عرض مشاركة واحدة

قديم 04-03-14, 04:55 AM

  رقم المشاركة : 19
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

نعود إلى قصتنا ..

فإن عماد الدين زنكي - وبعد مرور سنة واحدة على حكمه - أصبح أميرًا على الموصل وحلب وحماة ، وهذه قوة لا يستهان بها ، وبالتالي سعى عماد الدين زنكي لتأمين الطريق الواصل بين هذه المدن لتصبح إمارته آمنة ، وجيدة المواصلات ، وضم لذلك سنجار الواقعة في منتصف الطريق بين الموصل وحلب ، وذلك في أواخر سنة 522هـ\ أواخر 1128م ، كما شاء الله أن يستدعيه أهل حرَّان لضم مدينتهم لدولته ، حيث أصبحت بعد وفاة عز الدين مسعود بن البرسقي معرضةً لهجمات الصليبيين ، وبالفعل ضمها عماد الدين زنكي في سنة 523هـ\ 1129م ، وبذلك صارت الأوضاع مستقرة إلى حد كبير في هذه الدولة الجديدة ..

ومع أن هذه الجهود التي كان يبذلها عماد الدين زنكي رحمه الله كانت تشير إلى ظهور قوة جديدة قد يكون لها شأن في تخليص المسلمين من كابوس الصليبيين ، إلا أن تنامي هذه القوة لم يكن مريحًا لكل القوى المعاصرة !

لقد وجد السلطان سنجر - وهو سلطان السلاجقة في منطقة خراسان وبلاد ما وراء النهر - أن هذه القوة المتنامية قد تؤثِّر سلبًا في ممتلكات السلاجقة أنفسهم ، فأشار على السلطان محمود إبن أخيه - وهو السلطان على منطقة فارس والعراق ، والذي عيَّن عماد الدين زنكي في منصبه - أن يعزل عماد الدين زنكي ويولِّي مكانه دبيس بن صدقة ! ودبيس بن صدقة هو أمير قبيلة بني مزيد ، وكان متشيعًا هو وقبيلته ، وكان قد أفسد قبل ذلك في بغداد ، وقام بمحاولة إنقلابية على الخليفة المسترشد بالله سنة 514هـ ، أي منذ تسع سنوات ، ولكنه كان قد لجأ إلى السطان سنجر ، وأصبح من خاصَّته ؛ ولذلك أراد السلطان سنجر أن يضعه في إمارة الموصل وحلب ليكون رجله في المنطقة ، خاصةً أنه يضمن أن الخليفة لن يستقطبه لحسابه للخلاف القديم الذي بينهما !

إنها حرب المصالح والأهواء ، حيث لم ينظر السلطان سنجر إلى مصلحة المسلمين ، ولا إلى قضية جهاد الصليبيين ، فطلب هذا الطلب من السلطان محمود ، الذي لم يعارض تقديرًا لمكانة عمِّه ، ومن ثَمَّ إستدعى عماد الدين زنكي ليخبره بهذا التطور الجديد !

هكذا وبهذه البساطة ! .. وكادت هذه الفكرة تُنهِي على آمال المسلمين في الوحدة ، وعلى قضية الجهاد في سبيل الله ضد الصليبيين ، وأسرع عماد الدين زنكي إلى بغداد ، حيث إلتقى مع السلطان محمود في مباحثات طويلة ، وإستعمل فيها كل ما أوتي من فكر ودبلوماسية لإقناع السلطان محمود بضرورة بقائه في هذا المنصب ، وعدَّد له الأسباب التي من أجلها لا بد أن يستمر في مهمته ، فكان منها :

أولاً : أنه لم يخطئ في منصبه ، بل على العكس، لقد حقق نجاحًا غير مسبوق ، وأفلح في ضم الموصل وحلب وحماة وسنجار وحرَّان ، ومناطق الأكراد تحت راية واحدة .

ثانيًا :
كل هذا النجاح يصبُّ في صالح السلطان محمود ، حيث يحكم عماد الدين بإسمه .

ثالثًا :
السلطان سنجر وإن كان عم السلطان محمود إلا أنه يحاول السيطرة على هذه المناطق لحسابه هو ، وليس لحساب السلطان محمود ؛ ولهذا يضع رجله هو في المكان وذلك تمهيدًا لإقصاء محمود عن مكانته .

رابعًا :
من هو البديل؟ إنه دبيس بن صدقة الشخص المنحرف الذي أفسد قبل ذلك في بغداد ، كما أنه متشيِّع بينما دولة السلاجقة بكاملها سُنِّيَّة .

خامسًا :
دبيس بن صدقة شخصية إستقلالية ، ولا يستبعد أبدًا أن يستقل بحكم الموصل وحلب لنفسه ، خاصةً وقد حاول أن يفعل ذلك مع مدينة بغداد نفسها .

سادسًا :
دبيس بن صدقة سيحبط أهم مشروع عند المسلمين الآن ، وهو مشروع جهاد الصليبيين ؛ لأنه لم يقف قبل ذلك موقفًا سلبيًّا فقط ، إنما تعاون معهم في حروبهم ضد المسلمين .

لهذه الأسباب مجتمعة فإن من مصلحة المسلمين ، ومصلحة السلطان محمود نفسه ، أن يستمر عماد الدين زنكي في منصبه .


وكان السلطان محمود كما يصوِّره إبن الأثير حليمًا عاقلاً ، فلما إستمع إلى هذه الكلمات والحجج وافق على إقرار عماد الدين زنكي في منصبه ، بل وكتب له منشورًا جديدًا يؤكِّد فيه على منشوره السابق ، وفيه يُقطِعه حكم الموصل والجزيرة وما إستطاع أن يضمه من بلاد الشام .

وهكذا مرت أزمة خطيرة كادت تعصف بالأمة دون أن يكون لها أثر في المسيرة التي بدأها عماد الدين زنكي .

ولعل هذا الموقف يطمئننا أن الله يريد الخير لهذا الجيل ؛ لأنه إطَّلع على الصدق في قلوبهم ، فلو عُزِل عماد الدين زنكي وولي دبيس بن صدقة لكان في ذلك تعطيل واحد لحركة الجهاد ولنهضة الأمة ، ولكن الله سلَّم .

عاد عماد الدين زنكي إلى الموصل وهو أكثر قوة ، بعد أن نال تأييد السلطان محمود ، كما أن الخليفة المسترشد بالله كان سعيدًا به ؛ لأنه أقصى دبيس بن صدقة عن إحتمالية حكم الموصل وحلب ، مما كان سيشكِّل أزمة للخليفة لعداوته السابقة معه .

نظر عماد الدين زنكي إلى الوضع الآن ، فوجد أنه أصبح قريبًا جدًّا من حدود إمارتي الرها في الشمال وأنطاكية في الغرب ، فأيهما يبدأ ؟

إن إمارة الرها - لا شك - أضعف من إمارة أنطاكية ، ليس لمناعة حصون أنطاكية فقط ، ولكن أيضًا لقوة المقاتلين النورمان في أنطاكية ، ولكون التركيبة السكانية في الرها عبارة عن مزيج من الأرمن والصليبيين بكل المشاكل التي بينهما ، والتاريخ الأسود الذي لا ينساه الأرمن ، أما إمارة أنطاكية ففيها تجانس واضح ، حيث يغلب عليها الطابع النورماني الكاثوليكي .

هذا الفارق بين الإمارتين جعل تفكير عماد الدين زنكي يتجه إلى الجهاد ضد إمارة الرها قبل إمارة أنطاكية .

لكن هناك مشكلة كبيرة تعوِّق مسيرة الجهاد إلى الرها ! :

إن إمارة الرها تقع في شمال منطقة الجزيرة ، وعلى ضفاف نهر الفرات ، وبقية شمال الجزيرة يقع الآن تحت حكم الأراتقة ، والجيل الموجود الآن يختلف تمامًا عن الجيل السابق ، فليس فيهم من يشبه سقمان بن أرتق أو إيلغازي بن أرتق أو بلك بن بهرام ، إنما هناك شخصيات هشَّة في غاية الضعف ، وقد قسمت بينها البلاد والعباد ، وأضعفت المسلمين وشتتهم ، ولا نبالغ إذا قلنا أن المنطقة أصبحت تضم عشرات الإمارات المستقلة ، وكلها يجاور إمارة الرها ، ويفصل بين عماد الدين زنكي وبين الإمارة الصليبية .

إن عماد الدين زنكي لو خاطر باجتياز أرضهم لقتال الصليبيين في الرها ، فإنه سيعرِّض نفسه لعدة مخاطر :

أولاً : قد يُضرب في ظهره من هؤلاء الزعماء المسلمين أنفسهم ؛ لأنهم سيعتبرونه خطرًا عليهم كما هو خطر على الصليبيين .

ثانيًا :
قد يتعاون هؤلاء تعاونًا صريحًا مع الصليبيين ، فتكون كارثة على جيش عماد الدين زنكي .

ثالثًا :
إذا هُزِم جيش عماد الدين زنكي من إمارة الرها ، فإلى أي الحصون سيلجأ ؟ إن العودة إلى الموصل أو حران أو حلب تحمل مخاطر جمَّة لطول المسافة ، فلا بد من وجود قاعدة قريبة ينطلق منها ويعود إليها .

رابعًا :
هذه المناطق ذات كثافة سكانية عالية ، وكل السكان من المسلمين ، فلو توحدت قوتهم مع جيش عماد الدين زنكي كانوا إضافةً قوية ، ولو قاوموه وعطَّلوا مسيرته ، كانت مشكلة صعبة الحل .

لهذه الأسباب وجد عماد الدين زنكي أن ضم هذه المنطقة إلى حكمه خطوة لازمة قبل محاربة إمارة الرها ؛ وعلى هذا بدأ عماد الدين زنكي يدرس الوضع هناك ، ويقيِّم موازين القوى الرئيسية في المنطقة .


لقد كان هناك عشرات الزعماء في هذه المنطقة إلا أن القوة الرئيسية تعود إلى ثلاثة :

أما الأول فهو حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي الأرتقي ، وهو - كما ذكرنا قبل ذلك - شخصيَّة تميل إلى الدَّعَة والرفاهية ، ولا يضع قضية الصليبيين في حساباته ، وكان يستقر في ماردين ، ويمتلك عدة مدن بالإضافة إلى ماردين ، لعل من أهمها مدينة نصيبين (على الحدود بين تركيا وسوريا الآن) .

أما الثاني فهو ركن الدولة داود بن سقمان الأرتقي ، وهو أمير حصن كيفا ، وكان رجلاً متصلبًا وفظًّا صعب المِرَاس .

وأما الثالث فهو سعد الدولة أبو منصور إيكلدي أمير آمد ، وكان أضعفهم عسكريًّا .

وجد عماد الدين زنكي أن أقرب المدن إلى مناطق حكمه هي مدينة نصيبين التابعة لحسام الدين تمرتاش ، ولم يرد أن يكرِّر مشكلة دمشق ، وقد علم أن المفاوضات السلمية لن تؤدِّي غالبًا إلى نتيجة ، فذهب بسرعة في أوائل سنة 524هـ ، وبعد عودته من بغداد ، وحاصر مدينة نصيبين بجيشه ، بينما كان حسام الدين تمرتاش في ماردين .

وجدت الحامية الأرتقية نفسها في أزمة كبيرة نتيجة قوة جيش عماد الدين زنكي بالقياس إلى قوة الحامية ، ومن ثَمَّ أرسلت رسالة إستغاثة عاجلة إلى حسام الدين تمرتاش في ماردين ، فردَّ عليهم حسام الدين بأنه سيوفِّر لهم فرقة عسكرية في غضون ثلاثة أيام ، مع أن المسافة بين المدينتين أقل من خمسين كيلو مترًا ! مما يدل على عدم الجاهزية وقلة الحيلة ! ثم أراد الله أن تقع الرسالة التي أرسلها حسام الدين تمرتاش ، وكان قد أرسلها على جناح طائر من الحمام الزاجل ، في يد عماد الدين زنكي ، فحوَّر ألفاظ الرسالة وجعل المدة التي ستأتي فيها النجدة عشرين يومًا بدلاً من ثلاثة ! ثم أعاد إطلاق الطائر إلى داخل مدينة نصيبين ، وقد أراد بذلك أن ييأس الجنود من المقاومة فيفتحوا الأبواب سلميًّا ، وهو ما حدث بالفعل ، وفتحت المدينة أبوابها ليضمها عماد الدين زنكي في سهولة ، ودون إراقة دماء !

وصلت الأخبار إلى حسام الدين تمرتاش ، وشعر بالقلق الشديد ، وتكلم مع بقية زعماء الأراتقة ، وجمع الأعوان والأنصار منهم بقيادة ركن الدولة داود بن سقمان ، وأبو منصور إيكلدي ، وغيرهم من زعماء التركمان الموالين لداود بن سقمان ، وتجمعت قواتهم في بلدة إسمها دارا ، وبلغ تعدادهم عشرين ألفًا ، وعلم عماد الدين زنكي بتجمعهم ، فتحرك لهم على رأس فرقة من جيشه قوامها أربعة آلاف مقاتل فقط ، ومع أن قوته صغيرة إلا أنه إنتصر عليهم في فترة قصيرة جدًّا ، وأتبع هذا الانتصار بالسيطرة على عدة حصون في المنطقة مثل : حصن دارا ، وحصن سرجي .

لقد كان هذا دليلاً على أنهم لا يملكون مقومات الإستقلال ، إنما عاش كل منهم على بقعة صغيرة من الأرض ، وإعتبر نفسه زعيمًا وقائدًا وعطَّل بذلك مسيرة الأمة ، وشتَّت أمرها .


كانت هذه هي أول الصدامات مع الأراتقة ، وكُلِّلت بنجاح سريع ، وكان من الممكن أن تكون بداية جيدة لمسيرة واضحة تنتهي بضم إقليم الجزيرة بكامله إلى دولة عماد الدين زنكي ، وذلك بكل ما في الإقليم من إمارات ودويلات لا وزن لها ؛ كان من الممكن أن يحدث ذلك لولا الأنباء المفاجئة التي جاءت من إمارة أنطاكية !

والقصة أن أحد التجمعات الأرمينية في جبال طوروس القريبة من شمال أنطاكية تعرضت لهجوم بوهيموند الثاني أمير أنطاكية ، فما كان من ليون الأول زعيم الإمارة الأرمينية إلا أن يستغيث بإيلغازي الدانشمندي زعيم ملطية ، وحدث صدام بين الجيش الدانشمندي بقيادة إيلغازي ، والجيش النورماني بقيادة بوهيموند الثاني ، وكانت المفاجأة الكبرى أن سُحِق الجيش النورماني ، بل وقُتِل بوهيموند الثاني في المعركة !

وهكذا خلت أنطاكية من الزعماء !

لقد كان بوهيموند الثاني شابًّا صغيرًا ، وكان متزوجًا من أليس ابنة بلدوين الثاني ملك بيت المقدس ، ولم يكن له إلا ابنة صغيرة إسمها الأميرة كونستانس ، ووفقًا لقوانين الإقطاع في غرب أوربا فإنَّ إمارة أنطاكية تنتقل إلى الوريثة الوحيدة ، وهي الطفلة كونستانس ! على أن يوضع وصيٌّ مناسب عليها حتى تبلغ سن الرشد ، فوضعت أليس بنت بلدوين الثاني نفسها على الوصاية دون أن تنتظر رأي أبيها ملك بيت المقدس ، وكان من الواضح أنها تطمح إلى الملك ، بل وترامت الإشاعات في أنطاكية أنها تريد أن تحكم كأميرة مستقلة ، وليست كوصية على الأميرة الصغيرة كونستانس !

ووصلت الأنباء من أنطاكية بسرعة إلى كل مكان ..

سمع عماد الدين زنكي بالأخبار فإهتم بها جدًّا ؛ لأن حالة أنطاكية الآن مضطربة جدًّا ، ولو إستغل الفرصة ، وباغتها بالهجوم فقد يستطيع أن يفتحها ، ويخلِّص المسلمين من هذا الإحتلال .

وكذلك وصلت الأخبار إلى بلدوين الثاني ملك بيت المقدس ، فأسرع إلى أنطاكية ليختار الوصي المناسب .

ووصل بلدوين الثاني إلى أسوار أنطاكية أولاً ، ففوجئ بكارثة أخرى ! وهي أن إبنته أعلنت العصيان عليه وإستقلت بالإمارة ، بل وأرسلت إلى عماد الدين زنكي تعرض عليه مساعدتها في حكم أنطاكية على أن تعطيه جزية مالية كرمزٍ للتبعية !

كانت هذه بالطبع فرصة ذهبية لعماد الدين زنكي لولا أن بلدوين الثاني إستطاع أن يمسك بالرسول الذي يحمل رسالة أليس، بل وأعدمه ، ثم تراسل مع رجال الحكومة في أنطاكية الذين وجدوا أن محاولة أليس هذه محاولة طفولية للاستئثار بحكم إمارة صليبية عسكرية ؛ ففتحوا الأبواب لأبيها بلدوين الثاني الذي تملك الأمور بسرعة ، ثم قام بنفي إبنته إلى مدينة اللاذقية .

ومع أن بلدوين الثاني سيطر على الأوضاع في أنطاكية إلا أن عماد الدين زنكي أدرك أن الوضع في الإمارة لا بد أن يكون مضطربًا ، ومن هنا أسرع عماد الدين زنكي بجيشه إلى حلب ليدرس الوضع هناك ، فلعل الهجوم على أنطاكية الآن أفضل من الهجوم على الرها ، وعليه فيمكن له أن يؤجِّل قصة الأراتقة إلى وقت لاحق ، خاصةً أن قوتهم كما بدا له ضعيفة .

وجد عماد الدين زنكي أن أقرب الحصون التابعة لإمارة أنطاكية هو حصن الأثارب ، وقد فقده رضوان بن تتش سنة (504هـ) 1110م ، أي منذ عشرين سنة كاملة ، وهو أقوى حصون المنطقة مطلقًا ، ويشرف مباشرة على مدينة حلب ، ويسيطر على الطريق بين حلب وأنطاكية ، ولأهميته القصوى وضع فيه الصليبيون فرقة من أمهر الفرسان في أنطاكية .

رأى عماد الدين زنكي أن فتح هذا الحصن سيهزُّ أنطاكية هزة عنيفة ، إضافةً إلى تأمين مدينة حلب ؛ حيث كان الفرسان الصليبيون كثيرًا ما يخرجون من الحصن ليغيروا على مزارع حلب وفلاحيها ثم يعودون سالمين إلى داخل الحصن ؛ ولذلك توجه عماد الدين زنكي مباشرة لحصار الحصن المهم ، مستغلاًّ حالة الفوضى التي تعاني منها الإمارة .

لكن عماد الدين زنكي بخبرته العسكرية أدرك أن فتح الحصن صعب جدًّا ، وقد تطول مدة الحصار دون فائدة ، وهو في نفس الوقت لا يستطيع أن يهاجم أنطاكية في الغرب تاركًا هذا الحصن الخطير في ظهره ، فقام بحيلة ذكية ؛ إذ توجه بجيشه في إتجاه أنطاكية موهمًا فرسان الأثارب أنه سيستغل ظروف أنطاكية في إسقاط المدينة الرئيسية ، ومن الواضح أنه لم يظهر لهم قوته بكاملها ، إذ رأى الفرسان في الحصن أن الخروج واللحاق بعماد الدين زنكي ممكن ، وسينقذ الإمارة ، وهكذا خرجوا بالفعل ، فإستدرجهم عماد الدين زنكي بعيدًا عن الحصن ، ثم فاجأهم بالقتال المباشر ، وأسقطهم في كمين عسكري محترف ، وما هي إلا ساعات قليلة وسقطت كتيبة الفرسان بكاملها بين قتيل وأسير ! وعاد عماد الدين زنكي بسرعة إلى الحصن ، ففتحه عنوة ، وأسر الحامية التي بداخله ، ثم أمر بتخريب الحصن ؛ لكي يقطع على الصليبيين أي فرصة مستقبلية للسيطرة منه على حلب .

لقد إنتصر إنتصارًا مهيبًا حقًّا ، خاصةً أن هذه الفرقة الصليبية كانت من أمهر فرقهم وأقواها ، ولم يكتف عماد الدين زنكي بذلك ، بل انطلق صوب أنطاكية ، فحاصر مدينة حارم القريبة جدًّا من أنطاكية ، فعرضوا عليه أن يدفعوا له نصف دخل البلد ، على أن يعقد معهم هدنة، ووجد عماد الدين زنكي أن قوته العسكرية لن تسمح له بفتح البلد ، وكان رحمه الله حاسمًا جدًّا في قراراته ، فأدرك أنه لن يستطيع فتحه ، ومن ثَمَّ قَبِل بعرضهم، ورفع الحصار .

لقد كانت حملة موفقة غاية التوفيق ، أسقط فيها حصنًا منيعًا كحصن الأثارب ، وأوقع فرقة صليبية ماهرة بين قتلى وأسرى ، وضرب الجزية على مدينة حارم ! وكانت كل هذه الأحداث في سنة (524هـ)1130م .

وطار ذكر عماد الدين زنكي في الآفاق ، وصار الحديث عنه كبطل المسلمين في حروبهم ضد الصليبيين ، وبدا المسلمون يشعرون أن الجهود التي بُذلت لتوحيد المسلمين قد بدأت تؤتي ثمارها .

وحملت سنة 525هـ بعض الأخبار الجديدة التي تصب في مصلحة المسلمين ، فقد شاء الله أن يموت في هذه السنة (21 من أغسطس 1131م) بلدوين الثاني ملك بيت المقدس ، وهو الملك صاحب الخبرة العريضة الذي حكم قبل ذلك إمارة الرها ثمانية عشر عامًا ، ثم مملكة بيت المقدس ثلاثة عشر عامًا ، وطَّد في كل هذه السنوات ملك الصليبيين ، وإكتسب مهارة فائقة وخبرة عميقة في التعامل مع المسلمين ، وكذلك مع زعماء الصليبيين ، وكان موته خسارة كبيرة للصليبيين ، خاصةً أنه كان وصيًّا على إمارة أنطاكية بعد الظروف الصعبة التي مرت بها من قتل للأمير بوهيموند الثاني ، والمؤامرة الفاشلة التي قامت بها أليس إبنة بلدوين الثاني للإستيلاء على الحكم .

لقد كانت أزمة كبيرة لمملكة بيت المقدس وإمارة أنطاكية ، خاصةً أن الذي تولى الحكم بعد بلدوين الثاني لم يكن له إلا خبرة بسيطة جدًّا في الأراضي الإسلامية ، وهو الملك فولك الأنجوي !

أما كيف وصل الأمير فولك الأنجوي إلى حكم مملكة بيت المقدس ، فالقصة تبدأ من ثلاث سنوات (521هـ\ 1128م) حيث رغب بلدوين الثاني أن يزوِّج إبنته الكبرى من أمير يصلح لقيادة المملكة من بعده ؛ وذلك لأنه لم ينجب إلا أربعة بنات كانت إحداهن هي أليس التي تزوجت من بوهيموند الثاني أمير أنطاكية ، ومرت بنا قصتها ، وحيث إن الملك بلدوين الثاني لم يجد في الزعماء الصليبيين في المنطقة من يصلح لهذا الزواج ، فقد أرسل رسالة إلى لويس السادس ملك فرنسا في ذلك الوقت ، وطلب منه ترشيح أحد الأمراء الأكفاء الذين يصلحون لهذا الشرف ، وكان أن إختار ملك فرنسا أحد أهم الأمراء الفرنسيين ، وهو فولك الأنجوي ، وأرسله إلى بيت المقدس ، وإطمأنَّ له بلدوين الثاني ، وزوجه فعلاً من إبنته ميلزاند وأقطعه مدينتي صور وعكا ، وحرص على تدريبه سياسيًّا وعسكريًّا ، حتى إذا مات بلدوين الثاني إعتلى فولك الأنجوي مملكة بيت المقدس ، وصارت له كل صلاحيات الملك الراحل ، ومنها أنه أصبح وصيًّا على أنطاكية كذلك .

ومن هنا فلا شك أن أوضاع الصليبيين ستصبح مضطربة ، لا لقلة خبرة الملك فولك الأنجوي فقط ، ولكن لأن الأوضاع في أنطاكية لم تكن مستقرة أبدًا بسبب أطماع الأميرة أليس بنت الملك بلدوين الثاني ، والتي تم نفيها قبل ذلك إلى اللاذقية .

وشاء الله أن يحدث أمرٌ آخر مهم جدًّا بعد هذه الأحداث بقليل، وهو وفاة جوسلين دي كورتناي أمير الرها المخضرم ! وتولى من بعده إبنه جوسلين الثاني ، الذي لم يكن يمتلك معشار خبرة أبيه ، فكان هذا حدثًا كبيرًا مساعدًا للمسلمين ، خاصة أنه يأتي في الوقت الذي تتنامى فيه قوة المسلمين تحت قيادة عماد الدين زنكي رحمه الله .

