البيزنطي والسلطان قلج أرسلان ومحاولات بلدوين دي بروج تقدَّم بوهيموند للملك غازي بعرضه !!

لقد قال له بوهيموند : إن الأمبراطور البيزنطي عدو مشترك لنا جميعًا ، فهو يتنازع مع الجميع من أجل الحصول على مدن آسيا الصغرى ، وكذلك قلج أرسلان هو عدو لنا جميعًا ! هكذا ! فأطماع قلج أرسلان في آسيا الصغرى تتعارض - ولا شك - مع أطماع بوهيموند ، وأيضًا مع أطماع الملك غازي ، وعليه فإن تسليم بوهيموند إلى الإمبراطور البيزنطي أو إعطاء المال لقلج أرسلان سوف يضر بمصالح غازي قبل أن يضر بالأمير بوهيموند، وعلى هذا فالعرض الذي يتقدم به بوهيموند هو جمع مبلغ مائة ألف دينار من إمارة أنطاكية وأصدقائها، وإعطاء هذا المبلغ للملك غازي كفدية ، إضافةً إلى تعاهدٍ بين الفريقين : الملك غازي والأمير بوهيموند على التعاون المشترك بعد ذلك في القضايا السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتصبح إمارة أنطاكية الصليبية دولة صديقة لإمارة بني الدانشمند المسلمة !

إنه عرض في غاية الإغراء للملك الطموح غازي بن الدانشمند !! ,, إنه أولاً سيأخذ مبلغًا من المال في غاية الضخامة؛ نعم هو أقل من عرض الإمبراطور البيزنطي، لكنه في النهاية مبلغ كبير جدًّا ، ويكفي لنعرف حجمه أن ندرك أن إمارة أنطاكية بمفردها لم تستطع أن تجمع المبلغ ، بل إستعانت بإمارة الرها وبعائلة بوهيموند في صقلية ، ويكفي أن نعرف أيضًا أنه عندما يتم أسر بلدوين دي بورج لاحقًا ستكون الفدية خمسة ألف دينار فقط !

وثانيًا هو لن يساهم في تقوية شأن الإمبراطور البيزنطي الذي ينافسه على أرض آسيا الصغرى .

وثالثًا ستكون هذه طعنة مباشرة لقلج أرسلان عدوه اللدود .

ورابعًا سيفوز الملك غازي بصداقة الأمير الأسير بوهيموند، وستقوم علاقات دبلوماسية مهمة مع الإمارة الصليبية أنطاكية .

وإزاء هذا العرض المغري وجد الملك غازي نفسه لا يستطيع الرفض، ومن ثَمَّ قرر أن تتم الصفقة في ملطية، وكانت تحت سيطرة الملك غازي في ذلك الوقت .

ووصلت الأخبار إلى أنطاكية، وأسرع رجال بوهيموند بالاشتراك مع بلدوين دي بورج أمير الرها، وكذلك مع بعض الأثرياء من الصليبيين، إضافةً إلى عائلة بوهيموند في صقلية إلى جمع المبلغ المطلوب، وفي سنة (496هـ) أوائل مايو 1103م تمت الصفقة، وأطلق سراح بوهيموند، وتسلم الملك غازي المبلغ بعد أن تبادل مع بوهيموند الأيمان بحفظ الصداقة والمودة، والتعاون المشترك المخلص في المستقبل !

وجنَّ جنون قلج أرسلان ! لقد ضاعت منه ثروة طائلة! إنه لم يكن يمانع أن يطلق سراح بوهيموند إلى ألكسيوس كومنين، وكأن ألكسيوس كومنين هذا صديق للمسلمين، لا مانع من إعطائه أسباب قوة، ولكنه الآن يمانع من إطلاق بوهيموند دون أن يقبض هو جزءًا من الثمن !
وماذا فعل قلج أرسلان؟! لقد أعلن الحرب على غازي كمشتكين؛ لتشتعل بذلك النار بين المسلمين في آسيا الصغرى، بل إنه أرسل إلى الخليفة العباسي وإلى السلطان بركياروق يستعديهما على الملك غازي، مع أنه لم يكن يعتبر مطلقًا بوجودهما، ولكنه الآن يستخدم كل الأوراق السياسية !

لكن الأخطر من الصراع الذي دار بين قلج أرسلان والملك الغازي هو أن إطلاق سراح بوهيموند كان كارثة ضخمة حلَّت على المسلمين؛ لأنه عاد إلى أنطاكية فاستقبل استقبالاً حافلاً ، وقويت به - كما يقول ابن الأثير - نفوس أهلها به ، ومن ثَمَّ خرج بوهيموند بحماسة لينتقم من المسلمين بعد أن أُسر لديهم أكثر من ثلاث سنوات .

وبدأ بمهاجمة البلاد التابعة لحلب، وفرض الجزية على مدينة قنسرين ، وهاجم المسلمين الذين يعيشون على نهر قويق شمال حلب فمزقهم تمزيقًا، وفرض على من بقي منهم الأموال الباهظة، بل إنه فرض على حلب نفسها الجزية من المال والخيل، وأجبرها على إطلاق سراح أي أسير صليبي .

لقد كانت كارثة حقيقية حلت على المسلمين! لقد كانت كارثة اقتصادية وسياسية وعسكرية، وقبل كل ذلك كارثة أخلاقية شرعية، وكارثة فُرقة مقيتة عانت منها الأمة عدة سنوات مقبلة .
والثمن ؟!! مائة ألف دينار، وحلف مع إمارة أنطاكية الصليبية !! ولعل التدبُّر في مثل هذه القصص، ورؤية تفاصيل مثل هذه المواقف والأحداث يعطينا تفسيرًا واضحًا لسيطرة الصليبيين على بقاع إسلامية كثيرة ، على الرغم من كثرة أعداد المسلمين ووفرة أموالهم وقوة حصونهم ؛ فإننا أبدًا لا نُهزم لقوة أعدائنا ، ولكن لضعفنا وبُعدنا عن شرع الله، وسُنة الله لا خلف لها !

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس