عرض مشاركة واحدة

قديم 04-03-14, 04:59 AM

  رقم المشاركة : 21
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

قرأ عماد الدين زنكي هذه الأحداث ، فقرر أن يكون قريبًا دون أن يغرق في مستنقع الصراع ، وعليه فقد إقترب إلى الموصل ليكون على أهبة الاستعداد إذا جدَّ جديد ، بينما أعلن بوضوح أنه في صفِّ الراشد بالله ، ولم يكن يستطيع أحد أن ينكر هذا الولاء الجديد للخليفة بعد معرفة مؤامرة السلطان مسعود لقتل البطل عماد الدين زنكي .

دارت المعارك في بغداد بين جيش الخليفة الراشد بالله وأعوانه من الأمراء وكذلك داود بن محمود ، وبين السلطان مسعود ، وكانت الغلبة في هذه المعارك للسلطان مسعود الذي دخل بغداد عنوة ، وإضطر الخليفة الراشد بالله أن يهرب في إتجاه الشمال حيث إستقبله عماد الدين زنكي في الموصل ترقبًا لما يحدث في بغداد .

إجتمع السلطان مسعود مع أعيان العباسيين في بغداد ، وكان يريد أن يخلع الخليفة الراشد بالله ؛ لأنه خالف الاتفاق المعقود بينهما على عدم قتال السلطان ، وأن يضع خليفة غيره يجتمع عليه الناس ، وفي ذات الوقت يطيع السلطان مسعود ، ومن ثَمَّ لا يتجدد الصراع ..

وقد وقع إختيار العباسيين - وأقرهم السلطان مسعود - على رجل فاضل محبوب له سيرة حسنة ، ويحب العدل ، ومن ثَمَّ تهدأ الأمور في البلاد ، وكان هذا الرجل هو أبو عبد الله محمد بن المستظهر بالله ، وهو أخو الخليفة المقتول المسترشد بالله ، وعمّ الخليفة المخلوع الراشد بالله ، وقد لُقِّب بعد خلافته بلقب "المقتفي لأمر الله" ، وإستقر له الأمر بعد ذلك أكثر من أربعٍ وعشرين سنة ، ومن ثَمَّ هدأت أمور بغداد كثيرًا ، وكان هذا الأمر في أواخر سنة 530هـ (ذي الحجة 530هـ\ سبتمبر 1136م) .

أما البطل عماد الدين زنكي ، فإنه لم يجعل هذه الأحداث الساخنة تلهيه عن أهدافه الكبرى ؛ ولذلك فعلى الرغم من إنتصار مسعود وتمكُّنه من السلطنة إلا أن عماد الدين زنكي لم يُشغِل نفسه لا كثيرًا ولا قليلاً بالإنتقام لنفسه من مسعود الذي كان يدبر قتله ، مع أن قوته العسكرية ومكانته في قلوب الناس كانت تمكنه من الإنتقام من السلطان مسعود ، إلا أنه لم يكن يريد أن يتشتت في معارك جانبية ، وكان يريد ألا ينسى دومًا القضيتين العظيمتين في حياته ، وهما : وحدة المسلمين ، وجهاد الصليبيين
.

وعلى هذا فقد عمل عماد الدين زنكي في هذه الفترة ، في أواخر 530هـ وأوائل 531هـ في أربعة محاور رئيسية وهي :


المحور الأول : إقامة علاقات طيبة مع الخليفة المقتفي بالله ؛ لضمان عدم حدوث قلاقل مع الكيان العباسي ، وإن لم يكن بالقوة المخوِّفة ، لكن كان من الواضح من سير الأحداث أن المسلمين ما زالوا يهتمون برأي الخليفة وتزكيته حتى مع ضعفه ، إضافةً إلى ما إشتهر به الخليفة الجديد من حُسْن السيرة والعدل وحبِّ الناس له .

المحور الثاني :
توسيع الإمارة الزنكية في إتجاه الجزيرة بالتعاون مع حسام الدين تمرتاش ، وقد قام الحليفان عماد الدين زنكي وحسام الدين تمرتاش بالهجوم المشترك على جبل جور ومنطقة السيوان ، وهذه مناطق تقع في شمال ديار بكر ، مما يعني التوسع الكبير في أراضي الجزيرة ، وهذا دفع المقاومين لهذا المشروع التوحيدي أن يهدءوا كثيرًا ، ومن ثَمَّ إستقرت الأوضاع جدًّا في مناطق الجزيرة ، وهذا أعطى فرصة لعماد الدين زنكي للتفرغ للصليبيين .

المحور الثالث :
هو مدينة حمص ، التي تمثِّل عقبة في طريق دمشق ، وكذلك تمثل نقطة ضعف في ظهر عماد الدين زنكي إذا أراد الهجوم على أنطاكية أو طرابلس ، ومن ثَمَّ كرر عماد الدين زنكي محاولاته في حصار المدينة ، ولكنه لم ينجح في فتحها ، إلا أن هذه المحاولات هزَّت صاحبها قريش بن خيرخان فإضطر إلى تسليم المدينة لشهاب الدين محمود صاحب دمشق ؛ ليساعده في الدفاع عنها ضد عماد الدين زنكي ، وعندها وضع شهاب الدين عليها أقوى أمرائه وأصلبهم معين الدين أَنُر .

المحور الرابع :
وهو أهم المحاور ، وهو محور الصليبيين ، وقد حرص عماد الدين زنكي على ألا يتركهم يأخذون فرصة لإعادة تنظيم صفوفهم ، فكان دائم المباغتة لهم ، ومن ذلك ما فعلوه في منطقة اللاذقية من نصر عظيم على القوات الصليبية وتدمير كبير لحصونهم هناك ، وقتل عدد كبير من جنودهم ، وكذلك أسر أكثر من سبعة آلاف صليبي دفعة واحدة ، مع أخذ ما لا يقدر من الغنائم ، ويكفي أن الدواب المغنومة كانت أكثر من مائة ألف رأس من الخيول والبغال والحمير والبقر والغنم ! هذا سوى الأقمشة والحليِّ والبضائع مما يخرج - كما يقول إبن الأثير - عن الحد !

لقد كان نصرًا عظيمًا حقًّا أعاد للمسلمين الكثير من الثقة ، وكان ذلك في شهر شعبان سنة 530هـ .


ومع كون عماد الدين زنكي مشغولاً في هذه المحاور مجتمعة إلا أنه حرص على تأمين ظهره تحسُّبًا من أي غدر من ناحية السلطان مسعود ، وهذا دفعه إلى ضم مدينة دقوقا ، وهي مدينة تقع بين مدينتي إربل وبغداد ، أي أنها تقع في جنوب شرق الموصل ، وبذلك تصبح مدينة تفصل بينه وبين أملاك السلطان مسعود ، ليكتشف تحركاته قبل أن يباغت في الموصل ، وكان ضم هذه المدينة في أوائل سنة 531هـ .

ثم إن الله مهَّد لعماد الدين زنكي بإضعاف قوة الصليبيين عن طريق حملة قام بها أحد زعماء جيش دمشق وإسمه بزواش ، حيث أراد أن يقوم بشيء مثل الذي يقوم به عماد الدين زنكي ، مع أن الدمشقيين كانوا لا يمانعون إذا إقتضت الحاجة أن يتعاونوا مع الصليبيين ! وسنرى قريبًا مثالاً لهذا التعاون ، لكن الذي حدث أن هذا القائد أخذ فرقة من جيشه ، وساعده كثيرٌ من التركمان من المنطقة ومن ديار بكر ، وقاوموا بإغارة سريعة على إمارة طرابلس ، فخرج لهم بونز بن برترام أمير طرابلس ، ودار قتال كبير حقق فيه المسلمون نصرًا كبيرًا بجوار قلعة الصنجيل التي أسَّسها ريمون الرابع جَدُّ بونز ، وحدثت مفاجأة في هذا القتال إذ قُتِل بونز بن برترام أمير طرابلس ! كما أسر عدد كبير من جنوده ، هذا فضلاً عن الغنائم الوفيرة .

لقد سرت روح الجهاد التي نفثها عماد الدين زنكي في الأمة حتى تحرك جيش لم يعقد أبدًا على الجهاد في هذه الفترة ليحقق هذا الإنجاز الكبير ، ويُضعِف بذلك من قوة إمارة طرابلس جدًّا ، بل ومن قوة الصليبيين جميعًا .

وقد تولى حكم إمارة طرابلس بعد قتل أميرها إبنه ريمون الثاني ، ليبدأ حكمه بأزمة عسكرية وسياسية كبيرة .. وقد تمت هذه المعركة في رجب من سنة 531هـ\ مارس 1137م .

ولقد كانت هذه المعركة السابقة عجيبة في تاريخ الصراع الإسلامي- الصليبي ؛ وذلك لأن قواد دمشق في ذلك الوقت يقتربون من الصليبيين ، بل ويتراسلون معهم للدفاع المشترك ضد عماد الدين زنكي ! مما يوحي أن هذه المعركة كانت محاولة فردية من أحد الفرق العسكرية الدمشقية قوَّاها وجود عدد كبير من المتطوعين التركمان مما أحدث هذا الأثر الكبير .. لكن للأسف مع حدوث هذا النصر الكبير ، وهذه النتائج المؤثرة إلا أن علاقة التعاون بين دمشق والصليبيين لم تنقطع حتى بعد هذه المعركة ! مما يؤكد على أن هذا الصدام لم يكن يمثِّل توجهًا عسكريًّا للحكومة الدمشقية في هذا الوقت .

ويؤكد على ذلك ما حدث في الشهر التالي مباشرة ، أي في شهر شعبان سنة 531هـ عندما حَصَر عماد الدين زنكي مدينة حمص ، فقاومه بشدة أميرها معين الدين أَنُر ، ولما شعر بأن مقاومته قد تنهار أسرع بالإستنجاد بأمراء الصليبيين ، فجاءت نجدة صليبية على رأسها ملك بيت المقدس نفسه فولك الأنجوي ، بل وكان فيها أيضًا ريمون الثاني الذي قُتل أبوه منذ أيام على أيدي الدمشقيين ! وهكذا واجهت القوات الحمصية الدمشقية الصليبية المشتركة جيوش عماد الدين زنكي مما أجبره على رفع الحصار عن حمص ، لكنَّ هذا الموقف أعطاه - وأعطى المسلمين جميعًا - رؤية واضحة عن طبيعة معين الدين أنر وشهاب الدين محمود .. وهذه المواقف - على بشاعتها - تكشف الأوراق ، وتوضِّح الخبايا وليس من شكٍّ أن الزعيم المسلم الذي تؤيده قوى الاحتلال هو زعيم عميل لا إخلاص عنده للقضية ، ولا يعمل إلا لنفسه ، وليس من أمل فيه لنصر المسلمين .

غير أن عماد الدين زنكي وجد قدوم الصليبيين إلى هذه المنطقة المتقدمة في الشام فرصة لقتالهم ، خاصةً أن جيش طرابلس القريب قد تعرض لهزيمة قريبة ، وقتل زعيمه الخبير بونز بن برترام ، كما أن فولك يأتي من أماكن بعيدة ، وقد يكون من الصعب عليه أن ينسحب إلى مكان آمن ؛ ولهذا قرر عماد الدين زنكي أن يستدرج الجيوش الصليبية للحرب بعيدًا عن أسوار حمص ، وفي نفس الوقت فإنه كان يريد أن يضغط على الصليبيين ليختاروا طريق الحرب معه ، ولا يفكروا بتجنُّب القتال والعودة لإماراتهم ، فماذا يفعل ؟!

لقد قرر عماد الدين زنكي أن يهاجم مَعْلمًا مهمًّا من معالم الصليبيين المهمة ، والذي سيضطرون إضطرارًا إلى الدفاع عنه ، ومن ثَمَّ قتال عماد الدين زنكي .. وكان هذا المَعْلم هو حصن بعرين (بارين) الضخم على المنحدرات الشرقية لتلال النصيرية ، والذي يحرس المنفذ المؤدِّي إلى منطقة البقيعة .

إن هذا الحصن له أهمية بالغة حيث إن الذي سيسيطر عليه سيشرف تمامًا على حوض نهر العاصي ، وبذلك سيمنع الإتصالات بين إمارة أنطاكية في الشمال ، وإمارة طرابلس ومملكة بيت المقدس في الجنوب ، كما أنه يشرف إشرافًا مباشرًا على حمص وحماة .

وهكذا إقتربت فعلاً الجيوش الصليبية لحماية حصن بارين المهم ، الذي كان مملوكًا في هذا الوقت للصليبيين ، وبه عدد كبير من الجنود الصليبيين .

وفي الساحات المجاورة لهذا الحصن ، وفي شهر شوال سنة 531هـ\ يونيو سنة 1137م ، دارت موقعة شهيرة من مواقع الإسلام ..
إنها موقعة حصن بارين !!

إنها موقعة يشترك فيها رأسان مهمان من رءوس الصليبيين : الملك فولك الأنجوي ملك بيت المقدس ، والأمير ريمون الثاني أمير طرابلس .. ودار القتال شديدًا عنيفًا ، وتساقط القتلى هنا وهناك ، وإرتفعت سحب الغبار تغطِّي كل شيء ، ثم ما لبث الغبار أن إنقشع ليُسفِر عن النتيجة الحاسمة ! , لقد إنتصر المسلمون نصرًا مبينًا !

لقد قُتل معظم الجيش الصليبي ، وأُسر معظم الذي بقي على قيد الحياة ، وكان الأمير ريمون الثاني من أولئك الذين أسروا ، أما الملك فولك الأنجوي فقد فرَّ هاربًا في فرقة من جيش إلى حصن بعرين المجاور ، ثم أسرع الملك فولك الأنجوي بإرسال رسالة إستغاثة عاجلة يطلب فيها من الأمير ريموند بواتييه أمير أنطاكية ، ومن الأمير جوسلين الثاني أمير الرها أن يأتيا بسرعة على رأس جيوشهما لنجدة الجنود المحاصَرين في قلعة بارين الحصينة .

وأسرع عماد الدين زنكي رحمه الله ، وحاصر الحصن حصارًا محكمًا ، فمنع عنه كل شيء ، وضبط الطرق المؤدية إليه تمام الضبط ، حتى إنقطع الملك فولك تمامًا عن العالم الخارجي ، وما عاد مدركًا لما يحدث في الخارج .

أخذت المجانيق الإسلامية تقصف الحصن الضخم لَيْلَ نهار ، وقد بدا واضحًا أن المسألة مسألة وقت ، وأن الجيوش الصليبية المحصورة ليست عندها النية أن تخرج لحرب المسلمين إلا إذا جاءت لها نجدة كبيرة .

وبينما عماد الدين زنكي رحمه الله يحاصر الحصن العملاق وصلت الأخبار بتحرك جيش الرها وأنطاكية في إتجاه حصن بارين ، بل ظهرت بوادر مفاجئة بتحرك جيوش الدولة البيزنطية صوب المنطقة ، وهذا للمرة الأولى منذ بداية الحروب الصليبية !

لقد كان الموقف صعبًا حقيقةً ؛ لأن جيوش الدولة البيزنطية كبيرة ، وإذا إشتركت مع الجيوش الصليبية فقد يُحصر عماد الدين زنكي بينهم وبين الصليبيين الموجودين في حصن بارين ، وهذا قد يُضيِّع مكاسب الإنتصار السابق .

أما لماذا تدخلت الدولة البيزنطية فذلك لسببين :

أما السبب الأول فهو تحرك القساوسة والرهبان فورًا بعد حصر الملك فولك في حصن بارين ، وذلك من إمارتي الرها وأنطاكية إلى البلاط البيزنطي ، وناشدوا الإمبراطور البيزنطي التدخل لنجدة الجيش الصليبي المحصور في حصن بارين ، ذاكرين له أنه إذا قتل الملك فولك فالطريق إلى بيت المقدس سيكون مفتوحًا للمسلمين .

وأما السبب الثاني
فهو غضب الإمبراطور البيزنطي من زواج الأميرة كونستانس إبنة الأميرة أليس من ريموند بواتييه ، وذلك بعد أن عرضت الأميرة أليس زواج إبنتها على إبن الإمبراطور البيزنطي يوحنا كومنين ، إذ كيف يُعرض الزواج على إبن الإمبراطور ثم يُرغب في غيره ، مع الأخذ في الإعتبار طبعًا أن هذا الزواج كان سيضع أنطاكية تحت الإشراف البيزنطي المباشر .

وهكذا تطورت الأحداث لتنذر بمشكلة قد يقع فيها عماد الدين زنكي والمسلمون !

ماذا يفعل عماد الدين زنكي ؟!

لقد إستغل عماد الدين زنكي رحمه الله فرصة إنقطاع الأخبار عن الملك فولك الأنجوي ، وشدد جدًّا من قصف الحصن ، على أمل أن يطلب الملك فولك التسليم بأيِّ شروط ، فتنتهي مشكلة حصن بارين قبل قدوم القوات النصرانية المشتركة .. وقد حدث فعلاً ما توقع البطل عماد الدين زنكي ، وأرسل الملك فولك يطلب التفاوض من أجل فك الحصار !
لقد كان الله مع الجيش المسلم .

وليس الذي حدث هذا أمرًا غريبًا ؛ فالله دومًا ينصر من نصره ، يقول تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ
) .

ووافق عماد الدين زنكي على التفاوض السريع ، وهو يمنع في كل ذلك أي أخبار من الوصول إلى الملك فولك ، ليتم الأمر على ما يريد عماد الدين زنكي .. ووصل الطرفان فعلاً إلى إتفاق ، حيث سيخرج الصليبيون من داخل الحصن آمنين ، ويطلق سراح الأمير ريمون الثاني ، وذلك في نظير أن يسلَّم حصن بارين الخطير للمسلمين ، ويدفع الملك فولك مبلغ خمسين ألف دينار ذهبية .

وتم فعلاً تنفيذ الإتفاق، وتسلم المسلمون الحصن المهم ، وإحتفظوا بعدد كبير من الأسرى ، وأطلق سراح الملك فولك ومن معه من جنود في داخل الحصن ، وكذلك الأمير ريمون الثاني .

لقد أفلحت خطة عماد الدين زنكي ، وندم الملك فولك ندمًا شديدًا بعد أن علم بتجمُّع الجيوش النصرانية ، لكن لم يكن هناك حلٌ آخر أمامه .

وقبل أن نذكر ما فعلته الجيوش البيزنطية والصليبية نعلِّق على ما فعله عماد الدين زنكي رحمه الله مع المسلمين بعد تحرير بعض المناطق المجاورة للحصن ، فلقد جاء المسلمون الذين حُرِّرت أراضيهم يطلبونها ، وذكرنا قبل ذلك في موضع آخر من الكتاب أنه وزَّع الأراضي على كل من كان معه إثبات بملكية الأرض ، وذلك خلافًا للمذهب الحنفي الذي يتبعه ؛ لأنه رأى أن ملاك الأراضي سيضيع حقهم دون ذنب منهم ، غير أنه بقيت مجموعة من الملاك تطلب أرضها ، لكنها - للأسف - فقدت أوراق ملكية هذه الأرض في أثناء الهروب من البلاد عند إحتلالها ، فلم تدرِ ماذا تفعل حيث ستضيع عليها الأراضي ، وفي نفس الوقت فعماد الدين زنكي لا يستطيع تسليم أرض إلى إنسان دون دليل ؛ خشية أن يكون مدعيًا ، ثم يظهر بعد ذلك المالك الحقيقي للأرض ، مع ملاحظة أن هذه الأراضي إحتلت منذ حوالي أربعين سنة !

وإنهمك بطلنا في المشكلة مع كثرة الهموم التي عليه ، إلا أنه كان حزينًا لحيرة الناس ، وللأزمة التي وقعوا فيها .. ثم إنه فجأة وجد حلاًّ للموقف ، إذ سرعان ما إنتفض قائلاً : " إطلبوا دفاتر حلب ، وكل من عليه خراج على مِلْكٍ يسلم إليه
!" .

لقد أمر عماد الدين زنكي بفتح دفاتر تحصيل الخراج على هذه الأراضي ، وهذه الأراضي كانت تابعة لمملكة حلب ، فكان أصحابها إذا سددوا الخراج عنها إلى ملك حلب دُوِّن ذلك في الدفاتر ، فإذا كان إسمه مدونًا عن أرض معينة فلا شك أنه كان يملكها !

ونجحت الفكرة ، وتسلم الجميع أراضيه ، ويعلِّق إبن الأثير على هذا العمل فيقول : "وهذا من أحسن الأفعال وأعدلها !
" .

إنه لشيء عظيم حقًّا أن يسعى الحاكم إلى إيصال كل حق إلى مستحقيه ، حتى لو كلفه هذا جهدًا ووقتًا ، وحتى لو كان هذا سيأتي على حساب الدولة ؛ إذ إن الأراضي المجهولة كانت ستضم إلى بيت مال المسلمين ، وإنه لشيء عظيم حقًّا أن يشغل عماد الدين زنكي نفسه بهذه القضايا ، مع أن الجيوش الصليبية والبيزنطية على الأبواب ، لكنه كان على يقين أن الله ينصره لهذا العدل الذي يسعى إلى تطبيقه ، فرحمه الله رحمه واسعة !

ماذا فعل الجيش البيزنطي ؟!


لقد كان هدف الجيش البيزنطي الرئيسي هو البحث عن مصالحه ! ولم تكن عنده الدوافع أبدًا لإنقاذ الملك فولك ، أو الإهتمام بأمره ، فالصراع بين البيزنطيين والصليبيين محتدم من أول أيام الحملة الصليبية ؛ ولذلك فعين الإمبراطور يوحنا كومنين كانت في المقام الأول على أنطاكية وما حولها من أملاك بيزنطية قديمة ، وأهمها إقليم قليقية وما فيه من مدن عريقة كالمصيصة وأذنة وطرسوس ، والتي كانت في هذا التوقيت تحت سيطرة الأمير الأرمني ليون .

ومن هنا فإن الإمبراطور البيزنطي يوحنا كومنين لم يكن من همِّه الإسراع إلى منطقة حصن بارين لإستعادة الحصن من المسلمين ، ولكنه توجه بجيش كثيف إلى إقليم قليقية أولاً ، ودُهِش الأرمن من القوات البيزنطية التي لم تظهر في هذه المناطق منذ عشرات السنين ، وكان الذي دفع الإمبراطور البيزنطي إلى هذه الجرأة إحساسه أن الجيوش الصليبية تمر بأزمة كبيرة نتيجة إضطرابات الحكم المتكررة في أنطاكية ، ونتيجة ضربات عماد الدين زنكي الموجعة ؛ ولهذا أراد أن ينتهز الفرصة التي قد لا تتكرر بسهولة .

إستطاع الإمبراطور البيزنطي بسهولة أن يحتل المدن الكبيرة في إقليم قليقية ، وهرب الأمير الأرمني ليون إلى جبال طوروس ، ولم تكن هناك مقاومة تُذكر ، وهذا شجَّع الإمبراطور يوحنا كومنين أن يتوجه بجيوشه إلى أنطاكية ذاتها ، ثم ضرب حولها الحصار المحكم ؛ مما أرعب أميرها الجديد ريموند بواتييه !

وجد الأمير بواتييه أن القوات الصليبية الآن ممزقة بعد إنتصارات عماد الدين زنكي ، وكلا القائدين الملك فولك والأمير ريمون الثاني مشغول بهمومه ، كما أن الأمير جوسلين الثاني يتلقَّى ضربات أمير حلب سوار ، وهكذا لن يكون أمامه إلا أحد حلَّيْنِ : إما أن يقاوم الإمبراطور البيزنطي عسكريًّا ، وإما أن يتفاوض معه ويحصل منه على أي شيء .

وجد الأمير ريموند بواتييه أن قوته ضعيفة جدًّا بالقياس إلى قوة الإمبراطور البيزنطي ، ورأى أنه لو قاوم عسكريًّا ثم سقطت المدينة فإنه سيفقد كل شيء ، وقد يفقد حياته في الصراع ؛ فآثر لذلك أن يتفاوض مع الإمبراطور الكبير .

وتمت المفاوضات بين الطرفين ، ووصلوا إلى خطة واسعة شاملة فيها خطورة كبيرة على المسلمين ..
وكانت بنود الاتفاقية تشمل الآتي :

أولاً : تسليم أنطاكية إلى الإمبراطور البيزنطي .

ثانيًا :
تتحد القوتان الصليبية والبيزنطية لضرب عماد الدين زنكي .

ثالثًا :
يتم تكوين إمارة بديلة للأمير ريموند بواتييه، وتكون هذه الإمارة في شرق أنطاكية، وتكون قاعدتها مدينة حلب ، وتضم عدة مدن أخرى مهمة في المنطقة مثل حماة التابعة لعماد الدين زنكي الآن ، كما تنتزع شيزر من بني منقذ وتضم إلى نفس الإمارة ، كذلك تنزع حمص من إمارة دمشق حيث ستمثِّل الحدود الجنوبية لهذه الإمارة الجديدة .

رابعًا :
يبقى الأمير ريموند بواتييه على إمارة أنطاكية مؤقتًا حتى صيف العام القادم (أي صيف 1138م) عندما يبدأ الطرفان في تنفيذ الاتفاق بالتعاون العسكري ، على أن تُرفع أعلام الدولة البيزنطية فوق أنطاكية من الآن دلالةً على التبعية .

كانت هذه هي بنود الاتفاقية الخطيرة التي وافق عليها الطرفان ، إضافةً إلى أنهم حصلوا كذلك على موافقة الملك فولك الأنجوي على هذا المشروع .

كان هذا المشروع يحقِّق - إذا تم بحذافيره - أطماع كل فريق ؛ فالإمبراطور البيزنطي سيسترد أنطاكية حُلم البيزنطيين ، وسيضرب القوة الإسلامية في أعماقها ، وليس هذا فقط ، فالإمارة الجديدة المزمع قيامها ستكون فاصلاً بين أنطاكية وبين المسلمين ، وهكذا سيتكفل الصليبيون بالدفاع عن إمارة أنطاكية .

أما ريموند بواتييه فكل ما يهمه هو أن يكون أميرًا ، فهو أصلاً لم يتعب مطلقًا في إنشاء هذه الإمارة ، بل جاء إليها من أوربا منذ سنتين فقط ، ثم إن البديل الذي يطرحه الإمبراطور البيزنطي أفضل كثيرًا ، فلا شك أن إمارة تضم مدنًا كحلب وحمص وشيزر وحماة ستكون إمارة قوية وعظيمة .

وهكذا وافق الطرفان راضين على هذه النتيجة ، وكذلك أقرها فولك الأنجوي ، ولا يخفى علينا أن هذا كان على غير رغبة النورمانيين الذين أنشئوا الإمارة الصليبية ، خاصةً أن الذين أخذوا القرار سواء ريموند بواتييه أو فولك الأنجوي من الفرنسيين وليسوا من الإيطاليين .

ولقد حاول الإمبراطور البيزنطي أن يخادع عماد الدين زنكي رحمه الله ، فأرسل له رسالة يبرر فيها دخوله للأراضي المجاورة لأنطاكية ، بأنه ما دخل إلى بلاد المسلمين إلا لحرب الأرمن ، وأنه لا ينوي بذلك قتاله ، لكنَّ هذا الرد لم يكن مقنعًا لعماد الدين زنكي ، ورأى أن عزة دولته تقتضي أن يأخذ ردَّ فعل مناسب ، ولم يجد القائد العزيز عماد الدين زنكي ردًّا يناسب التعدي على حدود الدولة الإسلامية إلا الحل العسكري ، وعليه فقد أرسل سرية من جيشه بقيادة أمير حلب سوار لمهاجمة الجيش البيزنطي ..

وبالفعل إستطاع سوار أن يقتل عددًا كبيرًا من الجنود البيزنطيين ، وأن يأسر مجموعة أخرى ، مع أنه قوته كانت أصغر بكثير من قوة الجيش البيزنطي , ومع هذه الإهانة المباشرة للقوات البيزنطية إلا أن الإمبراطور لم يُرِدْ أن يدخل في مستنقع الحرب مع المسلمين ، خاصةً وقد سمع الكثير عن بطلنا عماد الدين زنكي ! ولهذا غضَّ الإمبراطور البيزنطي الطرف عن هذه الخسائر ، وإنطلق عائدًا إلى بلاده ليجهِّز عدَّة أكبر إستعدادًا لحرب كبيرة في العام القادم !

ومن الجدير بالذكر أن نشير إلى أن هذه الإتفاقيات الصليبية البيزنطية لم تعلن في ذلك الوقت ، ولم يعلم بها عماد الدين زنكي في حينها ، ولكنه أدرك أن تعاونًا ما سيكون بين الدولة البيزنطية والصليبيين ، وذلك بعد رؤية الأعلام البيزنطية فوق أسوار إمارة أنطاكية دون إعتراض يذكر من الصليبيين ؛ ولهذا أمر عماد الدين زنكي بزيادة الإحتراز لتأمين الحدود الشمالية لإمارته والملاصقة لآسيا الصغرى ، حيث يسيطر البيزنطيون الآن على إقليم قليقية ، ويحتفظون هناك بحامية بيزنطية قوية .

ولا يخفى علينا أن هذه الإنتصارات التي حققها عماد الدين زنكي ، وهذا التفاعل القوي مع التعديات الصليبية والبيزنطية ، وضعت بطلنا في الصدارة المطلقة لقوَّاد المسلمين في هذا العصر ، خاصةً أن هذا المجد الكبير ، وهذه العزة الواضحة تأتي في وقت ظهرت فيه أطماع السلاطين والأمراء والزعماء الآخرين بشكل واضح ، وليس أدل على ضعف هؤلاء الزعماء من هذه الأحداث الدامية التي شهدتها أرض العراق وفارس في نفس الوقت الذي كان بطلنا عماد الدين زنكي يسعى لتوحيد المسلمين لجهاد الصليبيين والبيزنطيين .. وكانت الإشتباكات ما زالت دائرة في فارس والعراق بين السلطان مسعود وإبن أخيه الملك داود بن محمود ، على الرغم من كل الأحداث الكبرى التي رأيناها في أرض الشام !

أما بالنسبة لعماد الدين زنكي فهو كان يشعر أن الصليبيين بالإشتراك مع البيزنطيين يدبِّرون لشيء كبير في أرض الشام ؛ لذلك حاول البطل عماد الدين زنكي أن يسيطر على عدة حصون ومدن أخرى في منطقة الشام تسهِّل له قتال الأعداد عند إجتماعهم ..

توجه عماد الدين زنكي إلى مدينة بعلبك اللبنانية ليحاول فتحها إلا أنها إستعصت عليه لحصانتها ، وكانت بعلبك تابعة لإمارة دمشق ، فعرض صاحبها أن يهادنه في مقابل مبلغ من المال يدفعه لعماد الدين زنكي ، فقَبِل عماد الدين زنكي ذلك ليحيِّد صفها ، وينطلق إلى غيرها .. وكان رحمه الله حاسمًا في قراراته وأفعاله ، لا يعاند في البقاء محاصِرًا لمكان يقرب إلى تقديره أنه لا يُفتح .

إنتقل عماد الدين زنكي رحمه الله من بعلبك إلى حصن المجدل ، فإستطاع بعد جهد أن يفتحه وأن يضمه إلى إمارته ، وكان تابعًا كذلك لإمارة دمشق ، ثم إنتقل منه إلى إحدى الأملاك الأخرى لنفس الإمارة وهي مدينة بانياس ، فدخلت بسهولة في طاعته ، وكانت هذه الأحداث في أوائل سنة (532هـ) أواخر 1137م .

بعد هذه السيطرة الميدانية على معظم المناطق التابعة لإمارة دمشق لم يعُدْ أمام عماد الدين زنكي ليضم دمشق إلا أن يسيطر على حمص لأنها في الطريق بين حماة ودمشق ؛ ولذلك فقد توجه عماد الدين زنكي مباشرة إلى حصار حمص ، ولكن حمص أصرت على المقاومة وطال الحصار حتى كاد أهل حمص يفتحون الأبواب ، لولا ورود الأخبار بأمر خطير دَهِم المسلمين في هذا التوقيت !

لقد وصلت إلى أرض الشام جيوش الإمبراطورية البيزنطية الهائلة ، وعلى رأسها الإمبراطور البيزنطي يوحنا كومنين ، وقد جاءت تقصد مدينة حلب ذاتها وذلك لتنفيذ الإتفاق الذي عُقِد في السنة الماضية بينهم وبين الأمير ريموند بوتييه أمير أنطاكية .

كانت الأخبار مفزعة ؛ لأن سقوط حلب يهدم المشروع التوحيدي للأمة من أساسه ، ويعيدنا من جديد لنقطة الصفر .. وعلى ذلك فقد أمر عماد الدين زنكي أمير حلب سوار - وكان معه في حصار حمص - أن يترك الحصار ، وأن يتوجه من فوره إلى مدينة حلب ليرفع من درجة إستعدادها ، وليقوِّي تحصيناتها ، ويعمِّق خنادقها ، ويطمئن أهلها أن المسلمين قادمون .. وكانت هذه الأحداث في شهر رجب (532هـ) إبريل 1138م .

وبمجرد نزول الجيش البيزنطي إلى أرض المسلمين إنضمَّ له أمير أنطاكية ريموند بواتييه ، وكذلك أمير الرها جوسلين الثاني ، إضافةً إلى كتيبة من الداوية ، وإتجهت هذه الجيوش المجتمعة إلى مدينة البلاط ، وإحتلتها عنوة ، ثم توجهت إلى مدينة بزاغة (وهي مدينة إسلامية حصينة تابعة لإمارة حلب) ، وقد أصرَّ الإمبراطور البيزنطي على إسقاطها لوجودها على الطريق الواصل بين حلب وآسيا الصغرى ، وظل الحصار مدة سبعة أيام ثم تواصلت الرسل بين الطرفين ، وإتفقوا على أن تفتح المدينة أبوابها في نظير إعطاء الأمان لكل أهلها، وفتحت المدينة بالفعل أبوابها ، ولكن الإمبراطور البيزنطي يوحنا كومنين غدر بالمسلمين ، وأمر بمذبحة رهيبة في المدنيين من أهل بزاعة ، وقتل منهم خمسة آلاف وثمانمائة مسلم ومسلمة ، وأخذ الباقين كأسرى وسبايا ، وفرَّ بعض السكان إلى المغارات في الجبال ، فأشعل الإمبراطور البيزنطي النيران في مداخل المغارات ليموت المسلمون في داخلها مختنقين ! وكان سقوط بزاغة في 25 من رجب 532هـ .

لقد كان غدرًا مشينًا من الإمبراطور الكبير !!


ومع ذلك فإن هذا الحصار لمدينة بزاغة ، وهذا الوقت الذي أُنفق في قتل المسلمين وأسرهم ، أعطى الفرصة الكافية لمدينة حلب أن ترفع من درجة إستعدادها إلى الدرجة القصوى ، وأن تتهيأ للجيوش القادمة تمام التهيُّؤ ، وبذلك ضاع عنصر المفاجأة من الإمبراطور البيزنطي ، الذي توجه بعد سقوط بُزَاعة إلى مدينة حلب .

ماذا يفعل عماد الدين زنكي رحمه الله إزاء هذا الموقف العصيب ؟!

تعالَوْا نستمتع بالأداء الراقي لعماد الدين زنكي في هذه المشكلة المعقَّدة ، وندرس معًا منهجه في مواجهة هذه الأزمة الطارئة ، وكيف كانت نظرته شمولية للأحداث ، وكيف كانت رؤيته لمسرح العمليات رؤية عبقرية موفَّقة !

أولاً : تقوية تحصينات حلب إلى أقصى درجة ، وإعادة أميرها الشجاع سوار إليها لتَقْوَى نفوس أهلها به .

ثانيًا :
ترك حامية صغيرة من جيشه حول حمص تناوش حاميتها ؛ لكي لا تخرج هذه الحامية فتضرب عماد الدين زنكي في ظهره .

ثالثًا :
تقدم عماد الدين زنكي بجيشه الرئيسي ، ليقف به في موقف متوسط في الشام ، في منطقة سَلَمْيَة إلى الشمال الشرقي من حمص ، وذلك حتى تكون حركة سريعة إلى أيِّ نقطة في شمال الشام حسب تحركات الجيش البيزنطي .

رابعًا :
أرسل عماد الدين زنكي رسالة عجيبة نادرة من نوعها ، تدل في مضمونها على التجرُّد الشديد لله ، وعلى الفقه الواسع لهموم الأمة الإسلامية .

لقد أرسل بطلنا رسالة إلى السلطان مسعود - وكان في بغداد آنذاك - يستحثه على إرسال جيش كبير لنجدة المسلمين في حلب والشام .. وهذا يحمل دلالات كبيرة مهمة ، فالبطل عماد الدين زنكي يتناسى في لحظة خلافاته مع السلطان مسعود من أجل مصلحة المسلمين ، ويتناسى أن السلطان مسعودًا كان يدبِّر منذ سنتين مؤامرة لإغتياله ، ويتناسى أن السلطان مسعودًا مشغولٌ منذ سبع سنوات - أي منذ وفاة السلطان محمود سنة 525هـ - في صراعات دنيوية لا وزن لها .. إنه يتناسى كل هذه الأمور ليضم قوته إلى قوة السلطان مسعود لدفع الخطر عن المسلمين .

وليس هذا فقط ! بل إن القاضي كمال الدين الشهرزوري ذكر في منتهى الصراحة لعماد الدين زنكي أن السلطان مسعودًا إذا جاء بجيشه إلى الشام فإنه سيضمها إلى أملاكه هو ، وستضيع زعامة عماد الدين زنكي ، فردَّ عماد الدين زنكي ردًّا عجيبًا إذ قال : "إن هذا العدو قد طمع في البلاد ، وإن أخذ حلب لم يبق في الشام إسلام ، وعلى كل حال فالمسلمون أولى بها من الكفار
!" .

إن هذه الروح العجيبة ، وهذا التجرد الجميل لمن أقوى أسباب نصر عماد الدين زنكي ، وشتَّان بين رجل يعمل لله ، وآخر يعمل لنفسه ومصالحه .

وهكذا أرسل عماد الدين زنكي وفدًا إلى بغداد لإستنهاض السلطان مسعود لنصرة المسلمين ، وجعل على رأس هذا الوفد القاضي كمال الدين الشهرزوري بنفسه .

خامسًا :
رسالة أخرى عجيبة أرسلها البطل المتجرد عماد الدين زنكي رحمه الله ! وكانت هذه الرسالة إلى خصمه اللدود في أرض الجزيرة ركن الدولة داود بن سقمان الأرتقي ! فعلى الرغم من الصدمات التي حدثت بين الفريقين في غضون السنوات العشر السابقة إلا أن عماد الدين زنكي يرى أن الظروف الحالية تحتِّم عليه أن يتناسى كل الصراعات القديمة ، وأن يعمل على توحيد المسلمين في كيان واحد قادر على مواجهة الجموع الهائلة للبيزنطيين والصليبيين .

سادسًا :
رسالة ثالثة مهمة أرسلها عماد الدين زنكي تدل على فقه عسكري دقيق للموقف ، فلقد أرسل رسالة سريعة إلى زعماء المسلمين في آسيا الصغرى وهم : السلطان مسعود بن قلج أرسلان زعيم السلاجقة الروم ، ومحمد بن غازي الدانشمندي زعيم بني الدانشمند يدعوهم للتوحُّد والهجوم على المدن الإسلامية المحتلة من البيزنطيين في آسيا الصغرى ؛ وذلك لدفع الإمبراطور البيزنطي إلى العودة إلى آسيا الصغرى لدفع خطر المسلمين هناك .

لقد كان تخطيطًا بارعًا رائعًا ، يدل على عقلية عسكرية متميزة .


ماذا حدث على أرض الواقع ؟!

لقد نزلت القوات النصرانية البيزنطية والصليبية حول أسوار مدينة حلب في 6 من شعبان سنة 532هـ ، ففوجئت بالإستحكامات العسكرية القوية التي جهَّزها الجيش المسلم هناك ؛ فالخنادق كثيرة وعميقة ، والأسوار عالية وسميكة ، والجيش المسلم متحفِّز ، والسهام تنهال على الجيوش النصرانية من كل مكان ، مما منع النصارى من الإقتراب من المدينة .

ولم يكتفِ المسلمون بذلك ، بل أخرج الأمير المسلم البطل سوار عدة سرايا من الجيش المسلم تقابل بعض الفرق المحاصِرة ، فأخذتهم على حين غِرَّة ، وقُتِل من الصليبيين والبيزنطيين خلق كثير ، بل إن أحد كبار قساوستهم قُتل في أثناء هذه المعارك مما أزعجهم إزعاجًا شديدًا .

لقد وجد الإمبراطور البيزنطي أن حلب - بجيشها الشجاع وتحصيناتها المنيعة - حُلم بعيد المنال ! وهذا دفعه إلى أن يقرِّر فجأةً ، وبعد ثلاثة أيام فقط ، أن يرفع الحصار تمامًا عن مدينة حلب الباسلة !!

لقد عجزت الجيوش العملاقة أن تكسر إرادة المسلمين في حلب ، ولعلنا نتذكر صبر الصليبيين على حصار أنطاكية قبل ذلك بأكثر من أربعين سنة ، حيث صبروا على الحصار سبعة أشهر كاملة حتى سقطت المدينة ، أما الآن فالجيوش النصرانية أضعاف الجيوش التي كانت تحاصِر أنطاكية ، ومع ذلك لم يصبروا !!

ما السر في ذلك ؟!

إن السر لا يكمن في طبيعة الجيوش النصرانية أو أعدادها ، إنما يكمن في الأساس في طبيعة الجيش المسلم وقوته ؛ فالمسلمون المحصورون في حلب مختلفون تمام الإختلاف عن المسلمين الذين حُصِروا قبل ذلك في أنطاكية ، فقد ظهرت في هذه الأزمة نتيجة التربية الإيمانية والجهادية والعلمية والعسكرية التي بذل فيها عماد الدين زنكي الأوقات ، وسخَّر من أجلها طاقات الأمراء والعلماء ، فأفرزت هذا الجيش المسلم القوي ، وهذا الشعب المسلم الصابر .

وترك الإمبراطور البيزنطي حلب يائسًا ، وإتجه إلى حصن الأثارب غرب حلب ، وكانت به حامية إسلامية بسيطة ، فآثرت أن تنسحب لأن إحتمال هلكتها قريب ، وبالتالي إمتلك الإمبراطور البيزنطي حصن الأثارب ، ووضع فيه أسرى وسبايا مدينة بزاغة ، الذين كان الإمبراطور يستصحبهم معه في طريقه ، ثم وضع معهم حامية بيزنطية ، وأكمل طريقه غربًا وجنوبًا حيث إحتل معرَّة النعمان وكفرطاب ، ويَمَّم وجهه تجاه شيزر !

ورأت الحامية الإسلامية في حلب أن الجيوش النصرانية قد رحلت عن المدينة ، فأرسلوا خلفهم العيون لتعرف مسارهم .. وأدرك الأمير سوار أمير حلب أن البيزنطيين تركوا الأسرى والسبايا المسلمين في حصن الأثارب ، وتركوا معهم حامية بيزنطية صغيرة ، فإنتهز الفرصة ، وخرج من حلب مسرعًا في فرقة من جيشه ، وحاصر حصن الأثارب ، ثم ما لبث أن أسقطه وقتل عددًا من جنود الحامية البيزنطية وأسر الباقي ، وحرَّر كل الأسرى والسبايا المسلمين ، وعاد بهم جميعًا إلى حلب !

وإرتفعت معنويات المسلمين إلى السماء ، ووصلت الأخبار إلى جيش عماد الدين زنكي المرابض عند سَلَمْيَة ، فازداد إصراره على الجهاد ، وقويت نفوس الجند ، وشعروا جميعًا بمعيَّة الله لهم .

أما الإمبراطور البيزنطي فقد آثر أن يتجه إلى شيزر لأنها إلى الآن إمارة مستقلة ، وعلى رأسها سلطان بن منقذ ، وهي ليست تابعة لعماد الدين زنكي ، وبالتالي فإن الإمبراطور البيزنطي سيواجه إمارة ضعيفة نسبيًّا دون أن يستثير غضب الزعيم العنيد عماد الدين زنكي !

هكذا ظنَّ الإمبراطور البيزنطي ، ولكن الواقع كذَّب ظنونه !


لقد أرسل سلطان بن منقذ - مع رغبته الشديدة في الإحتفاظ بإستقلاله عن عماد الدين زنكي - رسالة إستغاثة عاجلة إلى عماد الدين زنكي ، فلم يتردد عماد الدين زنكي لحظة ، بل توجه بقوته الرئيسية فورًا لإنقاذ شيزر ، وعبر نهر القويق (وهو أحد روافد نهر الفرات) ، وتجاوز مدينة حماة التابعة له ، فجعلها في ظهره ليحتمي بحصونها إذا حدث تفوق للجيش البيزنطي ، ثم تقدم في إتجاه شيزر حتى عسكر في منتصف الطريق بين شيزر وحماة ، وأرسل العيون الاستخباراتية لتنقل له الأخبار .

جاءت الأخبار بعد قليل أن الجيوش النصرانية تخرج عن حد الإحصاء ، وأنها أضعاف جيش عماد الدين زنكي ، وأن البيزنطيين والصليبيين قد نصبوا ثمانية عشر منجنيقًا حول شيزر ، هذا إضافةً إلى آلات الحصار الضخمة ، وأن أعلام الجيوش النصرانية تشمل قوات الدولة البيزنطية وإمارة أنطاكية وإمارة الرها ، إضافةً إلى كتيبة الداوية !

علم عماد الدين زنكي من هذه الأخبار أن قتال هذه الجموع الهائلة قتالاً مفتوحًا أمرٌ غير مأمون ؛ ولذلك عزم عماد الدين زنكي على إتِّباع سياسة أخرى في القتال ، تضمن له نتائج أفضل ..
فماذا فعل بطلنا الموهوب ؟!

لقد قرر أن يعمل في وقت واحد على عدة محاور :


المحور الأول : حرب الإستنزاف
وقد إستخدم عماد الدين زنكي هذا الأسلوب لكي يتجنب الصدام مع القوة النصرانية بكاملها ، فكان يُرسِل فرقة كبيرة من جيوشه تقترب من شيزر ، فإذا رآها النصارى إقتربوا منها ليقاتلوها ، فينسحب عماد الدين زنكي تدريجيًّا ليبعدهم عن القوة الرئيسية المحاصِرة لشيزر ، ثم يصطدم بهم فيقتل منهم ويأسر ! وظل يتبع هذا الأسلوب حتى أرهق الجيوش النصرانية دون أن يعطيها فرصة لقتاله قتالاً مفتوحًا .

المحور الثاني : قطع التموين عن الجيوش النصرانية


حيث أرسل فرقًا من جيشه تحاصِر الطرق خلف الجيش النصراني ، وبذلك تمنعه من تحصيل المواد والمؤن بشكل ثابت ؛ مما يؤدي مع مرور الوقت إلى ضائقة قد تمنع من إمكانية الجيش على الصبر فترة طويلة .

المحور الثالث : محور الحرب النفسية


لقد راسل عماد الدين زنكي القوات المتحالفة ، وأظهر لهم أن قوته ضخمة وكبيرة ، وقال لهم في سخرية : "إنكم قد تحصنتم مني بهذه الجبال ، فإخرجوا عنها إلى الصحراء حتى نلتقي ، فإن ظفرتم أخذتم شيزر ، وإن ظفرنا بكم أرحتُ المسلمين من شرِّكم !" .

ولقد كان عماد الدين زنكي يعلم أن قوته أضعف من قوتهم ، ولم يكن له رغبة في خروجهم ، ولكنه كان بهذه الكلمات يحطمهم نفسيًّا ، ويشعرهم أن قوته أكبر من قوتهم ، وأنه واثق تمام الثقة من نفسه وجيشه ، وكان هذا - ولا شك - ليرهبهم ، وقد ظهرت هذه الرهبة بوضوح في كلمات الإمبراطور البيزنطي عندما أشار عليه بعض قادة الصليبيين أن يخرج لقتال عماد الدين زنكي ، فقال في جزعٍ : "أتظنون أنه ليس من العسكر إلا ما ترون ؟ إنما يريد أنكم تلقونه ، فيجيء إليه من نجدات المسلمين ما لا حدَّ عليه" .. وهكذا أدَّى هذا الإستفزاز إلى إرهاب الإمبراطور البيزنطي ، ومنعه من التفكير في التقدم جنوبًا .

المحور الرابع : فك الإتحاد بين قوات التحالف !


وقد قام عماد الدين زنكي في هذا الصدد بعمل رائع إذ أرسل خطابات إلى زعماء القوات الصليبية يُعلِمهم أن الإمبراطور البيزنطي إذا إستولى على حصن واحد بالشام أخذ البلاد التي بأيديهم منه .. ولا شك أن هذا الكلام وقع موقعه من الصليبيين لسابق العهد بسياسة الدولة البيزنطية ، وذكَّرهم هذا بالصراع الطويل ، والمنافسة المستمرة التي كانت بين الإمبراطور ألكسيوس كومنين أبي الإمبراطور يوحنا كومنين ، وبين أسلافهم من زعماء الحملة الصليبية .

ولم يكتفِ عماد الدين زنكي بذلك ، إنما أرسل رسالة إلى الإمبراطور البيزنطي نفسه يخبره أن الصليبيين في بلاد الشام خائفون منه ، فلو فارق مكانه تخلَّوا عنه ! وكانت هذه الكلمات تؤثر أيضًا في الإمبراطور البيزنطي ؛ لأن تاريخ الصليبيين يشهد أنهم أخذوا أنطاكية ومدن إقليم قليقية على خلاف معاهدة القسطنطينية القديمة ، مما يوحي أن الصليبيين قد يغدروا به إذا تم لهم الإنتصار !

وهكذا ألقى عماد الدين زنكي الشك في قلوب المتحالفين ، حتى صار كل طرف على وجل من الطرف الآخر ، وهكذا فترت عزيمة الطرفين على إكمال القتال .

بهذه الخطة المتوازنة جدًّا بدأ البيزنطيون يتململون من البقاء في الحصار الطويل حول شيزر ، خاصةً أن المدينة حصينة جدًّا ، وقد يتطلب إسقاطها عدة أسابيع أو أشهر , وهكذا وصل الجيش النصراني إلى حالة من التردد وخيبة الأمل ، خاصةً بعد تزايد أعداد القتلى والأسرى في جيوشهم دون نصر واضح يحققونه .

ثم إن الله أراد أن يعجِّل برحيل القوات البيزنطية ،
وذلك عن طريق حدوث أربعة أمور في وقت متزامن ، كان لها أكبر الأثر في تغيير إستراتيجية الجيوش النصرانية :

أما الأمر الأول فهو وصول الأخبار بإستجابة ركن الدولة داود بن سقمان لنداء عماد الدين زنكي ، وقدومه على رأس خمسين ألف تركماني دفعة واحدة ! وقد حرص عماد الدين زنكي على إيصال هذه الأخبار للجيش النصراني ليزيد من هزيمته النفسية .

وأما الأمر الثاني
فهو وصول الأخبار أيضًا بإتحاد جيش سلاجقة الروم والدانشمنديين وهجومهم على مدينة أذنة في إقليم قليقية ، وهذه المدينة كانت قد دخلت تحت سيطرة الدولة البيزنطية ، ومن ثَمَّ فهذا يعني أن الدولة البيزنطية بدلاً من أن تزيد أملاكها ، فإنها ستفقد منها أجزاء مهمة .

وأما الأمر الثالث فهو صراع داخلي نشأ بين قواد الصليبيين ريموند بواتييه وجوسلين الثاني ! فقد كان كلٌّ منهما يكره الآخر ويخاف من إزدياد نفوذه ، فكان جوسلين الثاني يرى أن وجود ريمون بواتييه في شيزر وحلب إذا نجح الجيش البيزنطي في إسقاطهما سوف يضيِّق عليه حريته ، حيث سيفصل بينه وبين مملكة بيت المقدس الراعية للجميع .. وعلى الجانب الآخر فإن ريموند بواتييه كان في شكٍّ كبير أن تستقر الأمور لصالحه إذا تكوَّنت هذه الإمارة المزعومة ؛ لأنه يرى أن الجيوش الضخمة لم تفلح في التقدم خطوة في إحتلال حلب أو شيزر ، فكيف سيكون الحال إذا رحلت جيوش الإمبراطورية البيزنطية ! وهذه الهواجس عند جوسلين الثاني وريموند بواتييه قادت إلى نزاع بين الطرفين وخصام ، إضافةً إلى أن جوسلين الثاني قام بالوشاية بين ريموند بواتييه والإمبراطور البيزنطي مما أدَّى إلى فتور العَلاقة بينهما .

أما الأمر الرابع والأخير ,
فهو قدوم عرض من أمير شيزر إلى الإمبراطور البيزنطي يعرض عليه مبلغًا كبيرًا من المال يعوِّضه عن نفقات الحرب على أن يسحب قوَّاته فورًا ، ويرفع الحصار عن شيزر ! وهكذا أخذ الإمبراطور البيزنطي يُقَلِّب الأمر في ذهنه من جديد ، ووقع في حيرة شديدة فيما يجب أن يفعله ، فإستمرار القتال قد يؤدِّي إلى هلكة له ولجيشه ، والإنسحاب ضربة كبيرة لكرامته ، فماذا يفعل ؟

لا شك أن أفكارًا كثيرة تضاربت في عقله ، ولا شك أنه قد أخذ يجمع النقطة إلى جوار النقطة ، والحدث إلى جوار الحدث ليخرج في النهاية بقرار .

ولنتجول معًا في عقل الإمبراطور البيزنطي يوحنا كومنين !


أولاً : حصار شيزر إستمر حتى هذه اللحظة ثلاثة أسابيع دون أي تقدم .

ثانيًا :
مدينة شيزر مدينة ثرية جدًّا ، وتموينها الداخلي كثير جدًّا ، وعليه فهي تستطيع المطاولة في الحصار فترة طويلة جدًّا .

ثالثًا :
القوات البيزنطية فَقَدت حتى الآن أعدادًا كثيرة من الجنود ما بين قتيل وأسير ، سواء حول أسوار حلب ، أو في حصن الأثارب ، أو حول أسوار شيزر ، أو في المعارك المتكررة مع عماد الدين زنكي . وفي نفس الوقت فالقوات البيزنطية فقدت الأسرى المسلمين الذين أسرتهم من بُزَاغة ، حيث حرَّرهم الأمير سوار من حصن الأثارب ، وهذا يعني أن القوات البيزنطية خسرت دون مكسب !

رابعًا :
قائد الجيوش الإسلامية عماد الدين زنكي ، قائدٌ عنيد مجاهد لا تلين له قناة ، وصبور لا تفتر له عزيمة ، ومحترف يتقن كل فنون الحرب ، ولا يبدو مطلقًا أنه يقبل بالهزيمة !

خامسًا :
القوات الصليبية المساعدة له قوات ضعيفة ، وصراعاتها الداخلية كثيرة ، ولا يوجد عنصر الثقة المتبادلة بين الطرفين أبدًا .

سادسًا :
مدينة أذنة على وشك الضياع ، ولا يقف الأمر عند مصيبة ضياعها ، ولكن قد يتطور الأمر إلى إغلاق طريق العودة على الجيوش البيزنطية ، وبذلك تحصر الجيوش البيزنطية بين سلاجقة الروم والدانشمنديين من ناحية ، وبين عماد الدين زنكي من ناحية أخرى .

سابعًا :
الإمبراطور السابق رومانوس الرابع لم يقدِّر هذه الحسابات العسكرية ، ومن ثَمَّ خاض موقعة قديمة مع البطل الإسلامي السابق ألب أرسلان ، وهي موقعة ملاذكرد سنة (463هـ) 1070م ، وكانت نتيجتها كارثة على الإمبراطور البيزنطي وعلى الدولة البيزنطية بكاملها ، فهل يكرِّر يوحنا كومنين الخطأ الذي وقع فيه الإمبراطور السابق ، أن ينجو بنفسه وبجيشه ؟!

ثامنًا :
كل هذه التطورات الخطيرة تحدث من جيش عماد الدين زنكي فقط ، فماذا لو جاء جيش الأراتقة التركماني ، وقوامه - كما نقل الجواسيس - خمسون ألف مقاتل ؟! لا شك أن القوات البيزنطية ستوضع عندها في مأزقٍ خطير !

تاسعًا :
وصلت الأنباء أيضًا أن عماد الدين زنكي أرسل مبعوثًا إلى السلطان مسعود سلطان السلاجقة العظام ! فماذا لو جاء جيش كثيف من بغداد يقوده السلطان مسعود حفيد السلطان ألب أرسلان الذي سَحَق قبل ذلك بتسعة وستين عامًا جيشَ الدولة البيزنطية ؟!

عاشرًا :
إذا إنسحب الإمبراطور البيزنطي دون أي نتيجة فقد يتعرض للوم كبير في البلاط البيزنطي قد يؤثِّر في منصبه ، أما الآن فأمامه فرصة كبيرة أن يحقِّق شيئًا ، وذلك أن يقبل بالمبلغ الضخم الذي سيدفعه أمير شيزر تعويضًا عن نفقات الحرب الباهظة ، كما أنه سيترك حامية في مدينتي بزاغة وكفرطاب لتُصبِحا قواعد متقدمة للجيش البيزنطي في أرض الشام ، وسوف يعود الإمبراطور البيزنطي مسرعًا إلى مدينة أذنة ليحميها من السلاجقة الروم والدانشمنديين ، وقد يحقق إنتصارًا عليهما يرفع قليلاً من أسهمه ، ويعوِّضه عن حملته الفاشلة إلى بلاد الشام !

إذن بإستعراض هذه الأمور العشرة التي جالت في ذهن الإمبراطور ندرك أن التحليل المنطقي ، والتفكير السليم يقضيان بأن يأخذ الإمبراطور البيزنطي القرار الجريء بالإنسحاب الفوري من حوله أسوار شيزر ، قابلاً بالطرح الذي قدمه أمير المدينة ، وذلك قبل أن يفقد كل شيء ، ولا يجد حتى هذا الطرح أمامه !

وهذا هو الذي حدث بالفعل ! وأعلن الإمبراطور البيزنطي الكبير إنسحابه وجميع القوات المتحالفة من حول مدينة شيزر بعد ثلاثة وعشرين يومًا من الحصار !

لقد أعلن الإمبراطور البيزنطي بوضوح فشله في كسر الإرادة الإسلامية ! لقد كان نصرًا خالدًا حقًّا ! لقد رحلت الآلاف المؤلفة من قوات التحالف البيزنطي الصليبي لتنجو بنفسها من أَتُّون المسلمين المحرق ! لقد رحلوا وهم لا يلوون على شيء ! رحلوا رحيلاً مخزيًا مشينًا ! لم ينظروا فيه إلى هيبتهم أو مكانتهم أو تاريخهم أو حتى مستقبلهم .

لقد كان يومًا من أيام الله المشهورة ، سمع به العالم أجمع ، وتكلم عنه المسلمون والنصارى ، ولفت أنظار المؤرخين الغربيين والشرقيين ، وصار علامة محفورة في أذهان أجيال وأجيال .

كانت هذه الأحداث في شهر رمضان 532هـ\ مايو 1138م ، أي بعد أقل من سنة على موقعة فتح بارين التي إنتصر فيها عماد الدين زنكي على جيوش إمارة طرابلس المتحدة مع مملكة بيت المقدس .. وهكذا صار عماد الدين زنكي بلا جدال البطل الإسلامي الأول ، ولم يكن أحد يستطيع إنكار هذه الحقيقة حتى لو كان في داخله يرفضها ، وصار لفظ "الدولة الزنكية" مقبولاً جدًّا ، فهذه هي الدولة الأولى بلا منازع في عالم الإسلام .

أما بطلنا الحبيب فلم يكتفِ بهروب القوات النصرانية بهذه الطريقة المشينة ، إنما تحرك في خطوات سريعة ، ليثبت للجميع أنه لم يتنفَّس الصعداء لأن الجيوش البيزنطية والصليبية رحلت ، بل هم الذين يجب أن يتنفسوا الصعداء لنجاتهم بحياتهم من أيدي المسلمين !

ماذا فعل بطلنا العظيم ؟!


أولاً :
أسرع عماد الدين زنكي رحمه الله بجيشه خلف الجيش البيزنطي يطارده ، وإستطاع أن يصطدم مع مؤخرة الجيش البيزنطي ، وأن يقتل ويأسر ويغنم ، مما جعل البيزنطيين يُسرِعون الخُطَا في إتجاه بلادهم .

ثانيًا :
تحرك عماد الدين زنكي بسرعة ليسيطر على آلات الحصار الثقيلة التي كان ينصبها البيزنطيون حول أسوار حلب ، فهذه آلات متطورة الصنع باهظة التكاليف ، وهي غنيمة عظيمة غالية .. وإستطاع بالفعل أن يستولي على معظمها ، وإضطر البيزنطيون إلى حرق البقية لعدم مقدرتهم على الحركة السريعة وهم يجرون هذه الآلات الضخمة .

ثالثًا :
أرسل عماد الدين زنكي سرية بقيادة صاحبه صلاح الدين الياغيسياني لإعادة فتح كفرطاب ، وإخراج الحامية البيزنطية منها .. وأفلح صلاح الدين الياغيسياني في ذلك في نفس الشهر الذي رحلت فيه القوات البيزنطية ، أي في رمضان سنة 532هـ .

رابعًا :
فعل عماد الدين زنكي ما هو أعظم من ذلك ، إذ إستغل هذا النصر الكبير، وتحرك حركة مفاجئة في إتجاه حصن عرقة ، وهو من الحصون التابعة لإمارة طرابلس ، وإستطاع بعد حصار طويل وقصف مستمر أن يُسقِط الحصن ، وأن يأسر مَن به من الصليبيين .

وكانت حركة في منتهى الذكاء منه ، إذ كان المتوقع أن يهاجم إمارتي أنطاكية والرها إنتقامًا من زعيميهما اللذين شاركا الإمبراطور البيزنطي في الحملة ، إلا أنه هاجم إمارة طرابلس التي لم تكن مستعدة لهذا الهجوم المباغت .

خامسًا :
لم ينس عماد الدين زنكي قضية توحيد الأمة ، ومن ثَمَّ فبمجرد رحيل القوات البيزنطية ، وأثناء رمضان سنة 532هـ ، عاد عماد الدين زنكي بسرعة إلى حصار حمص آملاً أن يفلح في إسقاطها , وهكذا لم يترك عماد الدين زنكي فترة في حياته للراحة حتى بعد هذا الجهد الكبير الذي بُذِل حول أسوار شيزر .

لكن في هذه المرة التي حاصر فيها عماد الدين زنكي رحمه الله مدينة حمص ، فكر أن يأخذها بطريقة أخرى توفِّر عليه كثيرًا من العناء ، وقد تفتح الباب لضم مدن أخرى في المستقبل ! لقد فكر عماد الدين زنكي أن يتزوج زواجًا سياسيًّا مهمًّا يكفل له التقرب من حاكم دمشق شهاب الدين محمود بن بوري ، وهكذا طلب عماد الدين زنكي الزواج من صفوة الملك زمرد خاتون أم شهاب الدين محمود في مقابل أن يأخذ مدينة حمص !

وقد يتساءل أحدٌ : كيف يتزوج ثم يأخذ حمص بدلاً من أن يُعطِي هو شيئًا ؟! فنقول أنه - ولا شك - قد دفع الكثير من أمور المهر والهدايا الثمينة إلا أنه يطلب حمص في مقابل الشرف الكبير الذي تناله مَن تتزوج من عماد الدين زنكي رحمه الله !

فعماد الدين زنكي الآن يحكم أكبر إمارة في العالم الإسلامي ، ثم إنه البطل المغوار الذي يحقق الإنتصارات المتتالية على الصليبيين والبيزنطيين , ولا شك أن الإرتباط بهذا الرجل شرف ما بعده شرف .

وقد تم لعماد الدين زنكي ما أراد فعلاً ، ووافق شهاب الدين محمود على هذا الزواج ، وتم فعلاً في نفس الشهر أيضًا ، أي في شهر رمضان 532هـ ، وهكذا دخلت حمص في إمارة عماد الدين زنكي !

وقبل أن نترك الأحداث في هذه الفترة نريد أن نعرف ماذا تم في أمر الإستغاثة التي أرسلها عماد الدين زنكي إلى السلطان مسعود السلجوقي في بغداد ، والتي حملها القاضي كمال الدين الشهرزوري !

لقد وصل كمال الدين إلى بغداد بسرعة ، وإلتقى بالسلطان مسعود ، وعرَّفه عاقبة التواني عن نصرة المسلمين في أرض الشام ، وخوَّفه بما يفهمه من أمور ضياع الملك والسلطان ، فأخبره أن البيزنطيين إذا ملكوا حلب فإنهم سينحدرون مع نهر الفرات إلى بغداد نفسها , فتحتل عاصمة الخلافة !

ماذا كان ردُّ فعل السلطان السلجوقي مسعود ؟! يقول إبن الأثير رحمه الله : " فلم يجد عنده حركة !!
" .. أي أن السلطان قابل الأمر ببرود شديد ، وكأنه جمادٌ لا روح فيه ! فلم يُبْدِ أي إنفعال ، ولم يظهر عليه أي تأثُّر ، وكأن القضية لا تعنيه بالمرَّة !

خرج القاضي كمال الدين الشهرزوري محبطًا من عند السلطان مسعود ، ولكنه فكر أن يمارس عليه ضغطًا يحرِّك حميَّته ! لقد أمر كمال الدين أحد أصحابه أن يمضي إلى جامع القصر ، وهو الجامع الذي يصلي فيه الخليفة ، وأن يأخذ معه مجموعة من الأعوان ، ثم بمجرد صعود الخطيب إلى المنبر يقوم هذا الرجل ، ويقوم معه أصحابه فيصيحون جميعًا : "واإسلاماه ، وادِينَ محمَّداه"
، ثم يشق ثيابه ، ويلقي عمامته ، ثم يخرج إلى دار السلطان يستغيث ويستغيث معه الناس .

ثم وضع كمال الدين رجلاً آخر يقوم بنفس الفعل في مسجد السلطان ، ليتبعه الجميع بعد ذلك إلى دار السلطان أيضًا .

لقد كانت خطة لإثارة الجماهير في بغداد ، لتضغط شعبيًّا على السلطان ، وذلك بصورة تخيفه من حدوث إنقلاب عليه ، وهذا - لا شك - سيثير السلطان ، خاصةً والصراع ما زال مستمرًّا مع إبن أخيه داود بن محمود حول كرسيِّ السلطنة ، وقد يصطاد الملك داود في الماء العكر ، ويحرِّك الناس لجهاد الصليبيين ، وهذا سيسبِّب حرجًا كبيرًا للسلطان مسعود !

ونجحت الخطة ، وتحركت الجماهير الغاضبة تصيح : واإسلاماه ، وامحمداه .. وكانت مظاهرة ضخمة أرعبت السلطان ، وصاح من فوره : إحضروا لي إبن الشهرزوري ! فأُحضر له ، فقال السلطان : "أي فتنة أثرت ؟!" فردَّ كمال الدين : "ما فعلت شيئًا ، أنا كنت في بيتي ، وإنما الناس يغارون للدين والإسلام ويخافون عاقبة هذا التواني" .. فقال السلطان مضطرًّا : "إخرجْ إلى الناس ففرِّقهم عنَّا ، وإحضرْ غدًا وإخترْ من العسكر ما تريد
!" .

فخرج كمال الدين الشهرزوري إلى الناس ، وسكَّنهم وعرَّفهم أن السلطان سيجهز الجنود لنجدة المسلمين في الشام .. وفي الغد ذهب كمال الدين الشهرزوري إلى السلطان فوجده قد جهَّز جموعًا عظيمة من الجند ، لدرجة أن كمال الدين خاف من هذه الجموع الكبيرة ، وتوقع أن السلطان ينوي أن يضم الشام إلى أملاكه بعد أن يحارب البيزنطيين والصليبيين ، فأرسل كمال الدين الشهرزوري بسرعة إلى نصير الدين بن جقر أمير الموصل يستشيره ، ولم يرسل لعماد الدين زنكي لبُعد المسافة ، فقال نصير الدين : " البلاد لا شك مأخوذة ، فلأن يأخذها المسلمون خير من أن يأخذها الكافرون
!" .

لقد كان نصير الدين يتمتع بنفس الرؤية التي عند عماد الدين زنكي ، فأجاب بنفس الكلمات التي أجاب بها عماد الدين زنكي عندما إعترض عليه الناس حين فكَّر في إستقدام السلطان مسعود .

وهكذا تجهزت الجيوش وأوشكت على الرحيل ، إلا أنه في الوقت الذي كادت أن تتحرك فيه وصلت رسالة عاجلة من عماد الدين زنكي يخبر فيها كمال الدين الشهرزوري برحيل الإمبراطور البيزنطي ، وبإنتصار المسلمين ، ومن ثَمَّ فلا داعي لحركة الجيوش من بغداد إلى حلب !

وبهذا تكون الأمور - بفضل الله - قد سارت لصالح عماد الدين زنكي ، ولم يضطر إلى الدخول في مواجهة قد تكون مؤسفة مع جيوش السلطان مسعود .

وإزاء هذا الوضع الجديد ، وقد ذاع صيت عماد الدين زنكي في كل مكان ، وإعترف الجميع بفضله وجهده ، وصار له الدعاء على كل منابر المسلمين ، فكر السلطان مسعود فيما يجب أن يفعله مع عماد الدين زنكي ! إنه لا يستطيع الآن أن يهاجمه أو يأمره بشيء يغضبه ؛ لأن عموم جمهور المسلمين سيقف مع عماد الدين زنكي لا شك ؛ ولذلك فكر السلطان مسعود في إحتواء عماد الدين زنكي، والتعامل معه كقائد كبير من قواده ، وبالتالي أرسل له فورًا التشريفات والخلع ، وهنَّأه بالنصر الكبير ، وبالإنجاز الذي حققه للمسلمين ، وعامله كأمير من أمرائه التابعين له ، لا كقائد دولة منفصلة عنه ، وقَبِل عماد الدين زنكي هذا الأسلوب ، فهو لم يكن يريد أن يدخل في صراعات لا معنى لها ، إنما كان يريد أن يفرِّغ كل جهده لتوحيد المسلمين ، ولإخراج الصليبيين من الأرض الإسلامية .

وهكذا إنتهت سنة 532هـ نهاية سعيدة على المسلمين ، بعد أن وضحت الرؤية لعموم الناس ، وأضحى هناك أمل كبير في إخراج الصليبيين بعد أن عرف المسلمون طريق الوحدة والجهاد .

وقبل أن نترك هذه السنة المتميزة في تاريخ هذه الفترة نشير إلى حدث مهم شهدته هذه السنة ، ولم يلفت أنظار الناس آنذاك ، وإن كان أثره في المسلمين - بل على العالم - بعد ذلك سيصبح كبيرًا جدًّا .. وهذا الحدث هو ميلاد البطل الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي ! ومن عجيب الأمور أن صلاح الدين الأيوبي وُلِد في اليوم الذي عُزِل فيه أبوه نجم الدين أيوب من قيادة قلعة تكريت بعد خلاف حدث بينه وبين رئيس الشرطة في بغداد مجاهد الدين بهروز ، لدرجة أن أباه في بادئ الأمر كان يتشاءم منه ؛ لأنه ولد في اليوم الذي فقد فيه علمه ! ولم يكن يدرك أن صلاح الدنيا والدين سيكون في حياة هذا الوليد !

ولقد رحل نجم الدين أيوب ومعه أخوه أسد الدين شيركوه من تكريت إلى إمارة الموصل ليكونا في خدمة البطل عماد الدين زنكي ، وقد مر بنا قبل ذلك أن نجم الدين أيوب كان قد ساعد عماد الدين زنكي في عبور دجلة سنة 526هـ عند هزيمة عماد الدين زنكي من الخليفة المسترشد ، وقد قدَّم نجم الدين أيوب يومها العون كله لعماد الدين زنكي ، وآواه في القلعة عدة أيام ؛ ولذلك عندما وقعت له هذه الأزمة فكر في اللجوء إلى عماد الدين زنكي كي يجد العون عنده .. وقد كان عماد الدين زنكي عند حسن ظن نجم الدين أيوب ، فأحسن إستقباله ، وأقطعه بعض الإقطاعات ليختبر مهارته في القيادة ؛ تمهيدًا لتوليته منصبًا أكبر إذا أثبت كفاءته , وهكذا توطدت العَلاقة بين عماد الدين زنكي ونجم الدين أيوب ، وهذا هو الذي سيجعل العلاقة بعد ذلك قوية بين ابن عماد الدين زنكي وهو نور الدين محمود ، وبين صلاح الدين الأيوبي إبن نجم الدين أيوب .. فسبحان الذي يُسيِّر الكون بحكمته !

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس