عرض مشاركة واحدة

قديم 03-11-20, 05:46 AM

  رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 


دوافع متناقضة

لكل تلك العوامل؛ كان البعد التجاري والدافع الاقتصادي في كل مراحل الحروب الصليبية حاضرا بقوة، وكان من مكوِّني جيوش الصليبيين جماعات "التجار الذين يبحثون عن أسواق لبضائعهم"، كما اشترطت البندقية الإيطالية على قادة تلك الحروب أن تختص "بنصف الغنائم الحربية" مقابل "أن تمدهم بخمسين سفينة حربية"! هذا رغم "أن البنادقة لم يكن في عزمهم أن يهاجموا مصر؛ فقد كانوا يكسبون منها الملايين في كل عام بما يصدرونه إليها من الخشب والحديد والسلاح، ولم يكونوا يريدون أن يخاطروا بضياع هذه التجارة بالاشتراك في الحرب، أو باقتسامها مع بيزا وجنوى".

ويحدثنا الرحالة ابن جبير الأندلسي (ت 614هـ/1217م) -في مواضع من رحلته- عن اتساع النشاط التجاري بين المسلمين والصليبيين بعد استيطانهم سواحل الشام، وكيف أن هذا النشاط لم يكن في زمنه متأثرا بأجواء الحروب المتكررة في جغرافيته، في صورة أخرى من صور التعايش الديني حتى ولو كان بين الأعداء بإملاء من عامل توازن الردع. فابن جبير يذكر مثلا أن "تجار النصارى.. لا يُمنَع أحدٌ منهم ولا يُعترَض، وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم (= مستعمراتهم)..، وتجار النصارى أيضا يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم، والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال، وأهل الحرب مشتغلون بحربهم والناس في عافية..، ولا تُعتَرَض الرعايا ولا التجار، فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحوال سِلْمًا أو حرباً"!!
ورغم ذلك؛ لم تكن تجارة الصليبيين مع المسلمين بتلك المرونة لأن رجال الدين المسيحيين كانوا لها بالمرصاد، إذ كثيرا ما أصدر بابوات الفاتيكان قرارات "الحرمان الكنسي من الغفران" بحق التجار المسيحيين الذين يتاجرون مع المسلمين. ويبدو أن ذلك ازدادت وتيرته عقب زمن الرحالة ابن جبير مع توالي فشل الحملات الصليبية الموجهة إلى الشام ومصر منذ الربع الثاني من القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي، وصولا إلى توقفها نهائيا -مع نهاية ذيْنك القرنين- نحو خمسة قرون.
فالمستشرق الفرنسي روبار برنشفيك (ت 1411هـ/1990م) يؤكد -في كتابه ’تاريخ إفريقية/تونس في العهد الحفصي‘- أن التجار المسيحيين كثيرا ما خضعوا "لقرارات الحظر الصادرة عن الكنيسة بخصوص إمداد المسلمين بأية مادة من شأنها أن تساعد أولئك ‘الكفار‘ في حربهم ضد أنصار المسيح، ولقد طبقت بعض الدول النصرانية مرارا وتكرارا قرارات الحظر المذكورة الصادرة عن الكنيسة، ولدينا عدة أمثلة من ذلك المنع الصادر عن بعض الحكومات الأوروبية ضد رعاياها الذين يتاجرون مع إفريقية".
ويفيدنا برنشفيك "أن قرار المنع الأكثر تفصيلا هو ذلك الصادر عن ملك أرغون خايمي الأول (ت 675هـ/1276م) ضد إفريقية؛ ففي 12 أغسطس/آب 1274م (= 673هـ) ذَكَّر الملكُ القطلونيين -الذين رخّص لهم في التحول إلى تونس- بالقرار الذي اتخذه في برشلونة.. بخصوص منع إمداد المسلمين بالمواد التالية: الأسلحة والحديد والخشب والقمح والشعير والذرة البيضاء والدخن والفول ودقيق كل الحبوب وحبال القنب، أو غير ذلك من المواد الصالحة لصنع حبال السفن والرصاص".
وتذكرنا قائمة هذه السلع الممنوعة بما تُصْدره اليوم القوى الدولية العظمى من قوائم حظر تجاري تستهدف إضعاف اقتصاد "الدول المارقة" لإخضاعها لسياسات ومواقف معينة!! ويضيف روبار أن ملكا أرغونياً آخر هو خايمي الثاني (ت 727هـ/1327م) أصدر قرارا مماثلا سنة 720هـ/1320م يمنع التجارة مع أهالي تلمسان غربي الجزائر.


نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


خطة شاملة

والحقيقة أن خطة الصليبيين الأكثر تفصيلا والأشد شراسة في مقاطعة المسلمين وحصارهم اقتصاديا هي تلك التي سطّرها أحد أبناء جزيرة البندقية اسمه مارينو سانوتو المعروف بلقب تورسيللو (ت 744هـ/1343م) في دراسة بعنوان: ’كتاب الأسرار للصليبيين الحقيقيين لمساعدتهم على استرداد الأرض المقدسة‘، وقدّمها سنة 721هـ/1321م إلى البابا يوحنا الثالث والعشرين (ت 734هـ/1334م).

ويكشف لنا مؤرخ الحروب الصليبية سهيل زكّار (ت 1441هـ/2020م) -في ’الموسوعة الشاملة عن الحروب الصليبية’- حيثيات تأليف كتاب تورسيللو والظروف التي أنتجته؛ فيقول "إن تحرير عكا سنة 690هـ/1291م كان حدثا هائلا شمل الغرب الأوروبي كله، وهنا شرع رجال الكنسية ورجال الحكم والسياسة وأرباب الفكر والقلم، كل بدوره يعمل في سبيلِ مشروعِ حملةٍ صليبيةٍ، مع اقتناعهم أن طريق فلسطين يمرّ عبر مصر التي فشلت كل المحاولات السابقة لاحتلاها".
ومن هنا جاءت أهمية كتاب تورسيللو الذي يبدو أنه -بعد قرابة خمسة قرون من صدوره- ألهم الإمبراطورَ الفرنسي نابليون بونابرت (ت 1236هـ/1821م) القيامَ بأول حملة استعمارية صليبية -بعد استعادة عكّا- على المشرق الإسلامي، انطلاقا من غزوه مصر وسواحل الشام لإخضاعها وضمها سنة 1212هـ/1797م!!
ويخبرنا مؤلف هذا الكتاب الخطير وواضع خطة المقاطعة الاقتصادية الشاملة للمسلمين عن حيثيات تأليف كتابه وكيفية دخوله على البابا الذي قدم "له نسختين حول استرداد الأرض المقدسة والحفاظ على المؤمنين نسخة مغلفة باللون الأحمر، والثانية بصليب"، كما قدم له أربعة مصورات جغرافية توضيحية؛ المصور الأول: عن البحر الأبيض المتوسط، والثاني: عن الأرض والبحر، والثالث عن الأرض المقدسة، والرابع: عن أرض مصر.
أما الدافع الحقيقي لتأليف الكتاب فيقول عنه تورسيللو: "ولست متقدما إلا بمحض إرادتي لأريكم كيفية إذلال أعداء الإيمان المسيحي، وهزيمة سلطان القاهرة (= الناصر محمد بن قلاوون ت 741ه/1341م) و[حليفه وصهره سلطان مغول القوقاز] أوزبك خان (ت 742هـ/1341م)، الذي اشتهر عند جنوب الأرض أنه لا يُهزَم"! كل ذلك "بنفقة زهيدة، لا بل بدون نفقة"!! وبعد تقديم التقرير والخطة يخبر تورسيللو سيده البابا بأن له التقدير النهائي في "إبادة الأمة الإسلامية التي نشرها محمد (ﷺ)، ولتعلم قداستكم أن هذا ممكن تحقيقه حسبما سيتضح.. لكم من خلال هذا الكتاب".
لم يكن كتاب هذا الصليبي الإيطالي -الذي عاش زمنا داخل الكنيسة- مجرد تنظير بارد، بل كان خلاصة تجارب ثرية وصعبة في أحايين كثيرة؛ وقد لخّصها هو بقوله: "في سبيل مشروعي هذا كنت قد عبَرت البحر خمس مرات؛ حيث ذهبت مرة إلى قبرص، وثانية إلى أرمينيا، وثالثة إلى الإسكندرية، كما ذهبت إلى رودس، وكنت -قبل أن أقوم بهذا كله- قد أقمت مدة طويلة في كل من الإسكندرية وعكا، وذلك دون خرق للحظر الذي فرضته الكنيسة..، ولهذا أعدّ نفسي مطّلعا بشكل جيد على كل أحوالها".
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


اهتمام بالغ

ولشدة اهتمام البابا بهذا الكتاب وما تضمنه من تفاصيل شكَّل لجنة من "الإخوة الرهبان" لدراسته وتقديم تقرير عنه، وقد رأت اللجنة "اعتمادا على محتوى الكتاب أن من الممكن تجهيز كل ما هو لازم بطريقة لائقة من أجل ركوب البحر والعبور إلى مصر، وذلك ما سيضعف موارد السلطان وستنشلّ قواه ومقوماته، كما أن المواد (= السلع) التي يستوردها المسيحيون عادة من البلدان الخاضعة للسلطان من الممكن الحصول عليها من بلدان أخرى، وعندنا أن هذا سهل تحقيقه"!

أما مضمون كتاب تورسيللو فهو خطة حصار اقتصادي صليبي محكم للعالم الإسلامي مقتضاها أنه يجب "الوقوف في وجه الذين يسعون نحو بلاد السلطان لابتياع الأصناف النادرة وبقية أنواع البضائع، ومن ثم نقلها عبر البحر الأبيض المتوسط". ويقترح المؤلف عدة بدائل للأوربيين بأن يذهبوا إلى الهند عبر الأراضي التي يسيطر عليها التتار عن طريق بغداد، مع لغة ترويجية ماكرة للبضائع المحمولة عبر طرق بلاد التتار.
يتألف الكتاب من عدة أقسام وفصول يغني الوقوف على أفكارها الكبرى عن بقية الكتاب، وكلها تأليب للبابوات والقادة الصليبيين على محاصرة المسلمين اقتصاديا وخصوصا أهل مصر؛ فالقسم الأول من الكتاب مثلا "يشتمل على توضيح طُرُق إضعاف قدرة السلطان وتبيان قدرة "المؤمنين بالمسيح" على استيراد المنتجات اللازمة دون الاضطرار للذهاب إلى "الأراضي الخاضعة للسلطان"!!
وبينما يتمحور القسم الثالث من الكتاب حول "البضائع التي يحتاجها المسلمون والتي لا بد لهم من الحصول عليها من الخارج"؛ يركز القسم الرابع على "وجوب إيجاد إجراء للمقاطعة أنفع من الإجراء الحالي.. لتدمير المسلمين، وكيفية العمل لمنع أية أعمال تجارية على الإطلاق مع البلاد الخاضعة للسلطان [قلاوون] عبر البحر المتوسط"!!
وفي الفصول العديدة التي توزعت عليها أقسام الكتاب؛ يقدم تورسيللو البندقي قائمة بـ"المنتجات التي نحتاجها.. من بلاد السلطان ويمكن الحصول عليها من بلاد المسيحيين"، موضحا أن المسلمين يجنون من ذلك أموالا كثيرة "وإذا توقف المسيحيون عن ذلك فإن هذا يلحق بالسلطان والمسلمين ضررا كبيرا بالغا".
ويتطرق "للأضرار التي سوف تلمّ بالسلطان وبالشعب الخاضع له في حال إيقاف تصدير الذهب والفضة والحديد وبقية أنواع المعادن وغير ذلك من المنتجات إليهم"، ثم يشرح "الخسائر الفادحة والنفقات الكبيرة التي ستتوجب على السلطان وستنزل به إذا أوقِف تصدير المواد الغذائية والمنتجات المتنوعة من بلاد المسيحيين إلى بلاده".
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


حظر "مقدّس"

ولإقناع المسيحيين بوجوب المقاطعة الاقتصادية للمسلمين وسلاطينهم؛ يعتني تورسيللو بتفصيل "الأسباب المسوغة لمنع أي مسيحي من شراء أية بضائع مجلوبة من البلدان الخاضعة للسلطان مهما كانت الطرق التي جاءت بها"! ولم يكتف بانتهاج الأسلوب الإقناعي بل مزجه بالمنزع التخويفي حين جعل أحد فصول كتابه جوابا لسؤال: "لما ذا يتوجب على جميع المسيحيين مطاردة المخالفين لأوامر الكنيسة في هذا المجال في كل مكان، وليس فقط في البحر بل وفي البر"؟

وفي الأخير شرَح واضعُ خطة المقاطعة الاقتصادية الشاملة للعالم الإسلامي "العقوباتِ المتوجب إنزالها بالأمراء وبحكام المناطق وبالجماعات التي لا تلتزم بهذه الإجراءات فتستقبل تلك البضائع في مراسيها أو في أراضيها"، وانتقل من تقنين العقوبات إلى "مراقبة البحر وحراسته وكيفية تأهيل الجهاز الأمني الأول للمسيحيين -أي الجيش- للحرب، ومقدار التكاليف" المترتبة على ذلك.
ولفت تورسيللو انتباه مطالعي خطته إلى أن "الشخص الذي سوف تتولى كنيسة الرب المقدسة الأمر بتعيينه قائدا قد يتمكن من أن يوجب على المسلمين القاطنين في تلك المناطق الامتناعَ عن تصدير أو استيراد أية سلعة من الأراضي التابعة للسلطان" المسلم! فالمحاصرة الصليبية هنا لم تعد مقتصرة على منع أتباع الكنيسة من استيراد بضائع المسلمين، وإنما صارت تشمل منع المسلمين من استيراد بضائعهم "الحلال"!!

ولئن كانت هذه الخطة الصليبية قُدِّمتْ للبابا وتأمَّلها وأمر بدراسة إمكانية تنفيذها؛ فإن ثمة قرارات بـ"الحرمان الكنسي" من "الغفران المسيحي" صدرت من جهة البابوات أنفسهم، تلك القرارات التي تكاثرت عقب استعادة عكّا التي أظهرت استحالة نجاح الحملات الصليبية العسكرية، وفتحت الطريق لممارسة أسلحة المقاطعة الاقتصادية باعتبارها "أضعف الإيمان"، لاسيما مع ازدهار التبادل التجاري بين البلدان الإسلامية والدول/المدن التجارية الأوروبية مثل البندقية وجنوى.
وقد لخّص لنا الدكتور العراقي إيلاف عاصم مصطفى -في بحثه ’دوْرُ البابوية والقرصنة في شل حركة التجارة الشرقية في البحر الأبيض المتوسط 1292-1498م’ (= 691-803هـ)- أشهرَ القرارات البابوية المتعلقة بمقاطعة المسلمين تجاريا؛ وذلك بدءا من عهد "البابا نيقولا الرابع (1288-1292م) الذي عمل على قطع أي علاقة تجارية بين تجار مصر وتجار البحر الأبيض المتوسط، وبعدها جاء البابا بونيفاس الحادي عشر (1303-1306م) الذي عمل على إصدار قرارات تفرّق بين المنتوجات المصدرة إلى مصر، مثل المنسوجات مقابل الفلفل الذي يحتاجه الأوروبيون في فصول الشتاء القارس".
ويذكر الدكتور إيلاف أن "البابا كلمنت الخامس (1305-1314م) أصدر قرارا بمنع إرسال كل السلع إلى مصر سواء كانت تجارية أو عسكرية، ومن يخالف ذلك يتعرض لأشد أنواع الحرمان الكنسي في ذلك العصر"، كما "أمر البابا يوحنا الحادي والعشرون (1316-1334م) ملكَ قبرص هيو الرابع (1301-1325م) عام 1323م بقطع كل الطرق التجارية في البحر المتوسط أمام أي سفينة تحاول الاتجار مع المصريين والدولة المملوكية، وذلك بإعطائهم حق القرصنة".
ووفقا لما يستخلصه المستشرق برنشفيك؛ فإن الثابت الأهمَّ في قرارات "الحرمان البابوي" هو أن التجار والملوك لم يلتزموا بها في معظم الأحيان، إذ "كانت الدول النصرانية تتردد في مخالفة تلك القرارات، من ذلك مثلا أن جنوى حين أرادت 1452م (856هـ) توجيه بعض الأسلحة إلى تونس رأت من واجبها أن تسترخص البابا"، أي تطلب منه ترخيص ذلك.

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس