عرض مشاركة واحدة

قديم 22-11-23, 08:14 AM

  رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي الإمام زيد الهاشمي.. ثار على الأمويين ومهّد لنجاح العباسيين



 


الإمام زيد الهاشمي.. ثار على الأمويين ومهّد لنجاح العباسيين وأسس مذهبا فقهيا يتبنى "الثورة المستمرة"

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

21/11/2023

"إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعَفين، وإعطاء المحرومين، وقسْم هذا الفيء بين أهله بالسَّواء، ورد المظالم، ونصر أهل البيت؛ أتبايعون على ذلك؟"!! كانت هذه البنود الواضحة القاطعة أساسَ مضامين البرنامج الثوري للإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي الهاشمي (ت 122هـ/741م) الذي يلبي مقتضيات الزعامة الثورية في غايتها المثالية، تلك الزعامة التي مثلها الإمام زيد الهاشمي خير تمثيل.
وهي كذلك تلخّص حزمة المبادئ التي قامت على أساسها -من قبله- ثورات أئمة السنة من المحدِّثين والفقهاء ضد الدولة الأموية، ثم إن تلك العريضة المطلبية تطرح شرعية "أهل البيت" داخل برنامج عملي يرى أن للانتساب إلى العترة النبوية دورا شرعيا وتوظيفا مجتمعيا، يتمثلان في اضطلاعهم بالسعي لتطبيق تلك المبادئ وأن يكونوا في سياق العمل التغييري للجماعة المسلمة.
جاءت ثورة الإمام زيد بعد خمود أصاب طليعة "أهل البيت" وهدوء حذِر حاصر دعاتهم، فلجؤوا إلى "الإمامة العلمية" والالتزام بعقيدة الصبر، شأنهم في ذلك شأن الكثير من التيارات السياسية والفكرية في ذلك الوقت، التي انتهت -بعد حروب دامية مع بني أمية- إلى نفس النتيجة.
جدد الإمام زيد الفكر الثوري مستوعِبا الأخطاء السابقة التي مسّته وأحاطت به، وطرح وجهة نظر تستقطب جموع الأمة، فكان موقفه من الخلفاء الراشدين هو التقدير والثناء، وكذلك كان رأيه في "الإمامة" -أي خلافة المسلمين- يسمح بشرعية خروجها عن أئمة أهل البيت، لأنه كان يرى صحة شرعية الإمام المفضول رغم وجود الإمام الفاضل من "أهل البيت"، كما أن موقف زيد الفقهي والكلامي كان يرفض أي فكر باطني يخص الإمامة.
وبسبب كل تلك العوامل؛ اتسعت دائرة جبهة الرفض لآرائه ومواقفه ممثلة في السلطة الأموية، وفي بعض الفرق المنتسبة إلى "أهل البيت" التي بدأت تُشيع رواياتٍ باطنية مغالية ومستهجَنة حتى من الأئمة العلويين أنفسهم أمثال الإمام جعفر الصادق (ت 148هـ/766م).
وإذا كان برنامج الإمام زيد السياسي والفكري اتّسم بأنه ذو صبغة توافقية وصيغة إجماعية بحيث تلتقي فيه الجماعات على نقطة سواء؛ فإن مردّ ذلك يعود إلى نشأة زيد وينابيعه التكوينية في المدينة النبوية التي كانت موئلا للمعارضين الناقدين للأوضاع السياسية من فقهاء الصحابة والتابعين، كذلك ظلت ذاكرته مشبعة بمشاهد دامية مسّت الأمة وآلمَتْها في مجموعها العام، كواقعة "يوم الحَرَّة" سنة 63هـ/684م عندما استُبيح حرم المدينة، وحادثة قصف الكعبة بالمنجنيق سنة 73هـ/693م أثناء قتال الوالي الأموي الحجّاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ/715م) للزبريين، ثم مشهد مقتل جده الحسين بن علي (ت 61هـ/682م) وهو الفاجعة التي أوجعت الضمير المسلم من يومها وحتى اللحظة الراهنة.

وبالتالي ليس عبثا أن يُنظر إلى ثورة زيد باعتبارها من ثورات الأمة الكبرى على الظلم والطغيان، وأن مطالبها هي أهم بنودِ جدولِ عملِ الجماعة المسلمة في مسعاها نحو التغيير، ولذا ظلت إمامة زيد تمثل لحظة خاصة في وعي أهل السنة، خصوصا أن تمايز الزيدية عنهم -باعتبارها فرقة- تأخر كثيرا عن تلك اللحظات الحرجة، وإن بقيت ظلال نهج زيد وأفكاره الأصيلة تجعلهم أعدل فرق الشيعة في النظر الإسلامي العام.
إنّ إمعان النظر في تاريخ رجالات "أهل البيت" وأفكارهم ومبادئهم التي حملوها وجاهدوا من أجل تجسيدها في الواقع؛ جزءٌ لا يتجزأ من أي جهد جادّ يسعى للاطلاع على قراءة مهمّة للإسلام في ينابيعه الأولى، قبل أن تتكاثر القراءات وتتداخل الأوهام وتتشاجر الأهواء. كما أن التمعن في تراجم رجالات "أهل البيت" الأوائل يمكّن من إدراك أسباب التشظي الذي أصاب الأمة فيما بعدُ، لِمَا يوقفنا عليه من علاقاتهم مع مثلث بالغ التعقيد تتألف أضلاعه من: أنظمة الحكم وجمهور علماء الأمة وجماهير الرأي العام فيها.
ولا ريب في أنه يأتي في صدارة هؤلاء الرجال العظماء الإمامُ زيد بن عليّ الهاشمي الذي نخصص هذه الدراسة للوقوف على تجربته في التعاطي مع هذا المثلث الحيوي؛ راصدين موقفه من الشأنِ العام اشتراكا واشتباكا، ومُبْرِزين علاقته بعلماء عصره تلمذةً ومحاورةً، ومقارنين أفكاره السياسية بما راج في زمنه من مبادئ وأفكار تضاهيها أو تناهضها.
ثم إن هذه المقالة تسعى -خلال ذلك- إلى فهم سياقات حركة الأحداث في أيام زيد وإسهامه فيها، لما نراه من أن هذا الإسهام ما زال يصلح نموذجا لإلهام أبناء زماننا وهم يخوضون ميادين السياسة العملية من منظور إسلامي؛ فقد ركّب زيد نظريا مشروعه السياسي من رؤية تجمع بين الواقعية المرنة والمثالية الطامحة ليلائم هذا المشروعُ جميعَ الطوائف والجماعات في عصره، فنجح في ذلك نظريا وعمليا إلى حد كبير وإن لم يحالفه الحظ في الإعداد المستوعِب والمتأني واختيار الجغرافيا الثورية المناسبة، فكان من تعثُّر مشروعه ما كان مما سنقصه عليكم في السطور التالية. والذي يعنينا -في هذا المقام- إنما هو موقع شخصية الإمام زيد في الأُمّة لا في الفِرقة، وفي الأمر العام لا في الشأن الخاص، أما موضوع "الزيدية" باعتبارها فرقةً كلامية ومذهبا فقهيا فله مقام آخر ومقال مختلف.

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

تنشئة خاصة
وُلد زيد بن عليّ سنة 80هـ/700م ونشأ في بيت إمامة في العلم واستقامة في الدين؛ فأبوه هو عليّ -المعروف بزين العابدين (ت 94هـ/714م)- بن الحسين (ت 61هـ/682م) بن علي بن أبي طالب (ت 40هـ/661م).
ولم يكمل زيدٌ سنته الرابعة عشرة حتى فُجع بوفاة والده زين العابدين الذي اشتُهر بكونه من أوعية العلم وأئمة الزهد والتعبد، حتى قال عنه الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘سير أعلام النبلاء‘- إنه كان "ثقة مأمونا كثير الحديث عاليا رفيعا ورِعا".
ونقلَ ابن كثير (ت 774هـ/1372م) -في ‘البداية والنهاية‘- عن الإمام المحدِّث ابن أبي شيبة (ت 235هـ/849م) قولَه: "أصح الأسانيد كلها الزُّهري (ت 124هـ/743م) عن عليّ بن الحسين عن أبيه عن جده" النبي ﷺ. ثمّ ذكرَ بعض الروايات التي تدلّ على علاقته الوثيقة بعلماء عصره من التابعين.