ثم إنه تزامن مع هذه الأحداث أمر آخر كان له من الآثار ما غيَّر من مسيرة الأحداث ، ذلك أن دُبيس بن صدقة ، وهو زعيم قبيلة بني مزيد الشيعي ، الذي كان مواليًا للسلطان سنجر السلجوقي الرأس الأكبر للسلاجقة ، وقع أسيرًا في يد بوري بن طغتكين ، ولم يكن هذا الأسر في معركة ولا قتال ، ولكن ضلَّ دبيس بن صدقة الطريق يومًا ما فوقع في يد حسان بن كلثوم الكلــبي، فعرف شخصه وقيمته ، فحمله إلى زعيم دمشق ليكون له يدٌ عنده !

وعرف عماد الدين زنكي بأسر دبيس بن صدقة لدى بوري بن طغتكين ، فقام بمباحثات مع بوري بن طغتكين إنتهت إلى تبادل الأسرى ، حيث يأخذ عماد الدين زنكي دبيس بن صدقة ، في نظير ردِّ سونج بن بوري بن طغتكين إلى دمشق .

وتمت بالفعل الصفقة ، وكان الجميع - بما فيهم دبيس بن صدقة - يتوقع أن يُؤذِي عماد الدين زنكي دبيسًا ؛ لأنه كان رجلاً فاسدًا ومثيرًا للفتن ، إضافةً إلى أنه كان منافسًا لعماد الدين زنكي على منصب إمارة الموصل وحلب ، لكن عماد الدين زنكي بفقهه السياسي المعروف فعل عكس ما توقع الجميع !

لقد إستقبل عماد الدين زنكي دبيسًا إستقبال الأمراء والزعماء ، وقرَّبه وأكرمه ، وعامله بما يعامل به أكابر الملوك ! وهذا أثار تعجب الناس ودهشتهم ، لكن عماد الدين زنكي كان يستقطب مثل هذه الرموز المحرِّكة فيستفيد منها ، ويوجِّهها نحو خدمة الهدف العام لدولته .

لقد كان دبيس بن صدقة من الشخصيات المؤثرة في المجتمع في ذلك الوقت ، مع الإعتراف تمامًا أن تأثيره كان سلبيًّا ولم يكن إيجابيًّا ، إلا أنه يستطيع توجيه قبيلة كبيرة تسيطر بشكل كبير على وسط العراق ، وخاصةً منطقة واسط والحلَّة ، ولن يُقدِم مثل هذا الرجل على محاولته القديمة الفاشلة بقلب نظام الحكم في بغداد إلا وهو يملك مقومات كثيرة تدفعه إلى هذه الفكرة ؛ فلماذا لا يشتري عماد الدين زنكي ولاءه في هذا الموقف ، فيضمن وقوفه إلى جانبه في مشاريعه الضخمة لتوحيد المسلمين ولجهاد الصليبيين ؟ أو على الأقل فإنه سيضمن تحييده ، وعدم التدبير له ؟ ..

إن قبيلة دبيس بن صدقة لن تختفي من الساحة ، بل سيظهر من يقودها في حال غياب دبيس ، فلماذا لا يوجِّه عماد الدين زنكي دفَّة القبيلة عن طريق دبيس بن صدقة نفسه ؟ , ثم إن دبيس بن صدقة كان مقربًا للسلطان سنجر أعلى سلطة في الدولة السلجوقية ، ومثل هذا الفعل من عماد الدين زنكي يُهدِّئ من روع هذا السلطان ، الذي كان يريد تولية دبيس مكان عماد الدين زنكي ، فسيرى الآن أن عماد الدين زنكي يحفظ أصدقاء السلطان ومقربيه .

وهذا العمل من عماد الدين زنكي لن يكون منتقدًا من السلطان محمود سلطان فارس والعراق ؛ لأنه لم يكن يمانع منذ سنتين أن يولِّي دبيسًا إمارة الموصل وحلب ، لولا قوة حجة عماد الدين زنكي وحسن بيانه .

على أن السلبية الوحيدة التي تظهر في هذا العمل هي أن هذا الفعل سيغضب الخليفة المسترشد الذي كان يكره دبيس بن صدقة كراهية شديدة ؛ لأنه كان يريد أن يخلعه من منصبه ، وهذه كبيرة لا تغتفر عند الخلفاء ، ولا تُنسى أبد الدهر ؛ ولذلك فمن المتوقع أن يعترض المسترشد بالله على هذا الموقف من عماد الدين زنكي ، ولكن عماد الدين زنكي كان محدِّدًا وجهته من البداية ، وكان واضح الرؤية تجاه مراكز القوى الحقيقية في المنطقة ؛ ولذلك فولاؤُهُ سيكون أقرب إلى السلطان سنجر والسلطان محمود لا إلى الخليفة المسترشد حتى لو أظهر بعض القوة !

وغني عن البيان أن عماد الدين زنكي لم يقدِّم أي تنازل عقائدي أو فقهي أو فكري للقائد الشيعي دبيس بن صدقة ، إنما كان تعامله معه من باب السياسة وتقريب وجهات النظر في العمل الإسلامي ، لا من باب الرضا بمخالفات دبيس بن صدقة في الفقه والعقيدة ، أو التقريب بين مذهبين متباعدين .

وكما كان متوقعًا فإن هذا الموقف من عماد الدين زنكي أثار إرتياحًا عند السلطان سنجر والسلطان محمود ، بينما أثار غضبًا شديدًا عند الخليفة المسترشد بالله ، الذي راسل عماد الدين زنكي يطلب تسليم دبيس بن صدقة إليه ، وكان من المحال طبعًا بعد أن فعل عماد الدين زنكي كل ذلك أن يُسلِّم دبيس بن صدقة ليُقتل ؛ فرفض طلب الخليفة مما أوغر صدره على عماد الدين زنكي بشدة .

إذن كرؤية عامة للأوضاع في أوائل ومنتصف سنة 524هـ ، فإن أسهم عماد الدين زنكي كانت بصفة عامة قد إرتفعت جدًّا بإنتصاراته الباهرة على الصليبيين في حصن الأثارب وفي حارم ، وصار مقربًا جدًّا إلى قلوب العامة ، وإمتلك الكثير من الأوراق الضاغطة ، خاصةً بعد إخضاع مدن نصيبين ودارا ؛ مما أعطى الإنطباع أنه يريد أن يتوجه إلى الرها ، وبعد أن أنقذ دبيس بن صدقة من الأسر ، مما يشير إلى رغبته في إستغلال كل القوى لهدفٍ واحد واضح ، هو وَحْدة المسلمين وجهاد الصليبيين .

وإضافةً إلى هذه الصورة الطيبة فإن أوضاع الصليبيين كانت مضطربة للغاية ، حيث مات بلدوين الثاني وجوسلين دي كورتناي ، وتولى فولك الأنجوي حديث الخبرة بالمنطقة ، وكذلك جوسلين الثاني الأضعف كفاءةً وشجاعة من أبيه ، غير الإضطرابات الطاحنة التي كانت في أنطاكية .

كان هذا الوضع يشير إلى أن الفترة القادمة ستكون فترة علوٍّ للمسلمين ، وقلاقل وخسائر للصليبيين ..لكن كثيرًا ما تجري الرياح بما لا تشتهي السفن !لقد حدث أمرٌ غيَّر مجرى الأحداث كثيرًا ، وعطَّل مسيرة الجهاد ما يقرب من أربع سنوات كاملة !

لقد مات السلطان محمود عن عمرٍ أقل من سبعة وعشرين عامًا ! وكانت مفاجأة قلبت الموازين في الأمة الإسلامية ، حيث إنه مات صغيرًا جدًّا ، وبالتالي فأبناؤه أعمارهم صغيرة جدًّا ، ومن هنا ظهر الطامعون في الملك من كل مكان ، وصارت الأمة كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا !

إن كرسي السلطنة له بريق ما بعده بريق ، والفرصة المواتية الآن قد لا تتكرر إلا بعد عدد من السنوات لا يعلمه إلا الله ، ومن هنا اجتهد كل الطامعين أن يصلوا إلى هذا الكرسيِّ الوثير !

مَن الطامعون في كرسي السلطنة ؟!

أولاً : الملك داود ابن السلطان محمود ، وقد إستخلفه أبوه على السلطنة ، ولكنه كان أصغر من عشر سنوات ؛ ولذلك فهو تحت وصاية أتابكه (مُربِّيه) آقسنقر الأحمديلي .

ثانيًا :
الأخ الأول للسلطان محمود وهو الملك مسعود بن محمد بن ملكشاه ، وكان رجلاً حسن الأخلاق ، وكان يرأس جرجان ، وكانت له قوة كبيرة وجيش عظيم ، وكان يبلغ من العمر ثلاثة وعشرين عامًا .

ثالثًا :
الأخ الثاني للسلطان محمود ، وهو الملك طغرل بن محمد بن ملكشاه ، وكان خيِّرًا وعادلاً قريبًا إلى الرعية ، وكان يبلغ من العمر إثنين وعشرين عامًا .

رابعًا :
الأخ الثالث للسلطان محمود، وهو الملك سلجوقشاه بن محمد بن ملكشاه ، وهو أمير فارس وخوزستان ، وكان يبلغ من العمر ... .

خامسًا :
السلطان سنجر ، وهو عم السلطان محمود ، وأقوى الشخصيات السلجوقية ، وسلطان خراسان وبلاد ما وراء النهر ، وأكبر الجميع سنًّا (46 سنة) ، وإن كانت بلاده بعيدة عن العراق وشرق فارس ، وهي منطقة أملاك السلطان الراحل محمود .

سادسًا :
الخليفة المسترشد بالله ، الذي يريد أن يخرج من سيطرة السلاجقة ، وأن يستقل بنفسه ، وإن كان هذا سيعني أنه لن يصبح حاكمًا إلا على منطقة بغداد فقط وما حولها ؛ لضعف جيش الخلافة في هذا الوقت .

فهذه ست قوى متصارعة على الحكم ، كلٌّ منها له طموحه الخاص ، ومبرراته لطلب الحكم ، وكلٌّ منها يقف خلفه أنصار وأعوان ، وجيش وشعب ! لقد كانت أزمة حقيقية توشك أن تدفع الأمة إلى أتُّونٍ من الصراعات والإنشقاقات .


فإذا أضفت إلى هؤلاء بعض القوى الأخرى التي لا تطمع في كرسي السلطنة ولكنها مؤثِّرة للغاية ، فإن الموقف سيزداد تعقيدًا ، وعلى رأس هذه القوى بلا شك يأتي عماد الدين زنكي رحمه الله !!

فعماد الدين زنكي وإن كان مجرد أمير على إمارة إلا أنه أصبح من أقوى القادة العسكريين ، ومن أوسعهم نفوذًا ؛ إذ يسيطر الآن على الموصل وحلب وحران وحماة ونصيبين وبعض مناطق الأكراد ، بل يصل نفوذه إلى مشارف أنطاكية .. ثم إنه البطل الذي إنتصر على الصليبيين ، وقلوب الشعوب الإسلامية تهفو إليه .

نَعَمْ هو في هذه المرحلة لا يستطيع أن يعلن دولة خاصة به ، وليس له القبيلة الكبيرة أو الأعوان الكثر الذين يساعدونه على الإستقلال وإنشاء دولة جهادية خالصة إلا أنه قوة لا يستطيع المتنافسون على السلطة أن يتجاهلوها ، ولن يصبح في نفس الوقت قرار عزله قرارًا آمنًا ؛ لأنه سيؤدِّي إلى سخط عام في العالم الإسلامي ، كما أن الاحتياج إليه في جهاد الصليبيين أصبح إحتياجًا ماسًّا ..

وعلى هذا فالمتوقع الآن أن تبدأ إحدى هذه القوى أو أكثر من قوة ، في إستقطاب عماد الدين لصالحها وعلى عماد الدين أن يحسن الإختيار ؛ لكي لا يدخل في صدام مع شخصية قد تصل بعد ذلك إلى كرسيِّ السلطنة ، ومن ثَمَّ يضطرب موقفه ، وبالتالي تتوقف حركة الجهاد .

فما هي رؤية عماد الدين زنكي في هذا الموقف الشائك ؟

إن الموقف حقيقة في غاية التعقيد ؛ لأن القوى تكاد تكون متساوية ، وفرصتها متقاربة ، إلا أن الفرصة الكبرى في تخيل عماد الدين زنكي كانت للملك مسعود بن محمد بن ملكشاه ، وهو أكبر الأخوة الآن للسلطان الراحل محمود .


إن هذا هو أكبر الأخوة ، وبالتالي ففرصة إجتماع الناس عليه عالية ؛ لأنه أكبر من أخويه طغرل وسلجوقشاه ، وهو أفضل من الطفل داود إبن السلطان الراحل ، الذي لا يملك من أمره شيئًا ، بل سيكون أُلْعُوبة في يد أتابكه آقسنقر الأحمديلي .. وكذلك فرصة الملك مسعود أعلى من السلطان سنجر ؛ لأن السلطان سنجر وإن كان كبيرًا مهيبًا إلا أنه بعيد ، وسيطرته في غالب الأمر شرفيَّة ، وليست واقعية .

أما الخليفة المسترشد بالله فإمكانياته أقل من أحلامه ، والوقوف إلى جواره في هذه الأزمة هو عدم فقه للواقع ، ولا حسن تقدير للنتائج , وإضافةً إلى كل ما سبق فإن الملك مسعود شخصيَّة محبوبة وحسنة الخلق ، وبالتالي سيكون قبول المسلمين لها عاليًا .

وفي نفس الوقت الذي كان عماد الدين زنكي يفكِّر فيه في الملك مسعود كان الملك مسعود يفكر في القوى الموجودة على الساحة لنصرته في الوصول إلى كرسي السلطنة ، وكان من أوائل الذين فكَّر فيهم عماد الدين زنكي الأمير القوي !

وهكذا أرسل الملك مسعود رسالة إلى عماد الدين زنكي يطلب منه المساعدة العسكرية على إقراره في منصب السلطة ، ووعده بإعطاء مدينة إربل المهمة جدًّا عسكريًّا في نظير هذه المساعدة ، فوافق عماد الدين زنكي ، وصار في صفِّ الملك مسعود .

ثم إن التقليد المتبع في ذلك الوقت كان يقضي بأنه لا بد للسلطان الجديد من تقليد من الخليفة العباسي ، وهذا يجعل فرصة الطاعة للسلطان في أنحاء العالم الإسلامي أوسع؛ لأن الناس كانت تعتبر جدًّا برأي الخليفة ، على الأقل من الناحية الشرعية ، ويشعرون أن مخالفته لا تأتي بخير ، مع يقين الجميع بضعف مركزه، وقلة حيلته؛ ولذلك كان السلاطين حريصين دائمًا على تقليد الخليفة لهم ، ومن شَعَر أن الخليفة لن يقلده فلا يمانع أن يخلع الخليفة تمامًا ، ثم يضع خليفة غيره يعطيه التقليد !

وعليه فإن الجميع كان ينظر إلى رأي المسترشد في هذه القضية ، وعادةً ما كان الخليفة يُقِرُّ من إتفق السلاجقة على إختياره ، أما الآن فالوضع مختلف ؛ إذ حدث التنازع بين خمس شخصيات مختلفة : العم سنجر ، والأخوة الثلاثة مسعود وطغرل وسلجوقشاه ، والإبن داود .. فمَن مِن هؤلاء يختار الخليفة ؟!

إن الخليفة المسترشد متطلع للحكم ، وعليه فهو يريد أن يختار أقل الناس تدخلاً في شئون الحكم ؛ لكي يدير هو الأمور بنفسه ، وعلى ذلك فقد وقع إختياره على السلطان سنجر ؛ وذلك لبُعد المسافات بينه وبين العراق ، ومن ثَمَّ سيصبح للخليفة المسترشد كلمة مسموعة في العراق على الأقل ، وقد يكون في الشام أيضًا !

هكذا كان رأي المسترشد بالله وطموحه !

وعلى هذا فقد أقام المسترشد الخطبة للسلطان سنجر ، وعلَّق أي موافقة على سلطان جديد على موافقة السلطان سنجر شخصيًّا ، وهذا - ولا شك - أعجب السلطان سنجر جدًّا وإستحسنه !

فالسلطان الذي إختاره السلطان محمود قبل أن يموت هو السلطان داود إبنه ومعه جيش أصفهان ، وهو القوة الرئيسية في جيوش السلاجقة ، حيث كان تحت سيطرة السلطان محمود شخصيًّا ، ولا شك أن السلطان داود - مع أنه طفل صغير - لن يقبل بضياع السيطرة منه ؛ ولذلك عزم على التوجه إلى بغداد بجيشه ؛ لإجبار الخليفة على تقليده للسلطنة !

وفي نفس الوقت تحرك الأخوان مسعود وسلجوقشاه إلى بغداد لنفس الغرض ، وهو إجبار الخليفة على تقليدهما كلٌّ على حدة !

فهذه جيوش ثلاثة لداود ومسعود وسلجوقشاه ! ومن الموصل تحرك جيش عماد الدين زنكي نصرةً لمسعود , أما السلطان سنجر فقد شعر أن بُعد المسافة قد يمنعه من السيطرة على الأوضاع ، فإتفق مع الأخ الثالث طغرل ، وجمع جيشًا كثيفًا وتوجه إلى بغداد هو الآخر ! وهذا مالم يكن يتوقعه الخليفة ، فهو لم يتخيل أن يأتي سنجر بنفسه ومعه طغرل ، ليصبح في النهاية الخليفة تابعًا لهم كما كان تابعًا لغيرهم !

وتعقَّد الموقف تمامًا ! فهناك أربع قوى متصارعة !

قوة السلطان المعلن حتى الآن ، وهو السلطان داود بن محمود ومعه جيشه المتجه إلى بغداد ، ويقاومه الآن ثلاث قوى مؤيدة بجيوش ، وكلها يتجه إلى بغداد أيضًا :

القوة الأولى : قوة الملك مسعود بجيشه ، ومؤيَّدة بجيش عماد الدين زنكي .
القوة الثانية : قوة الملك سلجوقشاه .
القوة الثالثة : قوة السلطان سنجر ، ومعه الملك طغرل .

وهذا الوضع لا بد أن يلزم الخليفة بأن يختار بجدية السلطان المرتقب الذي يجب أن يقف إلى جواره .

ولكن قبل الحديث عن نتيجة هذه الصدامات المرتقبة لا بد من وقفة مع هذا الموقف العجيب ، حيث تتصارع جيوش حقيقية قوية يقودها أخوة وأقارب من الدرجة الأولى !
كيف تمَّ هذا ؟ وما هي طبيعة القتال بينهم ؟!

لي على هذا الموقف عدة تعليقات :

أولاً : فتنة الدنيا , يقول رسول الله : "أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا" .

والفتنة التي فتحت على هؤلاء فتنة عظيمة جدًّا ، فنحن كثيرًا ما نرى الأخوة يتصارعون على ميراث بسيط تركه لهم أبوهم ، فما بالكم بتركة تضم عدة دول كبرى !!


إن الذي سيوضع في منصب السلطان ستكون له السيطرة على العراق وفارس (إيران) والشام بكل دولها وأذربيجان وأرمينية وباكستان ، وقد يتوسع ملكه بعد ذلك في بلاد أخرى كالجزيرة العربية أو تركيا ، فهي فتنة عظيمة ، ولا سيما أن آخر ما يخرج من قلب الإنسان هو حب السلطان !

ثانيًا : هؤلاء الأخوة وإن كانوا من أبٍ واحد ، إلا أنهم كثيرًا ما ينشئون متباعدين ، حيث يعيش كل واحد في دولة مختلفة ، وقد يكون له أم مختلفة ، ومربٍّ مختلف ؛ فلا يربط بينه وبين أخيه الرباط الذي نراه في الأخوة المتحابين .

ثالثًا :
التربية العسكرية الصرفة التي ينشَّأ عليها الأولاد ، خاصةً في الدولة السلجوقية التي كانت دولة عسكرية من الطراز الأول ، وقد رأينا في كثير من الأحيان أن الذي يتولى تربية الأولاد رجل عسكري ، بل قد يكون رئيس الجيش كله ، وهو الذي كان الأتراك السلاجقة يطلقون عليه لفظ "أتابك" أي مربي الأمير ، فكان عماد الدين زنكي مثلاً هو مربي ألب أرسلان بن السلطان محمود ، وكان طغتكين الذي صار أمير دمشق هو مربي أولاد دقاق بن تتش ، وهكذا .. ولا شك أن هذه النشأة العسكرية جعلت قضية الروابط الأسرية والعلاقات الإنسانية أقل عندهم من غيرهم .

رابعًا :
الزمن زمن فتنة ، والخليفة ضعيف ، وكل واحد من هؤلاء له مبرراته - التي قد تكون مقنعة - للوصول إلى الحكم ، وقد يرى أنه يدافع عن حقٍّ ، ولا يجب التفريط فيه ..

والذي يثبت أن القضية فعلاً فتنة هو إشتراك عدد لا بأس به من أفاضل الأمة وثقاتها في مثل هذه الصراعات ، بل إن السلاطين المشاركين في هذه الصراعات كانوا على درجة عالية من الأخلاق الحميدة ، والخصال الحسنة ، وكانوا في مجملهم محبوبين في شعوبهم ، قريبين من رعيتهم .


رابعًا : ضعف الاتصالات كان يؤدي إلى كثير من النتائج السلبية ، والمشاكل المعقدة ، وقد كان الجميع يتنافس على الوصول إلى الخليفة أولاً، وقد يأخذ هذا الوصول أيامًا كثيرة ، ثم يعود بالرَّدِّ في أيامٍ أخرى ، وهكذا , فلو أخذت هذا الأمر على نطاق المساحة الشاسعة التي يعيش فيها كل واحد من هؤلاء المتصارعين ، لعلمت أن الأمر فعلاً في غاية التعقيد .

خامسًا :
لا شك أن البطانة المحيطة بكل واحد من هؤلاء كانت تزيِّن له أنه أفضل الجميع وأحكمهم وأعقلهم ، وأحقهم بالحكم ، ولا شك أن هذه البطانة مستفيدة جدًّا من وصول رجلهم وقائدهم إلى منصب السلطنة ، فهذه ليست ترقية له فقط ، بل ترقية للجميع !

فهذه بعض الخلفيات التي تفسِّر لنا حدوث مثل هذه الفتنة ، وليس هذا مبرِّرًا لقَبولها ، أو عذرًا لحدوثها ؛ فإن هذه الفتنة كانت وبالاً كبيرًا على المسلمين عطَّل مسيرة الجهاد أربع سنوات كاملة ، ولكن ذكرناها من باب محاولة فَهم الأحداث فهمًا متكاملاً .


وممَّا هو جدير بالذكر أن المعارك التي كانت تدور بين هذه الطوائف المتناحرة لم تكن معارك ضارية مع أن أعدادهم كبيرة ، وعُدَّتهم قويَّة ، ممَّا يدلُّ على أن معظم المتصارعين كانوا حريصِين إلى حدٍّ كبير على دماء إخوانهم ؛ ولذلك كثيرًا ما رأينا تصالحًا أثناء القتال ، أو عفوًا بعد النصر ، أو عدم حميَّة أثناء الصدام ؛ ممَّا أفرز نتائج قد نستغربها أحيانًا ، وهذا لم يكن عند السلاطين فقط ، بل حتى عند القادة الأقلِّ ، بل وعند الجنود ؛ لأنه من المؤكَّد أن حميَّة هؤلاء للقتال ليست كحميَّتهم عند قتال الصليبيين .

ونعود إلى الأحداث ، ونجد أن الخليفة المسترشد بالله بدأ يتردَّد في قضيَّة إعلانه أن السلطان الذي يجب أن يُسيطر على العراق هو السلطان سنجر ، وخاصَّة أنه أتى معه بالملك طغرل بن محمد ، الذي سيسيطر على الأمور كلها .

وفي نفس الوقت إلتقى جيشا السلطان داود بن محمود مع جيش عمِّه الملك مسعود في أرض فارس ، وحدثت مناوشات ليمنع كل منهما الآخر من الوصول إلى بغداد ، وإنتهت المناوشات بالصلح بين الطرفين ، ولكن أرسل كل منهما رسالة سريعة إلى الخليفة المسترشد يطلب إعطاءه السلطنة .

وكانت المناوشات التي حدثت بين السلطان داود والملك مسعود سببًا في وصول الملك سلجوقشاه إلى بغداد أولاً ، وهو بالطبع يطلب لنفسه السلطنة !

وبينما إستقبل الخليفة سلجوقشاه ، وبدأ في المباحثات ، إذ بجيشين يقتربان من بغداد , الجيش الأول هو جيش الملك مسعود من الشمال الشرقي ، والجيش الثاني هو جيش عماد الدين زنكي الموالي للملك مسعود ، ويأتي من الشمال الغربي !

ووجد الخليفة نفسه في مأزق ، خاصَّة أنه ليس على وفاق مع عماد الدين زنكي بسبب قضيَّة دبيس بن صدقة ، ومن ثَمَّ وبعد مفاوضات سريعة مع سلجوقشاه اتَّفقا على قتال هذين الجيشين والدفاع عن بغداد ! ولكن كان من الواضح أن الخليفة لا يدري لماذا هو يدافع عن بغداد ، هل يدافع عنها لنفسه أو للملك سلجوقشاه ، أم للسلطان سنجر ، أم للسلطان داود ؟! لقد كان الموقف عجيبًا حقًّا ! كما أن الجيوش المهاجمة لبغداد لم تكن تهاجم بحميَّة وقوَّة ، فَهُمْ في النهاية يهاجمون عاصمة الخلافة الإسلاميَّة بغداد ، والذين يدافعون عنها هم إخوانهم وعشيرتهم .


وهكذا حدث قتال بلا رُوح ، لم تظهر فيه المهارات المعروفة للمقاتلين .. لقد إتجه سلجوقشاه بجيشه لحرب أخيه مسعود ، بينما إتجه الخليفة لحرب عماد الدين زنكي !
وكان الصدام الأول هو الصدام بين الخليفة بجيش بغداد مع عماد الدين زنكي بجيش الموصل ، ومن الواضح أن عماد الدين زنكي لا يقاتل بحميَّته المعروفة ، ولا بحماسته المعهودة ، فحدث أمر متوقَّع ، وهو أنه إنهزم من جيوش الخليفة! ونقول : إن هذا شيء متوقَّع ؛ لأن الخليفة يقاتل بكلِّ طاقته ، وبجيش بغداد الذي يصل إلى ثلاثين ألف مقاتل ، بينما كان يتحرَّج عماد الدين زنكي من مثل هذا القتال ، وكل ما تخيَّله أنه سيذهب بقوَّة رمزيَّة إلى بغداد يكون هدفها فقط أن تعلن أن الموصل وبلاد الشام تقف إلى جوار الملك مسعود ، غير أن الصدام حدث ، وكان الخليفة جادًّا تمامًا في حربه ، ولعلَّه كانت تراوده أحلام الفكاك النهائي من السيطرة السلجوقيَّة على العراق !

وهُزم عماد الدين زنكي وجيشه ، وتفرَّق الجيش هنا وهناك ، وهرب عماد الدين زنكي في إتجاه الشمال ، ووصل إلى مدينة تَكريت ، وهي في المنتصف بين بغداد والموصل ، وكانت وراءه فرقة من الجيش العباسي تطارده ، وكان من الممكن أن تكون أزمةً كبيرة ، خاصَّة أن نهر دجلة كان يعوقه عن العبور للناحية الغربيَّة ليصل إلى مدينة الموصل ، لولا أن أمير قلعة تكريت عرف عماد الدين زنكي فأسرع بمدِّ المعابر على دجلة ، وأنقذه من الجيش العباسي ، بل وإستضافه في قلعته عدَّة أيام أصلح فيها شأنه ، وطمأن قلبه ؛ لأنه كان يشعر أن هذا الرجل هو أمل المسلمين ، وهو الذي يحمل راية الجهاد ضدَّ الصليبيين ، كل هذا مع أنَّ مدينة تكريت تابعة للخليفة العباسي ، وليس لأحد آخر ، ممَّا يعني أن هذا الرجل يخاطر بمنصبه في سبيل حماية عماد الدين زنكي .


بقي أن نعرف أن هذا الرجل هو نجم الدين أيوب بن شاذي ، وهو والد صلاح الدين الأيوبي ، ولم يكن صلاح الدين قد وُلد بعدُ في هذه الفترة ، ولكن كانت هذه الحادثة سببًا في التعارف والتآلف بين نجم الدين أيوب وعماد الدين زنكي ؛ مما مهَّد لأن يُرَبَّى صلاح الدين الأيوبي بعد ذلك في كنف أولاد عماد الدين زنكي ، وأهمّهم بالطبع هو نور الدين محمود .

فانظر إلى عجيب تدبير ربِّ العالمين ، ولو لم يكن هناك من فوائد لهذه الفتنة التي حدثت إلاَّ هذا التعارف لكفى به ، وصدق الله إذ يقول: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) .

وصلت أخبار هزيمة عماد الدين زنكي إلى الملك مسعود ، وكان حينها في مناوشات عسكريَّة مع أخيه سلجوقشاه ، فعلم أن الحلَّ العسكري لن يُجدي ، خاصَّةً أن جيوش السلطان سنجر بدأت تقترب من بغداد ، هنا إتَّفق الملك مسعود وأخوه الملك سلجوقشاه على الصلح ، وتراسلا مع الخليفة ليعرضا عليه رأيًا !

وكان الرأي هو أن يُعطى العراق للخليفة يحكمه عن طريق وكيل له يختاره ، وتُعطى السلطنة لمسعود ، وتعطى ولاية العهد لسلجوقشاه ، بمعنى أنه عند وفاة الملك مسعود يتولَّى سلجوقشاه ، وليس أحدٌ من أبناء السلطان مسعود .

ووجد الخليفة أن هذا الحلَّ أفضل من سيطرة السلطان سنجر ، وعلى ذلك وافق على هذا الرأي ، وقُطعت خطبة السلطان سنجر من العراق ، وصارت إلى السلطان مسعود !

وإقترب السلطان سنجر أكثر وأكثر من بغداد ، وهنا إضطر السلطان مسعود وأخوه الملك سلجوقشاه أن يجتمعا على حرب عمِّهما السلطان سنجر ، مع العلم أن أخاهما طغرل في جيش السلطان سنجر !

وكانت موقعةً عجيبة ، تقاتلت فيها أعداد هائلة ؛ حيث وصلت جيوش السلطان سنجر إلى مائة ألف فارس أو يزيد ، وكانت الغلبة فيها بوضوح للسلطان سنجر ، الذي إستدعى الملك مسعود بعد هزيمته ، فلما رآه قبَّله وأكرمه ، وعاتبه على عصيانه ، ثم أعاده إلى كنجة في بلاد فارس ، ووضع إبن أخيه طغرل في كرسيِّ السلطنة ، دون إعتبار بالطبع لرأي الخليفة ، الذي اضطرَّ أن يُعطيه السلطنة وهو كاره .. وهكذا صار سلطان العراق وفارس هو السلطان طغرل ، وذلك تحت رعاية السلطان سنجر ! وكانت هذه الوقعة العسكريَّة في 8 من رجب سنة 526هـ\ 1132م .

فهل هدأت الأحداث بهذه الزعامة الجديدة للسلطان طغرل ؟!

أبدًا ، إن الفتنة لم تقف ! فقلوب الجميع تغلي بالمشاكل ، وكلُّ واحد من هؤلاء تشغله هموم شتَّى، والأفكار تتزاحم في عقله، وتعالَوْا نأخذ استراحة سريعة بعد هذه الصدامات ؛ لنرى الوضع في أخريات هذه السنة ، خاصَّة أن هناك أحداثًا مهمَّة عاصرت هذه الفتنة لا بُدَّ من التعليق عليها ، فلنرقب معًا هذه الملحوظات العشر :

أولاً :
السلطان سنجر عاد إلى بلاده مسرعًا بعد وضع الملك طغرل في السلطنة ؛ لأن بلاد السلطان سنجر بعيدة ، وهي خراسان وبلاد ما وراء النهر ، أي في وسط آسيا ، وتَرْكُ السلطانِ لبلاده فترة طويلة قد يُغري بعضَ الطموحين بالثورة عليه .

ثانيًا :
الملك طغرل الآن يستمتع بكرسي السلطنة ، لكنَّ قوَّته بمفرده دون عمِّه ، لا شكَّ أنها ضعيفة ، فهذا قد يؤثِّر في موقفه ، وقد يُغري إخوانه بالإنقلاب عليه !

ثالثًا :
الملك مسعود خسر في معركة ضدّ السلطان سنجر ، لكنه لم يخسر جيشه ، فالسلطان سنجر كان رحيمًا به ؛ فأعاده وما يملك من جيوش إلى فارس .. ولا شكَّ أن رغبته في السلطنة لن تنقطع ، خاصَّة أنه كان أكبر من أخيه السلطان طغرل ، ولا يجد معنًى لإعطائه السلطنة دونه .

رابعًا :
الملك داود الذي كان سلطانًا وخُلِع ، لا بُدَّ أنه سيفكر في مصيره ؛ فهو إبن السلطان محمود الراحل ، وقد إستخلفه أبوه لكن أعمامه وجَدَّهُ صرفوا السلطنة عنه ، فهل سيهدأ ، أم سيناضل من أجل الكرسيِّ المسلوب ؟!

خامسًا :
الخليفة المسترشد يغلي غيظًا ؛ فالسلطان الآن هو طغرل بن محمد على غير رغبته ، ولا شكَّ أنه سيتحيَّن الفرصة للخلاص من سيطرة هذا السلطان الجديد .

سادسًا :
عماد الدين زنكي يتحسَّر على ما آلت إليه الأحداث ؛ لقد مرَّ الصليبيون بظروف صعبة جدًّا وقلاقلَ ، وسيمرُّون بظروف أخرى أكثر صعوبة ، وكانت الفرصة مواتية لهجوم شامل عليهم ، لولا الفتنة التي بدأت ، ولا يبدو لها من نهاية في القريب العاجل .

سابعًا :
في 21 من شهر رجب سنة 526هـ - أي في نفس الشهر الذي وُضع فيه السلطان طغرل في منصبه - تُوُفِّيَ بوري بن طغتكين أمير دمشق ، وخلفه إبنه إسماعيل بن بوري الملقَّب بشمس الملوك ، وكان رجلاً فاسدًا ظالمًا ، شديد الظلم ، إرتكب في حياته من القبائح والمنكرات ما أنكره عليه الجميع ، وصار يُقاتل كل مراكز القوى في بلده ؛ حتى أوقع الرهبة في قلوب كل الناس ، وكانت فتنة عظيمة على أهل دمشق !

ثامنًا :
حدثت فتنة بين شمس الملوك إسماعيل بن بوري حاكم دمشق وأخيه شمس الدولة محمد بن بوري أمير بعلبك ، وصار بينهما قتال كبير ، إنتهى بإستيلاء شمس الملوك إسماعيل على حصنين مهمَّين في شمال دمشق ، بينما أقرَّ أخاه شمس الدولة محمد على حكم بعلبك ، وكانت هذه الفتنة فرصة لتدخُّل عماد الدين زنكي ليضمَّ دمشق إلى حكمه ، لولا الفتنة الأشدُّ التي كانت تدور في العراق ..

تاسعًا :
تأزّم الموقف أكثر في أنطاكية ! لقد قامت الأميرة المتمردة أليس بنت الملك الراحل بلدوين الثاني بمؤامرة للسيطرة على الحكم في أنطاكية ؛ حيث قامت بالإتِّفاق مع ثلاثة أمراء صليبيين على مساعدتها في الوصول إلى الحكم في أنطاكية مستغلَّة حداثة خبرة الملك فولك الأنجوي بالشرق الإسلامي ، ولم تكن خطورة المؤامرة فقط في الخروج عن طوع الملك فولك وتسيير الإمارة وَفق أهواء امرأة غير ناضجة كأليس ، ولكن كانت خطورتها في أسماء الأمراء الثلاثة الذين وافقوا على مؤامرة أليس ؛ فهم : جوسلين الثاني أمير الرها ، وبونز بن برترام أمير طرابلس ، إضافةً إلى وليم وهو أمير أحد حصون اللاذقية التابع إلى إمارة أنطاكية ، وهو حصن صهيون .

ووجه الخطورة أن هذه المؤامرة ستؤدِّي إلى إنشقاق كبير في الصفِّ الصليبي ؛ حيث تتعاون الإمارات الثلاث في قضية ضدَّ المملكة الرئيسية ، وهي مملكة بيت المقدس .


ولقد شعر بعض فرسان أنطاكية بالمؤامرة ، وراسلوا الملك فولك الأنجوي الذي جاء مسرعًا على رأس جيشه ليُحبط مؤامرة الأميرة المتهوِّرة ، إلاَّ أن بونز أمير طرابلس إعترض طريقه في لبنان ، ومنعه من إكمال المسيرة ، فحدث قتال بين جيش بيت المقدس وجيش طرابلس ، وهي المرَّة الأولى منذ نزول الجيوش الصليبية في أرض الشام وفلسطين التي يحدث فيها قتال بينهم ، وإضطرب الوضع جدًّا ، وإنسحب الملك فولك من أرض المعركة ، ولكنه إستطاع الوصول إلى أنطاكية عن طريق البحر من ميناء بيروت ، ودخلها بالفعل ، وأحبط المؤامرة ، لكنَّ بونز أسرع إلى أنطاكية ليحاول تثبيت دعائم الأميرة أليس ، إلاَّ أنه حدث قتال كبير بينه وبين الملك فولك انتهى بهزيمة كبيرة لأمير طرابلس ، وإستقرار الأوضاع في أنطاكية لصالح الملك فولك الذي وَضَعَ على أنطاكية أميرًا من طرفه هو رينو ماسوير Renaud Masoier , لقد كانت أزمةً كبيرة كان من الممكن أن تُستغلَّ لصالح المسلمين ، لولا أن المسلمين كانوا منشغلين بفتنتهم !

عاشرًا :
لم تكن هذه هي الأزمة الوحيدة التي مرَّ بها الصليبيون ، بل كانت هناك أزمة أخرى لعلَّها أشدّ ، حيث حدث تصادم عسكري داخلي في مملكة بيت المقدس بين الملك فولك الأنجوي والأمير هيو الثاني أمير يافا .. وسبب الصدام هو إكتشاف الملك فولك الأنجوي أن زوجته الملكة ميلزاند بنت الملك بلدوين الثاني كانت تخونه مع الأمير الشابِّ هيو الثاني ! وكانت نتيجة الصدام بالطبع هو أسر الملك هيو الثاني ، وجرحه جراحة خطيرة ثم ترحيله إلى صقلية ، حيث مات هناك بعد قليل .

ومع أن الشرع النصراني يقضي بإمكانية أن يُطَلِّق الملك فولك الأنجوي زوجته لثبوت الخيانة الزوجيَّة عليها ، إلاَّ أن الملك فولك الأنجوي كان يعلم أن تطليقها يعني ذهاب المُلْكِ ؛ لأنه يحكم بيت المقدس إنتسابًا لبنت الملك الراحل بلدوين الثاني ، وعليه فحتَّى لو حُوكِمَت الملكة ميلزاند ، فإن الحكم سينتقل إلى إحدى أخواتها ، وبالتبعية إلى زوجها ؛ ومن هنا آثر الملك فولك الأنجوي أن يغضَّ الطرف ، وأن يأمر زوجته أن تستغفر لذنبها ! بل إنه بدأ يسترضيها بشكل مبالغ فيه ؛ لأنها أظهرت الغضب الشديد عليه لقتله عشيقها !


ومن هذه المبالغات التي فعلها الملك فولك الأنجوي أنه إضطر لموافقة الملكة ميلزاند على إعادة أختها الأميرة أليس إلى حكم أنطاكية بدلاً من الأمير رينو ماسوير ! وبهذا لم يتنازل الملك فولك الأنجوي عن كرامته فقط ، بل تنازل أيضًا في مسألة الأميرة أليس - والتي كان صارمًا جدًّا فيها قبل ذلك - عن أمن وسلامة أنطاكية حين وافق على إمارة الأميرة الطموحة أليس ، هذا بالإضافة طبعًا إلى تنازله تمامًا عن نخوته كرجل ، أو فطرته كإنسان !

إذن كان الوضع في أواخر سنة 526هـ يبشِّر بتصدُّع داخلي في الصفِّ الصليبي ، ولولا إنشغال المسلمين بأزماتهم الداخليَّة في العراق لكان الوضع مختلفًا تمامًا ، ولْيُدْرِك المسلمون الأثمان الباهظة التي تدفعها الأُمَّة نتيجة الفُرقة والتشتُّت .

أمَّا بالنسبة لبطلنا عماد الدين زنكي فقد إضطرَّ أن يمكث بجيشه في الموصل قرب الأحداث الساخنة في بغداد ، حيث إن هذه الأحداث من الممكن أن تُغَيِّر كل الأنظمة والأوضاع ، وإكتفى بمناوشات بسيطة مع الصليبيين عن طريق أمير حلب الأمير سوار ، وهو أمير من أمراء دمشق الذين هربوا منها سنة 524هـ ، فإستقطبه عماد الدين زنكي ، وأقطعه حلب وأعمالها ، وكان من المجاهدين الأشداء ، الذين أبلَوْا بلاءً حسنًا في منصبهم طيلة حياة عماد الدين زنكي .

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس