عرض مشاركة واحدة

قديم 24-09-09, 01:20 PM

  رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
جمال عبدالناصر
مشرف قسم الإتفاقيات العسكرية

الصورة الرمزية جمال عبدالناصر

إحصائية العضو





جمال عبدالناصر غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

أهمية التحقيق والنشر:

التراث لغة: هو ما وُرِث، وقد ورث العرب والمسلمون عن أجدادهم من جملة ما ورثوا، مؤلفات قيِّمة في شتى مجالات العلوم والآداب والفنون، فاستطاع الناشرون إخراج كثير من المؤلفات العلمية والأدبية والفنية القيمة إلى النَّاس محققة تارة وبدون تحقيق تارة أخرى.

وفي الوقت الذي حظي كثير من التراث العربي الإسلامي الأصيل بالتحقيق والنشر، فإن حظ تحقيق التراث العسكري العربي الإسلامي بقي عاثراً، فلم يحقق حتى اليوم غير عدد محدود من التراث العسكري العربي الإسلامي العريق.

وإعادة كتابة المعارك العربية الإسلامية بشكل واضح وأسلوب حديث، بحاجة ماسة إلى تحقيق التراث العربي الإسلامي ونشره، لأنه يعين على تفهم سير القتال في المعركة وطريقة توزيع قوات الجانبين في تشكيلاته تعبوية، وطريقة عمل كل تشكيل قتالي في المعركة، كما يعين على شرح الأسلحة التي استخدمها الجانبان في المعركة، ومزايا تلك الأسلحة، وأسلوب عملها في القتال.

ولعل تحقيق التراث العسكري العربي الإسلامي، يكمل إعادة كتابة التاريخ العسكري العريق الإسلامي وإعادة كتابة العسكرية الإسلامية بأسلوب واضح جديد.

ولقد انتصر المسلمون الأولون بعقيدتهم الراسخة، ولكن معلوماتهم العسكرية النظرية والعملية كانت على درجة رفيعة جداً من التقدم والرقي.

ولم تكن المعلومات مدونة في الكتب أيام الفتوح واستعادة الفتوح، ولكنها دوِّنت في العصر العباسي.

أما السلف الصالح من الفاتحين، فقد كانوا قبل عصر التدوين، يتلقون المعلومات العسكرية العملية والنظرية خلفاً عن سلف، ويمارسون تلك المعلومات العسكرية عملياً في ميدان القتال، والممارسة العملية خير مدرسة كما هو معلوم.

وبعد تدوين العلوم العسكرية في العصر العباسي وفي العصور التي جاءت من بعده، أصبحت للعرب مؤلفات عسكرية مدونة، فورثها أبناؤهم تراثاً عسكرياً إسلامياً أصيلاً من المؤلفات العسكرية التي لا تقل أهمية عن كتب التراث الأخرى في العلوم والآداب والفنون.

والتراث العسكري العربي الإسلامي جزء من الحضارة العربية الإسلامية، وهذه جزء من الحضارة العالمية.

وتحقيق التراث العسكري العربي الإسلامي ونشره، خدمة كبيرة للحضارة العربية الإسلامية وللحضارة العالمية أيضاً.

فلا ينبغي إهمال هذا التراث، إذ لا يزال ينتظر من يحققه وينشره بين الناس.

غزارة التراث العسكري:

إن التراث العسكري العربي الإسلامي، يعمر مكتبات أوروبا ومتاحفها، ويتيسر في مكتبات العالم كافة ومتاحفها، وتزخر به مكتبات المخطوطات العربية في شتى أصقاع العالم، ويحوي معهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية على جزء مهم من هذا التراث العريق.

وحسبنا أن نتصفح كتاب: (فهرست ابن النديم ) الذي عدد فيه مؤلفه: ((الكتب المؤلفة في الفروسية وحمل السلاح وآلات الحرب والتدبير والعمل بذلك لجميع الأمم ))، لنتلمس بوضوح أي تراث عسكري أصيل كان العرب والمسلمين منذ عدة قرون.

ومن مقارنة ما جاء في: ((فهرست ابن النديم )) عن الكتب التي اطلع عليها في عصره وسجلها في كتابه، بالمؤلفات العربية الإسلامية المعروفة في الوقت الحاضر، يتبين لنا أن كثيراً من التراث العسكري العربي الإسلامي لا يزال مفقوداً.

ولكن ما وصل إلينا من المخطوطات العربية، يدل على أن العرب المسلمين بلغوا شأواً بعيداً في العلوم والفنون العسكرية، وأنهم لم يقتصروا على علوم الدين والفلسفة والعلوم العقلية والنقلية والتاريخ والأدب، بل كان لهم في العلوم العسكرية باع طويل وقدم راسخة.

وهذا التراث قسمـان:

القسم الأول: ألَّفه العرب والمسلمون.

والقسم الثاني: نقلوه عن الأمم الأخرى، كالفرس والروم والهنود، حسب أسبقية ذكرها في كمية النقل.

والتراث العسكري العربي الإسلامي بالنسبة لكتبه عدة أنواع: كتب للتدريب على الرمي، وكتب للتدريب على الفروسية، وكتب في صفات الأسلحة والتدريب عليها وأساليب استعمالها، وكتب في الأسلحة الهجومية ككتاب الدبابات والمنجنيقات والحِيَل والمكايد ، وكتب للتدريب التعبوي، ككتاب أدب الحروب، وفتح الحصون والمدائن، وتربيص الكمين، وتوجيه الجواسيس والطلائع والسرايا، ووضع المسالح، وكتب عسكرية عامة تشمل التدريب على الأسلحة، وعلى القضايا التعبوية، ككتاب ((الحيل )) للهرثمي الشعراني الذي ألَّفه للمأمون الخليفة العباسي وحُقِّق ونُشر جزء منه (ابن النديم: 314 ـ 315 ).

وهناك تراث عسكري عربي إسلامي في البيطرة، وعلاج الدَّواب وصفات الخيل واختيارها (ابن النديم: 315 )، وقد كان للخيل أثر عظيم في الحروب القديمة، لذلك ألَّف العرب المسلمون كثيراً من الكتب في الخيل وعلاجها وصفاتها ومزاياها والتدريب عليها وتدريبها، ككتاب: ((فضل الخيل )) الذي صنعه الشيخ عبد المؤمن الدمياطي المتوفى سنة (705هـ )، وكتاب: ((رشحات المداد فيما يتعلق بالصافنات الجياد )) للشيخ محمد البخشي الحلبي المتوفى سنة(1908هـ ) (طبعا في المطبعة العلمية بحلب ـ 1349هـ ).

تلك لمحات عن كتب التراث العسكري العربي الإسلامي، تدل على أنها تغطي أنواع التدريب والتعليم في القوات المسلحة، ولا تغفل أنواع الأسلحة وآليتها وأسلوب استعمالها، وأنواع الدواب وعلى رأسها الخيل ومداواة الدواب وإدارتها وتدريبها والتدريب على الفروسية.

وهذه ثروة ضخمة من الثقافة العسكرية لا ينبغي التفريط بها وإهمالها.

جمـع النصــوص: (8)

إن أعلى النصوص قيمة وأكثرها أهمية، هي المخطوطات التي وصلت إلينا حاملة عنوان الكتاب واسم مؤلفه، وجميع مادة الكتاب على آخر صورة دوَّنها المؤلف بنفسه، أو يكون قد أشار بكتابتها أو أملاها أو أجازها، ويكون في النسخة ما يفيد اطلاعه عليها أو إقراره لها.

وأمثال هذه النسخ تسمى: نسخة الأم.

وتلي نسخة الأم النسخة المأخوذة منها، ثم فرعها، ثم فرع فرعها، وهكذا.

وقد يخلو قسم من المخطوطات من بعض هذه الحدود، فيكون ذلك مدعاة للتحقيق وموجباً للبحث الأمين، حتى يؤدى النص تأدية مقاربة.

وهذا الضرب من المخطوطات يعد أصولاً ثانوية إن وجد معها الأصل الأول، وأما إذا عُدم الأصل الأول، فإن أوثق هذه المخطوطات يرتقي إلى مرتبة، ثم يليه ما هو أقل منه وثوقاً.

والنسخ المطبوعة التي فقدت أصولها أو تعذر الوصول إليها يمكن اعتبارها أصولاً ثانوية في التحقيق إذا كان ناشرها يوثق به ويطمئن إليه، أما الطبعات التجارية فهي نسخ مهدرة، ومن الإخلال بأمانة العلم والأداء أن يُعتمد عليها في التحقيق.

وأما المصورات من النسخ، فهي بمنزلة أصلها ما كانت الصورة واضحة تامة تؤدي أصلها كل الأداء، فمصورة النسخة الأولى هي نسخة أولى، ومصورة النسخة الثانوية أيضاً.

وهنا تعرض مشكلة المسودات والمبيضات، وهو اصطلاح قديم جداً ويراد بالمسودة: النسخة الأولى قبل أن يهذبها ويخرجها سوية، وأما المبيضة: فهي التي سويت وارتضاها المؤلف كتاباً يخرج للناس.

ومسودة المؤلف إن ورد نص تاريخي على أنه لم يخرج غيرها، كانت هي الأصل، وأن لم يرد نص كانت مرتبة النصوص الأولى، ما لم تعارضها المبيضة، فإنها تكون في مرتبة النصوص الأولى، لأن مبيضة المؤلف هي الأصل الأول، وإذا وجدت معها مسودة كانت أصلاً ثانوياً لتصحيح القراءة فحسب.

على أن وجود نسخة للمؤلف لا يدلنا دلالة قاطعة على أن هذه النسخة هي النسخة عينها التي اعتمدها المؤلف، لأن قسماً من المؤلفين يؤلف كتابه أكثر من مرة، لهذا فإن نسخة المؤلف قد تتكرر، ولا يمكن القطع بها ما لم ينص هو عليها.

وضح مما سبق أن منازل النسخ هي: نسخة المؤلف، ثم النسخة المنقولة منها، ثم فرعها وفرع فرعها، وهكذا.

ومن البديهي أنه لا يمكن بوجه قاطع أن نعثر على جميع المخطوطات التي تخص كتاباً واحداً إلا على وجهٍ تقريبي، فهما يجهد المحقق نفسه للحصول على أكبر مجموعة من المخطوطات، فإنه سيجد وراءه معقباً يستطيع أن يظهر نسخاً أخرى من المخطوطات، وحسب المحقق أن يبذل قصارى جهده في العثور على أكبر عدد من المخطوطات لكتابه الذي يزمع تحقيقه، والكمال لله وحده.

التحقيق : (9)

أصل التحقيق من قولهم: حقَّقَ الرجلُ القولَ: صدقه أو قال: هو الحق. والجاحظ يسمي العالم المحقق: محقاً، قال: ((إنه لم يخل زمن من الأزمان فيما مضى من القرون الذاهبة إلا وفيه علماء محقون قرأوا كتب من تقدمهم ودارسوا أهلها ))، والإحقاق: الإثبات، يقال: أحققت الأثر إحقاقاً، إذا أحكمته وصححته.

والتحقيق يشمل: تحقيق عنوان الكتاب، وتحقيق اسم المؤلف، وتحقيق نسبة الكتاب إلى مؤلفه، وتحقيق نسبة الكتاب إلى مؤلفه، وتحقيق متن الكتاب حتى يظهر بقدر الإمكان مقارباً لنص مؤلفه.

وتحقيق عنوان الكتاب ليس هيناً، لأن بعض المخطوطات يكون خالياً من العنوان، إما لفقد الورقة الأولى منها، أو انطماس العنوان، أو لإثبات عنوان جلي واضح، ولكنه يخالف الواقع إما بداعٍ من دواعي التزييف، أو لجهل قارئ ما وقعت إليه نسخة مجردة من عنوانها فأثبت ما خاله عنوانها.

والمحقق بحاجة إلى الرجوع إلى كتب المؤلفات، كابن النديم، أو كتب التراجم، أو يتاح له الظفر بطائفة من نصوص الكتاب مضمنة في كتاب آخر ، أو أن يكون له إلْفٌ خاص أو خبرة خاصة بأسلوب مؤلف من المؤلفين وأسماء ما ألف من الكتب، فتضع تلك الخبرة في يده الخيط الأول للوصول إلى حقيقة عنوان الكتاب.

وتحقيق اسم المؤلف، لابد أن يكون مصحوباً بالحذر، فليس يكفي أن نجد عنوان الكتاب واسم مؤلفه في ظاهر النسخة واسم مؤلفه في ظاهر النسخة لنحكم بأن المخطوطة من مؤلفات صاحب الإِسم المثبت، بل لابد من إجراء تحقيق علمي يطمئن معه الباحث إلى أن الكتاب نفسه صادق النسبة إلى مؤلفه.

وأحياناً تفقد النسخة النص على اسم المؤلف، فمن العنوان يمكن التَّهدي إلى ذلك الإِسم ، بمراجعة فهارس المكتبات،، أو كتب المؤلفات، أو كتب التراجم التي أُخرجت إخراجاً حديثاً وفُهرست فيها الكتب، كمعجم الأدباء لياقوت، أو غير ذلك من الوسائل العلمية.

والمحقق إذا عثر على طائفة معقولة من الكتاب منسوبة إلى مؤلف معين في نقل من النقول، كان ذلك مما يؤيد ما يرجحه أو يقطع به في ذلك.

وقد يعتري التحريف والتصحيف أسماء المؤلفين المثبتة في الكتب، فالنصري قد يصحف بالبصري، والحسن بالحسين، وهذا يحتاج إلى تحقيق لا يُكتفى فيه بمرجع واحد، فقد يكون ذلك المرجع فيها عين ذلك التصحيف أو تصحيف آخر أقسى منه، فليس هناك بدٌ من الاطمئنان بالبحث العلمي الواسع.

وما قيل في تزييف العناوين، يقال أيضاً في تزييف أسماء المؤلفين، لذلك لم يكن بد من أن يتنبه المحقق لهذا الأمر الدقيق.

وليس بالأمر الهين أن نؤمن بصحة نسبة أي كتاب كان إلى مؤلفه، ولا سيما الكتب الخاملة التي ليست لها شهرة، فيجب أن تُعرض هذه النسبة على فهارس المكتبات والمؤلفات وكتب التراجم، لنستمد منها اليقين بأن هذا الكتاب صحيح الانتساب.

على أن معرفة منزلة المؤلف العلمية، مما يسعف في التحقيق بنسبة الكتاب، ولكن بعض المؤلفين تتفاوت منزلتهم العلمية اختلافاً ظاهراً بتفاوت أعمارهم، وباختلاف ضروب التأليف التي يعالجونها، فنجد المؤلف الواحد يكتب في صدر شبابه كتاباً ضعيفاً، فإذا علت به السن وجدت بوناً شاسعاً بين يوميه، وهو كذلك يكتب في فنٍ من الفنون قوياً مُتْقِناً، على حين يكتب في غيره وهو من الضعف على حال، فلا يصح أن يُجعل هذا القياس حاسماً باطراده في تصحيح نسبة الكتاب.

وتعد الاعتبارات التاريخية من أقوى المقاييس في تصحيح نسبة الكتاب أو تزييفها، فالكتاب الذي تحشد فيه أخبار تاريخية تالية لعصر مؤلفه الذي نسب إليه، جدير بأن يُسقط من حساب ذلك المؤلف.

أما تحقيق متن الكتاب، فمعناه أن يُؤدى الكتاب أداءً صادقاً كما وضعه مؤلِّفه كماً وكيفاً بقدر الإمكان، وليس معنى تحقيق الكتاب أن نتلمس للأسلوب النازل أسلوباً هو أعلى منه، أو نُحل كلمة صحيحة محل أخرى صحيحة بدعوى أن أولاهما أولى بمكانها أو أجمل أو أوفق، أو ينسب صاحب الكتاب نصاً من النصوص إلى قائل وهو مخطئ في هذه النسبة، فيبدل المحقق ذلك الخطأ ويحل محله الصواب، أو أن يخطئ في عبارة خطأً نحوياً دقيقاً فيصحح خطأه في ذلك، أو أن يوجز عبارته إيجازاً مُخلاً فيبسِّـط المحقق عبارته بما يدفع الإخلال.

ليس تحقيق المتن تحسيناً أو تصحيحاً، وإنما هو أمانة الأداء التي تقتضيها أمانة التاريخ، فإن متن الكتاب حكم على المؤلف، وحكم على عصره وبيئته، وهي اعتبارات تاريخية لها حرمتها، كما أن ذلك الضرب من التصرف عدوان على حق المؤلف الذي له وحده حق التبديل والتغيير.

وقد يقال: كيف نترك ذلك الخطأ يشيع، وكيف نعالجه؟

إن المحقق إن فطن إلى شيء من ذلك الخطأ، نبَّه عليه في الحاشية أو في آخر الكتاب، وبين وجه الصواب فيه، وبذلك يحقق الأمانة، ويؤدي واجب العلم.

ويجب أن يستشعر المحقق الحذر الكامل في تحقيق الآيات القرآنية، وإلا يركن إلى أمانة غيره في ذلك مهما بلغ قدره.

وإبقاء النص القرآني المحرف كما هو في الصلب، فيه مزلة للأقدام، فإن خطر القرآن الكريم يجل عن أن نجامل فيه مخطئاً، أو نحفظ فيه حق مؤلف لم يلتزم الدقة فيما يجب عليه فيه أن يلزم غاية الحذر.

واختبار النصوص القرآنية لا يكفي فيها أن نرجع إلى المصحف المتداول، بل لابد فيه من الرجوع إلى كتب القراءات السبع، ثم العشر، ثم الأربع عشرة، ثم كتب القراءات الشاذة، وفي كتب التفسير يلجأ إلى تلك التي تُعنى عناية خاصة بالقراءات، كتفسير القرطبي وأبي حيان.

وأما نصوص الحديث، فيجب أن تختبر بعرضها على مراجع الحديث، لقراءة نصها وتخريجها إن أمكن التخريج.

وهذا أيضاً هو واجب المحقق إزاء كل نص من النصوص المضمنة، من الأمثال والأشعار ونحوها، فيجب أن يتجه إلى مراجعها، ليستعين بها في قراءة النص وتخريجه إن أمكن التخريج.

وهذا الضروب الثلاثة من النصوص، هي أخطر ما يجب فيه الدقة والحرص والتريث، وليس معنى ذلك أن نستهين بغيرها، ولكن معناه أن نبذل لها من اليقظة، ونستشعر لها من الحرص، ما يعادل خطرها البالغ.

إن التحقيق أمر جليل، وإنه يحتاج من الجهد والعناية إلى أكثر مما يحتاج إليه التأليف، وتحقيق النصوص محتاج إلى مصابرة وإلى يقظة علمية، وإلى سخاء في الجهد الذي لا يضن على الكلمة الواحدة بيوم واحد، أو أيام معدودات.

الإضـــافات الجديدة: (10)

يجري تقديم النص، التعريف بالمؤلف، وبيان عصره، وما يتصل بذلك من تاريخ، وقد كان الناشرون القدماء يُعْنَوْنَ بهذا بعض العناية، وربما اقتصر جهدهم على نقل نص من كتاب معين يتضمن التعريف بالمؤلف، وكثيراً ما وضعوا ذلك التعريف في صفحة العنوان أو في الخاتمة.

كما يقتضي كذلك عرض دراسة خاصة بالكتاب وموضوعه، وعلاقته بغيره من الكتب التي تمت إليه بسبب من الأسباب.

كما ينبغي تقديم دراسة فاحصة لمخطوطات الكتاب، مقرونة بالتحقيق العلمي الذي يؤدي إلى صحة نسبة الكتاب والاطمئنان إلى متنه، وجدير بالمحقق أن يشرك القارئ معه، بأن يصف له النُّسخ التي عوَّل عليها وصفاً دقيقاً يتناول خطها وورقها وحجمها ومدادها وتاريخها وما تحمله من إجازات وتمليكات، ويتناول كذلك كل ما يُلْقي الضوء على قيمتها التاريخية، وهو إن قرن ذلك بتقديم بعض نماذج مصورة لها، كان ذلك أجدر به وأولى.

وإعداد الكتاب للطبع مهم جداً، إذ أن لهذا الإعداد أثره البالغ في ضبط العمل وإتقانه، فالأصل المعد للنشر يجب أن يكون دقيقاً مراجعاً تمام المراجعة، مراعى في كتابته الوضوح والتنسيق الكامل، ويكون ذلك بكتابة النسخة بعد التحقيق والمراجعة بالخط الواضح الذي لا لبس فيه ولا إيهام، وأن يكون مستوفياً لعلاقات الترقيم، وأن يكون منظم الفقار والحواشي.

وينبغي معالجة تجارب الطبع، وهو فن يحتاج إلى مزاولة طويلة متنبهة إلى مزلات التصحيح، والأفضل أن يتولى المحقق معالجة تجارب الطبع بنفسه، ويستحسن أن يستعان في معالجة التجربة الأخيرة بعين أخرى غير عين المحقق، لأن القارئ الغريب قد يكون أيقظ نظراً وأدق انتباهاً.

وصنع الفهارس الحديثة له المقام الأول بين الإضافات الجديدة، إذ بدونها تكون دراسة الكتب، ولا سيما القديمة منها عسيرة كل العسر، فالفهارس تفتش ما في باطنها من خفيات يصعب التَّهدِّي إليها، كما أنها معيار توزن بها صحة نصوصها، بمقابلة ما فيها من نظائر قد تكشف عن خطأ المحقق أو سهوه.

وقد أصبح الحديث المعقد في حاجة ملحة إلى اختزال الوقت، وإنفاق كل دقيق منه في الأمر النافع.

وللفهارس سابقة قديمة عند العرب في كتب الرجال والتراجم والبلدان، ومعجمات اللغة، وقد اقتبس العرب من الغرب فهارس الأعلام والقبائل والبلدان والشعر والأيام والأمثال والكتب وأضافوا فيها ضروباً أخرى كثيرة.

ولكل كتاب منهج خاص في فهرسته دون التقيد بالطرق العامة للفهارس، وهي الطرق التقليدية القديمة، والتي كانت حديثة بالأمس، إذ أن الفهارس ما وضعت إلا لتمكين القارئ من أن ينتفع بالكتاب غاية الانتفاع.

وترتيب الفهرس مع غيره من الفهارس أمر هام، فإن المنهج المنطقي يقتضي تقديم أهم الفهارس وأشدها مساساً بموضوع الكتاب، فإن كان الكتاب كتاب تراجم وتاريخا قُدِّم فيه فهرس الأعلام، أو كتاب أمثال قُدِّم فهرس الأمثال، أو قبائل قُدِّم فهرس القبائل ... وهكذا. ثم تساق بعده سائر الفهارس مرتَّبة حسب ترتيبها المألوف.

ومهما أجهد المحقق نفسه وفكره في إخراج الكتاب، فلابد أن تفوته بعض التحقيقات أو التوضيحات، أو يزل فكره أو قلمه زلّة تقتضي المعالجة. وفي باب: الاستدراك والتذييل الذي يلحق غالباً بنهاية الكتاب، مجال واسع لتدارك ما فات محقق الكتاب أو شارحه، أو مازلِّ فيه فكره أو قلمه.

في خصوصيـة تحقيق التراث العسكري:

لا يختلف تحقيق التراث العسكري العربي الإسلامي عن تحقيق سائر التراث العربي الإسلامي في المبادئ الأساسية، ولكنه يختلف عنها في التفاصيل العامة التي فرضتها على التراث العسكري طبيعته العسكرية في المصطلحات العسكرية، والمصطلحات الفقهية، والمصطلحات التعبوية، ومصطلحات الأسلحة المختلفة بما فيها الأسلحة غير المعروفة أو غير الشائعة في هذه الأيام.

والمصطلحات العسكرية العربية في التراث العسكري، لابد من شرحها شرحاً وافياً، مثل: التعرف، النقيب ... في أسماء الرتب، مع ملاحظة أن معاني هذه المصطلحات في تطوير مستمر، ويمكن الاطلاع على الرتب العسكرية وتطوريها في ((صبح الأعشى )) للقلقشندي.

وكذلك في أسماء الوحدات العسكرية القديمة مثل: حضيرة، فصيلة، سرية، كتيبة، جيش، كردوس ... إلخ، فينبغي شرح هذه المصطلحات الخاصة بالوحدات العسكرية أيضاً، ومعجمات اللغة العربية تيسر هذا الشرح.

وكذلك في المصطلحات التعبوية: القديمة، المؤخرة، السَّاقة، الجريدة، الميمنة، الميسرة، الكمين، الربيئة ... إلخ. فينبغي شرح هذه المصطلحات الخاصة بالقضايا التعبوية، وكتب اللغة تيسِّر هذا الشرح، وعلى رأسها ((المخصص )) لابن سيده.

وكذلك في مصطلحات أسماء الأسلحة المختلفة، كالمنجنيق، والعرادة، والجوشن ... إلخ فينبغي شرحها وبيان طريقة استعمالها، وتعزيز الشرح بالمخططات التوضيحية، وفي ((المخصص )) لابن سيده ما يفيد في الشرح، وفي المعجمات العربية وكتب الأدب ما يعين المحقق كثيراً.

وكذلك المصطلحات الفقهية، وخاصة في التراث الخاص بالجهاد، مثل: فَرضُ عَين، وفرض كفاية ... إلخ. وشروح الكتب الفقهية تفيد كثيراً في شرح هذه المصطلحات، ولكن من الضروري إثبات ما يقابلها في المصطلحات العسكرية الحديثة لتوضيح معانيها للقراء والدَّارسين.

وينبغي وضع المصطلحات العسكرية الحديثة إلى جانب المصطلحات العسكرية القديمة، زيادة في الشرح، لكي يتفهم العسكري الحديث خاصة معاني المصطلحات العسكرية القديمة، ويتفهمها القراء والدارسون من غير العسكريين عامة، وتكون هذه الشروح في الهامش لا في المتن.

والمعجم العسكري الموحِّد بأجزائه الأربعة: عربي ـ إنكليزي، وانكليزي ـ عربي، وفرنسي ـ عربي، وعربي ـ فرنسي. يقدِّم للمحقق المصطلحات العسكرية الحديثة، وهي المصطلحات التي اعتمدتها لجنة توحيد المصطلحات العسكرية للجيوش العربية في جامعة الدول العربية المؤلفة من ممثل واحد لكل جيش عربي، وممثل لمجمع اللغة العربية في القاهرة، وممثل للقيادة العربية الموحدة، وهي المصطلحات التي أقرتها لجنة من أعضاء مجمع اللغة العربية، فلا عذر لمن ينحرف عنها أو يحيد عن استعمالها من الجيوش العربية من المحققين العسكريين وغير العسكريين أيضاً.

ومن الضروري تنظيم فهرس بالمصطلحات العسكرية القديمة وما يقابلها في المصطلحات العسكرية الحديثة، ويلحق هذا الفهرس بالفهارس الأخرى في آخر الكتاب المحقَّق، على أن يُقدم هذا الفهرس على الفهارس الأخرى في أسبقية ترتيب الفهارس، لأهميته بالنسبة لذلك الكتاب.

تلك هي أهم ما يقتضي للمحقق الانتباه إليه في تحقيق التراث العسكري العربي الإسلامي.

التراث العســكري المغبـون:

حقق كثير من العلماء الأعلام كثيراً من التراث العربي الإسلامي وأخرجوه للناس، فأسدوا للفكر العربي الإسلامي أولاً خيراً كثيراً، وأسدوا للفكر العالمي ثانياً خيراً كثيراً أيضاً.

كما أنصف هؤلاء للعلماء الأعلام مؤلفي التراث العربي الإسلامي الذي حققوه وأخرجوه للناس، فعادت أسماؤهم إلى الذِّكر ثانية تحيط بها هالة من النور والتقدير والعرفان، وعاد علمهم إلى الحياة من جديد يُنتفع به ويهدي للتي هي أقوم، وكان قبل تحقيقه مغموراً أو معروفاً في نطاق محدود، وكان مصنِّفوه مغمورين أو معروفين في مجال ضيِّق عند الخاصة من العلماء وفي فهارس التراث.

ولا يزال التراث العربي الإسلامي بحاجة ماسة إلى كثير من المحققين وإلى كثير من التحقيق، لأن نسبة ما حقق منه بالمقارنة بكميته المعروفة الموجودة لا يزال ضئيلاً جداً، وما بقي من التراث العربي الإسلامي الذي ينتظر التحقيق أضعاف ما جرى تحقيقه حتى اليوم.

ومن المعروف أن التحقيق أصعب كثيراً من التأليف، وصدق الجاحظ في قوله: ((ولربما أراد مؤلف الكتاب أن يصلح تصحيفاً أو كلمة ساقطة، فيكون إنشاء عشر ورقات من حُرِّ اللفظ وشريف المعاني أيسر عليه من إتمام ذلك النقص حتى يرده إلى موضعه من اتصال الكلام )).

وبدون شك، ان العرب مقصرون بالنسبة لتحقيق تراثهم العظيم عامة، ولكنهم مقصرون أعظم التقصير بالنسبة لتراثهم العسكري العربي، الذي لم يُحقق منه غير جزء يسير للغاية، ولا يزال معظمه في رفوف المكتبات والمتاحف بحاجة ماسَّة إلى التحقيق.

وبين يدي الجزء اليسير المحقق من هذا التراث، وعدده لا يتجاوز عدد أصابع اليدين إلا قليلاً، ودراسته تظهر أهمية هذا التراث الأصيل، وفائدة تحقيقه للحضارة الإسلامية والعربية والعالمية، فينبغي الإقبال على تحقيقه إقبالاً يرفع عنه ما لاقاه من غبن مرير.

وأرى أن الجهات العسكرية المسؤولة في الدول العربية قادرة على إخراج التراث العربي الإسلامي إلى النور بالتحقيق والنشر بالتعاون مع العلماء الأعلام في الأقطار العربية من جهة، وبالتعاون مع الضباط المثقفين في جيوشها من جهة أخرى.

ففي معهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية عدد غير يسير من المخطوطات العسكرية العربية الإسلامية، تستطيع الجهات العسكرية العربية أخذ صورها وحفظ تلك الصور في مكتبة الجيش العامة، واختيار العلماء الأعلام لتحقيق جزء منها، فإذا أُنجز التحقيق تكفلت تلك الجهات بطبع التحقيق ونشره وإخراجه كاملاً للناس بشكل يسر القراء والدارسين.

أما الجزء الباقي منه، فيمكن أن يحقِّقه طلاب كليات الأركان والقيادة، كجزء من دراستهم العلمية العسكرية، باعتبارها رسائل الطلاب التي تقدم إلى الكليات في نهاية سِني الدراسة، فينال الطلاب عليها التقدير العلمي المتميز ما أحسنوا والتقدير العلمي غير المتميز ما قصروا، وحينذاك تحال المخطوطات التي لم تستوف حقها من التحقيق إلى طلاب جُدد آخرين، ثم يتم تحقيقها بشكل يرضي العلم والعلماء، وحينذاك تنشر المخطوطات لتكون جاهزة للدراسة من القراء والدارسين.

كما تستطيع الجهات العسكرية العربية تكليف الضباط المتقاعدين المعروفين بالثقافة والعلم والقدرة على التحقيق، لينهضوا بواجب تحقيق جزء من المخطوطات العسكرية العربية الإسلامية، ولن يتأخر عن هذا الواجب العلمي النافع أحد من هؤلاء الضباط.

المهم أن تتحرك الجهات العسكرية العربية المسؤولة، لتؤدي خدمة للتراث العربي الإسلامي العريق، فإن هذه الخدمة تشرِّف تلك الجهات، وتسد ثغرة واسعة في المكتبة العربية الإسلامية لا ينبغي أن تبقى، وترفع التقصير عن تحقيق التراث العربي الإسلامي العريق الذي تقع مسؤوليته على العسكريين أولاً، وتزيل الغبن الفاحش الذي تعانيه المخطوطات العربية الإسلامية الذي يجب أو يزول.

المهم أن تتحرك الجهات العربي الإسلامية والجهات العسكرية الإسلامية الأخرى، ففي الحركة بركة، والسكون علامة من علامات الموت، وقد طال السكون في زمان تخطى السكون إلى الحركة فمتى نتحرك؟!

إن الجهات العربية الإسلامية، لا تستطيع النجاح في تحقيق التراث العربي الإسلامي فحسب، بل تستطيع أن تتفوق في هذا النجاح على سائر الجهات غير العسكرية الأخرى، وقد أصبح لدى أكثر الدول العربية والإسلامية كليات للأركان والقيادة، وأصبح لدى قسم منها جامعات للدراسات العسكرية العليا، وبإمكان الضباط الطلاب في الكليات والجامعات العسكرية أن ينهضوا بمهمة تحقيق التراث العربي الإسلامي بكفاية واقتدار، كما فعلوا في دراساتهم السابقة.

فلابد أن يكون لهؤلاء الطلاب من الضباط دور فاعل مرموق في التحقيق والنشر، أسوة بغيرهم من الطلاب الضباط في الدول الأجنبية، وأسوة بغيرهم من طلاب الكليات والجامعات العربية والإسلامية في الوطن العربي والدول الإسلامي بدون استثناء.

ولعل الجهات العسكرية العربية الإسلامية تضع هذا الاقتراح موضع التنفيذ، فتفيد الطلاب الضباط، وتفيد الكليات والجامعات العسكرية، وتفيد الحضارة العربية والإسلامية، وتفيد الحضارة العالمية، وترفع الحيف عن تراث العرب والمسلمين العسكري، وتنصف مؤلفي ذلك التراث العظيم، وتُبْقي ذكرها عالياً في الآفاق، فما يرفع ذكر تلك الجهات كما يرفعها العلم والعلماء، دون أن تخسر شيئاً لقاء هذه الفوائد الحيوية الكثيرة، ويوم تزول الأعراض المادية الفانية، يبقى ذكر العلماء، ويبقى العلم الذي ينفع الناس، ويبقى ذكر الذين أحيوا هذا العلم ونشروه حياً من التراث.

 

 


جمال عبدالناصر

ليس القوي من يكسب الحرب دائما
وإنما الضعيف من يخسر السلام دائما



   

رد مع اقتباس