أخذ زيدٌ العِلمَ -كما يقول الذهبي في ‘السِّيَر‘- "عن جماعة يأتي في صدارتها أبيه زين العابدين، وأخيه [الأكبر محمد] الباقر (ت 114هـ/733م)، وعُروة بن الزبير (ت 94هـ/714م)" الذي كان أحد فقهاء المدينة النبوية السبعة الكبار.
ومن هؤلاء الأئمة استمد زيد حصيلته المعرفية ونال تكوينه العلمي المتين؛ تلك الحصيلة التي ينقل عنه طرفا من تفاصيلها المؤرخ الفقيه المقريزي (ت 845هـ/1441م)، حين يروي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- أن زيدا خاطب يوما أتباعه الثائرين معه قائلا: "والله ما خرجتُ ولا قمت مقامي هذا حتى قرأت القرآن، وأتقنت الفرائض، وأحكمت السُّنَن والآداب، وعرفت التأويل كما عرفت التنزيل..، وما تحتاج إليه الأمة في دينها مما لا بد لها منه ولا غنى لها عنه، وإني لعلى بينة من ربي".
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

روافد متنوعة
يقول أبو الفتح الشهرستاني (ت 548هـ/1153م) -في ‘المِلَل والنِّحَل‘- أن زيداً "أراد أن يحصِّل الأُصول (= العقائد) والفروع (= الفقه) حتى يتحلى بالعلم؛ فتلمذ في الأصول لواصل بن عطاء (ت 131هـ/750م).. رأس المعتزلة ورئيسهم..، فاقتبس منه الاعتزال وصارت أصحابه كلهم معتزلة".
ويذكر المقريزي أن الزيدية "يوافقون المعتزلة في أصولهم كلها إلا في مسألة الإمامة، وأُخِذَ مذهبُ زيد بن علي عن واصل بن عطاء".
وهذا التنوع في التلقي المعرفي والتعدد في المأخذ جعله منصهراً مع كافة أطياف الجماعةِ العلمية ومنخرطا في الشأن العام غير منعزلٍ، كما أدى إلى إنضاج موقفه الإيجابيّ من الصحابة والسلف، والمتوازن في توسطه بين الفِرَق والجماعات التي كانت لا تزال في طور التبلور والتمايز.
ولذلك ينقل الذهبي قائلا: "عن زيد بن علي، قال: كان أبو بكر (الصدّيق ت 13هـ/635م) -رضي الله عنه- إمامَ الشاكرين، ثم تلا: ﴿وسيَجْزِي اللهُ الشاكرين﴾؛ ثم قال: البراءةُ من أبي بكر هي البراءة من علي".
ويقول الإمام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) -في ‘مناهج السُّنّة النبوية‘- إن الغُلاة من أتباع "أهل البيت" يكفّرون بعض أئمتهم، "وهم أهل السُّنة منهم المتولون لأبي بكر وعمر كزيد بن علي بن الحسين وأمثاله من ذرية فاطمة (ت 11هـ/633م)".
إذن لم يكن زيدٌ العالِمُ مفترقا عن جماهير علماء الإسلام حينئذ، ولم تكن الفرقة المنتسبة إليه والمسماة بـ"الزيدية" قد نشأت بعدُ بعقائدها وأصولها التي عُرفت بها لاحقا، ولذا ظل -قبل استشهاده وبعده- معدوداً ضمن أئمة الإسلام المجمع على إمامتهم، وهو ما أهله لأن تكسب ثورته دعم كل من الفقهاء والمحدِّثين والمفسرين على حد السواء، واعتمد على آرائه العلمية حتى أئمة المذاهب وأساطين المحدِّثين.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

مكانة محترمة
فقد روى عنه الإمام الشافعيُّ (ت 204هـ/820م) بسنده إليه أحاديث في عدة أبواب من كتابه ‘مسند الشافعي‘، منها حديث: «وَكُلُّ مِنَى مَنْحَرٌ». وروى عنه الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م) في مواضع كثيرة من كتابيْه: ‘المُسْنَد‘ و‘فضائل الصحابة‘، منها ما رواه بسنده أن أحدهم سأل زيد بن علي عن أبي بكر الصديق وعمر الفاروق (ت 23هـ/645م) "فقال: تولَّهما، قال: قلتُ: كيف تقول فيمن يتبرأ منهما؟ قال: أبرأ منه حتى يتوب".
وروى عنه أيضا ابنُ أبي شيبة في كتابه ‘المصنَّف‘ وأصحابُ كتب السُّنن الأربعة؛ وفقا للإمام المزيّ (ت 742هـ/1341م) الذي يقول -في ‘تهذيب الكمال‘- إن زيداً "روى له أبو داود (ت 275هـ/888م)، والترمذي (ت 279هـ/892م)، والنَّسائي (ت 303هـ/915م) في ‘مسند علي‘، وابن ماجه (ت 273هـ/886م)".

وقد أكثر شُرّاح الحديث والمفسرون من ذكر آراء زيد بن علي الفقهية وأقواله في وجوه قراءات القرآن؛ فنقل عنه ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) كثيرا في ‘فتح الباري‘، وكذلك فعل قبله في تفاسيرهم كل من الزمخشريّ المعتزلي (ت 538هـ/1143م)، والإمام فخر الدين الرازي الشافعي (ت 606هـ/1209م)، والقرطبيّ المالكي (ت 671هـ/1272م)، وابن كثير الشافعي.
أما تصانيف الإمام زيد العلمية؛ فإنه يجدر التذكير بأنه توفي -وهو في الثانية والأربعين من عمره- قبل عصر التدوين ووضع التآليف، لكن ينسب إليه "كتاب المجموع" الذي تضمن كثيرا من آرائه العلمية، وإن كان الراجح أنه صُنّف بعد وفاته بزمن على يد بعض تلامذته، كما حصل مع كثير من التراث العلمي لغيره من الأئمة الكبار.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


سياق التشكل
لكي نفهم دوافع ثورة زيدٍ على الدولةِ الأمويّة؛ ينبغي أن ندرك بداية أنّه وُلد في المدينة المنوّرة التي أجبر الأمويون أهلها ورموزها -من الصحابة وأبنائهم وكبار التابعين- بادئ أمرهم على البيعة ليزيد بن معاوية (ت 64هـ/685م)، إذْ "جعله أبوه وليّ عهده وأكره الناس على ذلك"؛ طبقا لعبارة الإمام السيوطي (ت 911هـ/1505م) في ‘تاريخ الخلفاء‘.
وكان من تفاصيل ذلك أن معاوية كتب إلى واليه على المدينة مروان بن الحكم (ت 65هـ/686م) أن يأخذ البيعة لابنه الشاب يزيد، فجمع مروان قادة أهل المدينة وخطب فيهم قائلا: "إن أمير المؤمنين رأى أن يستحلف ولده يزيد عليكم، سنّةَ أبي بكر وعمر"! فقام عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق (ت 53هـ/674م) فقال: "بل سنّة كسرى وقيصر، إن أبا بكر وعمر لم يجعلاها في أولادهما، ولا في أحد من أهل بيتهما"!!
ثمّ ذهب معاوية بنفسه إلى المدينة فأخذ البيعة لابنه يزيد بغير رضا من الناس، فاحتجّ عليه ابن أبي بكر قائلا فيما يرويه السيوطي: "إنك والله لوددت أنا وَكَلْناكَ (= تركناك) في أمر ابنك إلى الله، وإنا والله لا نفعل، والله لتردنّ هذا الأمر شورى في المسلمين أو لنفرقنَّها عليك جذعة"!!
فقد كانت الشورى إذن قيمة مركزية حاضرة بقوة في العقل الجمعي للصحابة والتابعين، ولذا غضبوا جميعا من صنيع معاوية ورأوا فيه سابقة مؤسِّسة لما ترسَّخ بعد ذلك من ضياع لقيمة الشورى وإهدار لسيادة الأمة، حتى إن الإمام التابعي الحسن البصري (ت 110هـ/729م) علق لاحقا على توريث معاوية الحكم لابنه فقال: "فمن أجل ذلك بايع هؤلاء [الأمراء] لأبنائهم، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة"!!
وكان من نتائج خطوة معاوية تلك أن ولاية يزيد نفّرت عنه قلوب الصالحين، فخرج عليه الحسين بن علي في العراق سنة 60هـ/681م، وأطلق أهل المدينة أنفسهم ثورة الحَرَّة سنة 63هـ/684م، وتبعها إعلان عبد الله بن الزبير (ت 73هـ/693م) توليه الخلافة في مكة المكرمة، ثم تلت ذلك ثورة عارمة أطلقها المئات من علماء العراق بزعامة القائد العسكري عبد الرحمن بن الأشعث الكِنْدي (ت 84هـ/704م)، وتوالت أحداثها بين سنتيْ 81-83هـ/701-703م.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


جيل ناقم
لا شكّ أن هذه التقلبات السياسية والثورات المتوالية على بني أمية طوال نحو ربع قرنأثرت على الأجيال الجديدة آنذاك مثل جيل الإمام زيد الذي تزامن ميلاده مع اندلاع آخرها وهي ثورة الفقهاء وابن الأشعث.
وهكذا ورث الجيل الجديد نقمة جيل الآباء من الصحابة والتابعين الكبار على بني أمية، واستبشاع أفعالهم واحتكارهم منصب الخلافة، خاصة أن أهم مطالب الثائرين كانت تتلخص في: الرجوع إلى الشورى في تولية الخلفاء، وإشراك الناس في اختيار ولاة الأقاليم.
وفي ضوء تداعيات هذه الأحداث التي ظلت تعتمل تحت السطح، بعد أن تمكنت آلة القوة الأموية من إخضاعها للضغط والضبط نحو أربعة عقود؛ جاءت ثورة زيد بن عليّ سنة 122هـ/741م على حكم هشام بن عبد الملك (ت 125هـ/744م)، فموْقَع الإمامُ زيد مشروعَه بين المسار الثوري الفاشل والسابق عليه بتلك الثورات، والمسار الثوري الثاني الناجح اللاحق عليه والذي نفذه العباسيون.
والحق أن زيدا نفسه هو من أدرج ثورته في سياق تلك الثورات العارمة؛ فقد قال حسبما يرويه عنه عبد القاهر الجُرْجاني (ت 429هـ/1039م) في ‘الفَرْق بين الفِرَق‘: "وإنما خرجتُ على بني أمية الذين قاتلوا جدي الحسين، وأغاروا على المدينة يوم الحَرَّة، ورمَوْا بيت الله بحجر المنجنيق والنار" في قتالهم لابن الزبير.
ولذلك كانت ثورة الإمام زيد -في دوافعها ومنهجها وحتى نتائجها- امتدادا للثورات السابقة؛ إذْ رَفعت -كما سنرى- المطالبَ نفسها ممثلة في ضرورة: اعتماد الشورى آلية للوصول إلى السلطة، واحترام إرادة الرأي العامّ المسلم في اختيار الخلفاء والولاة، وإقامة العدل برفع المظالم الواقعة على الناس.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

تأسيس نظري
تختلف الأفكار الكلامية الزيدية عن نظيرتها لدى عموم الفرق الشيعية -ولاسيما الاثنا عشرية- في مسألتين مهمتين، يحددهما لنا الإمام أبو الحسن الأشعري (ت 324هـ/936م) بقوله في كتابه ‘مقالات الإسلاميين‘: "غير أنهم (= الزيدية) خالفوهم (= الاثنا عشرية) في شيئين: أحدهما أنهم يزعمون أن علياً تولَّى (= أيّد) أبا بكر وعمر على الصحّة وسلّم بيعتهما، والآخر أنهم لا يُثْبتون العصمة لجماعة أهل البيت كما يُثبتـ[ـها] أولئك".
وعن موقف زيد من أبي بكر وعمر وعموم الصحابة؛ يقول الأشعري: "وكان زيد بن عليّ يفضّل عليَّ بن أبي طالب على سائر أصحاب رسول الله ﷺ، ويتولَّى [مع ذلك] أبا بكر وعمر، ويرى الخروج على أئمة الجور".
وموقف زيد هذا من أبي بكر وعمر مما يُحمد له؛ ففي أوْج معركته مع الأمويين وحاجته لشيعة "أهل البيت" صرّح لهم بموقفه المعظّم لهما، ولم يستعمل معهم "التقيّة" لكسبهم إلى صفه، ولذا حين سمع بعضَهم يطعن في أبي بكر وعمر شنّع عليهم، فانفضوا عنه فقال لهم: "رفضتموني"! فسُمّوا لذلك "الرافضة".

وفي رواية ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) -في ‘الكامل‘- أن جماعة من رؤساء الشيعة جاؤوا إلى زيد "وقالوا: رحمك الله، ما قولك في أبي بكر وعمر؟ قال زيد: رحمهما الله وغفر لهما، ما سمعت أحدا من أهل بيتي يقول فيهما إلا خيرا، وإن أشد ما أقول -فيما ذكرتم [من الإمامة]- أنا كنا أحق بسلطان رسول الله ﷺ من الناس أجمعين، فدفعونا عنه ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفراً، وقد وَلُوا فعدلوا في الناس وعملوا بالكتاب والسنة".
ويبين الشهرستاني -في ‘المِلَل والنِّحَل‘- رأي زيد في من يتولى الخلافة عامة؛ فيقول إنه "كان من مذهبه جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل، فقال: كان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أفضل الصحابة، إلا أن الخلافة فُوِّضتْ إلى أبي بكر لمصلحة رأوْها، وقاعدة دينية راعوْها، من تسكين نائرة (= عداوة) الفتنة وتطييب قلوب العامة".
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

دافع مصلحي
فتسكين نار الفتن وتطييب قلوب العامة كانا من المصالح المعتبرة في الفقه السياسي عند الإمام زيد؛ إذ لا يجوز تجاهل رأي العامة ورضا الناس، وهو هنا يتفق مع سياسةِ جدّه عليّ ابن أبي طالب الذي رفض -كما سيأتي- أن يتولى الخلافة دون بيعة علنية من الناس، تتجسد فيها الشورى بحرية وشفافية.
فإذا كان زيدٌ يُجوّز إمامة المفضول مع وجود الفاضل أو الأفضل، فإنّه لا يرى العصمة لأحد بعد رسول الله ﷺ، ويرى مركزية قرار الأمة وحق المؤمنين في الاختيار، حتى ولو اختاروا المفضول، ويضرب لذلك مثلا بجده عليّ ابن أبي طالب الذي لم تختره الأمة بعد وفاة النبي ﷺ، بل نصّبوه خليفة إثر مضيّ الخلفاء الثلاثة من بعده.
ويعلل زيدٌ -فيما يرويه عنه الشهرستاني- عدم تولي جدّه عليّ الخلافة لحظة وفاة الرسول ﷺ؛ فيقول إن "عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريبا، وسيف أمير المؤمنين عليّ -عليه السلام- عن دماء المشركين من قريش لم يجفَّ بعدُ، والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي؛ فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد، وكانت المصلحة أن يكون القيام بهذا الشأن لمن عُرفوا باللين والتودد، والتقدم بالسنّ، والسبق بالإسلام، والقرب من رسول الله ﷺ".
ويكشف لنا هذا النصّ أهم مبادئ زيد الرئيسية المتعلقة بتولي الشأنِ العام؛ فهو هنا يؤمن بأولوية رضا الناس في شروط تولية الحاكم. ومن هنا يُمكن القول إن نظرية زيد في "جوازِ إمامةِ المفضول مع وجود الفاضل" كانت بمثابة كلمة سواء ونقطة التقاء بين عدد من التيارات المتنازعة بشأن مسألة الخلافة.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

رؤية توافقية
ونظرية زيد التوافقية هذه تعدّ سابقة تاريخية مؤسِّسة لنظائرها من النظرَات التوفيقية التي جمعت لاحقا اتجاهات معظم الأمة بمواقف وسطية حاسمة قدمها أصحابها بشأن قضايا منهجية كبرى؛ كما فعل الإمام الشافعي بتوفيقه البارع بين مدرستيْ الرأي والأثر في الفقه، والإمام الأشعري بجمعه الناجح بين علماء الكلام وأهل الحديث في العقائد، والإمام الغزالي (ت 505هـ/1111م) بمصالحته التاريخية بين الفقهاء والمتصوفة في التربية والسلوك.
وبذلك يكون زيد قدم حلا عمليا لأزمة النزاع التاريخي حول الإمامة بين تيار العلويين (الشيعة لاحقا) وغيرهم من مُعظِّمي شأن الصحابة جميعا (أهل السُّنة لاحقا) لتجاوز الاستقطاب الذي كان يقسم الناس ساعتها، وبذلك أيضا ضمن زيد دعم الجميع لثورته، وإن كانت نتيجة محاولته تلك يبدو أنها انعكست في بدء تبلور ظهور من سمّاهم هو "الرافضة"، كما سبق القول.
وأهم تلك التيارات -التي أراد زيد توحيدها تحت راية ثورته بمقولته التوافقية تلك- ثلاثةٌ: أولها تيار رافض لولاية أبي بكر وعمر ويرى أنّ الإمامة مستحقة لعليٍّ وأبنائه دون غيرهم بنصّ ووصيّة من النبي ﷺ؛ وثانيها تيار يرى أحقية أبي بكر بل صرح بعضهم بوجود النصّ عليه أيضا؛ وثالثها فريق آخر يرى الاختيار والشورى سواء كانت نتيجتها مع أبي بكر أو عليٍّ. وقد كان زيد بن عليّ -من الناحية العملية- أقرب إلى الفريق القائل بالشورى طريقا للخلافة، وإن اختلف معهم في تفضيل عليٍّ على غيره.

وهذا التفضيل لا يؤثر كثيرا في الواقع العمليّ فهو إذن أقرب إلى الخلاف النظريّ، خاصة أن الإمام الغزالي لخّص -في كتابه ‘الاقتصاد في الاعتقاد‘- موقفَ جمهور علماء الأمة القائل بأن ترتيبَ الأفضلية بين الخلفاء الأربعة إنما هو من حيث الظاهر لا في حقيقة الأمر، لأن ذلك "معناه أن محله عند الله تعالى في الآخرة أرفع، وهذا غيب لا يطّلع عليه إلا الله ورسوله إن أطلعه [الله] عليه". ومقولة الغزالي هذه تقرّبنا كثيرا من موقف الإمام زيد بشأن الخلافة.
إذن حاول زيدٌ بفكرته تلك أن يوحّد الجماعات المختلفة حول قضية تاريخية لا ينبغي لها أن تشغلهم عن التصدي لتحديات واقعهم المحزن؛ ففرّق ببراعة بين "المعيار السياسيّ" في مسألة الإمامة/الخلافة الذي يستند إلى اختيار الناس وانتخابهم حتى ولو جاؤوا بالمفضول على حساب الفاضل، و"المعيار الديني" الذي هو مسألة أفضلية شخصية التي لا علاقة للناس بالفصل فيها، بل ولا قدرة لهم عليه لأن أمره موكول إلى الله تعالى المطلع وحده على ما في القلوب.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

يتبع



 

 


 

الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس