عرض مشاركة واحدة

قديم 24-09-09, 01:12 PM

  رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
جمال عبدالناصر
مشرف قسم الإتفاقيات العسكرية

الصورة الرمزية جمال عبدالناصر

إحصائية العضو





جمال عبدالناصر غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

تطوير المعارك:

المعارك العسكرية الإسلامية، قسم من أقسام العسكرية الإسلامية لا تقل أهمية عن أقسامها الأخرى، فهي التطبيق العملي للعقيدة العسكرية الإسلامية على الأرض وفي ميادين القتال، وهي التي أثبتت عملياً بأن العقيدة العسكرية الإسلامية مبادئ قابلة للتطبيق العملي بنجاح وقادرة على إحراز النصر.

والمعارك العسكرية العربية الإسلامية، بدأت في السنة الثانية من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة، فقاد الرسول القائد عليه الصلاة والسلام ثماني وعشرين غزوة، وبعث سبعاً وأربعين سريَّة، وكان من جملة ثمرات الغزوات والسرايا توحيد شبه الجزيرة العربية تحت لواء الإسلام.

والفرق بين الغزوة والسريَّة، أن الغزوة يقودها النبي صلى الله عليه وسلم، والسرية يقودها أحد قادته.

وبعد التحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، بدأت حروب الرِدَّة، وهي معارك بين المسلمين من جهة وبين المرتدين عن الإسلام من جهة أخرى، وجرت في أوائل خلافة أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه، واستمرت نحو سنة كاملة، أحرز فيها المسلمون النصر المؤزَّر على المرتدين.

وبدأت معـارك الفتح الإسلامي بعد عودة الوحدة إلى شبه الجزيرة العربية تحت لواء الإسلام بانتصار المسلمين في حروب الردَّة سنة إحدى عشرة الهجرية على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وتصاعد مدّ الفتح الإسلامي على عهد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، وأوائل عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، حتى أصبح الفتح طوفاناً عارماً.

ولكن مد الفتح أصيب بنكسة من جراء اختلاف المسلمين، فأصيب هذا الفتح بالجزر، ثم استأنف مسيرته المظفرة بعد إعادة الوحدة ثانية إلى المسلمين، فاستعادت معارك الفتح مدَّها العارم، كما استعاد المسلمون فتح البلاد التي سبق فتحها وانتقضت، فكانت المعارك كافة بين الفتح واستعادة الفتح، حتى توقف الفتح سنة مائة الهجرية (718م ).

ومن سنة مائة الهجرية بدأت معارك الدفاع عن البلاد الإسلامية، وندرت الفتوح واستعادة الفتوح، لتفرق كلمة العرب والمسلمين وتشتت صفوفهم، فتوزعت الدولة الواحدة دولاً، على كلِّ دولة منها قائد أو ملك أو أمير.

وكانت المعارك الدفاعية ناجحة في الغالب حتى جاء التتار بجحافلهم، فاستولوا على بغداد في صَفَر سنة ست وخمسين وستمائة الهجرية (1258م )، ودخلوها دخول الضواري المفترسة، وقتلوا مئات الألوف من أهلها، ونهبوا خزائنها وذخائرها، وحرقوا كتبها وألقوا بقسم منها في نهر دجلة حتى اسود ماء النهر من مداد تلك الكتب النفيسة، وقضوا على الخلافة العباسية، وعلى معالم الحضارة الإسلامية، ثم قتلوا الخليفة المستعصم بالله وأفراد أسرته وأكابر دولته إداريين وقادة وجنوداً.

وما كان هذا الانهيار الشنيع ليصيب الدولة الإسلامية، لو بقيت دولة واحدة، بقيادة واحدة، بحماية جيش واحد . . .

لقد أصيبت بهذا الأنهيار الفضيح، لأنها كانت دولاً كثيرة لا دولة واحدة.

بصيص النور في الظلام:

وبعد غزو التتار لبلاد السلمين، أصبحت المعارك الدفاعية الناجحة للمسلمين هزائم شنيعة تعاقبت على المسلمين، فانهار المسلمون قوة عالمية لها وزن واعتبار، وبقي الإسلام قوة حضارية عالمية.

وانهزم المسلمون عسكرياً أمام التتار، ولكن الإسلام انتصر على التتار، فلم يلبثوا إلاَّ قليلاً على شركهم حتى اعتنقوا الإسلام.

ولكن المعارك الدفاعية الإسلامية التي بدأت سنة مائة الهجرية، لم تخل من معارك هجومية منتصرة، فقد فتح أسد بن الفُرات جزيرة صِقِلّية سنة ثلاث عشرة ومائتين الهجرية (828م )، واستعاد صلاح الدين الأيوبي فتح القدس من الصليبيين سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة الهجرية (1187م )، كما استطاع السلطان قطز في معركة (عين جالوت ) الانتصار على التتار على أرض فلسطين سنة ثمان وخمسين وستمائة الهجرية (1260م )، أي بعد انتصارهم على العباسيين في بغداد بسنتين فقط، فكانت هذه المعارك بصيصاً من النور في وسط الظلام الدامس.

وفتح محمد الفاتح القُسْطَنْطِينِيَّة سنة سبع وخمسين وثمانمائة الهجرية (1453م)، فكانت هذه المعركة بصيصاً رابعاً من النور وسط الظلام، بعد تلك المعارك الثلاث المنتصرة.

وبلغ انهيار المسلمين أقصى مداه، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلاديين، إذ غزاهم الاستعمار في عقر دارهم، وسيطر على بلادهم، ولم ينجُ بلد إسلامي من الاستعمار إلاَّ شبه الجزيرة العربية وأفغانستان.

وفي سنة ثمان وستين وثلاثمائة وألف الهجرية (1948م )، اقتطع العدو الصهيوني قسماً من فلسطين، وخلق له كياناً في ذلك الجزء من البلاد العربية بمعاونة الاستعمار، وفي سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وألف الهجرية (1967م )، استطاع ذلك العدو السيطرة على فلسطين كافة وأجزاء من سورية والأردن ومصر، وهذا هو قمة ما وصل إليه المسلمون من ذلٍ وهوان.

وإعادة كتابة المعارك العربية الإسلامية من جديد، بأيدٍ أمينة قادرة، في غاية الأهمية بالنسبة لمعارك الفتح واستعادة الفتح، لأنها المفاخر الأولى والأخيرة للعرب والمسلمين، ولأنها أثبتت عملياً بأن هذه الأمة قادرة على الفتوح وعلى استعادة الفتوح بالنصر على الأمم الأخرى، وأن مكانها ليس الذل والهوان، بل المجد والعز إن أعدِّت قواتها بالإيمان والسلاح والاتحاد.

ولكن أهمية إعادة كتابة المعارك العربية الإسلامية لا تقتصر على معارك الفتح ومعارك استعادة الفتح باعتبارها صفحات مضيئة في تاريخ العرب والمسلمين المجيد، بل تشمل المعارك الدفاعية الناجحة والمعارك الدفاعية الخاسرة، لكي نعرف عرباً ومسلمين لماذا انتصرنا، ولماذا اندحرنا، وكيف يمكن أن ننتصر؟ وكيف يمكن أن نتحاشى الاندحار؟

إن الدروس المستنبطة من المعارك كافة، والعِبَر التي نتعلمها من دراسة تلك المعارك كافة، بها أعظم الفائدة لحاضر العرب والمسلمين ومستقبلهم.

وهذه هي فائدة التاريخ لكل أمة من الأمم، لأن الماضي هو دعامة الحاضر وأمل المستقبل، فلا ينبغي إهماله أو إلغاؤه، كما لا ينبغي استنساخه بدون إبراز دروسِه المفيدة وعِبَره النافعة، فالأمة التي لا تاريخ لها كالشجرة التي لا جذور لها، تموت غداً إن لم تكن قد ماتت اليوم أو بالأمس القريب أو البعيد.

المصـــــــادر :

معارك الفتح ... ومعارك استعادة الفتح، والمعارك الدفاعية، متيسرة في المصادر التاريخية العربية الإسلامية المعتمدة.

وهذه المصادر موثوق بها، لأن المؤرخين الذين ألَّفوها ثقات من طراز فريد، فقد كانوا في أكثرهم مفسِّرين ومحدِّثين وفقهاء ونُحاة وأدباء ومؤرخين، إضافة إلى علوم أخرى، كالطبري مثلاً صاحب: تاريخ الرُّسل والملوك، وإمام المؤرخين.

لقد كان الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (224هـ ـ 310هـ ) مفسراً، وهو صاحب التفسير المشهور، ومحدِّثاً، وفقيهاً، وهو صاحب كتاب: ((اختلاف الفقهاء ))، ونحوياً، ومؤرخاً، وكان مشهوراً بالورع والتقوى، معروفاً بالاستقامة والصدق.

وقد ذكره الإمام النووي في كتابه: ( تهذيب الأسماء واللغات )، فقال: ((هو في طبقة الترمذي والنسائي، وكان أحد الأئمة، يُحكم بقوله ويُرْجع إلى رأيه، لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظاً لكتاب الله، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين فمن بعدهم في الأحكام، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم، وله كتاب التاريخ المشهور، وكتاب في التفسير لم يصنِّف أحد مثلَه، وكتاب ((تهذيب الآثار))، لم أرَ سواه في معناه لكنه لم يتمه، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، وتفرد بمسائل حُفظت عنه )) (1).

وذكره الإمام الذهبي في كتابه: (ميزان الاعتدال في نقد الرجال )، فقال: ((الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، صاحب التصانيف الباهرة، ثقة، صادق، من كبار أئمة الإسلام المعتمدين )) (2).

وقال ابن خلكان في كتابه: (وفيات الأعيان ) عن المؤرخ ابن الأثير: ((وكان إماماً في حفظ الحديث ومعرفته وما يتعلق به، وحافظاً للتواريخ المتقدمة والمتأخرة، وخبيراً بأنساب العرب وأيامهم ووقائعهم وأخبارهم، صنَّف في التاريخ كتاباً كبيراً سماه (الكامل)، ابتدأ فيه من أول الزمان إلى آخر سنة ثمان وعشرين وستمائة الهجرية، وهو من خيار التواريخ )) (3).

تلك هي بعض مزايا الطبري وابن الأثير، وأمثالهما من المؤرخين المعتمدين يحرصون على تدوين الحقائق التاريخية كما حدثت بصدق وأمانة، لأنهم يخافون الله فلا يفترون الكذب، ولأنهم علماء بحق لا يلوِّثون علمهم بالكذب والافتراء، ولأنهم قادرون على تدوين التاريخ بأمانة وصدق وعلم، ولو أنهم لا يقدرون على التدوين كما ينبغي، لانصرفوا عنه إلى علومهم الأخرى التي يحاولون ما استطاعوا أن ينتفع بها الناس، واضعين نصب أعينهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله (4) إلاَّ من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنْتَفَعُ به، أو ولد صالح يدعو له ))(5)، فكانوا يعتبرون العلم عبادة من أجل العبادات، ويرجون ثواب الله في كل كلمة يخطُّونها باعتبار العلم يتجدد ثوابه ما أقبل عليه الناس وانتفعوا به، ولا ثواب إلاِّ على علم موثوق به لا غش فيه ولا تدليس، ولا ثواب على علم ملفق لا ينفع الناس.

لذلك كان المؤرخون المسلمون القدامى، كالطبري وابن الأثير وأضرابهما من المؤرخين، يحاسبون أنفسهم قبل أن يُحاسبوا، ونياتهم أن يتعبدوا بما يكتبون، وإنما الأعمال بالنيات.

ولا يدعي أحد الكمال للمؤرخين المسلمين المعتمدين، فالكمال لله وحده، والكتاب العزيز هو الكتاب الوحيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أما ما يخطه البشر فلا يخلو من الوهم والخطأ والنسيان، وكتب المؤرخين المسلمين المعتمدين لا تخلو من الخطأ، ولكن نسبة خطئهم إلى صوابهم ضئيل.

وقد كانت الرقابة النقدية على مختلف رواة الأخبار صارمة جداً في العصور الغابرة، والرواة الذين ينحرفون عن الصدق يُسجَّل عليهم انحرافهم بلا رحمة ولا هوادة، فيقول عنهم النقاد بصراحة وصدق وأمانة: ((لا يوثق بهم ))، أو يقولون عن المفتري: ((كذَّاب ))، أو يعبرون عن أقوالهم بأنها غير موثوق بها بقولهم: ((حاطب ليل ))، أو : ((لا يؤخذ بأقوالهم )).

وحتى في تعبير أصحاب الرجال والمؤرخين، يقولون عن الموثوق به: ((روى فلان، وقال فلان )) ويقولون عن غير الموثوق به: ((زعم فلان ))، أو يقولون عنه: ((لا يؤخذ بقوله )).

والمصادر التاريخية العربية الإسلامية المعتمدة لإعادة كتابة معارك الفتح ومعارك استعادة الفتح والمعارك الدفاعية، هي: تاريخ الطبري، وتاريخ ابن الأثير، وتاريخ فتوح البلدان للبلاذري، وما أكثر المصادر الأخرى، ولكن المصادر الثلاثة التي ذكرتها تعتبر من أوثق المصادر التاريخية القديمة المعتمدة، وقد تكفي للنهوض بمهمة إعادة كتابة المعارك العربية الإسلامية الخاصة بالفتوح واستعادة الفتوح.

أما المعارك الدفاعية الحديثة التي خاضها العرب والمسلمون، فمصادرها العربية والأجنبية كثيرة جداً، ولكن معظمها لا يخلو من تحيز وانحياز: العرب يتحيزون لأمتهم، والأجانب ينحازون لأقوامهم، وقد ضاعت الحقائق بين التحيز والانحياز.

والمؤرخون المحدثون في الغالب غير ملتزمين بالمُثُل العليا التي كان يلتزم بها المؤرخون القدامى المعتمدون، فتقتضي دراسة المصادر والمراجع المحدثة جذراً شديداً، للعثور على الحقائق بين ركام الإفراط والتفريط، فقد مضى الوقت الذي كان المؤرخون يعتبرون العلم عبادة من أجلّ العبادات، وجاء الزمن الذي أصبح فيه أكثرهم يعتبرون العلم تجارة من أربح التجارات.

ولكن لا يخلو أي وقت من الثقات، وعلى هؤلاء مسؤولية إعادة كتابة معارك العرب والمسلمين الحديثة.

الأســـلوب والمنهـــاج:

كتب المؤرخون القدامى المعارك العربية الإسلامية بأسلوب يضم جميع المعلومات المفصلة عن تلك المعارك، ولكن الحوادث غير منسقة تارة وغير مترابطة تارة أخرى، وفيها شيء من الغموض الذي يصعب فهمه على كثير من القراء والدارسين.

كما أن المصطلحات القديمة لا يعرفها غير المختصين ويجهلها غيرهم من الناس.

والأسلوب المطلوب إعادة كتابة المعارك بموجبه، هو تقسيم كل معركة إلى: الموقف العام قبل المعركة، والقوات المشاركة في المعركة للجانبين، وقادة الطرفين، وسير القتال، وخسائر الطرفين، ونتائج المعركة، والدروس المستنبطة من المعركة.

ومن المناسب جداً أن تكون المعركة موضَّحة على خريطة أو عدَّة خرائط، تعين الدارس والقارئ على تفهم سير القتال تفهماً كاملاً.

وهذا هو الأسلوب أو المنهاج الحديث لإعادة كتابة تاريخ المعارك، والمؤرخون القدامى لم يكونوا على علم به، وطريقتهم في عرض المعارك هي حشد المعلومات عنها بحسب توقيت وقوع الحوادث تارة، وبعدم الالتزام بالتوقيت تارة أخرى، ويتم حشد المعلومات عن المعركة حشداً كيفما اتفق في بعض الأحيان.

والمهم في إعادة كتابة تاريخ المعارك هو الاحتفاظ بالمعلومات الواردة عنها في

المصادر التاريخية الإسلامية المعتمدة، وعدم تشويشها أو بترها أو إقحام معلومات جديدة عليها لم تقع أبداً بحجة أو بأخرى.

إن الأمانة المطلقة في النقل مطلوبة للغاية، ومعيد كتابتها مسؤول (فقط ) عن تصنيف المعلومات الواردة عنها وتبويبها، واستنتاج الدروس المستنبطة منها التي تفيد العرب والمسلمين في حاضرهم ومستقبلهم، وتوضيحها بالخرائط والمخطَّطات إن أمكن، على أن تستوفى المعلومات الواردة عنها بكل دقة وأمانة بدون زيادة ولا نقصان.

قـــوات الجانبين وخســائرهم:

سقط قسم من المؤرخين العرب المسلمين المحدثين، وبينهم أسماء لامعة جداً وصلت إلى القمة في الشهرة، في وهدة التشكيك بتعداد قوات الجانبين التي اشتبكت في المعارك عامة وبتعداد الجانب العربي الإسلامي خاصة، إلاَّ إذا حظي التعداد العربي الإسلامي بتزكية مصدر من المصادر الأجنبية مهما يكن ذلك المصدر الأجنبي تافهاً لا قيمة له من الناحية العلمية ولا وزن!!

وهذا التشكيك يتم تسويغه باسم البحث العلمي، وغالباً ما يزرع الباحث الشَّك دون أن يبدي رأيه في تعداد قوات الجانبين، بل يترك الأمر مبهماً بعد أن يسدل عليه ستاراً من الدخان الكثيف.

ومن الغريب جداً، أن يعزو المؤرخ العربي المسلم المُشكَّك أمر التشكيك إلى نفسه، كأنه استنتجه ببحثه العلمي الخاص به الذي لم يسبقه إليه آخر، والواقع أنه نقله نقلاً حرفياً من أحد المصادر الأجنبية بأمانة، دون أن يشير بأمانة أيضاً إلى المصدر الذي نقل حرفياً منه التشكيك، كما تقتضي الأمانة العلمية في النقل.

وتعود إلى المصدر الأجنبي المنقول منه ذلك التشكيك، فيذهلك حقاً أن مؤلِّفه الأجنبي عدو للعرب والمسلمين، كاره لتاريخهم العريق، لأنه يهودي أو مُنصِّر أو جاسوس، أكل قلبه الحقد على الفتوح العربية الإسلامية، وهو مَعْنِيّ بهدم الفتوح والتهوين من شأنها وقيمتها، ليصل إلى هدفه الحيوي، وهو التهوين من قدرة العرب أُمَّة ومن أثر الإسلام في العرب ديناً.

وما يقال عن التشكيك في تعداد قوات الجانبين، يقال عن التشكيك في تعداد خسائر الجانبين بالأرواح.

وتتلخص حجج الأجنبي في تشكيكه في تساؤله:

كيف يمكن حصر عَدَد قوات الجانبين، وكيف يمكن إحصاؤها في الظروف الحربية الصعبة، وحصرُ القوات وإحصاؤها صعبٌ في الظروف الاعتيادية؟!

وكيف يمكن إحصاء الخسائر بالأرواح في الحرب، وهي كَرُّ وفَرُّ . . لا تستقر على قرار، ولا تعطي الوقت الكافي للإحصاء؟!

وهدف الأجنبي الحاقد مفهوم، أما هدف المؤرخ العربي المسلم الذي يستسلم للتشكيك المريب فغير مفهوم، إلاَّ أن يكون الناقل جاهلاً، يستورد تاريخ العرب والمسلمين من المصادر الأجنبية دون فهم ولا تمحيص.

أو يكون الناقل ملوث العقل بما قرأه في المصادر الأجنبية، فلوَّث بالعدوى عقول تلاميذه وطلاَّبه في المؤسسات التعليمية وقرائه وسامعيه.

ولا ينبغي السكوت عن الجهل الذي أدَّى إلى تلوث عقول فلذات أكبادنا التلاميذ والطلاب، وإخواننا الدَّارسين والسَّامعين العرب المسلمين.

إن القوات العربية الإسلامية التي كانت تشهد الحروب، يسودها النظام الدقيق، منذ مغادرة المقاتل بيته حتى يشتبك في القتال، ثم يعود إلى بيته سالماً إذا وضعت الحرب أوزارها، أو يسقط شهيداً.

فهو لا يخرج وحده من بيته إلى ميدان القتال على انفراد، بل مع جماعة من إخوانه المجاهدين، وغالباً ما يكونون من عشيرته أو قبيلته أو قومه.

وللسيطرة على المقاتلين الذين غادروا ديارهم، وللتعاون الوثيق بينهم في حلِّهم وترحالهم، وقبل القتال وفي أثنائه وبعده، يكون على كل عشرة مقاتلين عريف، وعلى كل عشرة عرفاء نقيب من عشيرة المقاتلين أو من قبيلتهم أو من قومهم.

ويمضي بناء القوات العربية الإسلامية الهرمي في تصاعده قُدُماً، فيكون على كل عشرة نقباء أمير، هو أمير الألف (كردوس )(6)، وعلى كل عشرة أمراء أمير الجيش، وهو أمير عشرة آلاف فصاعداً، وهو قائد الجيش الذي يتولى قيادة جيش المسلمين في قطر من الأقطار إقليم من الأقاليم الإسلامية، ويكون عادة والي القطر أو الإقليم الذي يطلق عليه عادة لقب: الأمير.

وكل جزء من أجزاء الجيش، اعتباراً من العريف الذي يقود عشرة رجال، يتألف جنود ينتسبون إلى عشيرة واحدة أو قبيلة واحدة كعشيرة بني سعد من قبيلة بني تميم (مثلاً )، وقائدهم من رتبة عريف إلى أمير الألف يكون من العشيرة نفسها أو القبيلة نفسها، قُدِّم على رجاله لتقواه واستقامته وشجاعته وإقدامه وكفايته وإخلاصه، فإذا كان من رؤساء العشائر أو رؤساء القبائل من يتسم بتلك السمات القيادية، فُضِّل على غيره في قيادة قبلته، أما إذا لم يتسم بالسمات القيادية المطلوبة، فيفضَّل عليه غيره من أفراد عشيرته أو قبيلته، وكثيراً ما تبرز السمات القيادية للرجال في القتال، فتقدِّمهم أعمالهم وتلفت إليهم الأنظار، والقتال أهم محكٍ لسمات الرجال القيادية.

والقادة بمختلف رتبهم ومناصبهم ـ عدا أمير الجيش ـ يعيشون في أيام السلام في بلد واحد مع رجالهم، فقد قسم المسلمون البلاد إلى أجناد في القواعد الإسلامية الرئيسة، وكان جند كل قاعدة ينقسم باعتبار العشائر والقبائل، فكانت القبائل (مثلا ً) خمسة أقسام تسمى: الأخماس، يقيم في كل خمس منها قبيلة من القبائل العربية وهم: الأزْد، وتَميم، وبَكْر وعبد القيس، وأهل العالية، وهم أهل المدينة المقيمون، وكانوا من قريش وكِنَانَة والأزْد بَجِيْله وخَثْعم وقيس عَيْلان كلِّها ومُزَيْنة، وكان على كل خمس أمير من أمراء تلك القبائل.

أما في أيام الحرب، فتبدأ مسيرة القادة مع رجالهم ابتداء من رحلتهم إلى ميدان القتال، فيكون اتصال القادة برجالهم في مرحلة مسير الاقتراب من القاعدة إلى الهدف، وفي المعسكرات في مراحل التنقل، وفي المعسكرات المتقدمة قبل نشوب القتال وفي القتال، وبعده، وفي مسيرة العودة إلى الوطن.

ولا يمكن أن يكون الاتصال المباشر وثيقاً بمثل هذه الدرجة بين القائد ورجاله في أيام السَّلام والحرب معاً، حتى في الجيوش الحديثة لكل الأمم بدون استثناء، وعلى هذا يكون التعارف بينهم وثيقاً إلى أبعد الحدود.

كما كان يجري إحصاء الجند وتسجيلهم بالأسماء في ديوان الجند الذي يطلق عليه: (الديوان ) وبموجب هذا الديوان يتقاضى الجند أعطياتهم ما داموا على قيد الحياة، فإذا قتلوا رُقِّن قيدهم في الديوان، وهذا الديوان إحصاء دقيق للجند وهم أحياء، وإحصاء دقيق لهم إذا قتلوا، وطالما سمعنا القائد يقول: ((بلغ ديواني مائة ألف )) (7) وهكذا.

وقبل المعركة يستعرض القائد الجند، فيسأل عن رجلٍ رجلً، من هو؟ وما هي قبيلته، وعن حاله وسلاحه، فإذا مرَّ الجندي بالقائد العام بحضور قائده المرؤوس رمى بسهم في مكان معين ثم مضى إلى سبيله.

فإذا نشب القتال ثم انتهت المعركة استعرض القائد العام الجنود من جديد، فيأخذ كل جندي بعد استعراضه سهماً واحداً، وبعد انتهاء العرض يبقى عدد من الأسهم في مكانها المعين لم يأخذها أحد، وهي بعدد القتلى الذين سقطوا في المعركة من الشهداء.

وهذا الاستعراض إحصاء بالغ الدقة لتعداد الجنود قبل المعركة، وتعدادهم بعد المعركة، وتعداد خسائرهم من جراء القتال، هذا بالإضافة إلى تعدادهم بالديوان، ومعرفة كل قائد ـ وخاصة العرفاء ـ تعداد جنوده الذين شهدوا المعركة وعدد خسائره من الجنود في القتال، وأخيراً فإن العريف مسؤول عن ترقين أسماء الشهداء من الديون بعد المعركة، لتتوقف أعطياتهم وتنقل إلى أهليهم الأحياء.

فإذا لم تكن كل هذه الإجراءات الدقيقة كفيلة بمعرفة تعداد الذين شهدوا المعركة، وتعداد الخسائر بدقة متناهية، فلا نعرف كيف يتم الإحصاء الدقيق !!

وما يقال عن تعداد المقاتلين العرب والمسلمين، يقال عن تعدد المقاتلين من الروم والفرس.

وما يقال عن تعداد خسائر العرب والمسلمين في كل معركة من المعارك، يقال عن تعداد خسائر الروم والفرس أيضاً.

ولكن دقة تعداد العرب والمسلمين أكثر دقة من تعداد الفرس والروم، نظراً لعلاقة القربى بين القادة وجنودهم واتصالهم المباشر بكل شيء.

ومما تقدم، نستطيع أن نتبين بوضوح وجلاء، أن التشكيك في تعداد المقاتلين وخسائرهم من الجانبين، لا يدل إلا على الحقد الأسود أو الجهل المطبق.

وإذا كنا لا نطمع في الحد من حقد الأجنبي اليهودي، أو المنصر الصليبي، أو الجاسوس على العرب والمسلمين، فلا أقل من أن نعيد المغرَّر بهم من العرب والمسلمين إلى طريق الحق والصواب.

المحافظة على حقائق التاريخ:

أعاد قسم من الإخوة العسكريين كتابه بعض معارك الفتح الإسلامي خاصة، كمعركة القادسية ومعركة اليرموك، ومعركة نهاوند التي أُطلق عليها بحق: معركة فتح الفتوح، ومعركة حصن بابليون، فحمَّلوا تلك المعارك ما لا تطيق وما لا ينبغي أن تتحمل، إذ جعلوا منها معارك حديثة من آخر طراز وما هي كذلك، ولا يمكن أن تكون كذلك، وشتان بين معركة جرت قبل أربعة عشر قرناً، وبين معركة جرت قبل سنوات معدودات.

وقد تتشابه المعركة القديمة والمعركة الحديثة في تطبيق قسم من مبادئ الحرب المعروفة والثابتة التي لا تتغير، أما في أساليب القتال، فالتشابه بينهما غير وارد، لاختلاف الأساليب القتالية باختلاف الأسلحة المستخدمة في القتال وتطورها وتعداد المقاتلين وتنظيمهم وتسليحهم وتجهيزهم وباختلاف عقائدهم القتالية.

والأساليب القتالية تتغير عبر القرون، أما مبادئ الحرب فثابتة لا تتغير.

والدروس المستنبطة من معارك الفتوح الإسلامية بالنسبة لمبادئ الحرب الثابتة قيِّمة جداً ومفيدة للغاية، وبالإمكان أن نقنع بهذه الفائدة الكبيرة دون أن نجعل من المعارك بعد إعادة كتابة تاريخها أن تحافظ على اسمها التاريخي فقط ولا تحتفظ بمضمونها التاريخي الأصيل.

وإذا لم يستطع الذين يعيدون كتابة معارك الفتوح وغيرها من المعارك، أن يحتفظوا بالحقائق التاريخية، ويحافظوا على أصالتها، فما أعادوا كتابة تاريخ تلك المعارك، بل مسخوا تاريخه مسخاً وشوهوها تشويهاً، والأفضل لهم وللمسلمين وللتاريخ أن يُريحوا ويستريحوا.

ومن الصعب جداً أن نقارن بين معركة إسلامية جرت قبل أربعة عشر قرناً، وبين معركة حديثة جرت في الحرب العالمية الثانية (1358هـ ـ 1365هـ ) أي (1939م ـ 1945م )، من ناحية التفاصيل والأساليب القتالية المتغيرة أبداً، وزجّ هذه المقارنة بمناسبة وبدون مناسبة في مثل هذا الموقف خطأ لا مسوِّغ له في أي حال من الأحوال.

والذي يقعون في مثل هذا الخطأ، يحسبون أنهم يحسنون صُنْعاً، بحجة أنهم يثبتون سبق المسلمين في هذا الميدان، وما أحسنوا بل أساؤوا إساءة بالغة، لأنهم جعلوا من العسكرية الإسلامية ذنباً للعسكرية الأجنبية، وهي ليست ذنباً بل رأساً، وقد يقتبس الحديث من القديم، والعكس ليس صحيحاً بل مستحيلاً.

كما أن العسكرية الإسلامية رائدة لأنها استطاعت فتح بلاد شاسعة تضم في الوقت الحاضر سبعاً وثمانين مملكة وجمهورية وإمارة ومشيخة ومستعمرة في آسيا وأوروبا وإفريقية، ولو لم تكن عسكرية رائدة لما استطاعت بمثل هذه السرعة المذهلة تحقيق كل هذه الانتصارات السريعة الحاسمة الباهرة الباقية.

ولست أجهل أن حسن النية وإسباغ المفاخر على المعارك الإسلامية حباً في العرب والمسلمين من أسباب الوقوع في هذا الخطأ الشنيع.

ولكنني أخشى أن تكون من أسبابه ابتلاء عقول قسم من الذين أعادوا كتابة تاريخ الفتوح الإسلامية من عسكريين ومدنيين عرباً ومسلمين بالاستعمار الفكري البغيض، وانْبهارهم الخطر بالعسكرية الأجنبية، واعتمادهم في إعادة كتابة تاريخ المعارك الإسلامية على المصادر الأجنبية وحدها.

إن المطلوب من الذين يعيدون كتابة تاريخ المعارك الإسلامية، المحافظة على حقائق التاريخ وأصالة المعارك، بأسلوب حديث ومنهج واضح.

والمطلوب منهم أن يبقوها عربية إسلامية، ولا يمسخوها أعجمية أجنبية!!

 

 


جمال عبدالناصر

ليس القوي من يكسب الحرب دائما
وإنما الضعيف من يخسر السلام دائما



   

رد مع اقتباس