عرض مشاركة واحدة

قديم 04-03-14, 04:53 AM

  رقم المشاركة : 18
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

- عماد الدين زنكي .. وحدة وجهاد !

تسلَّم عماد الدين زنكي منصبه الجديد ، والذي لم يكن تشريفًا على قدر ما كان تكليفًا ، فالمهمَّة صعبة ، والعبء ثقيل ، والآمال معلَّقة على هذا القائد الجديد .. وبدأ عماد الدين زنكي في ممارسة مهامه حتى قبل أنْ يصل إلى الموصل !

لقد كان متَّجِهًا من بغداد إلى الموصل ، وهو يعلم أن جاولي الذي تولى الوصاية على إبن آق سنقر البرسقي قد يرفض تسليم الموصل ويتحصَّن بها ، وقد يستقلُّ بها كما حدث من بعض الزعماء قبل ذلك ، فأراد عماد الدين زنكي أن يضع الخطَّة البديلة لمثل هذا الوضع إن حدث ، وعرف أنه لا بُدَّ له من مركز يتحرَّك منه ، وبالتالي فقد توجَّه على رأس الفرقة التي كانت معه إلى مدينة البوازيج ، وهي مدينة قرب تَكريت إلى الجنوب من الموصل ، وسيطر عليها ، وجعلها قاعدة لجيشه ، وبهذا يستطيع أن يتابع الضغط على الموصل في حال رفض جاولي أن يُسَلِّمها ، وفي نفس الوقت ستصبح البوازيج تأمينًا لحدود الموصل الجنوبيَّة في حال تسليم جاولي للمدينة ، أو سقوطها في يَدِ عماد الدين زنكي .

وبالفعل سيطر عماد الدين زنكي على البوازيج ، ثم أتبعها بضمِّ جزيرة إبن عمر ، وهي منطقة مهمَّة جدًّا تقع على مسافة خمسة كيلو مترات تقريبًا جنوب الموصل ، ولها أهمية عسكرية وإقتصادية عالية ، وكان قد إستقلَّ بها أحد مماليك البرسقي ؛ ولهذا كان لا بُدَّ من ضمِّها لتأمين جنوب الموصل ، ثم تقدَّم بطلنا صوب الموصل .

وفكر جاولي في موقفه ، فوجد أنه ضعيف ، وليس له سند من الدولة ولا من الشعب ؛ ولذلك تردَّد في منع عماد الدين زنكي من دخول المدينة ، وكان عماد الدين زنكي يقرأ أفكار جاولي ، ومن ثَمَّ عَلِمَ أنه ليست له طاقة كاملة للإستقلال بالمدينة ، إلاَّ أنه من الممكن أن يُكَلِّف عماد الدين زنكي خسائرَ في المال والأرواح والوقت إذا قاومه لفترة ؛ لذلك فكَّر عماد الدين زنكي في إستغلال جاولي لصفِّه ، فراسله من البداية ، ووعده بإعطاء إقليم الرحبة وما حوله كإقطاعية يحكمها بإسم عماد الدين زنكي ، وإقليم الرحبة من أقاليم الشام الثريَّة والقريبة من حصون الصليبيين ، وهو بذلك سيضرب أكثر من عصفور بحجر ؛ فهو سيدخل الموصل آمنًا دون قتال ، وسيستخدم جاولي في إدارة إقليم إسلامي مهمٍّ ، ويصبح بذلك من رجاله ، ثم سيستغلُّ طاقاته العسكرية في قتال الصليبيين ، وهو الهدف الرئيسي لعماد الدين زنكي ، وفوق كلِّ ذلك فإن هذا السلوك من عماد الدين زنكي سيشجِّع كل المعارضين على التعامل معه والإخلاص له ، فهو لا يتخلَّص من المنافسين له ، ولكن يُجزل لهم العطاء ، ويُوَلِّيهم في إمارته ، ولا شكَّ أن هذا سيجذب إليه القلوب .

وجد جاولي في هذا العرض السخي من عماد الدين زنكي حلاًّ لمطامحه ، وبالتالي وافق بسهولة ، ومن ثَمَّ دخل عماد الدين زنكي الموصل دون إراقة قطرة دم واحدة ، وكان هذا منهجه كلَّما إستطاع إلى ذلك سبيلاً .

بدأ عماد الدين زنكي مباشرة في ترتيب البيت الداخلي ، فعيَّن على إمارة الموصل نصير الدين جقر ، وهو بمنزلة محافظ الموصل ، وكان نصير الدين جقر شخصية حازمة قويَّة تناسب الوضع الأمني المتدهور في الموصل آنذاك ، وأوكل إليه عدَّة مهام رئيسية كان منها إستتباب الأمن الداخلي في الموصل ، وتقوية الأسوار والقلاع والخنادق ، وتقوية العلاقات مع رءوس الناس والأعيان ورؤساء القبائل ، وتنسيق الدواوين والإدارات ، وقد جعل عماد الدين زنكي ميزانيَّة ضخمة لهذه الدواوين (الوزارات) ، حتى صار العمل فيها سلسًا وسريعًا ومنظَّمًا ، كما أكَّد عماد الدين زنكي على حسن التعامل مع الجمهور حتى وصف أبو شامة المتعاملين مع هذه الدواوين بقوله : "وكأنهم في أهلهم" ..

وأوكل عماد الدين زنكي مهمَّة الجيش إلى صلاح الدين محمد الياغيسياني ، وهو أحد الرسولَيْنِ اللذين أرسلهما جاولي قبل ذلك للسلطان محمود ، وقام مع زميله بترشيح عماد الدين زنكي خلافًا لما أراده جاولي ، وقد شعر عماد الدين زنكي بمدى تجرُّد الرجل حيث ضحَّى بمنصب متوقَّع في سبيل تزكية عماد الدين زنكي ، إضافةً إلى أنه من المتمكِّنين عسكريًّا ، ومن المتميِّزين في ساحة المعارك ..

ثم أسند عماد الدين زنكي مهمَّة القضاء إلى الرسول الثاني الذي كان مرافقًا لصلاح الدين محمد الياغيسياني ، وهو بهاء الدين الشَّهْرُزُوري وقد كانت عائلة الشهرزوري بكاملها من العائلات المشهورة بالعلم عامَّة ، وبالقضاء خاصَّة ، وقد أيقن عماد الدين زنكي أيضًا بإخلاص هذا الرجل فقدَّمه على غيره ، وإعتمد عليه في إختيار مَنْ تحته من القضاة في الولايات المختلفة .

وهكذا إستقرَّ عماد الدين زنكي رحمه الله على حكومته الرئيسيَّة ؛ حيث إطمأنَّ على أهمِّ القيادات في دولته ، وهي القيادة الإداريَّة والعسكريَّة والدينيَّة .

ثم شرع عماد الدين زنكي رحمه الله في إستقدام العلماء من الأماكن المختلفة في العالم الإسلامي ، وأفسح لهم المجال لتعليم الناس دينهم ، والحديث بإستفاضة عن قضية الجهاد ، وتعبئة الشعب لهذه المهمَّة النبيلة ، وتذكير الناس بأيام الله التي إنتصر فيها المسلمون ، وإعادة الناس إلى ربهم سبحانه وتعالى ، وتنشئة الجيل الجديد على التضحية والبذل ، وتوجيه النيَّة لله رب العالمين وهكذا بدأ الإعلام في الدولة الجديدة يهتمُّ بقضايا أُهملت في كثير من المناهج ، وبدأت أحلام الناس وأهدافهم تتغيَّر لصالح قضية عماد الدين زنكي الرئيسيَّة ، وهي قضية إخراج الصليبيين من بلاد المسلمين .

وهكذا رتَّب عماد الدين زنكي بيته الداخلي ، وأسَّس دولة على بُنيان صُلب ، وإطمأنَّ إلى الأوضاع في داخل الموصل ، ومن ثَمَّ بدأ ينظر إلى خارجها عازمًا على توحيد الأُمَّة في كيان كبير يستطيع أن يصمد أمام الصليبيين .

ولما كان عماد الدين زنكي واقعيًّا ، وكان يُحسن تقدير قوَّته وقوَّة عدوِّه فإنه أدرك أنه في هذه المرحلة لا يَقْوَى على قتال إمارة الرها القريبة ، وكان في نفس الوقت يريد أن يتفرَّغ لتوحيد الإمارات الكثيرة المتناثرة حول الموصل ، ومن هنا قرَّر أن يعقد هدنة مع إمارة الرها لمدَّة سنتين ، وقد كان واضحًا جدًّا أن الإتفاقية محدَّدة بفترة زمنيَّة معيَّنة ؛ لأنه لا يستطيع بحالٍ أن يعقد إتفاقيَّة سلام دائم مع عدوٍّ يحتلُّ أرض المسلمين ، ومن هنا دلَّل على أنه يجمع بين الفقه العسكري والفقه الديني ، وهذا ما ميَّزه عن بقيَّة زعماء عصره .

ولما عُقِدَتْ هذه الهدنة المهمَّة فكَّر عماد الدين زنكي مباشرة في ضمِّ المدينة العظيمة حلب ، وقد تحدَّثنا قبل ذلك عن أهميَّة حلب الإستراتيجيَّة والعسكريَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والبشريَّة ، إضافةً إلى أن حلب كانت متحدة قبل ذلك في زمان آق سنقر البرسقي مع الموصل تحت حكم السلطان السلجوقي محمود ، فالوَحدة بينهما منطقيَّة وقانونيَّة ، وليس من المفترض أن يكون هناك خلاف على توحيدها مع الموصل ، هذا إضافةً إلى أن القاعدة الشعبية لعماد الدين زنكي هناك قويَّة ؛ وذلك لذكريات أبيه العادل قسيم الدولة آق سنقر الحاجب ، الذي قُتل منذ أربعٍ وثلاثين سنة وهو يدافع عن حلب ضد تتش بن ألب أرسلان .

لكن عماد الدين زنكي - مع رغبته في ضمِّ حلب - لم يشأ أن يُقْدِم على هذه الخطوة قبل أن يقوم بإجراءين رئيسيين :

أما الإجراء الأول فهو تأمين الحدود الشمالية والشمالية الشرقية للموصل ، وكان قد أمَّن حدودها الجنوبية قبل ذلك بضمِّ البوازيج وجزيرة إبن عمر كما مرَّ بنا ، وهذا التأمين يضمن له الحركة الآمنة في إتجاه الغرب ناحية حلب .

وكانت هذه المناطق مستَقَرًّا لقبائل الأكراد الكثيرة ، وكانت أقرب هذه القبائل للموصل هي قبائل الأكراد الحميدية والأكراد الهكارية ، وكانوا في هذه الفترة يُكَوِّنُونَ فِرَقًا مسلَّحة تُغِيرُ على مزارع وقرى الموصل الشرقيَّة ، وبالتالي يُثيرون الذعر بين الفلاَّحين ومواطني الموصل ؛ ومن ثَمَّ توجَّه إليها عماد الدين زنكي بفرقةٍ من جيشه .

ومع كون الفارق هائلاً بين قوَّة عماد الدين زنكي وجيشه النظامي وبين هذه القبائل المتفرِّقة ، إلاَّ أن عماد الدين زنكي رحمه الله كان حريصًا طيلة حياته على الإستفادة من كل الطاقات من حوله ، وكما وظَّف جاولي لصالحه قرَّر أن يوظِّف الأكراد - إن إستطاع - لخدمة دولته الناشئة ، وقد أقدم على هذه الخطوة على الرغم من التاريخ السيِّئ لهذه التجمُّعات ، لكنه كان دائمًا - رحمه الله - يسعى إلى الإصلاح وإلى الوَحدة .

إجتمع عماد الدين زنكي رحمه الله مع زعيم الأكراد الحميديين الأمير عيسى الحميدي ، وفي هذا الاجتماع أقرَّه على ولايته على الأكراد ، وترك له كل ما في يده ، في مقابل أن يُصبح تابعًا لإمارة الموصل ، وبالتالي لا يُغِيرُ على الإمارة ، إضافةً إلى الإستعانة به ضدَّ الصليبيين إذا لزم الأمر .. ولا شكَّ أن عيسى الحميدي أدرك قوَّة عماد الدين زنكي ، وعلى الرغم من أن هذه القبائل كانت كالميليشيات العسكرية الخاصة إلاَّ أنهم أدركوا أنه من الأسلم لهم - على الأقلِّ في هذه المرحلة - أن يخضعوا لسلطان عماد الدين زنكي , وهكذا ضُمَّتْ قوَّة الأكراد الحميدية إلى قوَّة الموصل ، أو على الأقلِّ حُيِّدَتْ .

وعندما نجحت خُطَّة عماد الدين زنكي رحمه الله مع الأكراد الحميدية , إتجه مباشرة إلى الأكراد الهكارية ، وعقد نفس الإتفاقية مع أبي الهيجاء الهكاري زعيمهم ، وبذلك أمَّن الحدود الشمالية والشمالية الشرقية تمامًا وهكذا نجح عماد الدين زنكي بجهود دبلوماسية في أن يقرَّ الأوضاع في الموصل وما حولها ، وبالتالي أفرغ ذهنه لقضيَّة حلب ، وكان هذا هو الإجراء الأول - وهو تأمين الحدود الشمالية والشمالية الشرقية - قبل الإتجاه غربًا إلى حلب .

أمَّا الإجراء الثاني
فهو التمهيد الإعلامي والعسكري لفكرة قدومه إلى حلب ؛ حتى يتجنَّب حدوث صدام قد تراق فيه الكثير من الدماء المسلمة .

وكان التمهيد الإعلامي الذي قام به هو إرسال الرسل من طرفه إلى حلب فتسلَّلوا إليها ، وتحدَّثوا مع الناس في مساجدهم ومجتمعاتهم بأحقِّيَّة عماد الدين زنكي في حكم هذه المدينة المهمَّة ، فهو الذي إرتضاه لهم السلطان محمود سلطان السلاجقة والقوة الأُولى في العالم الإسلامي آنذاك ، وهو المجاهد الصُّلب الذي يستطيع أن يقف في وجه الصليبيين ، وهو الحاكم العادل الذي سيُقِرُّ السلام في داخل حلب ، ويُعيد الحقوق لأصحابها ، وهو إبن آق سنقر الحاجب الذي توارث أهلُ حلب الرحمة عليه ..

لقد كان عماد الدين زنكي يهدف من وراء هذا التمهيد أن يجعل قدومه على حلب مطلبًا شعبيًّا ، خاصَّةً أنه يعلم أن قتلغ أبه وإبراهيم بن رضوان كليهما من الفاسدين ، وأن سليمان بن عبد الجبار الأرتقي ضعيف ، وأن أهل حلب لا يريدون أحدًا منهم ، فإذا كان البديل هو عماد الدين شخصيًّا فلا شكَّ أن هذه ستكون فرصة طيِّبة للشعب هناك .

ولقد نجحت خطَّة عماد الدين زنكي تمامًا ، وإنتشر دُعاته بين الناس ، وصار الناس يترقَّبون اليوم الذي يظهر فيه عليهم .

أما التمهيد العسكري
فقد قام به عماد الدين زنكي عن طريق إرسال رأس جيشه صلاح الدين الياغيسياني ، الذي درس الأوضاع حول حلب ، وأمَّن الطرق ، وتراسل مع بعض الأفراد من جيش حلب ، ومهَّد الأوضاع لإستقبال القائد العظيم عماد الدين زنكي ..

وعندما تيقَّن عماد الدين زنكي من أن الظروف أصبحت مناسبة في حلب ، تحرَّك إليها من الموصل على رأس فرقة قويَّة من جيشه ، وفي طريقه ضمَّ مدينتي بزاغة ومَنْبِج ، وهما مدينتان في شرق حلب تمامًا ؛ وذلك لتأمين خطِّ رجعته إن فشل في دخول حلب ، ثم إقترب بعدها من حلب ، وهنا حدثت المفاجأة السارَّة !

لقد خرج شعب حلب من المدينة ؛ ليكون في إستقبال عماد الدين زنكي ، مرحِّبِينَ به أشدَّ الترحيب ، ومعلنِينَ ولاءهم الكامل له ، بعد معاناتهم الفترة السابقة تحت حكم هذه المجموعة من الفاسدين .

وإزاء هذه المظاهرة الشعبيَّة الرائعة لم يجد إبراهيم بن رضوان ولا سليمان بن عبد الجبار بُدًّا من الهرب من المدينة دون قتال ، بينما أمسك الشعب بقتلغ أبه ، وقُتل جزاءً وفاقًا للأرواح الكثيرة التي أزهقها فترة حكمه ..

وهكذا دخل عماد الدين زنكي مدينة حلب دون إراقة دماء وفي وسط ترحيب شعبي عارم ، وتتوحَّد بذلك مدينتان من أهمِّ مدن المنطقة ، وهما الموصل وحلب ، ولم تكن أهمية هذه الوحدة تعود إلى إزدياد القوة الإسلاميَّة فقط ، ولكنها تعود أيضًا إلى فصل إمارة الرها عن بقيَّة الإمارات الصليبيَّة في الشام وفلسطين , ممَّا سيُؤَثِّر حتمًا في مقدراتها وإمكانياتها ، وكان هذا الدخول المبارك لحلب في شهر جُمادى الآخرة سنة (522هـ) يونيو 1128م أي بعد حوالي تسعة أشهر فقط من تسلُّم عماد الدين زنكي مقاليد الحكم في الموصل ، وهو بذلك إنجاز رائع في زمن قياسي !

وبمجرَّد دخول عماد الدين زنكي حلب قام بخطوة سياسيَّة رائعة ، وهي الزواج من خاتون إبنة رضوان بن تتش حاكم حلب السابق ، وكان هذا الزواج سياسيًّا ؛ لأنه بذلك سيُهَدِّئ أفئدة بيت رضوان ، وأصحاب العَلاقات معه .. ولا ننسى أن رضوان حَكَمَ حلب عشرين سنة كاملة قبل ذلك ، من سنة 487هـ إلى سنة 507هـ، ولا بُدَّ أن تكون له عَلاقات ضاربة في جذور البلد ، فضلاً عن عائلته المستقرَّة هناك ، وكذلك إبراهيم بن رضوان الذي كان يحكم حلب منذ أيَّام ، وهرب إلى نصيبين عند قدوم عماد الدين زنكي .

لقد كان الملوك والأمراء في ذلك الوقت يُثَبِّتون دعائم ملكهم عن طريق الزواج من حلفائهم ، وأحيانًا من أعدائهم ؛ حتى يتوثَّق الحِلْف بشكل أقوى ، أو تزولَ العداوة بشكل طبيعي ، وهذا ما سعى إليه عماد الدين زنكي ، وأثمر نتائجَ طيِّبةً ؛ حيث لم تقم عليه ثورات مطلقًا في داخل المدينة المهمة حلب .

ثم إنه تزامن مع دخول عماد الدين زنكي إلى حلب ، أو قبل ذلك بقليل ، في نفس السنة 522هـ أن مات طغتكين أمير دمشق بعد حكم دام حوالي خمسٍ وعشرين سنة (من سنة 497هـ إلى سنة 522هـ) ، وخلفه في الحكم إبنه بوري بن طغتكين بوصية من والده ..

وهذا الموت لطغتكين سيجعلنا نفتح مع عماد الدين زنكي ملف دمشق ! فلا شك أن دمشق هي أكبر مدن الشام مطلقًا ، وقوة من القوة المؤثِّرة في مجريات الأمور ، وهي بإمكانياتها البشرية والتاريخية والسياسية والعسكرية تمثِّل محطة مهمة جدًّا من محطات الصراع مع أي عدو من أعداء المسلمين ، وعندما ينصلح حالها ويقوى تُصبِح من أثقل النقاط إيجابية في المعادلة ، ولكنها على الجانب الآخر عندما يفسد حالها وتضعف تؤثَِّر تأثيرًا سلبيًّا في المنطقة ككل ، هذا أمرٌ لا نستطيع أبدًا أن نغفله .

وإذا كان عماد الدين زنكي يمتلك مشروعًا واضحًا ضخمًا كمشروع إخراج الصليبيين من أرض المسلمين كُلِّيَّةً ، فإنه لا بد أن يضع دمشق في حساباته ، وخاصةً أنها بموقعها المتوسط في الشام تصبح مركز إنطلاق وعودة في غاية الأهمية لإمارة أنطاكية وإمارة طرابلس ، وكذلك لمملكة بيت المقدس .

ومن هنا فلا بد لمن أراد أن يتم هذا المشروع بنجاح أن يضم دمشق إلى المشروع الوحدويّ الذي يجمع طاقات هذه المنطقة بكاملها ، وهذا من المؤكد أنه في ذهن عماد الدين زنكي ، وسيكون بعد ذلك في ذهن نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي ، بل ومن يأتي بعد صلاح الدين الأيوبي من زعماء ، سواء في الدولة الأيوبية أو في المماليك ، ولعله إلى زماننا الآن ؛ فإن دمشق - لا شك - محطة لا يمكن أن تُغفل .

لكن - للأسف الشديد - مع كل الإعتبارات التي ذكرناها فإن دمشق في هذه الفترة من حياة الأمة ، حين دخل الصليبيون بلاد الشام وفلسطين كانت تمثِّل - بلا جدال - حجر عثرة أمام أي مشروع وحدة إسلامية !

ولقد ذكرنا قبل ذلك الخلفيات التي جعلت الشعب في دمشق في هذه الآونة يخرج بلا هُوِيَّة واضحة ، ولا نزعة إسلامية سويَّة ؛ وذلك نتيجة الحكم العبيديّ الذي إمتد أكثر من مائة سنة ثم حكم تتش الظالم وإبنه دقاق كذلك ، ولئن كان طغتكين على خلاف ذلك ، فإنه أيضًا لم يكن بالرجل المتكامل الذي يقدِّم مصلحة الأمة بصرف النظر عن مصالحه الشخصية ، بدليل أنه لم يمانع من التحالف مع الصليبيين في نظير الحفاظ على كرسيِّه في الحكم .

ولقد كانت مشكلة كبرى بالنسبة لدمشق أن الذي يحكمها يشعر من تلقاء نفسه بالإستقلالية ؛ لأنها مدينة كبيرة ، ولها سمعتها وقيمتها ، وبالتالي يصبح له من الوضع الإجتماعي ما يمنع ذهنه تمامًا من التفكير في كونه يصبح تابعًا لغيره ! إنه ملك دمشق أو زعيمها ، فكيف يتبع أميرًا آخر أيًّا كان هذا الأمير ؟! هذه كانت مشكلة طغتكين وأبنائه من بعده .

أضف إلى هذا أن طغتكين كان من عائلة تركية منفصلة عن بقية العائلات الكبرى التي كانت تحكم المنطقة ، فلا هو من السلاجقة ، ولا هو من العباسيين ، ولا هو من العائلات العربية التي كان لها تاريخ في الحكم في المنطقة كبني عقيل أو بني مرداس أو بني منقذ أو غيرهم ؛ ومعنى هذا الكلام أنه سيظل محدودًا في دمشق ، ولن يكون له أعوان في مدن أخرى ، وهذه كانت مشكلة طغتكين الكبرى ، إذ إنه مع قوة مدينته لم يستطع أن يضم إليها أي مدينة في المنطقة إلا بشكل عابر ومؤقت ؛ ولذلك قنع طغتكين بالإحتفاظ بدمشق ، وسيقنع أولاده من بعده بذلك ، وسيُخرِجون تمامًا مشروع الأمة من أذهانهم ليستمر لهم حكم دمشق !

كان عماد الدين زنكي يقرأ كل هذه الظروف والملابسات ، وكان في نفس الوقت يخطِّط لضم المدينة المهمة دمشق إلى الوحدة المنشودة التي تهدف إلى جهاد الصليبيين ، ولا شك أن محور الموصل - حلب لو إكتمل بدمشق ، فإنه سيصبح محورًا مستعصيًا على الإنكسار .
والآن بعد موت طغتكين الذي حكم خمسًا وعشرين سنة متصلة ، لا بد أن دمشق في حالة فقدان للتوازن ، والحاكم الجديد بوري بن طغتكين ليست له الخبرة الكافية التي تمكِّنه من السيطرة على مجريات الأمور في دمشق ؛ ولذلك فإنْ أراد عماد الدين زنكي أن يضم هذه المدينة فلا بد أن يسعى في ضمِّها الآن دون تأخير .

فإذا أضفنا أن دمشق في ذلك الوقت كانت وكرًا للباطنية ، وكان طغتكين طيلة حياته يخشاهم ويداريهم ، ويترك لهم الحبل على الغارب ؛ مما أدى إلى توحُّشهم ، وبالتالي إزدادت خطورتهم ، ليس على دمشق فقط ، بل على منطقة الشام بكاملها ؛ إذا أضفنا هذا فلا بد أن نعلم أن سرعة السيطرة على دمشق ستُعِيد الأمن إلى نصابه في الشام وستصرف جهود المسلمين إلى الإصلاح ، وستفتح المجال للعلماء والقادة أن يتحركوا في سبيل الله دون أن يخشوا من خناجر الباطنية وسيوفهم .

وكان عماد الدين زنكي كسياسي خبير يدرك أن محاولات الوحدة السلمية بين دمشق وحلب والموصل تكاد تكون مستحيلة ، فلم يكن طغتكين على هذه الصورة ، ومن المؤكد أن إبنه كذلك سيكون متمسِّكًا بحكم دمشق ؛ ولذلك فإنه لكي يضم دمشق إلى الكيان الإسلامي الجديد لا بد له من سلوك أحد طريقين : إما طريق الحيلة ، وإما طريق القوة .


ولما كان عماد الدين زنكي لا يحب أن يريق الدماء إلا عند الضرورة القصوى ، وكان يغلب عليه طيلة حياته محاولة ضم المدن والبلاد الإسلامية دون الدخول في قتال عسكري ، فإنه إختار طريق الحيلة، ومحاولة الضغط على بوري بن طغتكين بطريقة غير عسكرية ليضم في النهاية دمشق إلى حكمه ، خاصةً أن دمشق كانت تسيطر على حماة أيضًا وهي مدينة مهمة جدًّا ، وقريبة من طرابلس .

وقبل الحديث عن حيلة عماد الدين زنكي ، فإننا يجب أن نشير إلى أنَّ حمص كانت هي الأخرى إمارة مستقلة ، وكان على رأسها رجل ظالم عامل أهلها بالتعسف والجور ، وهذا الرجل هو صمصام الدولة خيرخان بن قراجا ، وليس هذا فقط ، ولكن كان الشعب كذلك في حمص فيه من الصفات كما كان الحال في دمشق تمامًا لتعرُّض المدينة لنفس الظروف ، فقد حُكمت المدينة بالعبيديين أكثر من مائة سنة ، وحكمها بعدهم تتش بن ألب أرسلان ثم دقاق ، بل كان طغتكين شخصيًّا أميرًا عليها فترة من الزمان أيام حكم دقاق .

وهكذا - وبالنظر إلى جغرافية المنطقة - نجد أن الوصول إلى دمشق يحتِّم السيطرة على حماة وحمص أولاً لوقوعهما في الطريق بين حلب ودمشق فماذا يمكن أن يفعل عماد الدين زنكي ليتمكن من حمص وحماة أولاً ، ثم دمشق بعدهما ؟

لقد فكر عماد الدين زنكي في حيلة سياسية ، وهي أن يُظهِر أنه يجهِّز جيشًا لحرب الصليبيين ، ثم يطلب التعاون من الأميرين خيرخان بن قراجا أمير حمص ، وبوري بن طغتكين أمير دمشق، فإذا جاءا إليه ألقى عليهما القبض ، فتخلو مدنهما من الحماية ، وبالتالي يستطيع دخول المدن دون قتال .

هكذا كانت حسابات عماد الدين زنكي ولقد نجحت خطة عماد الدين زنكي في شقها الأول حيث جاءه بالفعل خيرخان بن قراجا في فرقة من جيشه ، أما بوري بن طغتكين فإكتفى بإرسال إبنه سونج مع سرية رمزية من دمشق قوامها خمسمائة فارس ، وكان سونج أميرًا على حماة .

فقام عماد الدين زنكي بالقبض على سونج فورًا ، وأسرع بدخول حماة ، وقد ضعفت لعدم وجود سونج وجيشه فيها ، وهكذا دخلت حماة في دولة عماد الدين زنكي دون إراقة دماء ، وبعد أن إستقر الوضع له هناك ألقى القبض على خيرخان بن قراجا ليفعل بحمص مثلما فعل بحماة ، لكن حمص أغلقت أبوابها ، وكان بها جيش كبير ، فلم يستطع عماد الدين زنكي أن يدخلها .

حاول عماد الدين زنكي أن يضغط على بوري بن طغتكين ليسلِّم مدينة دمشق في مقابل إطلاق سراح إبنه سونج إلا أن بوري رفض ، وعليه فقد ظلت دمشق منفصلة عن الوحدة الإسلامية .

وهكذا خرج عماد الدين زنكي من هذا الموقف بمدينة حماة بينما فشل في السيطرة على حمص ودمشق ، وليس هذا فقط، ولكن كُشفت كذلك أوراق عماد الدين زنكي أمام المدينتين ، وعلم بوري بن طغتكين أمير دمشق ، وقريش بن خيرخان أمير حمص الجديد (بعد أسر أبيه) أن عماد الدين زنكي لن يتردد في المستقبل في إختيار الحل العسكري لضم المدينتين ..

ويحمل كثيرٌ من المؤرخين على عماد الدين زنكي أنه قام بهذه الحيلة ، وأوهم بوري بن طغتكين ، وخيرخان بن قراجا بالجهاد ، ثم غدر بهما وقبض على الثاني وعلى إبن الأول ، وأن الغدر ليس أبدًا من شيم المؤمنين .

والواقع أن هذا الموقف من المواقف الصعبة في التحليل ؛ لأن الغدر فعلاً ليس من شيم المؤمنين ، لكن الأمر هنا ليس بهذه البساطة ، فالذي يصدر حكمًا على عماد الدين زنكي لا بد أن ينظر إلى جميع الملابسات في آنٍ واحد ، وأن يضع النقطة بجوار النقطة ، والدليل فوق الدليل ليخرج في النهاية برؤية سليمة للحدث ، ولا يتعامل معه على أنه غدرٌ مجرَّد أو مطلق .

ولعلنا لكي نتعايش مع عماد الدين زنكي في هذه القضية لا بد أن نقف على بعض الأمور :

أولاً , لا بد أن ننظر إلى المهمة التي يحملها عماد الدين زنكي قبل إطلاق الأحكام النظرية على الموقف والأحداث ؛ إنه يحمل مهمة جهاد الصليبيين الذين إحتلوا بلاد المسلمين منذ أكثر من ثلاثين سنة ، وإرتكبوا - وما زالوا يرتكبون - المذابح الشنيعة في القرى والمدن الإسلامية ، والوقت عامل مهم جدًّا في قضية كهذه القضية .

ثانيًا ,
هؤلاء الزعماء يرفضون مشروع الوحدة تمامًا ، وأي تلميح فضلاً عن التصريح لن يحمل إلا كل رفض ، وستضيع فرصة توحيد الأمة في كيان واحد قادر على مواجهة الصليبيين ، ولن يستطيع المسلمون - كما فهم عماد الدين زنكي - أن يُقدِموا على خطوة جهاد الصليبيين دون هذه الوحدة ، فأصبحت الوحدة واجبًا لا بد منه لتحقيق الواجب الأكبر وهو الجهاد ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .

ثالثًا ,
هؤلاء الزعماء لا يكتفون برفض الوحدة ، والوقوف السلبي تجاه القضية ، ولكنهم يتعاونون تعاونًا صريحًا مع الصليبيين ، وتاريخهم يشهد بذلك، وكذلك واقعهم ، بل وسنرى في المستقبل القوات الصليبية تقف مدافعةً من حمص ودمشق ضد قوات عماد الدين زنكي !

رابعًا ,
ما هو البديل لهذه الحيلة ؟! البديل هو الضم القسري للمدينتين ! بمعنى أن يتم حصار المدينتين عسكريًّا ، وينشب القتال بين الجيشين المسلمين ، وتسقط الضحايا المسلمة ، وتدمر الحصون الإسلامية ، وتنسف الأسوار الإسلامية ، ويتعمق الحقد والبغضاء بصورة عظيمة بين الطائفتين !!

وهذا البديل وإن كان صعبًا ومُرًّا إلا أن الفقهاء أقروه ، وطبعًا هذا الإقرار لا يكون إلا في آخر المطاف ، أي بعد إستنفاد الوسائل السلميَّة الأخرى ، وقد رأينا هذه المواقف العسكرية لضم المدن الإسلامية في حياة معظم المجاهدين في تاريخ الأمة الإسلامية ، وخاصةً في الأوقات التي إبتليت فيها الأمة بضعف الخلافة ، فلم يعُدْ هناك رابط معين بين الدويلات الكثيرة المتفرقة .

فإذا نظرنا إلى هذا البديل العسكري ونتائجه ، ونظرنا في نفس الوقت إلى ضم حماة دون قطرة دم واحدة ، فإننا سندرك المنطلق الذي فكر به عماد الدين زنكي في هذه المسألة .

خامسًا ,
نحن لم نطَّلع على الصيغة التي أرسلها عماد الدين زنكي إلى بوري بن طغتكين أو خيرخان بن قراجا ، لندرك هل كان فيها أسلوب تورية أم لا ، فلعله صرَّح بألفاظ تحمل أكثر من معنى من أجل تحقيق هدفه دون غدر .

سادسًا , يقول رسول الله : "الْحَرْبُ خُدْعَةٌ
" ، وهذه حرب حقيقية بين المسلمين والصليبيين ، وبين المجاهدين المخلصين ومن يقف حجر عثرة ضد الجهاد ، وقد رأى عماد الدين زنكي أن هذه خدعة من خدع الحرب ، وهذا اجتهاد قد يكون أصاب فيه أو أخطأ ، لكن يبقى أنه في حالة حرب ، والحرب لها أحكامها التي قد تختلف كُلِّيَّةً عن أحكام الأوضاع السلمية .

سابعًا ,
عندما أراد رسول الله أن يقتل كعب بن الأشرف ، قال له محمد بن مسلمة : أتحب أن أقتله ؟ قال : "نعم" .. قال: فإذن لي أن أقول شيئًا .. قال: قل , ثم كان حوار طويل بين محمد بن مسلمة وكعب بن الأشرف ، كان فيه خداع كبير من محمد بن مسلمة ، وإنتهى الأمر بقتل كعب بن الأشرف .

وأنا أعلم أن الفعل هنا مع كافر وليس مسلمًا ، ولكن الحكم عام ، وخاصةً أن الزعماء المسلمين في هذه المدن كانوا يتعاونون مع الصليبيين تعاونًا صريحًا مشينًا .

ثامنًا , كان عماد الدين زنكي رحمه الله يستفتي الفقهاء في كل أموره ، وقد وجد فقهاء زمانه أن الضرر الواقع من هذه الحيلة أقل من الضرر الواقع عند إصطدام الجيوش الإسلامية ببعضها البعض ، مع الإعتراف أنه ضرر ولا يجب أن يُفعل في الظروف العادية ، ولا داعي لاتهام فقهاء العصر جزافًا ، فقد وصل الأمر ببعض المؤرخين أن قال في حق هؤلاء الفقهاء : " فأفتاه من لا دين له ، وجوَّز له ما لا يحل ، ولا يحسن شرعًا وعرفًا
" .

فلم يكن عماد الدين زنكي بالرجل الذي يستفتي من لا دين له ، ولم يكن فقهاء دولته من الذين يفتون للسلطان بما يريد ، إنما كانوا بشهادة كل المؤرخين من أفضل علماء عصره ، غاية ما هناك لو كانت الفتوى خاطئة ، أنهم إجتهدوا لتحقيق مصلحة فأخطئُوا .

تاسعًا ,
يؤخذ الفعل في ضوء سيرة الشخص ! فهل بمراجعة سيرة عماد الدين زنكي يمكن أن نقول أنه رجل غادر لا يهتم برأي الدين ؟! لقد وجدنا في سيرته سواء قبل هذا الحدث أو بعده سعيًا حثيثًا لجهاد الصليبيين ، وبذلاً لوقته وجهده وكل حياته من أجل هذه القضية ؛ ولذلك نستطيع أن نقول أنه ما كان يريد بهذا الفعل - حتى ولو كان خطأً لا يجب أن يُكرر - إلا المصلحة للمسلمين ، وليست المصلحة الشخصية له .

إننا نقول هذا الكلام لكي لا يتخذ أحد الجشعين من عشاق السلطة هذا الفعل ذريعة أن يتقدم بجيشه ناحية كذا أو كذا من بلاد المسلمين بحجة توحيد الأمة لمصلحة ما ! فلا بد أن ننظر إلى سيرة هذا الذي يجمع البلاد تحت حكمه ، هل هو من نوعية المجاهد العظيم عماد الدين زنكي ؟ أم من نوعية الحاكم الظالم تتش بن ألب أرسلان أو أولاده ؟!

عاشرًا وأخيرًا ,
لقد حكم عماد الدين زنكي المسلمين عشرين سنة كاملة ، من سنة 521هـ إلى سنة 541هـ ، فكم كانت أخطاؤه؟! إننا إذا سلمنا أن هذا خطأ محض ، وأنه موقف ما كان له أن يحدث ، فإننا سنجد هذه المواقف نادرة تمامًا في حياته ، ومَن هذا الذي لا يُخطِئ من البشر إلا المعصومين من الأنبياء ؟!

وكفى بالمرء نبلاً أن تُعَدَّ معايبه ! ولا ننسى أن الزمن كان زمن فتنة ، والخلافة ضعيفة ولا رأي لها ، وبالتالي فجهود المخلصين لتوحيد الأمة لا بد أن يشوبها لبسٌ كبير ؛ لأنه ليس هناك تكليف من شخصية معينة لها الأمر على كل المسلمين ، مما كان يستدعي بعض الرؤى الخاصة التي قد تتعارض أحيانًا مع الرأي الحكيم .

إننا بعد هذا التحليل لا نريد أن نخرج عماد الدين زنكي من دائرة البشرية فنعتبر أنه لا يخطئ ، ولا نريد أن نبرِّر له خطأً بينًا أو فعلاً فاحشًا ، وإنما نريد أن نقول أن الظروف المضطربة ، والأمور المتشابكة المعقدة جعلت من إختيار الرأي الصائب في قضية من القضايا أمرًا صعبًا لا يتحقق في كل الأحوال ، وشتَّان بين من يأخذ هذا الرأي وهو يعيش وسط الأحداث ، ويرى الصليبيين يجوسون خلال الديار ، ويري المعاملات الدنيئة من بعض الزعماء المسلمين مع قواد الصليبيين ، وبين من يجلس في غرفته آمنًا مطمئنًا ، وبعد الحدث بمائة سنة أو مئات السنين ، يحلِّل ويُنظِّر ، ويصوِّب ويخطِّئ ، ويقول في بساطة : هذا حلال ، وهذا حرام !

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس