عرض مشاركة واحدة

قديم 04-03-14, 04:57 AM

  رقم المشاركة : 20
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

ولْنَعُدْ إلى موقفنا المعقَّد في العراق !

إن الأمور لم تهدأ بطبيعة الحال ؛ لقد ترك السلطان سنجر إبن أخيه السلطان طغرل في كرسي السلطنة وعاد إلى خراسان ، ولا شكَّ أن هذا أضعف موقفه ، وأطمع المتنافسين فيه ! وكان السلطان طغرل يتَّخذ من همذان مقرًّا له ، فقام الملك داود بن محمود ومعه أتابكه والمتصرِّف في شئونه آقسنقر الأحمديلي بالثورة على السلطان طغرل ، وجمعا الجيوش ، وحدث تصادم بين القوَّتين في رمضان سنة 526هـ بالقرب من همذان ، وإنتهى الأمر بهزيمة الملك داود ، وإستقرار الأمر من جديد للسلطان طغرل .

ولكنَّ الأمر لم يقف عند هذا الحدِّ ، فقد رحل الملك داود إلى بغداد ، وإلتقى بالخليفة المسترشد بالله الذي أكرم وفادته ، وإستقبله إستقبالاً كبيرًا ، وأنزله بدار السلطان ، وإن لم يخلع عليه لقب السلطنة ؛ فهو الآن ضعيف مهزوم !


سمع بهذه الأحداث الملك مسعود ، وكان يرى أنه أحقُّ الناس بالسلطنة ؛ لأنه أكبر الإخوة ، وعلى الأقلِّ فهو أحقُّ من السلطان الحالي طغرل أخيه الأصغر ، فذهب مسرعًا إلى بغداد ، وإلتقى بالخليفة المسترشد وبالملك داود ، وإتفق معهما على أن يخلع الخليفةُ عليه لقب السلطان على أن يكون داود بن محمود وليَّ عهد له ، وبذلك ينفذ المخطط القديم الذي كان بين الخليفة المسترشد بالله والملك مسعود مع إختلاف ولاية العهد ، فإنها ستكون لداود بدلاً من الملك سلجوقشاه !

وجمع الملك مسعود والملك داود جيوشهما ، وتصادما مع جيش الملك طغرل في أكثر من موضع في بلاد فارس ، وإنتصر الملك مسعود ، وبالتالي أخذ لقب السلطنة ، وكان هذا في أواخر سنة 527هـ ، حيث أخذت الأحداث المؤسفة السابقة عامًا كاملاً .

وفي ظلِّ هذه الأزمات المتتالية كان إسماعيل بن بوري حاكم دمشق الفاسد يرقب الأحداث ، ومن ثَمَّ باغت مدينة حماة التي كانت تتبع عماد الدين زنكي ، فحاصرها حصارًا شديدًا ، وإنتهى الأمر بإسقاطها لصالحه ، وكانت خسارة كبيرة جدًّا للإمارة الزنكية الناشئة ؛ لأن حماة مركز مهمٌّ للإنطلاق نحو دمشق ، كما أنها مركز مهمٌّ أيضًا لحرب إمارة طرابلس ، لكن على فداحة هذه الحادثة إلاَّ أنها كانت متوقَّعة ؛ نتيجة الخلل الأمني الخطير من جرَّاء صراعات السلاطين والملوك السلاجقة !

ومع ذلك فالأمير المحنَّك عماد الدين زنكي لم يكفّ عن إرسال السرايا لحرب الصليبيين ؛ وذلك ليمنعهم من الطمع في بلاد المسلمين نتيجة الفتن المتتالية بالعراق ، وكان القائم بهذه الحملات العسكريَّة في المعظم هو سوار أمير حلب ؛ ومن ذلك مهاجمته لمدينة تلِّ باشر التابعة لإمارة الرها في جمادى الآخرة سنة 527هـ ، وإنتصاره على الصليبيين مع قتل ألف منهم ، هذا غير الغنائم الكثيرة التي ظفر بها ، وفوق ذلك فقد جنَّد سوار عدَّة فرق من التركمان من أرض الجزيرة ، وإستغلَّهم في الهجوم على إمارتي أنطاكية وطرابلس ، وحقَّق عدَّة إنتصارات هنا وهناك ، وقتلوا عددًا كبيرًا من الصليبيين ، وغنموا غنائم أخرى .

ولم يكن الهدف من هذه المعارك هو تحرير هذه الإمارات ؛ لأن القوَّة الإسلاميَّة لم تكن كافية لذلك ، ولكن كان الهدف الرئيسي هو قطع طمع الصليبيين في حلب وما حولها ، وذلك إلى أن تنتهي فتنة العراق ، ويتفرغ عماد الدين زنكي لمشروعه الجهاديِّ من جديد .. ومن هذا المنظور فقد نجحت هذه الحملات نجاحًا كبيرًا ، وإن لم تفلح في تحرير قلعة أو مدينة !

ثم نعود إلى قصتنا في العراق وفارس !

نحن الآن في سنة 528هـ وكرسي السلطنة مع الملك مسعود ، لكن هذا - ولا شكَّ - لن يُرضِي السلطان المخلوع طغرل ، الذي ما زال يتلقَّى معونات السلطان سنجر من بعيد ! , ولهذا فقد جمع السلطان طغرل قوَّته من هنا وهناك ، وأغرى الملك داود بن محمد بالإنفصال عن السلطان مسعود ، وحدث ذلك بالفعل ، بل وإستقطب بعض الفرق من جيش السلطان مسعود بنفسه ، ودارت معارك في أرض فارس بين الأخوين طغرل ومسعود ، وإنتهى الأمر بإنتصار السلطان طغرل من جديد على أخيه السلطان مسعود ، وبذلك عاد كرسي السلطنة مرَّة أخرى إلى السلطان طغرل !

لقد دخل المسلمون في تِيهِ الصراعات والفتن ، فأصبح أمرًا عاديًّا أن يتقاتل الإخوة ، وتتصارع الجيوش الإسلاميَّة مع بعضها البعض ، وأصبح أيضًا أمرًا مألوفًا أن ينتقل كرسي السلطنة من واحد إلى آخر كل عدَّة أشهر ، وكأنه منصبٌ عادي بسيط لا يؤثِّر في مسيرة أُمَّة كاملة !

ولا شكَّ أنه في ظلِّ هذه الظروف سيطمع كل مَن كان في قلبه مرض ، وكان أشدّ الناس معاناة في هذا الموضوع هو عماد الدين زنكي رحمه الله ؛ فقد تعب كثيرًا من أجل توحيد المسلمين في كيان واحد يصلح لجهاد الصليبيين ، ثم ها هو يرى بعينيه أن الكيان ينهار أمامه ، وأن السلاطين المسلمين يتصارعون معًا بدلاً من توحيد القوة في إتجاه صحيح ، بل ويستقطب كل واحد منهم طائفة من المسلمين فيستعديها على الأخرى ؛ ومن هنا ظهرت القلاقل في كل مكان ، وبدأت الأحوال تضطرب في داخل الإمارة الزنكيَّة الواسعة ، وشعر الناس أن عماد الدين زنكي مضطر للإنتظار حتى يرى نتيجة صراع السلاطين ، وكان عماد الدين زنكي نفسه متحرِّجًا من المشاركة في هذه الصراعات ، فنجده قابعًا بجيشه في الموصل منتظرًا لإستقرار الأحداث ، غير أنها كانت لا تستقرُّ !

في هذه الظروف قامت عدَّة إنقلابات في مناطق الأكراد الحميدية والهكارية في شمال وشمال شرق الموصل ، وكانت هذه المناطق - كما بيَّنَّا قبل ذلك - قد خضعت لحكم عماد الدين زنكي ، ولكنهم في ظلِّ هذه الإضطرابات طمعوا في الإنفصال عن الإمارة الزنكيَّة ، بل وبدءوا في الإغارة على حقول الفلاَّحين وأسواق التجَّار ؛ مما أحدث فزعًا كبيرًا في الموصل ، ولكن عماد الدين زنكي تعامل مع الموضوع بمنتهى الحزم ، فأخذ فرقة من جيشه ، وإتجه إليهم بنفسه ، وبعد عدَّة صدامات في جبالهم الوعرة إستطاع بفضل الله أن يقمعهم ، ويُسيطر على متمرِّديهم ، ويمتلك عدَّة قلاع وحصون لهم في أعالي جبالهم ، وما هي إلاَّ عدَّة أشهر حتى عاد الأمن من جديد ، وإستقرَّت الأوضاع .

ثم ما لبثت المشاكل أن ظهرت في منطقة جديدة هي منطقة الجزيرة وأراضي ديار بكر ؛ حيث وجد الزعماء هناك أن الأوضاع المستقبلة في العراق - التي شغلت عماد الدين زنكي بشكل كبير - ما هي إلاَّ فرصة لهم ليعيدوا السيطرة على ما ضمَّه عماد الدين زنكي قبل ذلك إلى إمارته ..

وإذا نظرنا إلى وضع هذه المناطق فإننا - كما ذكرنا من قبلُ - سنجد أن فيها قياداتٍ كثيرةً وزعامات متعددة ، لكن كل هذه الزعامات لا وزن لها ، اللهم إلا ثلاثة يمثِّلون أكبر قوَّة في هذه المناطق ، وهؤلاء هم الثلاثة الذين إشتركوا قبل ذلك في سنة 524هـ ، أي منذ أربع سنوات ، في حربٍ ضدَّ عماد الدين زنكي ، وهي موقعة دارا .

1- حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي ، وهو أمير ماردين .

2- ركن الدولة داود بن سقمان (إبن عم الأول) ، وهو أمير حصن كيفا .

3- سعد الدولة أبو منصور إيكلدي ، صاحب آمد .


وجد عماد الدين زنكي رحمه الله أن تجمُّع هؤلاء من جديد سيمثِّل عائقًا كبيرًا لمشروع الوَحدة ، خاصَّة في الظروف التي يمرُّ بها الآن ؛ حيث الأوضاع المضطربة في العراق وفارس ، وحيث الإنقلابات المتكرِّرة في مناطق الأكراد ، وحيث الهجمات الصليبية المتوقَّعة في منطقة حلب وما حولها ، ومن ثَمَّ فإنه لا بُدَّ من التعامل مع هذه المشاكل الجديدة بشيءٍ من الحسم وسرعة القرار .

وجد عماد الدين زنكي أن قتال هؤلاء الزعماء مجتمعين سوف يؤدِّي إلى خسائر كبيرة ، ومن ثَمَّ قرَّر أن يسلك الطريق السياسي لتفتيت إتحادهم ، وإستقطاب بعضهم ؛ لتنتهي المشكلة بأقلِّ خسائر ممكنة ..

وعند النظر إلى شخصيات وإمكانيات هؤلاء الزعماء ، فإنه وجد أن ركن الدولة داود شديد التصلُّب ويتَّصف بالعِنْد ، أما سعد الدولة أبو منصور إيكلدي فهو ضعيف ، وإمكانياته محدودة ، ويبقى حسام الدين تمرتاش فهو صاحب قوَّة كبيرة ، وإن كان هو شخصيًّا يتميَّز بالمرونة السياسيَّة ، كما أنه - كما وصف إبن الأثير - يحبُّ الدِّعَةَ والرفاهية ! وعلى ذلك ففرصة التوحُّد مع حسام الدين تمرتاش وإغراؤه بفكِّ التحالف مع هؤلاء الضعفاء ، وجعل تحالفه مع عماد الدين زنكي شخصيًّا قد تكون فكرة صائبة .. ومن هنا بدأ عماد الدين زنكي رحمه الله يتقرب من حسام الدين تمرتاش ، فأوقف التحرُّكات العسكريَّة ناحية بلاده ، وأرسل له بعض الهدايا ، مع تذكيره بأهمية الوَحْدة بين المسلمين ، وإغرائه بإتساع ملكه في حال التوحُّد معه .

ووجد هذا الأمر قبولاً سريعًا عند حسام الدين تمرتاش ، ووجد في صداقة عماد الدين زنكي أكبر النفع عن صداقته مع ركن الدولة داود أو سعد الدولة إيكلدي ، فتجاوب مع تقرُّب عماد الدين زنكي ، ثم ما لبث الأمر أن وصل إلى تحالفٍ سياسي معلن ، وتوحيد القوَّتين في كيان واحد ، وبدأ عماد الدين زنكي وحليفه حسام الدين تمرتاش في بسط السيطرة على المناطق المحيطة ، وجُوبهوا - بلا شكٍّ - بمقاومة من الزعيمين الآخرين ، إلاَّ أنهماإ نتصرا في أول الصدامات ، وتمَّ الإستيلاء على قلعة من أهمِّ قلاع ركن الدولة داود ، وهي قلعة الصَّوْر قرب ماردين ، وأهداها عماد الدين زنكي إلى حليفه الجديد حسام الدين تمرتاش ؛ تأكيدًا على الحلف الذي بينهما .

هكذا إستطاع عماد الدين زنكي بسياسته أن يوظِّف حسام الدين تمرتاش لصالحه ، وأن لا يكتفي فقط بضمِّ أراضٍ جديدة لإمارته ، بل ويرسِّخ الأمن فيها دون أن يعرِّض قوَّاته لخطر كبير .

ونترك إقليم الجزيرة وديار بكر ، ونترك الإمارة كلها لنرحل رحلة سريعة في عقل بطلنا عماد الدين زنكي !


إن الأحداث الجارية في الأُمَّة الآن تكشف طبيعة الرجال ومعادنهم ، كما تكشف قوَّتهم وإمكانياتهم .. فما هي الرؤية الصائبة في هذه الأحداث ؟ وما هو ردُّ الفعل المناسب الذي من المفترض أن يتعامل به عماد الدين مع الأحداث ؟.

إنه إعتاد - كما كان يفعل أبوه من قبل - أن يكون ولاؤه لسلطان السلاجقة ؛ لأنه هو الأقوى ، وهو الذي يتحكم فعليًّا في الأمور ، وهو الذي يتحمَّس لقضايا المسلمين ويتحرَّك إليها .. إنه اعتاد على ذلك منذ زمنٍ ، لكن شتَّان بين سلاطين الأمس وسلاطين اليوم ! أين الثَّرى من الثُّريَّا ؟!

أين مجموعة السلاطين المتصارعة الآن من ألب أرسلان أو ملكشاه أو بركياروق أو محمد ؟ حتى السلطان محمود - على صغر سنِّه - كانت له رؤيةٌ ، وكانت له طموحات جيدة للأُمَّة الإسلامية ، كما أنه كانت له قوَّة يستطيع بها أن يتغلب على منافسيه ، ومن ثَمَّ تستقرُّ أوضاع البلاد ، وتتفرغ إلى همومها الخارجيَّة ، وعلى رأسها قضية الصليبيين .

أما هؤلاء السلاطين الأقزام فعلامَ يتقاتلون ؟!

هل يستطيع أحدٌ أن يقول : إن هذا القتال لله ؟! بل هل يستطيع أحد أن يجزم أن الحقَّ في الصراع مع هذا الطرف دون غيره؟!
... إن المعاصرين للحدث أنفسهم كانوا لا يستطيعون أن يجزموا أن فلانًا على حقٍّ ، وغيره على باطل ! ولذلك ترى الزعماء والأمراء والجنود والشعوب كثيرًا ما تنقلب من طاعة سلطان إلى طاعة غيره ، وليس ذلك لضعف في الأخلاق أو المبادئ ، ولكن لضعفٍ في الرؤية والتحليل .

ثم إن كل السلاطين ضعفاء ! أو على الأقلِّ قوَّتهم متكافئة ؛ فيصعد سلطان على الكرسيِّ عدَّة أشهر ، وأحيانًا عدَّة أيام ، ثم يخلعه غيره ! ويُنادى بالسلطنة لفلان في بلد ، ويُنادى بها لغيره في بلد مجاور ، ويقف الخليفة اليوم مع سلطان، ويقف غدًا مع سلطان ثانٍ، وقد يقف بعد غدٍ مع سلطان ثالث !


إنها فتنة تترك الحليم حيرانَ !


لقد شهدت السنوات الثلاث التي أعقبت موت السلطان محمود ولاية داود ، ثم مسعود ، ثم طغرل ، ثم مسعود ، ثم الآن طغرل ! ولا يعلم أحد كيف يكون الغد ؟!

أهذا أمر يُعقل؟! ثم إن الخليفة الطموح المسترشد بالله صار طرفًا في الصراع ، وله جيش مؤثِّر ، وإن لم يكن كبيرًا جدًّا ، بحيث يفرض على الجميع كلمته ، لكنه أصبح من عناصر التأثير المحسوبة في المعادلة ، فهل سيأتي زمنٌ يحمل فيه الخليفة مهامَّ الخلافة كما يحمل إسمها ؟!

إنه سؤال صعب في وسط هذه المتغيِّرات الكثيرة ! ولنتجوَّل في عقل بطلنا عماد الدين زنكي !


مع أيِّ هذه القوى ينضمُّ ؟ وأيُّ هذه القوى يناصر ؟ وأي القوى أعظم ؟! .. لقد كان يقف مع الملك مسعود في البداية ؛ لأنه الأخ الأكبر من الإخوة المتصارعين ، ويبدو أنه كان أقرب إلى السلطنة .. أما الآن فقد كشفت الصراعات أن الجميع ضعيف ، وأن الجميع من طلاَّب الدنيا ، وإن حَسُنت أخلاقهم ، ورقَّت طبائعهم .. فهل يُكمِل المسيرة مع السلطان مسعود ؟ أم يُوَجِّه عونه إلى سلطان آخر ؟ أم يقف مع الخليفة ؟!

إن الأمر جِدُّ محيِّر !! بل محيِّر جدًّا .


أتدرون وجه الحيرة في المسألة ؟! إن الحيرة ليست فقط في الإختيار بين المتنازعين ، ولكن الحيرة في شيء أعظم ! لقد أثبتت الأيام أن عماد الدين زنكي أقوى من الجميع !!
إنه أقوى من كل سلاطين هذه الأيام ، وكذلك أقوى من الخليفة العباسي !! إنه ليس فقط أقوى أخلاقيًّا أو عقائديًّا ، لكنه أقوى كذلك ماديًّا وعسكريًّا ، وهو أقوى أيضًا في فَهْمه وعقله ورؤيته , إنه الوحيد الذي جعل من قضية الصليبيين قضية حياته ، والوحيد الذي حمل على أكتافه مهمة توحيد المسلمين ، والوحيد الذي كان يستشير الفقهاء والعلماء فيما يفعل وفيما يختار .

ثم إنه أقوى كذلك في حبِّ الناس له ؛ إنَّ قلوب المسلمين في كل مكان تهفو إليه ، ويتناقل الجميع أخباره بشغفٍ وحب ولهفة ، ولا يختلف عليه إثنان من عموم الشعوب ، لكن مَن مِن الناس يتعلق بأحد هؤلاء السلاطين ؟! إن وجود طغرل لا يفرق كثيرًا عن مسعود ! وسلجوقشاه لا يختلف كثيرًا عن داود ! ولو ظهرت شخصية رابعة أو خامسة أو عاشرة فلن يفرق هذا كثيرًا مع الناس !


إن هذا هو الواقع الحقيقي ، فلماذا لا يُصبِح عماد الدين زنكي هو القوة الأولى في العالم الإسلامي ، ويصبح قائمًا بما يجب أن يقوم به السلطان ؟!


إنه سؤال جريء !ولكنه سؤال واقعي ! إن الإجابة المحزنة قد تكون : إنه ليس سلجوقيًّا ! فكيف يقوم مقامه ؟!

وهل لا بد للسلطان أن يكون سلجوقيًّا ؟! وهل لا بد للخليفة أن يكون عباسيًّا ؟! وهل لا بد للحكم أن يكون توارثيًّا ؟!


إنها أسئلة جريئة ، لكن الإجابة عليها ستكشف لنا أخطاء كثيرة وقعت فيها الأمة في كثير من فترات حياتها .. إنني لا أمانع أن يتولى الإبن بعد الأب حكم البلاد ، إن كان الإبن كملكشاه الذي تولى الحكم بعد أبيه ألب أرسلان .

إن هذا توارث غير مخلٍّ بقواعد الشريعة ، ولا آداب الحكم وأصوله .. إن الحاكم المسلم لا بد أن تتوافر فيه صفات كثيرة من العلم والقوة وحسن الخلق وتوقير الشريعة والكفاءة في الإدارة وحسن السياسة ، وغير ذلك من صفات لا بد أن يتحلى بها الحاكم ، فإن توافرت هذه الصفات في الإبن أو الأخ فلا مانع من أن يتولى بعد أبيه أو أخيه .. أما أن يتولى حكم المسلمين فقط لأن مؤهلاته هي القرابة من الحاكم ، فهذا لا يجوز شرعًا ولا عقلاً !

لقد كانت فترة السلاجقة فترةً مهمَّة في حياة الأمة الإسلامية ، وذلك أيام طغرل بك مؤسِّس الدولة ثم ألب أرسلان وملكشاه وغيرهم من السلاطين الأقوياء ، لقد كانت فترة مهمة رفعوا فيها راية الإسلام عالية ، لكن إذا ضعف أمرهم فلا بد أن يحمل الراية آخرون ، ولا يُضحَّى أبدًا بالأمة في سبيل أشخاص ، والله يقول : ( وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) .

وكما ذهب المُلْك من يد أقوامٍ إلى السلاجقة ، فلا بد أن يأتي يوم ويذهب المُلْك من يد السلاجقة إلى غيرهم .. ويبدو أن هذا "الغير" في هذه الأيام سيكون عماد الدين زنكي !

إن رصيد عماد الدين زنكي من الجهاد والخبرة والمواهب والكفاءة يرشِّحه لهذا المنصب الرفيع دون منافس حقيقي في زمانه ، وإلا فمَن مِن الأسماء المتصارعة يدانيه في ملكاته ؟ خاصةً أنهم جميعًا من صغار السن قليلي الخبرة ؛ فالسلطان مسعود - وهو أكبرهم - لم يتجاوز في سنة 528هـ السادسة والعشرين من عمره ، بينما يبلغ عماد الدين زنكي من العمر الآن الحادية والخمسين من العمر ! إنه رجلٌ عركته التجارب ، ودرَّبته الخطوب والأحداث ، وشهد القريب والبعيد ببراعته ، وعرف الجميع قوته ، ولو ملك أمر المسلمين فإنهم جميعًا سيسعدون به ، ويكونون طوع كلمته .

لكن ماذا يفعل عماد الدين زنكي الآن ؟! هل يُعلِن الثورة وينفصل بإمارته عن الجميع ؟

أم يقف بقوته مع أحد الضعفاء فيصبح هذا الضعيف قويًّا به ؟

إن إعلانه الثورة قد يفتح نيران السلاجقة أجمعين ؛ لأنه ليس سلجوقيًّا ، وبذلك تدخل البلاد في تِيهِ الصراعات .. وكذلك وقوفه بجوار أحد الضعفاء سيقوِّي مركزه على حساب غيره ، وسيصعد هذا الضعيف على كرسيٍّ لا يناسبه ، وإلى مقام لا ينبغي أن يصل إليه ، وفي هذا خداع للناس ، وخيانة للأمانة .


كما أن قضية الصليبيين ستُنسى تمامًا في خضم هذه المعارك الداخلية المقيتة !

ماذا يفعل عماد الدين زنكي ؟!


إنه يريد أن يُغلِق هذا الملف تمامًا ليتفرغ إلى قضية الصليبييين ، وليعيد البسمة إلى شفاه المسلمين المعذَّبين ، والمجروحين في كرامتهم ، والمطرودين من ديارهم وأرضهم .

فأين الطريق في هذه المتاهات المخيفة ؟!


لقد فكَّر عماد الدين زنكي كثيرًا ثم أخذ قراره ! لقد قرر أن يعيش قصته "وكأنه" منفصلٌ عن السلطنة والخلافة ، لكنه لن يُعلِن الإنفصال لكي لا يثير الغضب ، ويحرِّك الفتن .

إنه سوف يضع هؤلاء الضعفاء جميعًا خلف ظهره ، حتى لو إستقر الأمر لأحدهم ، فهم سيأخذونه إلى الدنيا التي يريدونها إذا سار خلفهم ، أما هو فسيقود الأمة إلى عزِّها ومجدها ، وقبل ذلك وبعده إلى رضاء ربِّها .

إن في عنقه أمانة ثقيلة ، ولا يريد أن يضيِّع وقته في جدال طويل ، أو في صراع عقيم .. إنه لن يُعلِن الآن أنه الزعيم الأول الذي يجب أن يُتبع ، وقد لا يعلن ذلك مطلقًا ، ولكنه سيعمل بعمل الرجل الأول ، وفي نفس الوقت فهو سيتلطَّف قدر ما يستطيع مع أشباه الزعماء الذين يعاصرونه ؛ ليتجنَّب أذاهم ، أو عرقلتهم لمشروعه الكبير !

إنه سيجعل ساحة عمله في المنطقة التي حددها السلطان الراحل محمود في منشوره لعماد الدين زنكي ، وهي مناطق الموصل والجزيرة والشام ، ولن يلتفت إلى مناطق الصراعات السلجوقية والعباسية ، وهي مناطق بغداد ووسط العراق وفارس وغيرها ، وخاصةً أن وَحْدة الموصل والجزيرة والشام قادرة بإذن الله على فعل شيء ذي قيمة مع الصليبيين ، ومن أدرانا ؟! فلعل هذا الجهد من عماد الدين زنكي يستكمله غيره فيوسِّع دوائر الوحدة ، ويعزُّ الأمة أكثر وأكثر ، ولقد كان مُلْك طغرل بك أو ألب أرسلان صغيرًا جدًّا بالقياس إلى مُلْك الإبن ملكشاه ، ولكن هكذا دومًا الأمور ، تنمو بتدرج !!

ثم في النهاية ، إنَّ عماد الدين زنكي يعمل لله كما تدل على ذلك الشواهد الكثيرة التي ذكرناها قبل ذلك وهذا الذي يعمل لله لن يضيِّعه الله ، ولو لم ير ثمار عمله ؛ فإن الله يحفظ له أجرها يوم القيامة ، وهذا منتهى آمال المؤمنين .

لقد كانت هذه هي الأفكار التي جالت في ذهن البطل عماد الدين زنكي ، وهذه هي الرؤية التي بَصُرها بعد جَهْدٍ عميق ، وبعد فتنة إستمرت حتى الآن ثلاث سنوات ، ولا يعلم أحد إلا الله متى ستنتهي .

وعلى ذلك فقد بدأ عماد الدين زنكي في سياسته الجديدة فورًا ، وهي سياسة تلطيف العَلاقات دون وعد صريح بالوقوف إلى جانب طرف دون طرف .

وبدأ عماد الدين زنكي بالخليفة المسترشد بالله ، خاصةً أنه كان هناك صدام مع هذا الخليفة منذ سنتين يوم أنْ كان عماد الدين زنكي مناصرًا للملك مسعود ؛ وأرسل عماد الدين زنكي الهدايا للخليفة ، بل وأرسل إبنه الأكبر سيف الدين غازي ليؤكِّد طاعته للخليفة وولاءَه له وتقديره لمكانته ، فإطمأنت بذلك نفس الخليفة ، وتبادل مع عماد الدين زنكي الهدايا .

وفي مطلع سنة 529هـ ، وبينما عماد الدين زنكي رحمه الله يرتِّب أوراقه ليرى كيفية التعامل مع الوضع الجديد للسلاطين ؛ حيث كان طغرل على كرسيِّ السلطنة منذ عدة أشهر ، وصل نبأ عجيب ! لقد تُوفِّي طغرل فجأةً في المحرم من هذه السنة وهو في السادسة والعشرين من عمره ! وهكذا تحرَّك الملك مسعود بسرعة ، وجمع الأعوان ، وإعتلى كرسي السلطنة !

لقد خلا الجو لمسعود ليكون السلطان الجديد ، خاصةً أن داود بن محمود قد ضعفت قوته جدًّا بعد قتل أتابكه (مربِّيه) آقسنقر الأحمديلي ، ويقال أنَّ الذي قتله هو مسعود عن طريق الباطنيَّة .. كما أن السلطان سنجر قد شعر بعدم إمكانية الخوض في صراع فارس والعراق بعد موت مرشَّحه للسلطنة الملك طغرل ، أما سلجوقشاه فكانت قوَّته أضعف من الجميع .

وهكذا وصل السلطان مسعود إلى الحكم لا لكونه مستحقًّا ، ولكن لخلوِّ الساحة من الآخرين ، وكان من الواضح أن الدولة السلجوقيَّة في نزعها الأخير !

في نفس هذا الوقت وصلت إلى عماد الدين زنكي إستغاثة عجيبة من دمشق ! لقد أرسل زعيمها الفاسد شمس الملوك إسماعيل بن بوري إستغاثة إلى عماد الدين زنكي يطلب منه أن يأتي ويتسلَّم مدينة دمشق ! وأصل الحكاية أن شمس الملوك إسماعيل أظهر من الفساد ما لا يُتوقع ، حتى إنَّه قتل أخاه سونج بالجوع ! حيث حبسه في بيتٍ وتركه عدَّة أيام حتى مات من الجوع . ثم إنه بدأ يُصادر أموال الناس ، وينهب أملاكهم ، حتى إنه لم يكن يتردد عن نهب الحقير من الأشياء ، وكان لا يمتنع عن سرقة أموال الفقراء ، فضجَّ الناس كلهم أجمعون ، وإعترض عليه بعض الأعوان فقتلهم ، ثم أظهر عدم التردُّد في قتل كل معارض ؛ مما أحدث إضطرابًا عنيفًا في دمشق ، وحتى وصل الأمر إلى أن شمس الملوك إسماعيل صار يخاف على نفسه تمامًا ، وتوقع إنتقامًا قريبًا من الناس ، وبدأ يخشى حتى من أشدِّ مقربيه ، وشعر أنه سيُقتل بين لحظة وأخرى ؛ وهذا دفعه إلى الإستغاثة بعماد الدين زنكي الرجل الأول في العالم الإسلامي آنذاك ، وعرض عليه أن يتسلم المدينة في نظير حمايته، بل إنه هدَّد من شدة خوفه أنه إن لم يأت مسرعًا فإنه سوف يسلِّم المدينة إلى الصليبيين !

وجد عماد الدين زنكي أن هذه فرصة ثمينة لضمِّ دمشق إلى مملكته ، وتوجه فورًا من الموصل إلى مدينة دمشق ، غير أنه في طريقه إليها وجد فرصة سانحة لضم مدينة الرَّقَّة إلى كيانه الموحَّد .. ومدينة الرقة هي مدينة من مدن إقليم الجزيرة ، وهي قريبة من حرَّان ، وتقع شرق الفرات ، وأفلح فعلاً في ضم المدينة ، ولكن هذا عطَّله قليلاً ، فوصل إلى دمشق متأخرًا نسبيًّا ، فوجد أن شمس الملوك إسماعيل قد قُتل ، وقد جاءته مؤامرة القتل من حيث لا يحتسب ! حيث إن الذي دبَّرت محاولة قتله هي : أمُّه !! وهذا من أعجب الأمور في التاريخ حيث تسعى أمٌّ إلى التآمر لقتل إبنها الملك ؛ وذلك لأنه من شدة فساده كان يدبِّر لقتل أمِّه ، فسارعت هي بقتله ! فلما قُتِل شمس الملوك تولى من بعده أخوه شهاب الدين محمود بن بوري ، وإتفق أهل دمشق على طاعته .

حاصر عماد الدين زنكي دمشق محاولاً ضمها ، لكنها إستعصت عليه ، وأصرت على عدم الانضمام لوَحْدة المسلمين ، وتحصن أهلها في الحصون المختلفة ، وتولى الدفاع عن دمشق شخصية عسكرية خطيرة سيكون لها شأن في تاريخ دمشق ، وهو معين الدين أَنُر ، وهو من مماليك طغتكين أمير دمشق الراحل ، وكان معين الدين أنر رجلاً عسكريًّا فذًّا ، غير أنه كان نفعيًّا إلى أكبر درجة ، ولم يكن يمانع من إستخدام أي وسيلة لتثبيت قدمه في منصبه ، وسوف يصل الأمر معه إلى التعاون المباشر مع الصليبيين .

في هذه الأثناء حدثت تطورات ساخنة في العراق حيث راودت الخليفة المسترشد بالله الأحلام في الإستقلال عن الدولة السلجوقية ، خاصةً بعد أن أغراه الملك داود بن محمود بالإتحاد معه لحرب عمِّه السلطان مسعود ؛ فجهَّز الخليفة جيوشه وبدأ يستعد لحرب مباشرة مع السلطان الجديد مسعود !

وعلى الساحة الشاميَّة وجد عماد الدين زنكي أن فرصة إسقاط دمشق ضعيفة جدًّا ، وأنه في ظل الأوضاع المتقلبة التي تعاني منها الأمة الإسلامية لن يستطيع أن يمكث طويلاً أمام أسوار دمشق .. ثم إنه وجد أن حماة الآن قد خلت من الحاميات القوية نظرًا لسحب معظم الطاقة العسكرية التي كانت بها إلى دمشق لمواجهة الأوضاع الجديدة هناك ، وكان قد مرَّ بنا أن شمس الملوك إسماعيل ضم حماة إلى دمشق في أثناء الصراعات الدائرة في العراق ، وذلك منذ ثلاث سنوات ومن هنا فإن عماد الدين زنكي إستغل الفرصة ، وترك دمشق الحصينة ، وتوجه إلى مدينة حماة ، وإستطاع أن يعيد امتلاكها ، وتوجه منها إلى حمص ، وحاصرها كذلك ، إلا أن حمص الحصينة قاومت بقيادة قريش بن خيرخان ، وبالتالي تعذَّر عليه ضم هذه المدينة المهمَّة ، فعاد منها إلى حلب .

في غضون هذه الأحداث وصلت الأخبار بالصدام المؤسف بين الخليفة المسترشد بالله والسلطان مسعود في العاشر من رمضان سنة (529هـ) يونيو 1135م ، وكان النصر حليفًا للسلطان مسعود ، وتم أسر الخليفة المسترشد بالله ، ولم يُقتل في هذه المعركة أي إنسان ! وتم التحفُّظ على الخليفة في همذان ، وهي المقر الرئيسي للسلطان مسعود .

كانت نتيجة مؤسفة جدًّا للخليفة العباسي ، وإضطر الخليفة إلى قبول الصلح المذل مع السلطان مسعود ؛ إذ كان الصلح يقضي بأن يدفع الخليفة مبلغ أربعمائة ألف دينار للسلطان مسعود ، وأن لا يعود لتجميع العساكر أبدًا ، وأن لا يخرج من داره ، فضلاً عن إقرار السلطان مسعود في كرسيِّ السلطنة !

قَبِل الخليفة الوضع الجديد ، وبينما هو يتأهب للرحيل والعودة إلى بغداد حدث أمرٌ أشد أسفًا من كل ما سبق ؛ إذ دخل عليه أربعة وعشرون رجلاً من الباطنيَّة في خيمته وقطَّعوه إربًا !! وكان ذلك في السابع عشر من ذي القعدة من سنة 529هـ .

ترامت الأنباء أن السلطان مسعود هو الذي حضَّ على قتل الخليفة ؛ لأنه لم يكن يأمن له حتى بعد إقراره ببنود الصلح القاسية ، ومع ذلك فقد بويع لإبنه أبي جعفر المنصور الملقَّب بالراشد بالله ، لكن كان من الواضح أن المنطقة أصبحت على مِرْجَلٍ يغلي بعنفٍ ، خاصةً أن السلطان مسعود لم يكتف بذلك ، بل توجَّه لحرب إبن أخيه داود بن محمود ، الذي كان قد تحالف مع المسترشد بالله ضدَّه !

كان عماد الدين زنكي في أثناء هذه الكوارث مشغولاً بما هو أهم وأعظم ، فقد توجه إلى حلب وذلك بعد ضم حماة ، وفشله في ضم حمص ، وهناك بدأ يخطِّط للهجوم على أنطاكية مستغلاًّ حالة الإضطراب العسكري هناك ، خاصةً وهو يعلم أنها الآن تحت الحكم المباشر للأميرة المتهورة أليس ! ولكي يضمن عماد الدين زنكي رحمه الله أن لا تصل نجدة إلى إمارة أنطاكية من إمارة الرها القريبة ، أرسل أمير حلب سوار ليهاجم مدن تلِّ باشر وعَيْنتاب وعَزاز ، وبذلك قطع طرق الإتصال بين الرها وأنطاكية ، وشعل جيوش الرها بنفسها ، فلا تصبح لها فرصة في التوجُّه إلى أنطاكية .

بعد هذا التخطيط بدأ عماد الدين زنكي رحمه الله في مهاجمة الحصون والقلاع الواقعة في أطراف إمارة أنطاكية ، وكذلك المدن الإسلامية المحتلة في هذه المنطقة ، وبعد عدة معارك متتالية إستطاع بطلنا أن يحرر كفرطاب ومعرَّة النعمان وزردنا ، فكانت هذه الإنتصارات بمنزلة البَلْسم على الجروح الإسلاميَّة الكثيرة في هذه الفترة !

أثارت هذه الانتصارات المتكررة إنتباه الجميع ، سواء من الصليبيين أو من المسلمين !
فعلى الصعيد الصليبي ألقت هذه الإنتصارات الرعب في قلب أليس أميرة أنطاكية ، فلجأت إلى رعونة جديدة ! فلقد أرسلت الأميرة أليس إلى إمبراطور الدولة البيزنطية تعرض عليه زواج إبنتها كونستانس من إبن الإمبراطور يوحنا ألكسيوس كومنين ، وبالتالي الإشراف المباشر من الدولة البيزنطية الأرثوذكسية على أنطاكية الكاثوليكية !

وكانت خطوة هزت الصليبيين من الأعماق ، فهم يحاولون دفع الدولة البيزنطية عن أنطاكية منذ ما يقرب من أربعين سنة ، ثم في لحظة واحدة ستُضيِّع هذه الأميرة الطائشة كل جهود الصليبيين ! ثار الصليبيون في أنطاكية بشدة ، وتراسلوا مع الملك فولك الأنجوي الذي لم يجد حلاًّ إلا أن يزوِّج الأميرة الصغيرة كونستانس - التي لم تبلغ العاشرة بعدُ - من شخصية موالية له ، وتصلح أن تقود إمارة أنطاكية ، ووقع إختياره على الأمير ريموند بواتييه ، وهو أحد أبناء الأمير وليم التاسع دوق أكويتانيا ، وكان أميرًا فرنسيًّا يعيش في بلاط هنري الأول ملك إنجلترا في ذلك الوقت ، فإستدعاه على عجل ، وجاء الأمير ريموند بواتييه ، وتزوج من كونستانس ، وصار بذلك أميرًا لأنطاكية ، وكان هذا الأمير من القوة بحيث أعاد من جديد تنظيم الأوضاع داخل أنطاكية ، وبالتالي عُزلت الأميرة المتمردة أليس عن الأحداث ، فآثرت أن تذهب إلى اللاذقية ، حيث ماتت هناك بعد قليل !


كان هذا على الصعيد الصليبي ..

أما على الصعيد الإسلامي فإنَّ إنتصارات عماد الدين زنكي أثارت ردود فعل متباينة في العالم الإسلامي ، فبينما تلقَّت الشعوب الإسلامية ، وكذلك العلماء والفقهاء والصالحون من أبناء الأمة هذه الأخبار بالفرح والسرور ، وإزدياد الأمل في الخروج من الأزمة ، إذا بآخرين يتلقون هذه الأنباء بقلق بالغ وعصبية زائدة !

لقد شعر السلطان مسعود بالقلق الشديد من إانتصارات البطل عماد الدين زنكي ، وتنامى عنده القلق من أكثر من وجه :


أولاً : كان عماد الدين زنكي على علاقة طيبة بالخليفة المسترشد في أيامه الأخيرة ، وقد يثور لحادث قتله ، خاصةً أن عموم الناس يتناقلون أن السلطان مسعود هو الذي دفع الباطنية لقتل الخليفة .

ثانيًا :
هذه الإنتصارات المتتالية رفعت عماد الدين زنكي جدًّا في عيون المسلمين فصار أثقل من كل السلاطين ، ولا يستبعد أبدًا أن يستقل عماد الدين زنكي بكل المناطق التي يحكمها ، وقد إستقل غيره قبل ذلك بمدنهم مع أنهم أضعف منه جدًّا ؛ فهذه دمشق يحكمها أولاد طغتكين ، وهذه حمص يحكمها أولاد خيرخان ، وهذه شيزر يحكمها أولاد منقذ ، وهكذا .

ثالثًا :
المشروع التوحيدي الذي يقوم به عماد الدين زنكي واضح للجميع ، فهو قد نجح في ضم الموصل إلى حلب إلى حماة ، فضلاً عن عدد كبير من مدن الجزيرة ، وأقام علاقات قوية مع الأكراد ، وكذلك مع حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي ، وهو زعيم الأراتقة ، ولا يستبعد أن يستمر عماد الدين زنكي في مشروعه التوحيدي هذا على حساب بقيَّة المدن الإسلامية ، وقد يصل الأمر إلى التوجُّه إلى بغداد ذاتها ، أو إلى أرض فارس حيث معاقل السلاجقة .

رابعًا :
أعداء السلطان مسعود كُثُر ، وعلى رأسهم إبن أخيه داود بن محمود وأخوه سلجوقشاه ، وكذلك عمه السلطان سنجر ، فماذا يحدث لو تحالف أحد هؤلاء مع عماد الدين زنكي ضد السلطان مسعود ؟!

هذه الأسباب مجتمعة جعلت السلطان مسعود يفكر في فعل خبيث غير متوقع من رجل يُوصف بحسن الخُلُق ، وهو أخذ القرار الآثم بقتل عماد الدين زنكي !!!


إنه لن يكتفي بعزله ، حيث سيظل موجودًا على الساحة كأقوى منافس له ، ولكنه سيستريح منه نهائيًّا بقتله ، غير عابئٍ بأحلام المسلمين ، ولا جهاد الصليبيين ، ولا توحيد الأمة الإسلامية !

إنها النظرة الأنانية البحتة التي نرى الكون كله يدور حول مركز السلطان ، وبالتالي فهو يريد تسخير كل الأحداث لخدمته هو شخصيًّا ، مهما كانت النتائج .

ومع هذا التدبير الخبيث إلا أن الله كان رحيمًا بعباده ؛ لقد جعل الله نجاة عماد الدين زنكي في رجل عجيب ما توقَّع أحدٌ أن يأتي خير من ورائه !

إنه دُبَيْس بن صَدَقة !


إنه هذا الزعيم الشيعي الفاسد الذي إستنقذه عماد الدين زنكي قبل ذلك بعدة سنوات من أسر بوري بن طغتكين له ، وعامله بالحسنى ، وقرَّبه وأكرمه ، فحفظ الجميل لعماد الدين زنكي ! لقد كان هذا الرجل في بلاط السلطان مسعود حيث كان منضمًّا إليه في حرب الخليفة ؛ لأننا نعرف مدى الصراع الذي كان بين دبيس والخليفة المسترشد بالله .

ثم إنه إطَّلع على هذه النية الفاسدة من السلطان مسعود ، وعرف أن تدبير جريمة القتل سيكون عن طريق إستدعاء عماد الدين زنكي إلى بلاط السلطان في همذان ، ثم إغتياله على حين غِرَّة ؛ فأسرع بإرسال رسالة عاجلة إلى عماد الدين زنكي يخبره بالمؤامرة ، ويحذِّره من القدوم على بلاط السلطان !

وسبحان الله ! فقد علم السلطان مسعود أن دبيس بن صدقة هو الذي كشف مؤامرته ، وضيَّع فرصة إغتيال عماد الدين زنكي رحمه الله ، فقام بقتل دبيس بن صدقة على الفور ! وهنا قال عماد الدين زنكي كلمته المشهورة : " فديناه بالمال ، ففدانا بالروح!" .

لقد كانت هذه إرادة الله أن يحفظ حياة عماد الدين زنكي عدة سنوات أخرى ؛ لأنه سبحانه كان يدَّخره لأعمال أخرى جليلة .


ومع حدوث مثل هذا الموقف المقزز ، وتعرض عماد الدين زنكي وهو في أوج نشاطه في جهاد الصليبيين لطعنة في ظهره إلا أنه ظل مهتمًّا بمشروعه الجهادي ، ولم يُرِدْ لنفسه أن تغوص قدمه في الصراعات الدنيوية التي يشعلها السلاطين بينهم وبين بعضهم البعض ، ومع ذلك فتعرضه هو شخصيًّا إلى محاولة إغتيال سيدفعه دفعًا على عدم إهمال الأحداث ، وإلى محاولة دفع الضرر دون الإنغماس في مشاكلهم المركَّبة !

إن الوضع في العراق الآن ملتهب جدًّا ؛ لقد بويع للراشد بالله إبن المسترشد بالله شريطة ألاَّ يُجهِّز الجيوش ، وألاَّ يحارب السلطان مسعود ، ولكن كان من الصعب على الخليفة الجديد أن يتجاهل قول الجميع بأن الذي دفع الباطنية لقتل أبيه هو السلطان مسعود ، إضافةً إلى إجتماع كثير من الأمراء الذي خشوا من عنف السلطان مسعود على ترك مسعود والتوجُّه للخليفة الراشد بالله ، وكذلك فعل الملوك داود بن محمود الذي يبحث عن سلطنته الضائعة !! لقد قرر هؤلاء جميعًا أن يقاتلوا السلطان مسعود من جديد ، وعليه فقد تجمعت قوتهم في بغداد بينما كان السلطان مسعود في همذان !

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس