عرض مشاركة واحدة

قديم 04-03-14, 04:37 AM

  رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 


نور من شمال العراق !!


لقد مرت بنا كما رأينا لحظات عصيبة سواء في الشام أو آسيا الصغرى، ورأينا الاحتلال البغيض يضرب جذوره هنا وهناك ، ورأينا تخاذلاً كبيرًا من المسلمين ، وتهاونًا شنيعًا في الحقوق والمقدسات ، وحتى عندما رأينا نصرًا على الصليبيين ، كذلك الذي حدث في سنة (494هـ) 1101م رأينا خلفه صراعًا على الأرض بل حربًا معلنة بين الزعيمين المسلمين قلج أرسلان وغازي بن الدانشمند !

ولقد كان الوضع في الشام أكثر ترديًا من الوضع في آسيا الصغرى، فلم نألف مقاومة ولا دفاعًا، بل رأينا التسليم والإذعان وطلب المودة والصداقة مع زعماء الصليبيين ، مع كل ما ارتكبوه من مجازر ومذابح راح ضحيتها عشرات الآلاف من المسلمين ، بل يزيد , لكن هل يأتي زمانٌ على الأمة الإسلامية ينقطع فيه الخير، فلا يبقى مصلح ، ولا يظهر تقي ؟! إنَّ هذا أبدًا لا يكون !!

والذين يدعون إلى هذا اليقين ليس مجرد استنباط من حقائق التاريخ ، أو مجرد أمل ينقصه الدليل ، إنما هو وعدُ حقٍّ بشرنا به رسولنا حين قال : " لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ" .

فالخير لا ينقطع من الأمة أبدًا ، ولا بد له من ظهور وسيادة ، وسيظل هناك دومًا من يحمل الراية ، ويحض على الفضيلة ، ويتمسك بالشرع ، ويحب الجهاد ، وسيظل هناك دومًا من يسعى إلى تحرير الأرض ، وحفظ العرض ، وردِّ الحق ، ولن يأتي زمان أبدًا تموت الهمة فيه أو تختفي , نعم وقد تضعف وتخبو ، ولكنها تظل دومًا باقية .

والذي ينظر إلى الأحداث أيام الحروب الصليبية يرى أمرًا لا يخفى على دارس ، وإن كان لم يأخذ نصيبه من التحليل والفقه .

وهذا الأمر هو كل حركة جهادية ، أو دعوة إصلاحية في هذه الفترة كانت تخرج من منطقة شمال العراق ! هذا في الوقت الذي خفتت فيه إلى حد كبير دعوات الجهاد في الشام ومصر وآسيا الصغرى، فهل هذه حقيقة ؟ وإن كانت كذلك فما السر وراءها ؟ إننا رأينا في ثنايا القصة خروج كربوغا أمير الموصل في جيش كبير لنجدة أنطاكية عند حصارها سنة (490هـ) 1097م ، ورأينا حصاره لإمارة الرها وهو في طريقه لأنطاكية ، ورأينا سعيه إلى جمع أمراء الشام في حرب مشتركة ضد الصليبيين ، ورأينا كيف خذلوه وتخلوا عنه، كلٌّ منهم بسبب أو عذر ، ولهذا لم يكتب لحملته النجاح كما رأينا ، لكنه على العموم كان الوحيد الذي قطع المسافات لحرب الصليبيين .

وسنرى بعد قليل غيره وغيره ممن سيحمل راية الجهاد ضد الصليبيين، بل سيخرج من نفس المكان عماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي، وهم جميعًا أغنياء عن التعريف أو الوصف .

لماذا حدث كل هذا في هذا المنطقة، ولم نره في بلاد الإسلام الأخرى ؟!إننا لكي نفقه هذه الملاحظة لا بد لنا من العودة إلى التاريخ القريب لهذه المناطق ، وندرس الفارق بينه وبين تاريخ المناطق الأخرى ، ومن ثَمَّ نستطيع أن نفهم جذور هذه الحركات الجهادية والإصلاحية .

إننا إذا عدنا إلى منتصف القرن الخامس الهجري - أي قبل الحروب الصليبية بخمسين سنة تقريبًا - سنجد طغرل بك زعيم السلاجقة السني يدخل بغداد مخلِّصًا إياها من الحكم الشيعي المستبد والمتمثل في بني بويه ، وذلك بالتحديد في سنة (447هـ) 1055م , وكان طغرل بك - كما يصفه ابن الأثير - حليمًا عاقلاً من أشد الناس احتمالاً ، وكان يقول عنه أيضًا : "وكان رحمه الله يحافظ على الصلوات ، ويصوم الاثنين والخميس" .

ثم ملك من بعده ابن أخيه البطل الإسلامي الفذ ألب أرسلان الذي ملأ الدنيا عدلاً ورحمة وجهادًا وعلمًا ، ويصفه ابن الأثير بكلام جليل فيقول : " وكان كريمًا عادلاً عاقلاً ، لا يسمع السعايات (أي الوشايات)، وإتسع ملكه جدًّا ، ودان له العالم ، وبحقٍّ قيل له سلطان العالم ، وكان رحيم القلب ، رفيقًا بالفقراء ، كثير الدعاء ، وكان شديد العناية بكفِّ الجند عن أموال الرعية " .

رجل كهذا كان يحكم بلاد المسلمين ، وكان مركز حكمه وسلطانه في منطقة فارس والعراق ، وشمل عدله كل هذه الديار ، وحقَّق نصرًا غاليًا على الدولة البيزنطية في موقعة ملاذكرد سنة (463هـ) 1070م ، ما زالت الدنيا تتحدث عنه إلى يومنا هذا ، ولا شك أن هذا ترك أثرًا لا ينسى في شعبه ، وعلَّمه قيمة الجهاد في سبيل الله وأثره .

ولم يكن ألب أرسلان وحده هو الذي يربِّي هذا الشعب ، بل أنعم الله عليه بوزير من أعظم الوزراء في تاريخ الإسلام ، وهو من بطانة الخير التي تحض دائمًا على الخير ؛ قال رسول الله : "مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلاَّ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ" .

هذا الوزير العظيم هو نظام الملك الطوسي الذي كان من العلماء الأجلاء ، ومن المدافعين عن الشريعة والسنة ، ومن المحفِّزين على الجهاد والبذل، ومن الأشداء في الحق ، الرحماء مع الرعية ، وكان مثالاً يُحتذى في كل مكارم الأخلاق ، وكان اهتمامه بالعلم جليلاً وعميقًا ، وظل وزيرًا لألب أرسلان حتى وفاة ألب أرسلان في (465هـ) 1072م، ثم صار وزيرًا لابنه ملكشاه الذي إتسع ملكه حتى وصل إلى الصين والهند شرقًا ، وإلى الدولة البيزنطية والشام غربًا ، وكان ملكشاه على نهج أبيه ألب أرسلان محبًّا للعلم ، موقِّرًا للعلماء ، مقدِّرًا لقيمة الوزير الجليل نظام الملك ، حتى إنه قال له عند بداية حكمه : " قد رددت الأمور كلها كبيرها وصغيرها إليك ، فأنت الوالد " .

ثم إن نظام الملك أسدى للأمة الإسلامية فائدة عظيمة هي من أجلِّ أعماله ، إذ قام بإنشاء عدد كبير من المدارس في كل أنحاء الدولة نسبت إليه ، فعرفت بالمدارس النظامية (نسبةٌ إلى نظام الملك) ، وهي نوع من المؤسسات العلمية التي هُيِّئ فيها للطلاب أسباب العيش والتعليم، حيث كان يجري فيها على طلبة العلم الرواتب الشهرية ، وكان يهتم بجلب أكابر العلماء للتدريس فيها، فدرَّس فيها مشاهير الفقه والحديث وسائر العلوم ، وكان من أهمِّ أدوارها مقاومة المد الشيعي ، والفكر الباطني الذي كان منتشرًا في كثير من البلاد آنذاك ، وعلى قمة البلاد التي كانت تحت الحكم الشيعي آنذاك مصر والشام .

وظل الوضع على هذه الصورة حتى قُتل نظام الملك سنة (485هـ) 1092م على يد الشيعة الإسماعيلية الباطنية، أي قبل الحروب الصليبية بست سنوات فقط .

ومن الجدير بالذكر أن السلطان العظيم ملكشاه تُوفِّي بعد وزيره نظام الملك بأكثر من شهر بقليل ! ولا أشك أنهما لو كانا في زمان الحروب الصليبية ما تركا بلاد المسلمين تنهب على هذه الصورة ، ولكن قدَّر الله وما شاء فعل ، ورحمهما الله رحمة واسعة .

ولكن إن ذهب هؤلاء العظماء فإن أثرهما لم يذهب، فإنهما أورثا البلاد التي كانت تحت حكمهم حب الشريعة والدين ، ولعل من أبرز المعاني التي ارتفعت في زمانهما معنيين : العلم والجهاد ، ولا ترفع أمة إلا بهما ، ولا تذل أمة إلا بتركهما ، وهي معاني لا تزول بسرعة ، بل تظل محفورة في الأذهان حتى بعد موت الداعي لها بزمان وزمان .

كان هذا هو الحال في منطقة فارس والعراق وما حولها ، وهو ما عرف في التاريخ بدولة السلاجقة العظام ، والتي ورثها بعد موت ملكشاه ابنه بركياروق الذي كان حليمًا كريمًا صبورًا عاقلاً إلا أنه لم يكن على مستوى أبيه وجَدِّه ، وكثرت في عهده الفتن والصراعات ، وفي عهده دخل الصليبيون أرض الإسلام ، ومع كثرة انشغاله في الصراعات الداخلية فإنه لم يتردد في إرسال كربوغا أمير الموصل لنجدة أنطاكية كما مر بنا .

وإذا كنا نذكر أن هذا هو حال البلاد التي كانت تحت حكم السلاجقة العظام بصفة عامة، فإننا نذكر أن معظم الحركات الجهادية والإصلاحية كانت تخرج من شمال العراق ؛ وذلك لأنها أقرب الإمارات للشام وآسيا الصغرى ، فإمارة الرها تقع في غرب إمارة الموصل وفي جنوبها ، وعلى هذا فقد تحمَّل شمال العراق عبء إخراج المجاهدين والعلماء إلى هذه البلاد المنكوبة، بينما كانت جهود بقية بلاد السلاجقة العظام التي تتمثل في فارس وما حولها ، موجهةً إلى شرق العالم الإسلامي لمواجهة الاضطرابات الناجمة عن الوثنيين من الأتراك أو الهنود .

ومما يلفت الأنظار أيضًا في هذه البلاد في شمال العراق أن الشعب نفسه كان مقدِّرًا لقيمة العلماء، وكان قادرًا على تقييم الحاكم في ضوء الشريعة ، فيقف إلى جوار من ينصر الشرع والدين ، ويقف في وجه من يظلم ويتجاوز حدود الشريعة .

ولنا أن نضرب مثلاً من حياة العلماء في منطقة شمال العراق لنرى قيمتهم وأثرهم ، وليكن هذا المثل هو العالم الجليل (عديّ بن مسافر) .

ولعل الكثير من المسلمين لم يسمع عنه أصلاً، ولكنه كان من العلماء الأفذاذ الذين عاصروا بدايات الحروب الصليبية ، وكان يعيش في منطقة شمال العراق عند جبال هكار بين قبائل الأكراد الهكارية ، وكان هذا العالم كما يقول ابن تيمية : " كان رجلاً صالحًا ، وله أتباع صالحون " , بل يقول عبد القادر الجيلاني في حقه كلمة عجيبة حيث قال: "لو كانت النبوة تنال بالمجاهدة ، لنالها الشيخ عدي بن مسافر !" .

وكان الشيخ عدي قد بنى له مدرسة يُعلِّم الناس فيها ، وكما يقول ابن كثير : "فأقبل عليه سكان تلك النواحي إقبالاً هائلاً ؛ لما رأوا من زهده وصلاحه وإخلاصه في إرشاد الناس". ويقول ابن خلكان: "وسار ذكره في الآفاق، وتبعه خلق كثير" , بل يذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء أن دعوة الشيخ عدي أدت إلى إنتشار الأمن في تلك المنطقة ، وإرتدع مفسدو الأكراد وتابوا .

وهذا مجرد مثال لتقدير الشعب لقيمة العلماء، ولفقههم لأهمية الشريعة ، وهذا انعكس بدوره على تفاعلهم مع القادة العسكريين والسياسيين ، فمن كان منهم معظِّمًا للشريعة مطبِّقًا لها، كان مطاعًا عندهم ، محبوبًا إلى قلوبهم ، ومن كان غير ذلك كان مكروهًا مذمومًا يتحين الجميع فرصة لعزله وإقصائه , إنها طبيعة شعب يُرجى من ورائه خيرٌ كثير .

وإذا كان بروز السلاجقة واضحًا جدًّا في هذه المنطقة ، وأثرهم لا يغفل أبدًا، فإن هناك من ظهر إلى جوار السلاجقة ، وأسهم معهم إسهامًا واضحًا في الحفاظ على روح الجهاد في سبيل الله ، ومن أهم هذه الطوائف الأراتقة والأكراد .

أما الأراتقة فهم من نسل أرتق التركماني ، وهو من قبائل الأتراك أيضًا ، وكان من القواد السياسيين البارزين لملكشاه السلطان السلجوقي العظيم ، وتقلد كثيرًا من المناصب كان آخرها ولاية بيت المقدس حيث تُوفِّي بها سنة (484هـ) 1091م ، تاركًا ولدين من بعده هما : سُقمان وإيلغازي، اللذان حكما بيت المقدس لفترة وجيزة حتى سقط تحت الاحتلال العبيدي (الفاطمي)، وذلك أثناء الغزو الصليبي ، وتحديدًا في سنة (491هـ)\ 1097م ، مما جعلهما يرحلان إلى الشمال ، حيث ذهب إيلغازي إلى بغداد ليكون في خدمة السلطان السلجوقي بركياروق ، بينما إتجه سقمان إلى منطقة ديار بكر في شمال العراق ليؤسس هناك إمارة إسلامية تابعة للسلاجقة ، وأهم مدنها ماردين وحصن كيفا (في جنوب تركيا الآن) .

وكان لهذين الزعيمين نخوة إسلامية واضحة، وكذلك لابن أخيهم بَلْك بن بهرام ، وكان لهم جميعًا أثرٌ في حروب الصليبيين ، سنراه مع تتابع الأحداث .

أما الأكراد فهم شعب عظيم من شعوب الإسلام ، ينتمي - غالبًا - في جذوره إلى مجموعة القبائل الهندوأوربية ، والتي هاجرت إلى مناطق شمال العراق وجنوب تركيا وشرق إيران قبل الميلاد بألفي سنة .

وقد دخلت هذه القبائل الكبيرة في الإسلام منذ أيامه الأولى ، بحيث إنه لم تأتِ سنة 21 من الهجرة حتى دخل غالب الأكراد في الإسلام ، ومنذ الدخول الأول لهم في الإسلام فإنهم ظلوا على عهدهم من الحميَّة والنصرة لدين الله مهما تقلبت الأحوال أو تغيرت الظروف، وكانوا في كل تاريخهم ملتزمين بالمنهج السُّني ، وغالبهم على المذهب الشافعي، وحتى عندما سيطر بنو بويه الشيعية على الخلافة العباسية في القرنين الرابع والخامس الهجريين ، ظل الأكراد على منهجهم السني الأصيل ، وعاطفتهم الإسلامية القوية ؛ لذلك لم يكن مستغربًا أبدًا أن تأتي النصرة من بلادهم، وأن يخرج نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه وصلاح الدين الأيوبي والملك الصالح نجم الدين وغيرهم من أصلاب هذه الأسرة الكريمة .

كان هذا الوضع في منطقة شمال العراق ، وهو ما يفسر ظهور الحركات الجهادية والإصلاحية من هذه البقاع ، ولا شك أننا نلاحظ أن كل ما ذكرناه من أسماء وقبائل كان من أصول غير عربية ، بل إن المغيِّرين في قصتنا بكاملها من العرب سيكونون قلة قليلة جدًّا ؛ وهذا ليس تقليلاً من شأن العرب، ولكنه ذكر لتاريخ وواقع ، وهو في نفس الوقت تعظيم للإسلام الذي صهر كل هذه الأنواع البشرية والأجناس المتباعدة في بوتقة واحدة، فجاء السلاجقة والأراتقة والأكراد ليرفعوا راية هذا الدين ، ويعزوا أمره متناسيين تمامًا أن نبي هذه الأمة عربي ، وأن الخلافة كانت في العرب !! بل إن غالب المسلمين في ذلك الوقت كانوا من غير العرب، بل إن غالبهم في زماننا نحن الآن من غير العرب أيضًا ، فالعرب لا يمثلون في المسلمين الآن إلا نسبة 25% فقط ، وكذلك كانوا في التاريخ بعد زمان أبي بكر الصديق ، وبدءًا من زمان عمر بن الخطاب حيث إنتشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، ولهذا لا عجب أن نجد أن معظم المغيِّرين والمجددين في تاريخ الإسلام ليسوا عربًا ، وليس على سبيل الحصر أن نذكر أسماء طارق بن زياد ، وألب أرسلان ، ويوسف بن تاشفين ، وعماد الدين زنكي ، ونور الدين محمود ، وصلاح الدين الأيوبي ، وقطز ، ومحمد الفاتح ، وكلهم كما هو معلوم ليسوا من العرب ، وكذلك في مجال العلوم ، بل في مجال العلوم الشرعية، وليس أدل على ذلك من ذكر أصحاب كتب الحديث المشهورين ، فأعظمهم ستة ، هم أصحاب ما يعرف بأمهات الحديث، وليس مستغربًا أن نجد أن خمسة من هؤلاء الستة ليسوا عربًا ، وهم البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه ، ويبقى أبو داود وحده ممثِّلاً للعرب !

إن هذا دليل واضح على عظمة هذا الدين وقدرته على التأثير في عقول الناس وقلوبهم، وطبيعته التجميعية لشتات الشعوب ، ويا لخسارة المسلمين لو جاء عليهم زمان يعلون شأن القومية فوق الإسلام ، ويتجمعون على أواصر النسب والدم لا على أواصر العقيدة والدين !

هذا هو حال شمال العراق أيام الحروب الصليبية !! فكيف كان حال الشام التي إبتليت بالاحتلال الصليبي ؟!

إن بلاد الشام ، وأيضًا مصر ، قد نكبت بالاحتلال العبيدي البشع بداية من سنة (359هـ) 969م ، ولم يرفع عنها إلا عندما جاء السلاجقة وأخرجوا العبيديين في (477هـ) 1084م ، أي بعد أكثر من مائة سنة كاملة , أما في مصر فقد استمر حكمهم لها مائة سنة أخرى، ولم ينتهِ إلا في سنة (567هـ) 1171م ؛ وفي هذه السنوات الطويلة فرَّغ العبيديون البلاد المحتلة من علماء السنة ، ونشروا البدع ، ومنعوا التعليم الإسلامي الصحيح ، ولم تكن لهم أبدًا قضايا جهادية ، بل كانوا يحاربون المجاهدين ويؤذونهم ، ويحالفون أعداء الأمة ويصادقونهم ، وقد رأينا طرفًا من أعمالهم ومفاوضاتهم مع الصليبيين ؛ وفي وسط هذا الجو الكئيب كان لا بد للشعب أن يخرج رخوًا مائعًا لا قضية له ! إنه حُرِم من العَالِم الذي يدله على الطريق ، وحُرِم من المجاهد الذي يكون له قدوة ، ولم يكن هذا لعام أو عامين ولكن لقرن كامل في الشام ، وقرنين كاملين في مصر ؛ ولذلك لم يكن متوقعًا من هذه البلاد أن تحمل على أكتافها قضايا المسلمين ، حتى لو كانت هذه القضايا هي قضاياهم شخصيًّا !! فالأموال المنهوبة أموالهم ، والديار المهدَّمة ديارهم ، والأرواح التي أزهقت هي أرواح أبنائهم وإخوانهم وعشيرتهم ! ثم إن الذي حرر الشام من العبيديين كان ظالمًا مثلهم ، وإن كان سنيًّا !

فالذي تولى أمر الشام من السلاجقة هو تُتش بن ألب أرسلان ، وكان على النقيض تمامًا من أبيه ألب أرسلان أو أخيه ملكشاه بن ألب أرسلان ، والله ضرب لنا ابن نوح مثلاً لنفهم هذا التضارب في الشخصيات والأخلاق .

لقد كان تتش ظالمًا مستبدًا ، لا يهتم إلا بكرسيه ، ولا ينظر إلا لمصالحه ، ولا يسمع لرأي إلى جوار رأيه ، ولا يعتبر بأرواح شعبه ولا أموالهم ، ولا يحترم روابط دين أو عقيدة ، ولا روابط دم أو نسب ، فقطَّع علاقاته مع الناس أجمعين ، وحارب هذا وذاك ، حتى وصل به الأمر أن حارب بركياروق ابن أخيه ملكشاه بعد وفاة ملكشاه ! وكل ذلك طمعًا في توسيع رقعة ملكه ؛ أملاً في زيادة ثروته .

وكان من الطبيعي لشعب رُبِّي في هذا الجو الملبد بالظلم والقهر أن يخرج خانعًا خاضعًا ذليلاً ، يُقاد بالسياط ، ويقبل بإنتهاك الحرمات ، ويألف ضياع الحقوق , ولذلك لم يكن الصليبيون يختلفون كثيرًا في حسابات الشعب عن تتش بن ألب أرسلان أو عن العبيديين ، بل إن بعض أفراد الشعب كانوا يتعاونون مع الصليبيين بغية طعام أو شراب أو مال أو إقطاع .

ولم يختلف الحال كثيرًا بعد وفاة تتش مقتولاً في سنة (488هـ) 1095م؛ إذ قسمت الشام إلى نصفين بين ولديه رضوان ودقاق ، فأخذ رضوان حلب ، وأخذ دقاق الشام ، وهما لم يختلفا في كثير أو قليل عن أبيهما ، فقد ورثا عنه الظلم وسوء الأخلاق ، فكانا وبالاً على شعوبهما ، بل وعلى عامة المسلمين ، بل إن رضوان بن تتش جمع إلى جوار ظلمه ظلمَ العبيديين ، فتشيَّع وقرَّب الباطنية الإسماعيلية المجرمة ، وحرضهم على جرائمهم المنكرة بغية إرهاب الناس وتثبيت ملكه , ولقد مرَّ بنا في هذه القصة - حتى الآن - جريمتان من ارتكابهما؛ الأولى كانت مقتل الوزير العظيم نظام الملك سنة (485هـ)، والثانية كانت مقتل جناح الدولة حسين بن ملاعب زوج أم رضوان بن تتش بتحريض من رضوان بن تتش نفسه ، وذلك في سنة (495هـ) .

وهكذا - بالتحليل السابق - فإنه ينبغي أن نتوقع في غضون الأيام والسنوات القادمة أن تهب حركة جهادية إصلاحية من شمال العراق ، وأن يكون تفاعل الشعب معها في الشام ضعيفًا في البداية إلى أن تتغير الأجيال التي تربَّت على الذل والقهر، والبُعد عن الدين والشرع ، وعندها سيكون لهم شأنٌ كبير في تغيير الواقع الأليم !

هذا ما ينبغي أن نتوقعه ، وهذا ما حدث بالفعل ! وكان من أوائل بذور الخير ما رأيناه في سنة (496هـ) 1104م من تباشير حركة جهادية تهدف إلى مقاومة الصليبيين !

كيف كان ذلك ؟ !

كان على رأس إمارة الموصل في ذلك الوقت جكرمش ، وقد صعد إلى كرسيِّ الحكم - كما ذكرنا - بعد فتنة حدثت بعد موت كربوغا أمير الموصل السابق ، وكان جكرمش شخصية ذات نزعة إسلامية واضحة، ورغبة في العدل والرحمة ، وقدرة على التعامل مع الناس ؛ ولذلك أحبَّه أهل الموصل وأطاعوه، غير أنه كانت له ميول استقلالية، خاصةً أن الصراع كان دائرًا بين السلطان بركياروق وأخيه السلطان محمد ؛ مما جعل أفكار الاستقلال بالموصل تراود خيال جكرمش ، وإن كان في الظاهر يدين بالولاء للسلطان بركياروق .

وفي نفس الوقت الذي رأينا فيه الاضطرابات في الموصل حدثت اضطرابات مماثلة في مدينة حرَّان، وهي مدينة تقع إلى الجنوب الشرقي من إمارة الرها الصليبية وعلى بُعد 200 كم تقريبًا شمال شرق حلب، وعلى نفس المسافة أو أكثر قليلاً شمال غرب الموصل ، فهي مدينة في موقع مهمٍّ جدًّا ؛ حيث إنها تسيطر على الطريق الذي يربط العراق بسوريا ، أو الذي يربط الموصل تحديدًا بحلب، وقد حدثت فيها فتنة مماثلة لفتنة الموصل، وقُتل فيها عدة ولاة في وقت قصير ، وتولى الأمر أخيرًا غلام تركي اسمه جاولي .

رأى الصليبيون هذه الأوضاع المتقلبة في حران والموصل ، فقرروا أن يستغلوا هذه الفرصة لتحقيق ضربة موجعة تحقق أغراضًا عدة للإمارات الصليبية الشمالية ، أعني الرها وأنطاكية .

لقد إتفق بلدوين دي بورج زعيم الرها بصحبة جوسلين دي كورتناي تابعه على مدينة تل باشر (وهي من أعمال إمارة الرها) مع بوهيموند أمير أنطاكية ، ومعه تانكرد ابن أخته ونائبه على أن يقوم الجميع بعمل عسكري مشترك في غاية الخطورة ، وهو الإستيلاء على مدينة حرَّان (في جنوب تركيا الآن) في خطوة مرحلية للاستيلاء بعد ذلك على مدينة الموصل ذاتها !

إنهم بذلك سيحققون أهدافًا في غاية الخطورة !

إنهم سيسقطون أولاً :
مدينة حران الشهيرة بثرواتها الطبيعية ومزارعها الخصبة .

وثانيًا :
سيقطعون الطريق بين العراق والشام، ومن ثَمَّ سيتعذر على المعونات العسكرية السلجوقية أن تأتي من العراق إلى مدينة الموصل التي تظهر فيها دعوات الجهاد، والتي تتميز بصحوة إسلامية واضحة ، فلو سقطت الموصل ضُرب المسلمون بذلك في عمقهم .

ثالثًا :
ستفتح حران بعد ذلك الطريق إلى الموصل، والتي تظهر فيها دعوات الجهاد، والتي تتميز بصحوة إسلامية واضحة، فلو سقطت الموصل ضرب المسلمون في عمقهم .

ورابعًا :
قد يفتح الطريق باحتلال الموصل إلى بغداد قلب العالم الإسلامي وعاصمة الخلافة ، ولا شكَّ أن سقوط بغداد سيزلزل العالم الإسلامي كله، وقد يقع الجميع حينئذٍ تحت سيطرة الصليبيين .

وخامسًا
: بالنسبة لبوهيموند، فإنَّ السيطرة على حرَّان ستؤدي إلى حصر حلب بين أنطاكية من الشرق وحران من الغرب مما يسهِّل إسقاط حلب ، ومن ثَمَّ إنشاء دولة صليبية كبرى في شمال الشام بدلاً من إمارة أنطاكية الصغيرة .

إنها أهداف كبرى تجعل إسقاط حران حلمًا غاليًا عند الصليبيين ؛ ولذلك تكوَّن جيش صليبي كبير يضم كل قادة الصليبيين في المنطقة، حيث كان فيه بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي وبوهيموند وتانكرد ، إضافةً إلى عدد كبير من رجال الكنيسة في الرها وأنطاكية ، هذا إضافةً - طبعًا - إلى جيش كبير يقارب العشرين ألف مقاتل .

لقد كانت هجمة في غاية الخطورة ، خاصةً أن المدن الإسلامية المهمة في المنطقة - وهي الموصل وحران - خارجةٌ من فتنة كبيرة كما وصفنا، إضافةً إلى أن العلاقات كانت مضطربة جدًّا بين جكرمش أمير الموصل وسقمان بن أرتق أمير حصن كيفا (إلى الشرق من حران) ؛ حيث كان سقمان مؤيدًا للأمير موسى التركماني الذي كان يتولى أمر الموصل قبل ثورة جكرمش عليه .

لقد تخير الصليبيون وقتًا حرجًا جدًّا ، وإنتصارهم في هذه الظروف قريب ! غير أن هناك أمرًا - ما حسب له الصليبيون حسابًا في ظل هذه الاضطرابات - حدث ؛ وغيَّر هذا الأمر جدًّا من موازين القوى في المنطقة ؛ لقد تبادل الزعيمان المسلمان جكرمش وسقمان بن أرتق الرسائل في وقت متزامن تقريبًا ، يدعو فيه كل زعيم أخاه إلى نسيان الخلافات القديمة والتعاون المشترك ضد الصليبيين ، وهذا رائع جدًّا أن تتم الوحدة بين المسلمين في ظروف الأزمات والنكبات ، ولكن الأروع في قصتنا هذه أن كلا الزعيمين أعلن هذه الوحدة ليست لتحقيق نصرٍ ، أو لتوسيع ملك ، أو لتكثير ثروة ، إنما هي لله !!

لقد جاء في رسالة كل واحد منهما للآخر ما رواه ابن الأثير حيث قالا: "إنني ما بذلت نفسي في هذا الأمر إلا لله تعالى وثوابه " .

وهذه هي المرة الأولى في قصة الحروب الصليبية التي نرى فيها راية الجهاد مرفوعة في سبيل الله ، وبتجرد واضح ؛ نعم الزمن زمن فتنة ، والقلوب متقلبة ، والأهواء مضطربة ، والنفوس قلقة ، ونوزاع الملك والسيطرة كثيرة، والأحلام الشخصية موجودة ، ولكن - بحمد الله – ما زال في النفوس خير ، وما زال هناك من يعمل العمل ابتغاء مرضات الله .. وإنَّ من أروع ما في القصة أن تتزامن رسائل الزعيمين ، دلالةً على أن الله أراد بهما وبالمسلمين خيرًا .

إقترب الجيش الصليبي الكبير من حران، وفرض عليها الحصار المحكم، وهو لا يعلم باتحاد الجيشين المسلمين للموصل وحصن كيفا ؛ ولذلك كانت مفاجأة كبيرة جدًّا للصليبيين أن ظهر في الأفق الجيش الإسلامي المتحد، والمكوَّن من عشرة آلاف مقاتل ، منهم ثلاثة آلاف من العرب والسلاجقة والأكراد تحت قيادة جكرمش ، وسبعة آلاف تركماني تحت قيادة سقمان بن أرتق .

وفي سنة (497هـ) 7 من مايو 1104م دارت موقعة شرسة بين المسلمين والصليبيين ، وذلك على ضفاف نهر البليخ ..

وقاتل في هذه المعركة بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي بكل قوتهما؛ لأن المعركة تدور تقريبًا في حدود إمارتهما ، أما بوهيموند فقد استفاد من درس أسره قبل ذلك ؛ ولذلك وقف في مؤخرة الجيش مع ابن أخته تانكرد ليؤمِّن ظهر الجيش الصليبي، وفي نفس الوقت ليؤمِّن لنفسه طريقًا للهرب !

وما هي إلا ساعات وإنتصر الجيش المسلم انتصارًا مهيبًا قُتل فيه من الصليبيين أكثر من اثني عشر ألف مقاتل ! كما تمَّ أسر بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي !! هذا فوق عدد كبير آخر من الأسرى ، إضافةً إلى كميات ضخمة من الغنائم والأموال والسلاح ، وولَّى بوهيموند وتانكرد الأدبار مسرعين إلى أنطاكية !

لقد كان نصرًا مجيدًا حقًّا !

ولم يتعرض المسلمون أثناء القتال إلى أزمة حقيقية، فقد كانت السيطرة لهم من بادئ الأمر، إلا أنهم تعرضوا لأزمة كبيرة بعد الموقعة، لكن - بفضل الله - كتب الله لهم منها النجاة؛ ذلك أن معظم الغنائم والأموال - وكذلك الأسيرين الثمينين - وقعوا في يد سقمان بن أرتق وجيشه، وخرج جكرمش خالي الوفاض من المعركة ، وغضب جيش جكرمش وهم يشاهدون الثروات تقع في يد الجيش التركماني ، وأغروا جكرمش بأخذ نصيبه منها، وإقتنع جكرمش بذلك ، وذهبوا للمعسكر التركماني ، وقد وجدوا أن سقمان كان في مطاردة الصليبيين مع جزء من جيشه ، فدخلوا خيمة الأسرى، وإستطاعوا أن يأخذوا بلدوين دي بورج أمير الرها ، والأسير الأعظم وعادوا به إلى معسكرهم !

إنها فتنة الدنيا !! وليس مستغربًا على هذا الزمن الذي إختلطت فيه المفاهيم جدًّا أن توجد هذه النوازع في نفوس الأمراء والمقاتلين .

وعاد سقمان من مطاردته ، وعرف بما حدث ، وحضَّه جيشه على قتال جكرمش لأخذ الأسير الثمين ، إلا أن سقمان رحمه الله وقف موقفًا لله هو من أعظم المواقف في حياته ، ويدل دلالة واضحة على طيب معدنه ، وصدق نيته؛ لقد قال سقمان لجيشه : "لا يقوم فرح المسلمين في هذه الغزاة بغمِّهم بإختلافنا ، ولا أوثر شفاء غيظي بشماتة الأعداء بالمسلمين " .

الله أكبر !!

إنه لا يريد أن يضيع سعادة المسلمين بالنصر باختلافهم على الغنيمة ، ولا يريد أن يشفي صدره من جكرمش ويسبِّب شماتة الأعداء في المسلمين , هذا هو التجرد الذي يُرجى من ورائه النصر !

ثم إنه لم يكتفِ بذلك رحمه الله ، بل إستغل النصر الإسلامي المهيب ، وأخذ ملابس الصليبيين وأسلحتهم ، وألبسها لجنوده المسلمين كنوع من التمويه على الصليبيين ، ثم مرَّ على عدة قلاع كان الصليبيون قد إستولوا عليها ، فيحسبهم الصليبيون إخوانهم وجيشهم فيفتحون القلعة ، فيدخل المسلمون ويسيطرون على القلعة، وهكذا حتى تمَّ له السيطرة على عدة قلاع وحصون مهمة في المنطقة .

أما جكرمش فقد سار إلى حران ، فتسلمها وضمها إلى الموصل ، ولم يكتفِ بذلك بل قرر أن يأخذ جيشه - على قلته - ويحاصر إمارة الرها، وهو وإن كان يعلم أن هذه القوة القليلة ما تستطيع أن تفتح إمارة الرها الحصينة ، إلا أنها كانت نوعًا من الحرب النفسية سيكون لها أشد الأثر على الصليبيين ، خاصةً بعد هذه الهزيمة الثقيلة في حرَّان ، أو في موقعة البليخ (نسبة إلى النهر الذي دارت حوله الموقعة) .

لقد حققت هذه الموقعة آثارًا جلية، ولهذا كانت نقطة مضيئة جدًّا في الصراع الإسلامي - الصليبي ، على الرغم من كونها على النطاق العسكري والإقليمي لم تكن من المواقع الكبرى , ولعلنا في هذه العجالة نقف على عشر نتائج مهمة لهذه الموقعة المهمة :

أولاً :
إرتفعت الروح المعنوية للمسلمين بشكل لافت للنظر ، وظلت هذه الموقعة محفورة في أذهانهم ولفترة طويلة، وليس ذلك لقتل عدد من الصليبيين أو أسر آخرين فحسب ، ولكن لوضوح الرؤية عند المسلمين في هذه المعركة ، ومعرفة المسلمين لأسباب النصر الحقيقية، ولرفع الكلمة الغالية: (الجهاد في سبيل الله) ، ولرؤية ثمرة التأييد الرباني لمن سار في طريق الله ، وتمسك به .

ثانيًا :
لا شك أنه إن كان الأثر إيجابيًّا على المسلمين إلى هذه الدرجة، فإنه حتمًا سيكون سلبيًّا على الصليبيين وبدرجة أشد، ولقد شعر الصليبيون بالهزيمة النفسية، وبالإحباط الشديد الذي ظل متوارثًا فيهم ولأجيال متلاحقة، بل إننا لا نبالغ إن قلنا أن هذه المعركة كانت سببًا في تغيير طريقة التفكير للصليبيين في العراق وفارس ، فهذه هي المرة الأولى - وكذلك الأخيرة - التي يفكر فيها الصليبيون في غزو هذه المناطق ، وبذلك تكون هذه الموقعة - على بساطتها - قد وضعت حدًّا لأحلام الصليبيين وطموحاتهم .

ثالثًا :
فَقَد الصليبيون في هذه الموقعة أكثر من اثني عشر ألف مقاتل ، لا شك أنهم أثروا تأثيرًا سلبيًا في قوة الصليبيين ، خاصةً أن الأوربيين فقدوا حماستهم في القدوم إلى أرض الإسلام بعد كارثة الحملة الصليبية التي جاءت سنة (494هـ) 1101م ، أي من ثلاث سنوات فقط ، ومن ثَمَّ تناقص عدد الجنود في إمارتي الرها وأنطاكية تناقصًا مزعجًا، كان له أكبر الأثر في خطط الإمارتين .

رابعًا :
لم تفقد إمارة الرها جنودًا فقط ، بل فقدت أميرها ونائبه ! فقد وقع بلدوين دي بورج ونائبه جوسلين دي كورتناي في الأسر ، ولا يعلم أحد متى يكون إطلاقهما ، وخاصةً أن كل واحد منهما مأسور في إمارة مختلفة ؛ فبلدوين في يد جكرمش أمير الموصل ، وجوسلين في يد سقمان أمير حصن كيفا وماردين ، وعلى هذا فلم يجد جيش الرها الصليبي من يتولى زعامة الإمارة في غياب الأميرين الكبيرين ، فعرضوا على تانكرد النورماني أن يتولى الإمارة لحين إطلاق سراح أحد الأميرين ، وبالطبع وجدها تانكرد فرصة سانحة لتحقيق طموحه , وهكذا كان تانكرد يعمل في أرض الشام كالجوكر الذي يستعان به عند الأزمات ، فهو تارة أمير للجليل في إمارة بيت المقدس ، وتارة أخرى أمير على أنطاكية في غياب بوهيموند ، وتارة ثالثة أمير على الرها في غياب بلدوين دي بورج .

خامسًا :
فقدت الإمارات الصليبية بعد هذه الهزيمة عدة قلاع وحصون ، بل وعدة قرى ومدن وأملاك ، وتغيرت جغرافية المنطقة تغيرًا ملموسًا، ولم يكن الأمر واقفًا فقط عند القلاع التي حررها سقمان في أعقاب المعركة مباشرة، وكانت كل هذه القلاع تابعة لإمارة الرها ، بل تجاوز الأمر كذلك إلى إمارة أنطاكية حيث فقدت هي الأخرى عددًا ضخمًا من القرى والحصون التابعة لها؛ وقصة ذلك أن رضوان بن تتش ملك حلب لم يفكر في الاشتراك في هذه الحرب الإسلامية، وإنما وقف بجيشه عند نهر الفرات يترقب الأحداث ، ويشاهد تطورات المعركة ، وعندما رأى هزيمة الجيش الصليبي، وقتل عدد كبير من جنوده، وفرار بوهيموند وتانكرد ، وأسر بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي، واتجاه تانكرد إلى الرها ليحكمها بدلاً من بلدوين دي بورج ، عندما رأى رضوان كل ذلك تجرأ على مهاجمة أملاك إمارة أنطاكية، والتي كانت تابعة قبل ذلك لإمارة حلب ، فاسترد في أيام معدودات عددًا من القلاع والمدن القريبة من حلب مثل معرَّة مصرين وسرمين، كما قام أحد الأمراء المسلمين في المنطقة - وهو شمس الخواص أمير رفينة - باسترداد مدينة صوران شرقي شيزر، كما لم تلبث الحاميات الصليبية في معرَّة النعمان والبارة وكفرطاب ولطمين أن تنسحب من جَرَّاء نفسها إلى أنطاكية، وبذلك تقلصت حدود أنطاكية الشرقية جدًّا حتى وصلت إلى بحيرة العمق بعد أن كانت قد وصلت إلى مشارف حلب .
سادسًا: حافظ المسلمون بهذه الموقعة على الطريق بين الشام والعراق مفتوحًا وآمنًا، ولمدة طويلة جدًّا من الزمان، مما سهل بعد ذلك خروج الحملات المتتالية من الموصل وما حولها إلى حرب الصليبيين في الرها وأنطاكية وغير ذلك .

سابعًا :
أحدثت هذه الموقعة تغيرًا استراتيجيًّا خطيرًا في المنطقة ؛ إذ بدأ الأرمن يتجرءون - وهذه أول مرةٍ في تاريخهم مع الصليبيين - على الصليبيين بطريقة جِدِّية ؛ لقد عانى الأرمن كثيرًا من جور الصليبيين، لكن لم يكن لهم طاقة بهم ، أما الآن - ومع هزيمة الصليبيين - فقد قرر الأرمن في بعض القلاع والمدن التي يغلب الأرمن على سكانها أن يتراسلوا مع الأتراك ليسلموهم قلاعهم ومدنهم، ويخرجوا بذلك عن حكم الصليبيين، مفضلِّين بذلك حكم المسلمين على حكم النصارى الصليبيين ؛ ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك ما حدث في قلعة أرتاح - وهي من القلاع فائقة الأهمية - حيث تشرف على مدينة أنطاكية ، ولقد ثار أهلها من الأرمن ضد حكم الصليبيين النورمان، وسلموا قلعتهم دون جهد إلى رضوان ملك حلب ، ولم يكن هذا هو المثال الوحيد، بل تكرَّر ذلك مع أكثر من قلعة وحصن .

ثامنًا :
ألقيت بذور الضعف في إمارة الرها، فسكانها الأرمن فكروا فيما فكر فيه الأرمن في الأماكن الأخرى، وبدءوا يثورون على حكم الصليبيين ، بل وتراسلوا في فترة من فتراتهم مع السلاجقة، وهذا أدى إلى صراع ضخم بينهم وبين حكامهم من الصليبيين ، وسوف يؤدي مستقبلاً إلى صدامات خطيرة ، ولا شك أن هذه التداعيات سيكون لها أكبر الأثر في مستقبل هذه الإمارة القريبة من شمال العراق الغني - آنذاك - بالمتحمسين من أبناء الأمة الإسلامية .

تاسعًا :
لم يقف الحد عند نشاط المسلمين وسعيهم لتحرير بعض أراضيهم بل وصلت أنباء هذه الهزيمة للدولة البيزنطية، وسرعان ما تحرك الإمبراطور المحنك ألكسيوس كومنين لاستغلال الفرصة، وعمل في محورين خطيرين؛ فكان المحور الأول محورًا بريًّا حيث وجَّه جيشًا إلى منطقة قليقية، وإستطاع بسهولة ضم مدن قليقية الشهيرة، وعلى رأسها طرسوس وأذنة والمصيصة إلى الدولة البيزنطية , أما المحور الثاني فكان محورًا بحريًّا حيث إستطاع الأسطول البيزنطي أن يسترد ميناء اللاذقية المهم ، بل وتمركز في عدة مواقع أخرى على ساحل البحر الأبيض المتوسط فيما بين اللاذقية وطرطوس، فضلاً عن قلعة المرقب .

عاشرًا :
تلقي بوهيموند أمير أنطاكية في هذه الموقعة وبعدها عدة طعنات نافذة أفقدته توازنه تمامًا؛ مما أدى إلى قرار خطير جدًّا أخذه عن اضطرار ! لقد فَقَد بوهيموند في المعركة جزءًا لا بأس به من جيشه، ثم فقد عددًا من القلاع والحصون والمدن والقرى في شرق أنطاكية، وتعرض لهجوم رضوان بن تتش - مع ضعفه الشديد - على أملاكه وضياعه ، وتلقى ضربات قاصمة من الدولة البيزنطية فَقَد فيها إقليم قليقية بكامله، إضافةً إلى فَقْد اللاذقية وغيرها من مراكز ساحلية ؛ كل هذه الخسائر العسكرية والسياسية أفقدته الكثير من هيبته وقيمته في المنطقة، وهذا دفعه إلى الوقوع في جريمة أخلاقية أفقدته الكثير من سمعته عند الصليبيين! وهذه الجريمة هي أنه كان محتفظًا بأسير مهمٍّ من أسرى جيش الموصل ، وهو من أمراء السلاجقة ، وقد عرض جكرمش أمير الموصل على بوهيموند أن يطلق هذا الأمير في مقابل أحد أمرين : إما أن يبادله ببلدوين دي بورج شخصيًّا ، وإما أن يدفع مبلغ 15 ألف دينار ! ولم يكن متوقعًا من بوهيموند أبدًا أن يقبل بالمال ويترك بلدوين دي بورج، خاصةً أنه تلقى رسالة من بلدوين الأول ملك بيت المقدس وإبن عم بلدوين دي بورج تحضه على إطلاق سراح بلدوين دي بورج ، وأيضًا لا ننسى أن بوهيموند كان أسيرًا عند الملك غازي بن الدانشمند ، وقد حاول بلدوين دي بورج بكل وسيلة أن يطلق سراحه، بل إن بلدوين دي بورج ساهم بمبلغ كبير في الفدية الضخمة التي دُفعت لفك أسر بوهيموند وهي مبلغ مائة ألف دينار، وهو يمثِّل أضعاف ما سيأخذه بوهيموند نظير إطلاق الأمير السلجوقي؛ كل هذه العوامل كانت تحتِّم على بوهيموند أن يرفض المال ، وأن يبادل الأمير السلجوقي ببلدوين دي بورج أمير الرها ، إلا أن بوهيموند فاجأ الجميع - وفي نذالة بالغة، وخسة متناهية - وضحَّى ببلدوين دي بورج ، وأخذ المال وأطلق الأمير السلجوقي !! وكان هذا سببًا في بقاء بلدوين دي بورج عدة سنوات في الأسر .

وأدى هذا الفعل المشين إلى ردة فعل واسعة النطاق في الإمارات الصليبية حيث صار بوهيموند منتقدًا من الجميع، وإزاء هذه الأزمات المتتالية ، وإزاء هذا الانعزال الصليبي عنه، ونتيجة تكاثر الأعداء عليه، ونتيجة رؤية إمارة أنطاكية تتقلص تقلصًا سريعًا قرَّر بوهيموند قرارًا خطيرًا، وهو أن يترك الساحة بكاملها وينطلق إلى أوربا !! وهو في هذا الانطلاق لا ينوي ترك أملاكه في الشرق، فليس بوهيموند الذي يستسلم بسهولة، ولكنه ينوي الذهاب إلى فرنسا وإيطاليا ليستعدي الجميع هناك على الدولة البيزنطية ، وقد كان بوهيموند يرى - وهو محق في ذلك - أن رضوان بن تتش ليس الزعيم الذي يُرهب ، وأنه من السهل أن يتخلص منه عند الحاجة ، ولكن الخطر الحقيقي على إمارته يكمن في الدولة البيزنطية ، وعلى هذا فقد رحل فعلاً بوهيموند إلى أوربا في أعقاب موقعة البليخ تاركًا تانكرد زعيمًا على إمارتي أنطاكية والرها .

وهكذا أُقصي بوهيموند الشرس من ساحة الصراع !

ولعله من المناسب هنا أن نعرض لقصته في أوربا حتى لا تضيع منا في خضم الأحداث الساخنة، فإن بوهيموند قد نجح فعلاً في تجميع الجيوش والأموال من فرنسا وإيطاليا لحرب الدولة البيزنطية ، وأقنع الجميع بضرورة الوقوف أمام أطماعها ، وصوَّر لهم أنها تتعاون مع السلاجقة المسلمين ضد الصليبيين ، وأنها كانت سببًا مباشرًا في هلاك حملة سنة (494هـ) 1101م ، وعلى هذا فقد تجهزت أوربا الغربية في جيش كبير من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وإنجلترا وألمانيا بقيادة بوهيموند لحرب الدولة البيزنطية ، وتمت فعلاً موقعة فاصلة في ميناء دورازو ، وهو يحوي أقوى قلعة بيزنطية عند مدخل الأدرياثيك ، وتمت هذه الموقعة سنة (500هـ) 1107م بعد ثلاث سنوات من رحيل بوهيموند من أنطاكية ، وفي هذه الموقعة إنتصر الإمبراطور ألكسيوس كومنين - وقد حضر الموقعة بنفسه - إنتصارًا ساحقًا على بوهيموند وجيوشه ، وأرغم بوهيموند على توقيع اتفاقية إستسلام مخزية في مدينة دفول Devol سنة (501هـ) 1108م ، وفيها أقر بتسليم إقليم قليقية بمدنه الثلاث ، وكذلك ميناء اللاذقية إلى الدولة البيزنطية ، والإعتراف أن هذه ليست من أملاك أنطاكية ، كما اشترط الإمبراطور البيزنطي أن يعزل البطرك الكاثوليكي عن كنيسة أنطاكية ذاتها ، ويعيِّن بطركًا أرثوذكسيًّا ، وأن يتعهد بوهيموند بحرب إبن أخته تانكرد إذا رفض بنود هذه الاتفاقية !!

وأمام هذا الخزي الذي وصل إليه بوهيموند لم يستطع أن يعود إلى أنطاكية ، ولا أن يلتقي برفقاء الحملة الصليبية، وعليه فقد عاد إلى صقلية بعد معاهدة دفول ليبقى هناك ثلاث سنوات في عزلة ومهانة حتى مات في سنة (504هـ) 1111م ، وقد خسر كل شيء !! وهكذا رأينا بوهيموند يفقد مستقبله السياسي تمامًا بعد هذه المعركة العجيبة : (معركة البليخ) ..

ولعل المحلل للأحداث قد يتعجب أن هذه النتائج الهائلة قد حدثت من جَرَّاء هذه المعركة البسيطة التي تمت في يوم واحد، ولم يكن لها إعداد طويل ، وقُتل فيها من الصليبيين اثنا عشر ألفًا من المقاتلين ، بينما لم تكن نتائج معارك سنة (494هـ) 1101م ، والتي قُتل فيها أكثر من مائتي ألف مقاتل صليبي على نفس المستوى .

إن الفارق بين الموقعتين أن موقعة حران أو البليخ موقعةٌ رفعت فيها راية لا إله إلا الله ، وخلصت فيها النوايا لله ، وكانت موقعة ممثِّلة للإسلام ، فبارك الله في نتائجها وعظَّم من آثارها، بينما كانت مواقع مرسفان وهرقلة الأولى والثانية - على عظمها وضخامتها - مواقع لم تتم إلا للدفاع عن الأملاك والأرض والثروة والملك فقط ، ولم تكن فيها النفوس موجهة إلى الله ، وكان المشاركون فيها حريصين على قبض الثمن الدنيوي ، ودار القتال الحقيقي من أجل الحرص على تقسيم ثمرة المعركة، وهو القتال الذي لم نره في معركة البليخ، بل رأينا ورعًا من سقمان بن أرتق، وبُعدًا عن النزاع والشقاق، وحتى جكرمش - الذي حرص على أخذ شيء من الغنائم، وهذا في حدِّ ذاته ليس خطأً فاحشًا؛ لأنه وجنوده شاركوا بقوة في القتال - وجدناه على استعداد لبذل الأسير الثمين في مقابل إطلاق سراح أمير سلجوقي مسلم ؛ مما يدل على قيمة الأسير المسلم ، وروح المودة في الجيشين ، ولم يفعل مثلما فعل بوهيموند الذي آثر المال على تحرير بلدوين دي بورج، مع أهمية مركزه ووضعه .

إن الذي علينا هو توجيه النية لله وبذل الجهد قدر المستطاع ، والتوحيد بين صفوفنا أما النتيجة فالله كفيلٌ أن يبارك فيها ، ويضاعف من ثمارها ، فهو سبحانه القوي العزيز .

وإن كانت موقعة البليخ من الأخبار المفرحة في سنة (496هـ) 1104م ، فإنَّ هناك خبرًا مفرحًا آخر تمَّ في نفس السنة ، وإن كانت آثاره غير ذلك؛ فقد شهدت هذه السنة صلحًا بين الأخوين المتخاصمين والمتنازعين سلطاني السلاجقة بركياروق ومحمد ! وكان النزاع بينهما مستحكمًا وصل إلى حد الحرب والنزال ، مع حسن أخلاق كليهما ! ولكن بفضل الله إجتمع الأخوان في هذه السنة ، وتم بينهما الصلح عن تراضٍ من الطرفين ، لكن - للأسف - كانت نتيجة هذا الصلح هو تقسيم البلاد بينهما !! وهذا - لا شك - فكر معوج، ومنهج منحرف، والله يقول: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
) .

لقد قبل الأخوان بتقسيم المملكة التي تركها أبوهم ملكشاه بن ألب أرسلان إلى ثلاثة أقسام : الأول يحكمه بركياروق ويضم أصبهان وفارس ومعظم العراق دون شمالها ، ويتبعه في ذلك قسم بغداد ، بمعنى أن الخطبة في بغداد ستكون للخليفة المستظهر بالله والسلطان بركياروق , أما القسم الثاني فيحكمه محمد ، وهذا يضم أذربيجان وأرمينية وديار بكر والموصل، مع أن الموصل كانت تحت حكم بركياروق قبل الصلح، وهذا سيؤدي إلى بعض المشاكل التي سنتعرض لها , وأما القسم الثالث والأخير فلأخيهما الثالث سنجر، وهذا يحكم خراسان (شرق إيران) وبلاد ما وراء النهر .

لقد كان هذا هو الحل الذي لجأ إليه الأخوان، وهو خطأ شرعي سياسي لا ريب، ولا ندري كيف وصل بهما الحال إلى الوقوع في هذا الخطأ، مع ما يوصف به كل منهما من حسن الخلق، وجمال السيرة، والعدل في الملك، وما إلى ذلك من صفات جليلة !

لكن الشاهد من الأحداث أن النفوس سكنت لهذا الصلح، وعمَّ الأمن في البلاد، واختفت سحب الحرب التي كانت تظلل هذه المنطقة من العالم الإسلامي .

كانت هذه هي الأخبار في القسم الشرقي من العالم الإسلامي ، وهي مفرحة إلى حد كبير حيث تم انتصار البليخ كما ذكرنا ، وكذلك الصلح بين الأخوين .

لكن الحال في بلاد الشام لم يكن مفرحًا قَطُّ في هذه السنة، ولا في التي بعدها! وهذا حال متوقع لما ذكرناه قبل ذلك من أسباب كذهاب العلم، وضياع قيمة الجهاد، وسلبية الشعب، وتسلط الحكام، وما إلى ذلك من أمراض ,
ولعل أبرز الأحداث التي رأيناها في أرض الشام في هاتين السنتين تشمل الآتي :

أولاً :
إستولى الصليبيون على ميناء جبيل في لبنان جنوب طرابلس ، وذلك بمعونة أسطول بحري جنوي ، وغدر الصليبيون بأهل جبيل بعد إعطائهم الأمان ، وكافأ ريمونُ الرابع الأسطولَ الجنويّ الذي أسقط جبيل بإعطائه ثلث مدينة جبيل، لتصبح جبيل فيما بعد مستوطنة جنوية ، وبسقوط جبيل يكون ريمون الرابع قد وضع الحدود المتوقعة لإمارة طرابلس، حيث يحدها من الشمال مدينة طرطوس ، ومن الجنوب مدينة جبيل ، ويبقى فقط أن يُسقِط المدينة الكبرى (طرابلس) .

ثانيًا :
أتم ريمون الرابع بناء قلعة كبيرة في مواجهة طرابلس مباشرة سماها سانت جيل ، Saint Gilles، والمعروفة في المصادر العربية بقلعة الصنجيل ، وقد بناها ريمون الرابع ليستخدمها في إسقاط طرابلس ، ولقد نُقِلت الأخشاب اللازمة لبنائها من قبرص بواسطة الأسطول البيزنطي المساعد لريمون ، ولم يتحرك أحد من المسلمين في المنطقة لهدم القلعة أو منع بنائها ، مع أن طرابلس محاطة من شمالها الشرقي وشرقها وجنوبها الشرقي بإمارتي دمشق وحمص التابعتين لدقاق بن تتش ، وحيث توجد حمص على مسافة أقل من 90 كيلو مترًا ، ودمشق على مسافة أقل من 120 كيلو مترًا .

ثالثًا :
حادث آخر مفجع هزَّ العالم هو سقوط مدينة عكا الحصينة في سنة (497هـ) مايو 1104م ، وكان سقوطها مفجعًا لأنها أحصن مدن الشام مطلقًا ، وسقوطها يعني سقوط بقية المدن تقريبًا ، كما أنه سيمنع وصول الإمدادات البحرية للمسلمين بعد ذلك ، هذا إضافةً إلى المجزرة التي تمت في المدينة بعد سقوطها ، على الرغم من الأمان الذي أعطاه الصليبيون للسكان ، وقد تم سقوط المدينة بمساعدة الأسطول الجنويّ الذي أسقط جبيل قبل ذلك ! ولهذا أعطى بلدوين الأول ثلث مدينة عكا للأسطول الجنويّ ، وصارت عكا مدينة تابعة لمملكة بيت المقدس .

رابعًا :
بعد رحيل بوهيموند إلى إيطاليا بدأ تانكرد يرتب أوراقه وينظم جيشه ، ودخل في سنة (498هـ) ربيع 1105م في معركة كبيرة مع رضوان ملك حلب ، وإنتصر في هذه المعركة ليسترد بها حصن أرتاح، وليقتل من المسلمين ثلاثة آلاف رجل !

خامسًا :
تلقى المسلمون هزيمة أخرى في منطقة الرملة في 498هـ\ 27 من أغسطس سنة 1105م ، وهو ما يعرف في التاريخ بموقعة الرملة الثالثة، حيث هُزم الجيش العبيدي وتشتت شمله في محاولة فاشلة لاسترداد بيت المقدس ، ولعلَّ هذه هي آخر المحاولات الجادة التي بذلها العبيديون لإسترداد القدس .

سادسًا :
تُوفِّي دقاق بن تتش في رمضان (496هـ) 1103م ، وتولى من بعده أتابكه طغتكين ، وهو أحد مماليك تتش بن ألب أرسلان والد دقاق ، وكان قائدًا عسكريًّا قويًّا صاحب خبرة مما جعل تتش يوكل إليه مهمة تربية دقاق ، ومن ثَمَّ أعطاه لقب أتابك (أي مربي الأمير) ، ولكن عندما ضعف الأمراء السلاجقة صار للأتابكة العسكريين دور كبير في تسيير الأمور ، بل وأحيانًا صار لهم الحكم صراحة، كما هو في حالتنا هذه، فقد أصبح طغتكين هو حاكم دمشق وحمص ، وبذلك انتهى حكم السلاجقة تمامًا لهاتين المدينتين ، ولكن على العموم فإن طغتكين كان أفضل كثيرًا من دقاق حيث آثر العدل مع الرعية ، وحرص في فترات كثيرة من حياته على حرب الصليبيين، وإن كانت قوته وقوة جيشه لم تمكِّنه من تحقيق نصر حاسم في حياته ، وولاية طغتكين تُعَد بداية فترة حكم للتركمان استمرت مدة 52 سنة، حيث انتهت سنة (549هـ)\ 1154م .

سابعًا :
تُوفِّي أيضًا في 2 من ربيع الآخر سنة (498هـ) ديسمبر 1104م السلطان بركياروق سلطان السلاجقة في منطقة فارس والعراق ، وهذا بعد إتمام الصلح مع أخيه محمد كما مرَّ بنا - وكان يبلغ من العمر عند وفاته خمسًا وعشرين سنة فقط ! - وبعد عدة فتن ، ونتيجة لموته استقام الأمر لأخيه السلطان محمد ، فصار يحكم أملاكه وأملاك أخيه بركياروق، وهذا وحَّد الأمة في هذه المنطقة لفترة 12 سنة متصلة .

ثامنًا :
من الشخصيات المهمة التي تُوفِّيت أيضًا في سنة (498هـ) فبراير 1105م الأمير الفرنسي الشهير ريمون الرابع ! وقد تُوفِّي في القلعة التي بناها في مواجهة طرابلس لحصارها ، وكانت النار قد اشتعلت في القلعة نتيجة مقاومة أهل طرابلس للحصار ، فسقطت بعض الأخشاب المحترقة على ريمون ، فمات متأثرًا بجراحه , وهكذا فقد الصليبيون زعيمًا شرسًا من زعمائهم دون أن يرى لنفسه إمارة كأقرانه ، وقد ترك حكم جيشه بعد ذلك لابن خالته وليم جوردان الذي إستأنف سياسة ريمون بكاملها حيث صمم على إسقاط طرابلس، ومن ثَمَّ استمر في حصارها ، وكذلك تعاون مع الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين كما كان يفعل ريمون .

تاسعًا :
حدثت أزمة في إمارة الموصل نتيجة محاولة السلطان محمد السيطرة على مدينة الموصل ورفض جكرمش لهذه السيطرة لولائه لبركياروق ، مع أن الموصل كانت في الصلح الذي تمَّ بين بركياروق ومحمد من حق السلطان محمد ، إلا أن جكرمش كانت له ميول استقلالية جعلته يرفض تسليم المدينة ، غير أن أخبار وفاة بركياروق ما لبثت أن أتت ، ومن ثَمَّ اضطر جكرمش إلى التسليم للسلطان محمد ، وإن كان هذا التسليم مؤقتًا كما سيتبين لنا .

عاشرًا :
فَقَد المسلمون في سنة (498هـ)1105م شخصية مهمة كان لها دور بارز في جهاد الصليبيين ، وهو سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا ، والذي حقق الانتصار في موقعة البليخ بالاشتراك مع جكرمش كما فصلنا ، ولقد كان موته مؤثرًا جدًّا ، حيث كان في سرية عسكرية هبت لنجدة طرابلس عندما إستغاثه حاكمها ابن عمار لحصار ريمون ثم وليم جوردان لها ، وعلى الرغم من كون ابن عمار شيعيًّا وجيشه كذلك ، إلا أن سقمان بن أرتق رحمه الله لم ينظر إلى ذلك ، إنما نظر إلى العدو المشترك للسنة والشيعة وهو العدو الصليبي ، ومن ثَمَّ تقدم في بسالة ، قاطعًا المسافات من حصن كيفا إلى طرابلس (ما يقرب من ستمائة كيلو متر) ، وكان سقمان مريضًا بداء الخوانيق - وهو مرض يعني حدوث اختناق في التنفس - وكان يأتيه في نوبات ، فجاءته هذه النوبة وهو عند القريتين (على بعد 120 كم من طرابلس) ، وعرض عليه أصحابه أن يعودوا به إلى حصن كيفا ؛ حيث لن يقدر على القتال في هذه الحالة، فقال كلمته الخالدة : "بل أسير، فإن عوفيت تممت ما عزمت عليه ، ولا يراني الله تثاقلت عن قتال الكفار خوفًا من الموت ، وإن أدركني أجلي كنت شهيدًا سائرًا في جهاد" ، فساروا به صوب طرابلس ، ولكنه مات بعد يومين !!

إنه صورة مشرقة في وسط هذا الركام أبتْ إلا أن تلقى الله مقبلة غير مدبرة ، فرحمه الله رحمة واسعة ، وجعل مسيره هذا طريقًا له إلى الجنة .

واستكمالاً لبعض الأحداث المؤسفة نخوض قليلاً في تطورات الأحداث في الموصل، وما كنت أود أن أخوض في تفاصيل دقيقة لصراعات وأزمات ، لولا أن أثر هذه الصراعات سيكون كبيرًا ، فالموصل بالذات - كما ذكرنا - لها وضع خاص، ومنها خرجت وستخرج حركات جهاد كثيرة، وشعبها في ذلك الوقت على وعيٍ كبير ، وعلم واسع ، كما أن هذه التطورات ستؤدي إلى اختفاء شخصيات مهمة مرت معنا في قصتنا في أكثر من موضع .

كنا قد ذكرنا أن جكرمش أبدى الموالاة للسلطان محمد بعد وفاة السلطان بركياروق ، ولكن مع مرور الوقت تثاقل جكرمش في إرسال الخراج إلى السلطان محمد ؛ مما جعله يشكك في ولائه ، وراسله في ذلك، فتعلَّل جكرمش ، وهكذا تيقن السلطان محمد أن جكرمش يريد الانفراد بالموصل مستغِّلاً حب الناس له، فاضطر السلطان محمد أن يرسل أحد العسكريين الأشداء لإسترداد الموصل لصالح السلطان، ولكن - للأسف - هذا العسكري كان سيئ الخلق، وحشيًّا في تعاملاته، مكروهًا من العامة، وكان إسمه (جاولي سقاوو) وهو من الأتراك، فسار جاولي إلى الموصل، والتقى معه جكرمش في موقعة على ضفاف دجلة في سنة (500هـ) 1106م ، وهُزم جكرمش بل أسر أيضًا، ولكن شعب الموصل رفض فتح الأسوار لجاولي سقاوو ، وأقاموا عليهم زنكي بن جكرمش، وهو ابن زعيمهم المحبوب جكرمش ، وهذا يدل على إيجابية عالية عند هذا الشعب الواعي، وإن كان الأَوْلَى أن تدخل الموصل تحت حكم السلطان محمد ، لكن السيرة السيئة لجاولي سقاوو جعلت الشعب يأخذ هذا الموقف ، وراسل الشعب شخصية قوية تأتي لتسانده في هذه الأزمة ، وهذه الشخصية هي قلج أرسلان سلطان سلاجقة الروم !

رأى قلج أرسلان أن هذه فرصته لامتلاك الموصل، ولفتح الطريق لتوسيع مملكته ، وجاء بجيشه إلى الموصل ففتح له السكان الأبواب وسط ترحيب، فدخل المدينة وملكها ، ثم خرج لقتال جاولي سقاوو ، ودارت موقعة كبيرة بينهما هُزم فيها قلج أرسلان ، ثم اضطر إلى الهرب فسقط في نهر الخابور ، ولم يستطع النجاة فغرق ، ولم تظهر جثته إلا بعد عدة أيام !

وهكذا جاء قلج أرسلان من آسيا الصغرى يدفعه طموحه لتوسيع ملكه ، وتقوية سلطته ، فإذا به جاء ليلقى حتفه في بلاد غريبة عن بلاده، وفي أرض يطؤها لأول مرة في حياته !! قال تعالى : (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ). وشتَّان بين ميتة قلج أرسلان الذي ملك بلادًا واسعة ، وجاء ليزيدها اتساعًا ، وميتة سقمان بن أرتق الذي لم يملك إلا إمارة صغيرة ، ولكنه مات وهو في طريقه لجهاد الصليبيين !

وعلى العموم فقد دخل جاولي سقاوو مدينة الموصل بعد غياب المدافعين عنها ، وعامل أهلها في منتهى الغلظة ، وأسرف جنوده في اضطهاد السكان ثم لم يلبث جاولي سقاوو أن استقل بالمدينة سنة (502هـ) 1108م، وكان هذا متوقعًا من رجل شرس مثله، فإضطر السلطان محمد أن يرسل له أحد أتباعه لردِّ الموصل إلى سيطرة السلطان ، ولكن في هذه المرة كان مبعوث السلطان رجلاً فاضلاً عالمًا مجاهدًا هو القائد الفذُّ مودود بن التونتكين ، وهو من التركمان الأخيار ، وحاصر مودود مدينة الموصل ، وقاومه جاولي وجنوده ، وحذر جاولي العامة من الإقتراب من الأسوار لعلمه بتعاطف العامة مع الصالحين وكراهيتهم له ، وشدَّد عليهم في ذلك، لكن الشعب لم تمُتْ فيه النخوة، فاجتمعت طائفة من الشعب، وتعاهدوا على فتح الأبواب ، وإتفقوا على استغلال وقت صلاة الجمعة والجميع بالمساجد ، فخرجوا بالفعل في ذلك الوقت إلى أحد الأبراج ، وقاتلوا حرَّاسه وقتلوهم ، وفتحوا الأبواب وهم ينادون باسم السلطان محمد، فأسرع إليهم جند السلطان بقيادة مودود، ودخلوا المدينة وقاتلوا جنود جاولي، وما لبثوا أن سيطروا على المدينة ، غير أن جاولي هرب آخذًا معه صيدًا ثمينًا هو الأمير بلدوين دي بورج الذي كان أسيرًا في مدينة الموصل من أربع سنوات ، وقد أخذه - لا شك - لأنه يعلم أن قيمته كبيرة ، ويستطيع أن يفاوض عليه أو يبيعه !

في ذلك الوقت كان جوسلين دي كورتناي - وهو أمير تل باشر ، والقائد التالي مباشرة بعد بلدوين دي بورج - قد أطلق سراحه في مقابل عشرين ألف دينار ، ومن ثَمَّ سعى بجدية لإطلاق سراح بلدوين دي بورج الذي أصبح الآن في قبضة جاولي الهارب من الموصل .

لقد صار الموقف في غاية التعقيد !!

مودود الآن يحكم الموصل ، وجاولي يهرب ببلدوين دي بورج ، وجوسلين دي كورتناي يحاول فك أسر بلدوين دي بورج ، وإمارة الرها تحت حكم تانكرد منذ 4 سنوات ، وكان تانكرد متسلطًا على شعب الرها وغالبه من الأرمن ، وكان تانكرد مستقرًّا في أنطاكية بعد رحيل بوهيموند عنها، ولكنه كان ينيب عنه في الرها ابن عمه ريتشارد سالرنو .

في ظل هذه الأجواء وصل جوسلين دي كورتناي إلى جاولي ، وسرعان ما بدأ التفاوض المادي حول الأسير الأمير ، ووصل الطرفان إلى إطلاق سراح بلدوين دي بورج في مقابل سبعين ألف دينار، إضافةً إلى وقوف بلدوين دي بورج إلى جوار جاولي والعكس أيضًا عند الأزمات العسكرية ! أي أنها معاهدة دفاع مشترك .

وأطلق سراح بلدوين دي بورج بالفعل وأسرع إلى إمارته ، غير أنه فوجئ أن تانكرد يرفض تسليمه الإمارة بعد أن أعجبته لثرواتها وموقعها ! وهنا لم يجد بلدوين دي بورج حلاًّ بديلاً للحرب لاسترداد إمارته من الصليبي تانكرد !

في هذا الوقت كان جاولي يحاول أن يكون لنفسه إمارة في المنطقة مستخدمًا جيشه الإجرامي ، والمال الوفير الذي توفر في يده ، وكان يسعى لتكوين هذه الإمارة على حساب بعض الأملاك لمملكة حلب المملوكة لرضوان بن تتش .

وعلى هذا أدت هذه الظروف المعقدة إلى حرب عجيبة ، قامت فيها أحلاف أعجب ! فقد تحالف الصليبي بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي وجيشه مع المسلم جاولي وفرقته ، ليحاربوا تانكرد الصليبي الذي تحالف مع رضوان بن تتش عدوه القديم، والذي يعاني الآن من هجمات جاولي !!

أيُّ غيابٍ للفهم هذا ! وأي ضياع للعقل !

ودارت معركة بين الفريقين عند بلدة منبج غربي الفرات ، وذلك في (502هـ) أكتوبر سنة 1108م وهُزم فريق بلدوين وجاولي، وكان النصر حليفًا لتانكرد ورضوان ، غير أن بطرك أنطاكية تدخل في الأمر ، وأمر بأن يعود بلدوين دي بورج لحكم الرها ، ويبقى تانكرد في أنطاكية، وذلك حتى لا يستمر النزاع بين الصليبيين !

في هذا الوقت كان الأرمن من سكان الرها يعتقدون أن هزيمة بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي ستمنعهما من العودة إلى الرها ، فقاموا باجتماع كبير أظهروا فيه رغبتهم في الخروج كلية من سيطرة الصليبيين، وقد ضاقوا ذرعًا بحكم تانكرد لهم ، ولن يختلف حكم غيره من الصليبيين عن حكمه ، ولكن ما لبث بلدوين دي بورج أن ظهر في الصورة، ودخل المدينة حاكمًا، وعلم بهذا الاجتماع ، ومن ثَمَّ انقلب على أهل المدينة ، وعزل كل الكبار من الأرمن ، بل هدد أسقف الكنيسة الأرمينية بسَمْلِ عينيه ، ولم يفتدِ نفسه إلا بمبلغ كبير من المال ، وكل هذا أدى إلى حالة كبيرة من السخط داخل المدينة ، واضطراب عام في الأوضاع ، وهذا - لا شك - سيكون له أثر في عدم استقرار تلك الإمارة .

وهكذا عاد تانكرد لحكم إمارة أنطاكية، بل إنه أفلح في استرداد اللاذقية من الدولة البيزنطية في نفس السنة ، أي في سنة (502هـ) 1108م ، وأصبح بلدوين دي بورج أميرًا من جديد على الرها، ولعله من المناسب أن ننظر نظرة إلى منطقة طرابلس ؛ لأن الأحداث فيها في ذلك الوقت كانت في منتهى السخونة .

لقد كان الحصار مستحكمًا حول طرابلس بقيادة وليم جوردان خليفة ريمون الرابع وابن خالته، وهذا الحصار كان ريمون قد بدأه في سنة (495هـ) 1102م، أي منذ 6 سنوات كاملة، وفي غضون هذه السنوات الست لم تتلقَّ طرابلس أي مساعدة إسلامية خارجية، لا من الإمارات السنية المحيطة بها ، ولا من الدولة العبيدية الشيعية المتمركزة في مصر ، وكما هو معلوم فطرابلس كانت محكومة ببني عمار الشيعة ، وكان أميرها هو فخر الملك ابن عمار .

لم يجد ابن عمار بُدًّا من ترك طرابلس تحت الحصار ، وذلك في سنة (502هـ) 1108م ليذهب إلى بغداد لمقابلة الخليفة العباسي المستظهر بالله ، والسلطان السلجوقي محمد للاستنجاد بهما وبجيوشهما ، لكن للإختلاف المذهبي بين الفريقين لم يُقدِّم الخليفة والسلطان لابن عمار سوى بعض الكلمات التشجيعية والعبارات التأيدية ، تاركين بذلك طرابلس تسقط تحت أقدام الصليبيين ! ولا شك أن هذا نقص في الفهم ، وغياب في الرؤية ، فتقوية ابن عمار إضعاف للصليبيين ، وطرابلس في النهاية مدينة مسلمة ، ولم نطلب من الخليفة والسلطان هنا أن يغيرا من عقائدهما ، أو يبدلا من مبادئهما ، ولكننا نطلب النخوة للدماء التي تُسال ، والنجدة للأرواح التي تزهق ، والشجاعة في وجه الصليبيين ! ولكن كل ذلك لم يحدث ، وعاد ابن عمار ليجد أن طرابلس قد طارت من يده ، لا إلى الصليبيين ولكن إلى العبيديين ! فقد إستنجد أهلها بهم في غياب ابن عمار، فجاءوا بأساطيل من مصر ، وأخذوها لحسابهم ! كل هذا والجيش الصليبي يحاصر المدينة من خارجها !

وفي هذه الأثناء وصل إلى أرض الشام برترام بن ريمون الرابع يبحث عن ملك أبيه ! وبعد صراع وصدام مع وليم جوردان تدخل بلدوين الأول ليقسم بلاد المسلمين بين الأميرين الصليبيين، فأعطى وليم جوردان عرقة وطرطوس، في حين أخذ برترام بن ريمون قلعة صنجيل التي بناها أبوه ومدينة جبيل، على أن يأخذ برترام مدينة طرابلس حال سقوطها .

ثم سعى بلدوين الأول ملك بيت المقدس في تجميع الجهود الصليبية لإسقاط طرابلس، وبالفعل - وهذه أول مرةٍ منذ زمن - تجتمع جيوش برترام ووليم جوردان مع جيوش بلدوين الأول ملك بيت المقدس وجيوش تانكرد أمير أنطاكية ، إضافةً إلى أسطول جنويّ كبير؛ وذلك لإسقاط المدينة العنيدة طرابلس !

ووجدت المدينة المسلمة نفسها وحيدة أمام الطوفان ، وأحيط بالشعب المسكين، وسرعان ما دارت المفاوضات بين الحامية العبيدية (الفاطمية) وزعماء الجيش الصليبي على تأمين الحامية وإخراجها في سلام، وفتح أبواب المدينة للصليبيين ، مع الوعد بصيانة دماء وأعراض المسلمين ، ويتكرر بذلك سيناريو الأحداث في بيت المقدس، وكأنَّ الحامية العبيدية ليس لها دور إلا تسليم المدن الإسلامية إلى جيوش الصليبيين !

وخرجت بالفعل الحامية العبيدية في أمان، ودخل الصليبيون إلى مدينة طرابلس في أواخر سنة 503هـ، وتحديدًا في الحادي عشر من ذي الحجة ثاني أيام عيد الأضحى المبارك (1109م) !

غير أن الجيش الصليبي - كما هو متوقع - غدر بالمسلمين فقتل الكثير من أهل المدينة ، وأسر بقية الرجال، وتم سبي كل النساء والأطفال ، ونهبت الأموال الغزيرة؛ فقد كانت طرابلس من أغنى المدن الإسلامية ، وغنم الصليبيون ما لا يحصى من كتب العلم الموقوفة ، بل حرق الصليبيون في ميادين طرابلس أعدادًا لا يمكن إحصاؤها من الكتب والمخطوطات !

وبسقوط طرابلس تكون الإمارة الصليبية الرابعة قد تكوَّنت بعد حصار سبع سنوات متصلة ، ويكون حلم ريمون الرابع قد تحقق بعد موته ، وإمتلك المدينة ابنه برترام بن ريمون ، لتدخل المدينة فترة عصيبة من تاريخها لم تنتهِ إلا بعد مائة وثمانين سنة كاملة !!

ولم تلبث القلاع الإسلامية المتبقية في ساحل الشام أن تساقطت بعد حالة الإحباط المزرية التي أصابت المسلمين ، فسقطت مدينتا بانياس وجبلة في يد تانكرد وضمهما إلى إمارة أنطاكية ، ثم تبعتها بيروت حيث سقطت - بعد حصار 4 أشهر - في يد بلدوين الأول ملك بيت المقدس بمساعدة برترام بن ريمون في سنة (503هـ) مايو 1110م ، وذلك بعد حدوث مذبحة رهيبة في أهل بيروت المسلمين ، وأخيرًا سقطت مدينة صيدا اللبنانية ، وذلك لحساب بلدوين الأول ملك بيت المقدس ، وبمساعدة أسطول بحري بقيادة ملك النرويج شخصيًّا ، وأسطول آخر بندقي بقيادة دوق البندقية نفسه !

وعلى ذلك سقطت كل مدن الساحل الشامي من أنطاكية شمالاً إلى يافا جنوبًا ، ولم يبق من كل هذه المدن العديدة إلا صور وعسقلان اللتان تأخر سقوطهما نسبيًّا ، وظلتا فترة تحت الحكم العبيدي المصري !

أما المدن الداخلية فقد ذاقت هي الأخرى ألوان الذل ، وإن لم تقبع تحت الاحتلال المباشر ؛ فتانكرد على سبيل المثال حاصر حصن الأثارب غرب حلب - وهو حصن خطير في الطريق بين حلب وأنطاكية ، وهو تابع لإمارة حلب - وعرض تانكرد فك الحصار في مقابل دفع رضوان مبلغ ثلاثين ألف دينار ، ولكن رضوان لم يكن يريد دفع هذا المبلغ الكبير، ولم يكن يريد قتال تانكرد، فترك حصن الأثارب يسقط وكان ذلك في سنة (504هـ) ، وقتل الصليبيون ألفين من رجال المسلمين في داخل الحصن ، وأسروا الباقي ! لكن المشكلة الكُبْرَى أن السيطرة على هذا الحصن جعل حلب مهددة طوال الوقت، وتكرر حصارها إلى الدرجة التي آذت أهلها جدًّا، ولم يستطيعوا أن يخرجوا بسهولة إلى مزارعهم وتجارتهم ؛ مما دفع الكثير من سكانها إلى الهجرة إلى بغداد وغيرها ، وهذا بدوره دفع رضوان إلى عقد صلح مجحف مع تانكرد يتكفل فيه بدفع ثلاثين ألف دينار دون أن يتخلى تانكرد عن حصن الأثارب ، بل إن تانكرد احتل حصنًا آخر هو حصن زردنا، إضافةً إلى إطلاق كل أسرى الصليبيين والأرمن الموجودين في سجون حلب ، ومن هنا تدهور الحال جدًّا في حلب .

ومثلما حدث في حلب حدث في شيزر حيث دفع أميرها سلطان بن منقذ الجزية لتانكرد ، وكذلك تكرر الأمر في حماة حيث تكفل أميرها علي الكردي بدفع الجزية هو الآخر لتانكرد نظير مسالمته !

وهكذا أصبح تانكرد هو سيد المنطقة الشمالية من الشام، كما أصبح بلدوين الأول هو سيد المنطقة الجنوبية من الشام وكذلك فلسطين .

وعند هذا الحد تكون قد مرت ثلاث عشرة سنة على الاحتلال الصليبي للأراضي الإسلامية ، ونحتاج إلى وقفة لتدبر الوضع بعد أن تبلورت صورته إلى حد كبير، ولنأخذ بعض العِبَر من الموقف، ونستقرأ المستقبل الذي ستئول إليه الأحداث .

أولاً :
أخذت الإمارات الصليبية بعد هذه السنوات الثلاث عشرة شكلها النهائي ولن يكون التغيير بعد ذلك ولمدة عشرات السنوات كبيرًا، ونستطيع أن نجعل الصورة النهائية للوضع كما يلي :

وهكذا استقرت هذه الكيانات الأربع في عمق العالم الإسلامي ، ودام هذا الاستقرار عشرات السنين كما سيتبين لنا من سياق القصة .

ثانيًا : الوضع الذي وصفناه الآن لا شك أنه أشد وطأة من الوضع الذي نعاني منه الآن في فلسطين ؛

1- تكونت في أرض فلسطين وأجزاء من لبنان مملكة بيت المقدس الصليبية ، وهي الوحيدة التي أطلق عليها لقب مملكة، وهذا يدل على أنها غير تابعة لغيرها بينما يتبعها الآخرون ؛ وهذا هو الواقع الفعلي الذي رأيناه بعد ذلك، فإنه وإن تمتعت كل إمارة صليبية باستقلال ذاتي إلا أن الكلمة الأولى في شئون الصليبيين كانت لمملكة بيت المقدس، وكانت هذه المملكة تحت حكم بلدوين الأول الفرنسي ، وأخذت طابعًا فرنسيًّا بحتًا ، مما جعل المسلمين يطلقون على كل الصليبيين لفظ الفرنجة أو الفرنج أو الإفرنج، وكلها تعني الفرنسيين ، وهذا لمكانة مملكة بيت المقدس بالنسبة لغيرها من الإمارات، وكانت حدود مملكة بيت المقدس في سنة (504هـ) 1110م تمتد من بيروت شمالاً إلى يافا جنوبًا ، وتصل في العمق إلى مدينة القدس في فلسطين، وهي بذلك تضم عدة مدن في غاية الأهمية مثل : بيروت وصيدا وعكا وحيفا ويافا واللد والرملة ، وأهم من كل ذلك القدس الشريف، وسوف تتوسع هذه المملكة مستقبلاً حتى تضم أيضًا صور وعسقلان ، إضافةً إلى صحراء النقب كما سنرى في الصفحات القادمة .

2- الإمارة الثانية للصليبيين هي إمارة طرابلس التي تكونت حديثًا سنة (503هـ) 1109م ، وكان على رأسها الأمير برترام بن ريمون، وكانت هذه الإمارة في بادئ الأمر منقسمة على نفسها كما بينا، حيث كانت طرابلس والجبيل في يد برترام بن ريمون، وعرقة وطرطوس في يد وليم جوردان، غير أن وليم جوردان قُتل - كما يقولون - في ظروف غامضة ! ولا يستبعد أن الذي أوعز بقتله هو برترام بن ريمون ليخلو له الجو في الإمارة، وبالفعل تكونت إمارة طرابلس الموحدة، وكانت حدودها الشمالية تصل إلى طرطوس (في سوريا الآن) ، بينما تصل حدودها الجنوبية إلى مدينة جبيل في لبنان ، أما قاعدة الإمارة فهي مدينة طرابلس بالطبع .

3- الإمارة الثالثة هي أنطاكية، وأميرها هو تانكرد النورماني، وقد توسعت جنوبًا حتى وصلت إلى بانياس، وشمالاً إلى إقليم قليقية، وتوسعت أيضًا شرقًا حتى وصلت إلى مشارف حلب، وكان غالب الجيش في هذه الإمارة من النورمان الإيطاليين . 4- الإمارة الرابعة هي إمارة الرها ، وهي أول الإمارات تأسيسًا، ويقودها بلدوين دي بورج، وتضم عدة مدن في جنوب تركيا وشمال سوريا حول نهر الفرات، وأهم هذه المدن إلى جوار الرها مدينة سميساط وسروج والبيرة، إضافةً إلى مدينة تل باشر التي يقودها جوسلين دي كورتناي الشخصية الثانية في إمارة الرها .

ومع كون الوضع مترديًا على هذه الصورة فإنَّ المسلمين - كما سيتبين لنا - استطاعوا الخروج من الأزمة ولو بعد حين، وعلى هذا فإذا كانت أزمتنا الآن أهون فخروجنا منها أسهل بإذن الله، وحتمًا - كما يثبت لنا التاريخ - يظهر بعد الليل الطويل فجرٌ سعيد .

1- فالوضع أيام الحروب الصليبية لم يكن مقتصرًا على دولة واحدة، بل تأسست أربع دول . 2- ولم يكن الاحتلال مقصورًا على فلسطين وحدها ، بل شمل فلسطين ولبنان وسوريا وتركيا . 3- ولم يقبع الاحتلال هناك فترة قصيرة من الزمن إنما دام مائتي سنة . 4- كما أن المذابح التي رأيناها في احتلال المدن الإسلامية أكثر بكثير من كل ما نشاهده الآن في المدن الفلسطينية . 5- كما أن حالة الفُرقة بين المسلمين أشد وأعتى مما نعانيه الآن؛ فلو نظرت إلى سوريا فقط فإننا سنجدها في زمان الحروب الصليبية مقسمة إلى عدة إمارات منفصلة، منها حلب وحمص ودمشق وحماة وشيزر وبانياس وغيرها . ثالثًا :
رأينا الأخطاء المتتالية التي ارتكبها الجيل الذي عاصر الحروب الصليبية، وهذه الأخطاء المركبَّة لم يقوموا هم وحدهم بدفع ثمنها بعد ذلك، بل دفعتها أجيال متعاقبة، ولسنوات طويلة ؛ فقد شاهدوا على سبيل المثال تقاعسًا من المسلمين عن نصرة طرابلس المحاصرة ، وظل الحصار كما رأينا سبع سنوات متصلة ثم سقطت طرابلس ، واستمر هذا السقوط مائة وخمسًا وثمانين سنة !! أي دفع الثمن ستة أو سبعة أجيال متلاحقة ، مما يبين أن حجم الخطأ الذي يرتكبه المرء قد يكون له ذيول وعواقب تضاعف من أثره ونتائجه، وعليه فلا ينبغي أبدًا أن يستهين الإنسان بالذنب أو الخطأ ، ولعل المسلمين تخيلوا عند سقوط طرابلس أن هذا شيء عارض لن يستمر سوى عام أو عامين، ثم كانت العواقب كما رأينا .

وقد حذَّر رسولنا الكريم أن هذا قد يحدث مع الكلمة الواحدة ، فكيف بالفعل والأفعال ! يقول رسول الله : "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ
" .

رابعًا :
رأينا في المواقف السابقة تعاونًا مشينًا بين بعض القواد المسلمين كرضوان من ناحية أو جاولي من ناحية أخرى مع جيوش الصليبيين ، وفي لحظة من اللحظات ظنَّ هؤلاء أن عزتهم ستكون بالارتباط بالقوة العسكرية الأولى في المنطقة ، ثم رأينا سريعًا أن الصليبيين يتنكرون لهذا التعاون ، وينقلبون على الزعماء المسلمين عند أول فرصة ، ويبيعونهم بأبخس ثمن ، فقد أدَّوا دورهم في مرحلة، ثم لم يعد لهم قيمة ولا نفع ! لقد رأينا تانكرد لا يكتفي بالتنكر لعهده وحلفه مع رضوان ، بل رأيناه يقف بجيشه على أبواب حلب يقصفها ويحاصرها ويمنعها الطعام والشراب ، ويُمعِن في إذلال رضوان فيفرض عليه الجزية، ويسخر منه ويفضحه بين الناس !

إن هؤلاء الزعماء المساكين لم يمروا بقلوبهم أو حتى بعيونهم على قول الله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا
) , وأقول لهم : إن لم يكن لكم اعتبارٌ بكتاب الله ولا سنة رسوله فليكن لكم اعتبارٌ بالتاريخ ، وليست هذه صورًا نادرة نحكيها ، إنما هي السنة المطردة، والواقع المتكرر !

خامسًا :
إذا كنا رأينا هذه الصورة المتخاذلة من حكام الشام في هذه الفترة العصيبة، فلا بد أن نتساءل: أين علماء الشام ؟! لقد اختفى إلى حد كبير، وأحيانًا إلى حد مطلق مَن يأمر بالجهاد أو المقاومة أو التحرير، سواء في دمشق أو في حلب أو في غيرهم ا!
أين العلماء ؟!

واقع الأمر أنه كما ذكرنا قبل ذلك فقد فُرِّغت الشام من علمائها في أثناء الاحتلال العبيدي السابق لفترة حكم سلاجقة الشام، ولكن - للأسف الشديد - عند ولاية سلاجقة الشام بداية من تتش بن ألب أرسلان أو ولديه رضوان ودقاق كان التغيير في الوضع سياسيًّا فقط، لكن بقي للإسماعيلية الباطنية وجود كبير في داخل المدن الشامية، وعلى رأسها حلب ودمشق، ولكن مر بنا الظهور الإسماعيلي الشيعي الفج في حلب ودورهم في التأثير في رضوان حاكمها، ولكن هذا لم يكن في حلب وحدها ، إنما رأيناه في دمشق أيضً ا!! نعم لم نجد التعاطف الذي أبداه رضوان تجاه الإسماعيلية ، ولكن رأينا بدلاً من التعاطف خوفًا وجبنًا من الباطنية الإسماعيلية أفضى إلى نفس النتيجة، فقد اشتهر الباطنية بحوادث الاغتيال والمؤامرات؛ ولذلك آثر الحكام المسلمون السلامة ، ولم يتقدموا بأي جهد لتغيير الواقع الأليم، حتى رأينا تسلطًا من زعماء الإسماعيلية على مجريات الأمور في دمشق إلى الدرجة التي جعلت حاكمًا مثل طغتكين - على حُبِّه للجهاد ورغبته في نصرة السنة - لا يستطيع الوقوف في وجه الشيعة الإسماعيلية ، فأعطاهم قلعة بانياس بناءً على طلبهم ليتحصنوا بها !

ولكن المؤلم حقًّا أن من بقي من العلماء السنة في داخل دمشق لم تكن له القدرة على الكلام أو التعليم، ولم تكن عندهم الجرأة على النصح والإرشاد، ولما إستفحل أمر بهرام داعي الباطنية في دمشق، وانتشر فساده ماذا فعل العلماء؟! يقول ابن القلانسي في وصفه حال العلماء آنذاك : "وضاقت صدور العلماء وأرباب الدين وأهل السنة، ولم يتجاسروا على الكلام خوفًا من أسرهم وقتلهم
" .

آهِ لو خاف العَالِم وسكت ! آه لو تعلل العالِم بعذر فاعتزل! آه لو تمسك العالِم بدنياه فأضاع دينه ودين الناس !

لعل هذه الملاحظة - أعني سكوت العلماء وخوفهم على حياتهم - من أهم أسباب الأزمة التي رأيناها أيام الحروب الصليبية، ومن أهم أسباب الضعف في أي فترة من فترات سقوط الأمة الإسلامية؛ فالعلماء ورثة الأنبياء، وهم قادة الأمة الحقيقيون، فلو ضلُّوا وضاعوا فكيف يُرجى للأمة هداية ؟!

سادسًا :
وإذا كنا رصدنا في هذا التحليل القصور الشديد الذي كان عليه الحكام والعلماء، فإن هذا لا يعني أن نعفي الشعوب من المسئولية !
أين الشعب في الشام؟!
أين شعب حلب ودمشق وحماة وحمص؟!
أين شعب بيروت وصيدا وحيفا وعكا؟!
أين أولئك الذين لم يصابوا في دينهم ومقدساتهم فقط، بل أصيبوا في أموالهم وأملاكهم وأعراضهم؟!

إن الشعب الذي يسكت على مثل هذا الذل شعبٌ لا يستحق الحياة !
إن الحاكم لا شيء بغير شعبه ، وإلا فكيف كان يقاتل رضوان إلى جوار الصليبيين؟! هل كان يقاتل بمفرده، أم إنه يقاتل بجيش كبير، ومن وراء الجيش وزراء وأمراء، ومعهم علماء وقضاة وفقهاء ومدرسون، ومن ورائهم موظفون وتجار وفلاحون؟! ألم يكن في بيت كل واحد من هؤلاء زوجة وأم وأخت وبنت؟! ألم يسمع أيُّ واحد من هؤلاء كلمة نصح، أو على الأقل كلمة تعجب: لماذا تفعلون هذه الأفعال ؟!
إن المصيبة كانت عامة! والخطأ مركب، ولا تحدث مثل هذه الكوارث العامة، والنكبات الهائلة إلا بتقصير عام من شتى طوائف الشعب من أعلى سلطة فيه إلى أقل عامل من عمال المسلمين، إلا من رحمه الله، وقليل ما هم !!

سابعًا :
رأينا في هذه المواقف أيضًا أن الدولة العبيدية قد باعت القضية تمامًا، فبعد المحاولات الثلاث التي قامت بها عند مدينة الرملة توقفت جهودهم تمامًا لاسترداد فلسطين، أو على الأقل لتأمين الحدود الشرقية للدولة المصرية ، وهذا كان أمرًا متوقعًا منهم بعد أن شاهدنا تخاذلهم في القدس ، وشاهدنا تخاذلهم في عكا ، وشاهدنا استغلالهم للموقف في طرابلس لحسابهم وليس للمصلحة العامة للمسلمين، وشاهدنا أيضًا تخاذل علمائهم في حلب ودمشق، بل وشاهدنا الفظائع التي ارتكبها الباطنيون الإسماعيلية هنا وهناك !

إن هذا كله يثبت أن هذا الدين لا ينصره مختل العقيدة أو مضطرب الفكر، إن هذا الدين عزيز ثمين، ولن يحمل رايته إلا المخلصون الفاهمون !

ثامنًا :
مع كل هذا الظلام الذي رأيناه في قصة بداية الاحتلال إلا أن النور لا ينعدم! فقد شاهدنا أمثلة تدل على أن الخير في الأمة لا ينقطع، والهمة لا تموت، نعم قد تضعف، ولكنها أبدًا لا تموت ؛ ولعل رؤيتنا لسقمان بن أرتق وهو يذهب إلى الجهاد في حالته المرضية الشديدة دليلٌ على هذا الكلام، كما رأينا في موقعة البليخ وما ظهر فيها من جهاد وتجرد لله، إضافةً إلى حملات عسكرية متكررة من طغتكين أمير دمشق الذي كان - على سلبياته - محبًّا للجهاد، محببًا عند الرعية، راغبًا في الخير، نادمًا على أخطائه التي لعل من أبرزها سكوته على الإسماعيلية بل إعطاءهم قلعة بانياس، ومع ذلك فإنه عند موته أوصى ابنه بوري بن طغتكين الذي تولى الأمر من بعده بأن يُعلِي من شأن العلماء السُّنَّة، وأن يتمسك بالجهاد في سبيل الله .

إن الأمثلة التي رأيناها في هذه الفترة لم تكن هي الأمثلة الخالصة التي يتحقق التغيير على يدها، ولكنها كانت أمثلة طيبة حملت الراية لمن بعدها، تمهيدًا لظهور شخصية تامة التجرد لله؛ ليُنزِل الله عليها نصره .

تاسعًا : مع شدة الألم الذي إعتصر قلوبنا لسقوط المدن الإسلامية الواحدة تلو الأخرى، ولذبح الآلاف من المسلمين، فإنَّ هذه الغمة كانت سببًا في توضيح الرؤية للشعوب ولنا، فبعض الحكام يُدلِّس على شعبه ؛ مستغلاً إعلامه وجنوده ومقربيه ، وموهمًا الجميع أنه يتحلى بالحكمة ، ويتصف بالكياسة ، ويتميز بحسن الرأي والقرار ، بل لعله يتظاهر بحب الشريعة ، وبذل النفس من أجل الدين ! لكن تأتي مثل هذه الأحداث المحزنة فتكشف الأوراق، وتبدي الحقائق ، ويعرف الناس الغَثَّ من السمين ، والصالح من الطالح ، ولعل هذا من أبرز فوائد هذه الكوارث ، ومن أعظم نتائجها، وصدق الله إذ يقول : (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ
) .

عاشرًا :
برز لنا بوضوح في هذه الأحداث أن الخير سيأتي - غالبًا - من جهة شمال العراق ، وتحديدًا من مدينة الموصل، وإذا كنا قد رأينا حملات كربوغا وجكرمش ، فإننا سنرى ما هو أعظم منها على يد مودود بن التونتكين ، ثم سيكون الظهور الأجلُّ لعماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي ، وكلهم سيأتي من هذه المناطق، وقد ذكرنا قبل ذلك مبررات هذه الخيرية في هذه المنطقة في هذا التوقيت ، ولكن الوقفة المهمة التي نريد أن نلفت الأنظار إليها هي أن التغيير قد يأتي من مكان بعيد جدًّا عن الأحداث ، فقد رأيناه هنا يأتي من شمال العراق بدلاً من الشام أو فلسطين أو آسيا الصغرى ، وهي الأماكن المنكوبة في القصة ، ورأيناه في قصة التتار يأتي من مصر، مع أن التتار لم يدخلوا مصر أصلاً، ورأينا إصلاح أوضاع الأندلس بعد أن كاد الإسلام ينتهي فيها، يأتي على يد عبد الرحمن الداخل صقر قريش القادم من دمشق ، وهكذا ؛ وعلى ذلك فعند وقوع مثل هذه النكبات لا ينبغي لنا عند التحليل والتقييم أن نقصر النظرة على البلد المنكوب ، بل نوسع النظر لنشمل العالم الإسلامي بكامله ، وحتمًا عندها سنرى النور هنا أو هناك، وهذه هي عظمة هذا الدين .


 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس