مسودة قانون لتجنيد الحريديم في الجيش يثير الجدل بإسرائيل (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          الفريق أول ركن شمس الدين الكباشي - عضو مجلس السيادة الانتقالي في السودان (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 1 - عددالزوار : 7 )           »          مقال في "نيويورك تايمز": ترامب فوق القانون (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الجنرال محمد إدريس ديبي - رئيس المجلس الانتقالي في تشاد (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 5 - عددالزوار : 2404 )           »          الجيش الأحمر.. قصة منظمة زرعت الرعب في ألمانيا واغتالت شخصيات هامة (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          البنتاغون: إسرائيل ستشارك في تأمين الميناء المؤقت بغزة (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »          جرائم الحرب (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          جرائم ضد الإنسانية (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          التطهير العرقي (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          تنظيم الدولة يتبنى هجوم موسكو وسط إدانات دولية ونفي أوكراني بالضلوع فيه (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 2 - عددالزوار : 63 )           »          احتكاك عسكري بين روسيا وأميركا في القطب الشمالي (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 52 )           »          صحيفة روسية: الناتو مستعد للحرب ضد روسيا منذ 10 سنوات (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          ولاية ألاسكا.. تنازلت عنها الإمبراطورية الروسية واشترتها أميركا (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 5 - عددالزوار : 60 )           »          حزب الله يستهدف موقع رادار ومنصتين للقبة الحديدية الإسرائيلية (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 48 )           »          بعد عامين من إنشائه.. ما هو حال قراصنة "جيش أوكرانيا الإلكتروني"؟ (اخر مشاركة : الباسل - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »         



 
العودة   ..[ البســـالة ].. > جـناح التــاريخ العسكــري و القيادة > قسم المعارك والغزوات والفتوحات الإسلامية
التعليمـــات قائمة الأعضاء وسام التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة
 


قصة الحروب الصليبية

قسم المعارك والغزوات والفتوحات الإسلامية


إضافة رد
 
أدوات الموضوع

قديم 04-03-14, 04:17 AM

  رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي قصة الحروب الصليبية



 

المصدر - كتاب الدكتور راغب السرجاني : قصة الحروب الصليبية ..::


لا شك أن تاريخ الإنسانية كنزٌ عظيم فيه من التجارب والخبرات ما لا يُقدَّر بثمن ، وخطأٌ كبير أن يقع الحكيم فيما وقع فيه السابقون ، وذنبٌ عظيم أن نتوه في الدروب ، وفي أيدينا دليل النجاة .. ولقد ضلت أمتنا كثيرًا لأنها أهملت تاريخها وتاريخ البشر ، بل - وللأسف الشديد - فإنها عندما قرأتْ تاريخها قرأته على يد مبدِّلين ومغيِّرين زوَّروا الكثير من الصفحات ، وشوَّهوا العديد من الرموز ، وبدَّلوا القصص ، وقلبوا أحداثها ؛ فصار الصالحُ طالحًا وأصبح المفسد حكيمًا , وبهذا ضاعت العِبَر ، وإختفت الدروس ، وفَقَد المسلمون أحد أهم كنوزهم .

لذا كان لزامًا علينا أن نقوم بحملة دراسة شاملة لدراسة التاريخ الإسلامي من كل جوانبه ؛ فنصحِّح كل هذه التجاوزات ، ونعيد الأمور إلى نصابها ، وبالتالي نستطيع الاستفادة من هذا الكنز الهائل .

وبين أيدينا محاولة لهذا التصحيح في موضوع من أهم الموضوعات التاريخية، وهو قصة الحروب الصليبية ، وهي قصة في غاية الأهمية ، ودراستها حتمية لفَهْم كثيرٍ من الأمور ، سواء في التاريخ أو في الواقع؛ فدراسة هذه القصة مهمَّة لفهم التاريخ الإسلامي ، وهي كذلك مهمة لفهم واقعنا الذي نعيش فيه الآن ..

وقد وقع اختيارنا على هذه القصة لعدة أسباب ، كان منها :

أولاً : إنها أكثر من مائتي سنة، أي ما يمثِّل 1\7 التاريخ الإسلامي ، فإن كنا نرى للتاريخ الإسلامي أهمية ، فلا شك أن دراسة هذه الفترة أمر في غاية الأهمية .. وليست دراسة هذه الفترة مهمة للمسلمين فقط ، بل إهتم بها الأوربيون وغيرهم من مفكري العالم وعلمائه ؛ فقد ظلت الحروب الصليبية مسيطرة على الفكر الأوربي وعقلية الأدباء والشعراء وعموم الناس أكثر من ثلاثة قرون متصلة ! ، وذلك من سنة - 488هـ = 1095م - حين بدأت هذه الحروب وحتى سنة - 802هـ = 1400م - بعد إنتهائها بقرن كامل ، بل وظل الاهتمام بها مستمرًّا في كل جامعات ومعاهد أوربا وأمريكا إلى الآن ، حتي إنه في دراسة قام بها المؤرخ نورمان كانتور وجد أن الحادث الوحيد الذي يعرفه الخريج العادي من الجامعات الأمريكية فيما يتعلق بتاريخ العصور الوسطى هو الحملة الصليبية الأولى ، ووجد أيضًا أن انطباعات هؤلاء الخريجين عن هذه الحملة إيجابية جدًّا .

ثانيًا : ولأن هذه الفترة طويلة فإننا نستطيع أن نرصد فيها الأيدلوجيات المختلفة للأطراف المتصارعة ، فإن أفكار المجتمع الغربي وأهداف محركي الجموع والجيوش وواضعي السياسيات والنظم قد تكون شاذة عن المألوف لو كانت عابرة أو مؤقتة ، ولكن ثبات هذه الأيدلوجيات عشرات السنين أو مائتين من السنين يؤكد أن هذه الأيدلوجيات عقائد ثابتة راسخة ، وليس مجرَّد فكرة طارئة خرجت من ذهن متهوِّر أو جاهل .

وبهذا سنفهم خلفيات الغرب الأوربي في حربه للمسلمين ، وهي الخلفيات التي حكمت الصراع قديمًا بين المسلمين والنصارى من الدولة الرومانية ، كما سنفهم خلفيات المجاهدين المسلمين وطرقهم في الحرب وفي المعاهدة , وفي التعامل مع غير المسلمين ، ومناهجهم في التغيير .

إنها دراسة رائعة في نفسيات البشر ، وأدبيات الصراع بين القوى المختلفة ، خاصةً إذا كان الإسلام طرفًا في القضية .

ثالثًا : يبرز إحتياجنا لدراسة الحروب الصليبية بدرجة أكبر عند رؤية التشابه العجيب بين هذه الحقبة القديمة التي مرَّ عليها أكثر من تسعة قرون ، وبين زماننا المعاصر الذي نعيش فيه الآن ..

فكما قامت قوات التحالف الغربي بغزو العالم الإسلامي ، وكما رأينا التكاتف بينهم لحرب واحدة ، وكما رأينا التعاون بين الساسة والحربيين ورجال الدين وأهل الاقتصاد والعلوم لإمضاء هذه الحرب وإنفاذها ، فإننا نرى الآن نفس هذا التكاتف والتعاون والتنسيق لحرب العالم الإسلامي في أكثر من بقعة .

وكما رأينا غزو الصليبيين للشام وفلسطين وأجزاء من تركيا ومصر بل والحجاز ، نرى الآن الهجمات المستمرة والجهود المتتالية التي نجحت في أماكن كثيرة من العالم الإسلامي مثل فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير والبوسنة وكوسوفو ، ونراها تخطط بحرص وتدبير في السودان والصومال ولبنان وسوريا ، وليست مصر أو إيران و باكستان أو تركيا ببعيدة عن الخطر .

وكما رأينا كيانًا غريبًا يُزرع في فلسطين عُرف بعد ذلك بمملكة بيت المقدس الصليبية ، ورأينا هذا الكيان يستمر عشرات السنين ، ورأيناه يُمَدُّ بكل أنواع المساعدة من الغرب الصليبي ، رأينا أيضًا الآن الكيان اليهوديّ يُزرع في نفس الأرض ، في فلسطين ، ويُمد بكل أنواع المساعدة من الغرب الصليبي أيضًا .

وكما رأينا الفكر الاستيطاني الذي كان من محركي الحروب الصليبية ، وكيف أنهم جاءوا برجالهم ونسائهم وأطفالهم لا لينتصروا في معركة ويعودوا بغنائم ، ولكن ليعيشوا ويستقروا ويمتلكوا وينسوا تمامًا روابطهم القديمة وجذورهم الأصلية ؛ كما رأينا ذلك رأينا الآن اليهود يقومون بنفس الشيء ويهاجرون إلى الأرض المباركة بكل عائلاتهم ليستقروا بلا عودة .

وكما رأينا التخاذل من كثير من زعماء العرب والمسلمين ، وظهور نماذج مخزية في تاريخ الحروب الصليبية تفسِّر الانهيارات المروعة التي حدثت في مقاومة المسلمين للمدِّ الصليبي ، نرى الآن نفس التخاذلات وبنفس الروح وبصورة تكاد تتطابق، فلا يهب جيشٌ ولا زعيم لنصر المكروبين في بلاد العالم الإسلامي المحتل .

وكما رأينا حرصًا من أعداء الأمة على منع الوحدة بين ولايات الشام ، وعلى منع الوحدة بين مصر والشام ، وعلى منع الوحدة بين أي زعيمين مسلمين ؛ لأن في هذا بقاء لهم أطول وأعظم ، رأينا نفس الحرص من الغرب الصليبي في زماننا، وقد نجحوا في ذلك أيَّما نجاحٍ ؛ فلا تكاد ترى قطرين مسلمين متجاورين إلا وبينهما صراع ونزاع .

وأوجه التشابه أكثر من أن تحصى ! ، وعند دراسة القصة بشكل تفصيلي سنشعر وكأننا لا نقرأ صفحات من تاريخ مضى ، ولكن نقرأ واقع حياتنا ، وقصة مجتمعاتنا التي نعيش فيها الآن .

رابعًا : يظهر أيضًا بجلاء في قصة الحروب الصليبية الاختلاف الفكري والفقهي والعقائدي في قضية حسَّاسة جدًّا داخل كيان الأمة الإسلامية ، وهي قصة : السُّنَّة والشِّيعة ! ، وذلك أن الأحداث تدور في منطقتي الشام ومصر ، وهما واقعتان تحت سيطرة سلجوقية سُنِّيَّة من جهة ، وعبيديّة فاطمية شيعية من جهة أخرى ، وهذا أفرز مواقف كثيرة تعين على فهم دقائق الأمور في زماننا الآن ، وكذلك مستقبلاً .

خامسًا : دراسة الصراع مع الصليبيين ليس أمرًا مفيدًا لواقعنا فقط ، بل هو مفيد لمستقبلنا أيضًا ؛ فمن الواضح أنه لن يأتي زمانٌ تندثر فيه هذه الصراعات وتلك الصدامات ، ولكنها قد تهدأ أحيانًا وتنشط أحيانًا أخرى ، ولكنها على كل حال ستستمر إلى يوم القيامة .. وفي ذلك جاءت أحاديث مختلفة لرسول الله - صلي الله عليه وسلم - وهي أحاديث صحيحة تؤكد استمرار هذه الصورة الحادَّة من العلاقة ؛ ومن هذه الأحاديث مثلاً : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلي الله عليه وسلم - قَالَ: " لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ ، فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتْ الرُّومُ : خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ . فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ : لاَ وَاللَّهِ لاَ نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا . فَيُقَاتِلُونَهُمْ فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لاَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا ، وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ ، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لاَ يُفْتَنُونَ أَبَدًا فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ إِذْ صَاحَ فِيهِمْ الشَّيْطَانُ : إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ . فَيَخْرُجُونَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، فَإِذَا جَاءُوا الشام خَرَجَ ، فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ إِذْ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عليه السلام - فَأَمَّهُمْ ، فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللَّهِ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ ، فَلَوْ تَرَكَهُ لاَنْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ".

سادسًا : من الدوافع المهمة لدراسة هذه الحقبة الخطيرة من تاريخ الأمة ، التزوير الذي حدث في القصة ، وبصورة مكثفة ! ؛ وذلك لثراء القصة أدبيًّا ، وولع الكتّاب والمؤلِّفين والأدباء بها ، سواء من المسلمين أو الغربيين .

ولا يخفى على أحد أن الأديب لا يهتم كثيرًا بصحة الوقائع التاريخية ، ولكن يروي ما يراه يخدم القصة ، بل قد يخترع شخصيات وهمية ، أو يخترع قصصًا وهمية لأشخاص حقيقيين لتأييد معنى أو ترسيخ فكرة ، وهذا يشوِّش على الناس الكثير من الحقائق ، ويصبح المستمع أو القارئ رهينة لفكر المؤلف أو الأديب , هذا فوق التزوير المغرض والتحريف المتعمد الذي إستهدف في الأساس تشويه الرموز الإسلامية وتعظيم النوايا الصليبية ، وإظهار الموضوع بشكل مغاير تمامًا للحقيقة .. ولعل من أكبر التزويرات في تاريخ الحروب الصليبية هو إطلاق هذا الاسم عليها ! فالحروب الصليبية لم تكن معروفة بهذا الاسم طيلة الفترة التي حدثت فيها ، بل والتي تبعتها ولم يعرف هذا الاسم إلا في القرن الثامن عشر الميلادي وما بعده ، وكان الجميع يطلق على الحروب الصليبية أسماء أخرى مثل : الحملة ، أو رحلة الحجاج ، أو الرحلة للأراضي المقدسة ، أو الحرب المقدسة ؛ أما لماذا اشتهر هذا الاسم فلكونه يحمل معنى الحرب النبيلة ! ، ويُوحِي بالشجاعة والتضحية ، ويعبِّر عن الفداء الذي يحبه النصارى ، وهي جميعًا صفات لم توجد البتَّة في هذه الحروب ، بل كانت حروبًا تجسِّد كل معاني القسوة والعنف والظلم والإجرام ، ولكن الانطباع العام عند الأوربيين والأمريكيين أنها كانت حرب نبيلة تهدف إلى غايات سامية ، واستعملت وسائل شريفة ؛ وهذا يفسِّر الكلمة , التي قالها جورج بوش رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وهو يصف الحرب الأمريكية على العراق بأنها "حرب صليبية" .

فهو لا يعني بهذه الكلمة أيَّة ميولٍ عدوانية، إنما هو يسترجع الموروث الثقافي عنده وعند الشعوب النصرانية الأمريكية وغيرها، ومن ثَمَّ يوجه رسالة مباشرة وغير مباشرة إلى كل هذه الشعوب أن هذه الحرب نبيلة وشريفة، وتضحِّي فيها أمريكا من أجل سعادة الإنسانية .

ومع هذا الخلط الشديد في مصطلح الحروب الصليبية إلا أن الخروج منه أصبح صعبًا جدًّا ، وخاصةً أن الأجيال الأخيرة من المؤرِّخين المسلمين درست في معظمها على أيدي العلماء الأوربيين ، وبالتالي تبنَّوا دون مقاومة نظرياتهم وتحليلاتهم وتقسيماتهم للتاريخ ومصطلحاتهم في وصفه ، ولم يعُدْ يجدي هنا أن نتحدث عن الحملة الاستعمارية الأولى ، أو عن حملة أوربا الغربية ، أو عن حروب النصارى أو غير ذلك من المصطلحات ؛ لأنها كلها ستصرف الذهن حتمًا إلى شيء آخر غير ما نعنيه من معارك وأحداث ..

سابعًا : من أهداف دراسة الموضوع أيضًا تحليل الأهداف والبواعث التي كانت وراء هذه الهجمة الصليبية الشراسة ، وذلك أن المؤرِّخين والمحلِّلين إنقسموا في ذلك إلى فرق شتى ؛ فمنهم من يؤكِّد الدافع الديني وآخرون يؤكدون الدوافع الاقتصادية ، وفريق ثالث يؤكد الدوافع السياسية ، وفريق رابع يؤكد الأبعاد الأخلاقية لهذه الحرب ، وفريق خامس يجمع عاملين أو ثلاثة ، أو يجمع كل العوامل مع تقديم وتأخير ، وحذف وإضافة .

فهذا موضوعٌ أعملَ فيه الكثيرُ والكثير فكرهم وذهنهم وجهدهم ، وإختلفت فيه التفسيرات بحسب الخلفيات العقلية والعلمية والدينية لكل محلِّل أو دارس .

ثامنًا : من أسباب هذه الدراسة أيضًا إيضاح الصفحات المشرقة لجهاد الكثير من أعلام المسلمين ومجاهديهم ؛ فإن معظم من تناولوا هذا الحدث قصروا الجهد كله على صلاح الدين الأيوبي رحمه الله ، وهو وإن كان مجاهدًا من أعظم المجاهدين في تاريخ المسلمين إلا أنه ليس الوحيد الذي حمل راية الجهاد في قصة الصليبيين ، فهناك الكثير ممن سبقوه ، وكذلك ممن لحق به ، ومع ذلك لم يسمع بهم معظم المسلمين ، وإلا فمن يعرف مودودًا ؟! ومن يعرف سقمان بن آرتق ؟! ومن يعرف آق سنقر ؟! وغيرهم وغيرهم من المجاهدين العظماء ، بل مَن يعرف تفاصيل حياة المشهورين من أمثال عماد الدين زنكي ، ونور الدين محمود ، ونجم الدين أيوب ، وغيرهم من أبطال الإسلام ؟! .

فهذه الدراسة ستثبت لنا أن الجهد الذي بذل لتحرير بلاد الإسلام إنما هو جهد أمة وليس جهد أفراد ، وأن هناك من الأتقياء الأخفياء في تاريخنا ما لا يتخيله إنسان ، وأن الأمة لا تزال - ولن تزال - بخير إلى يوم القيامة .

تاسعًا : أغفل الكثير من المحللين أيضًا دور العلماء في تحرير بلاد المسلمين من الصليبيين ، فلا يوجد لهم حديث إلا عن القوَّاد والمقاتلين ، وليس هناك تفصيل إلا في المعارك العسكرية ، والصدامات الحربية .. وهذا مخالف لطبيعة الأشياء ، ولسنن التغيير في هذه الأمة ، التي ترتبط إرتباطًا وثيقًا بقضية العودة إلى الله وتطبيق الشرع ، والحرص على الحلال ، ونبذ المنكر والحرام , وهذه أدوار يقوم بها العلماء المخلصون ، وهم في قصة الحروب الصليبية كُثُر ، ولكن لم يركز عليهم إلا قليل القليل من المؤلِّفين والمحلِّلين ، مع أنه بغير فَهْم دورهم والتركيز عليه ، لن نستطيع أن نفهم طريقة البناء ، ولا أسلوب الخروج من الأزمة .

عاشرًا : وندرس الحروب الصليبية أيضًا لأن الآثار الناجمة عنها آثار هائلة ضخمة ، لم تكن محدودة بفترة الـ 200 سنة التي وقعت فيها هذه الحروب ولكنها امتدت بعد ذلك طويلاً ، وليس لعدة سنوات بل لعدة قرون , بل إننا ما زلنا إلى لحظتنا هذه نعاني من آثار هذه الحروب المريرة .. ولعل من أبرز الآثار المباشرة لهذه الحروب هو توقُّف المد الحضاري الإسلامي العظيم ، الذي كان في أوج عظمته ، وأبلغ مظاهره ، حتى جاء الصليبيون فشغلوا طاقات الأمة وجهودها في حروبهم ، وبالتالي إستنزفت كل الطاقات ، وتبدَّدت كل الجهود ، ووقفت المسيرة الخالدة التي حمل المسلمون رايتها عدة قرون متتالية .

ثم إنه من الناحية الأخرى - وبعد هذه الحروب الصليبية الشرسة - أخذ الصليبيون التراث العلمي الإسلامي العظيم من بلاد المسلمين ، وخاصةً الأندلس وصقلية ، وأحيانًا من بلاد الشام ، ثم بدءوا بشغفٍ واهتمام يترجمونه ويعكفون على دراسته وتطبيقه ، وكان هذا - لا شكَّ - نواةً للحضارة الأوربية التي قامت في القرن الخامس عشر وما بعده , وهذا كما نري ، تغيرٌ محوري في مسيرة البشرية، قاد أمة إلى تخلفٍ وانحدار ، وقاد أمة أخرى إلى علوٍّ وازدهار .. نَعَمْ ليس هذا هو العامل الوحيد لهذه الأزمة التي مرت بها الأمة الإسلامية ، ولكن لا شكَّ أنه من أهمِّ العوامل .

ولعل هذا يجرُّنا إلى الحديث والتعليق على الفتوح الإسلامية ، ومقارنتها بالحروب الصليبية ، وشتَّان ، فالدوافع والوسائل والنتائج كلها مختلفة تمام الاختلاف .. فالدوافع الإسلامية كانت رفع الظلم عن كواهل الشعوب ، والتعريف بدين الإسلام دون قهر أو إجبار ، ثم إنها كانت - في كثيرٍ من الأحيان - دفاعًا عن تعدٍّ صارخ من القوى المختلفة المحيطة بالمسلمين .. والوسائل الإسلامية في الحروب كانت في منتهى الرقي ، ولعل الأمة الإسلامية هي الوحيدة التي عرفت معنى أخلاق الحروب ، وأهم ما يميِّز هذه الحروب هو البعد تمامًا عن إيذاء المدنيين ، وكذلك حسن المعاملة للأسرى ، بل والتعامل النبيل الشهم مع قادة العدوِّ عند التمكُّن منهم .

ونتائج الحروب الإسلامية كانت مختلفة كذلك عن نتائج حروب الآخرين ، فبينما جعل الآخرون من هممهم هدم الحضارة ، ووقف مسيرة الإنسانية ، جعل المسلمون من هممهم نشر العلم والفضيلة ، والأخذ بأيدي الشعوب إلى أسمى معاني الرقي والتقدم .

ولينظر كل منصف إلى الأندلس قبل الإسلام وبعده .
ولينظر إلى مصر قبل الإسلام وبعده .
ولينظر إلى المغرب قبل الإسلام وبعده .
ولينظر إلى بخارى وسمرقند ومدن الشام واليمن وغيرهم قبل الإسلام وبعده .

لقد كانت نقلة حضارة إنسانية بكل المقاييس .. وهذا لم نره أبدًا في الحروب الصليبية ، ولا في أيِّ حروب لم تحتكم إلى دين صحيح أو خُلُق قويم .

 

 


 

الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 04-03-14, 04:19 AM

  رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

قصة الصراع بين النصرانية والإسلام

قبيل بعثة النبوة كانت القوة المسيحية ممثَّلة أساسًا في الدولة البيزنطية أو ما يعرف بالإمبراطورية الرومانية الشرقية ، وذلك بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية سنة 476م , قبل ميلاد الرسول - صلي الله عليه وسلم - بمائة سنة تقريبًا .

وكانت الدولة الرومانية الشرقية تسيطر علي شرق أوربا بكامله ، إضافةً إلي الأناضول ، وفوق ذلك فإنها كانت تحتل بلاد الشام ومصر وشمال إفريقيا ، فصارت بذلك أعظم دولة في العالم ، ولقد عرف البحر الأبيض المتوسط ببحر الروم لأن الأملاك الرومانية كانت تحيط به من كل جانب .

وكان المسيحيون في خارج الدولة البيزنطية لا يمثِّلون كيانًا كبيرًا إلا في بقاع متفرقة :

- غرب أوربا : إنجلترا ، فرنسا ، إسبانيا ، ألمانيا ، إيطاليا .

- إفريقيا : الحبشة أساسًا .

- الجزيرة العربية : نصارى الشام من العرب (الغساسنة - تغلب - ...) ، نصارى اليمن ونجران .

- آسيا : لم يكن فيها نصاري تقريبًا .

ثم ظهرت الدعوة الإسلامية في بدايات القرن السابع الميلادي، وهي دعوة للناس كافة ، يقول الله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ، ويقول الرسول - صلي الله عليه وسلم - : " وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً ، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً " .. وإستلزم ذلك أن يُرسِل رسول الله - صلي الله عليه وسلم - الرسائل إلى ملوك وأمراء العالم ، وذلك في بدايات العام السابع الهجري بعد صلح الحديبية ؛ وأهمهم : هرقل قيصر الروم ، وكذلك النجاشي ملك الحبشة ، والمقوقس زعيم مصر .

ومع يقين هرقل بصدق النبوة كما سيظهر من حواره مع أبي سفيان إلا أنه لم يؤمن ؛ وذلك حفاظًا على ملكه ، بل سنراه بعد ذلك يجهِّز الجيوش لحرب المسلمين عدة سنوات .. كذلك حدثت تطورات خطيرة في العلاقة الإسلامية المسيحية ، عندما قُتل بعضُ رسل رسول الله - صلي الله عليه وسلم - إلي زعماء النصارى ، وتحديدًا الحارث بن عُمَيْر الأزديّ - رضي الله عنه - الذي قتله شُرَحْبِيل بن عمرو الغسَّاني ؛ مما أدى إلي الصدام العسكري الأول بين المسلمين والمسيحيين في موقعة مؤتة سنة 8هـ ، التي إنتهت بإنتصار المسلمين وتراجع الرومان ، وكذلك إنسحاب خالد بن الوليد بالجيش مكتفيًا بزوال هيبة الجيش الروماني العملاق ..

وأتبع ذلك ببوادر صدام ضخم لم يتم ، وكان ذلك في تبوك سنة 9هـ ؛ حيث إنسحبت الجيوش الرومانية ولم يحدث قتال ، وإن كان ظهر للعيان قوة الدولة الإسلامية الناشئة .

ولم تكن كل العلاقة الإسلامية المسيحية علاقة حروب ، بل كانت هناك علاقات أخرى كثيرة من التعايش والتعاهد ، مثلما حدث مع الحبشة ونصارى نجران ونصارى أيلة وغير ذلك ؛ ولكن وضح في الصورة أن الدولة البيزنطية ستحمل لواء الصراع مع المسلمين في السنوات، بل القرون المقبلة .

ثم كان الصدام مباشرًا وقويًّا أيام خلافة الصديق ، ثم عمر - رضوان الله عليهما - وكانت المعارك الشهيرة التي إنتصر فيها المسلمون مثل أجنادين وبيسان ، ثم موقعة اليرموك الكبرى ، ثم فتح دمشق وحمص وحماة ، ثم سقوط بيت المقدس في أيدي المسلمين ، وبالتالي فتح كل مدن فلسطين ولبنان وسوريا وأجزاء من تركيا ، كل ذلك في غضون سبع سنوات فقط؛ حيث بدأت هذه المعارك في 12هـ = 633م ، وسقطت قيصريَّة سنة 19هـ = 640 م ، وهي آخر معاقل الدولة البيزنطيَّة جنوب جبال طوروس ..

ثم تطوَّر الصدام ليكسب المسلمون جولة ثانية مهمة جدًّا , بعد الشام وفلسطين وهي مصر ؛ حيث إنتصر المسلمون على جيوش الرومان التي كانت تحتل مصر أكثر من 900 سنة ، فكان الفتح الإسلامي لمصر بقيادة عمرو بن العاص- رضي الله عنه - في سنة 20هـ = 641م ، ثم وصلت الفتوح إلى برقة بليبيا سنة 22هـ = 643م .

وفي جولة جديدة ، وحلقة أخرى من حلقات الصراع وصل المسلمون إلى شمال إفريقيا في زمن الخلافة الأموية أيام معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - حيث قام عقبة بن نافع بفتح تونس سنة 43هـ = 664م ، ودارت حروب شتى بين المسلمين والدولة البيزنطية مشتركة مع البربر ، إنتهت بضم كل شمال إفريقيا للدولة الإسلامية ، ودخول البربر بأعداد كبيرة في الإسلام .

ثم فتحت في سنة 92هـ = 711م - جبهة جديدة لحرب الصليبيين ، حيث فتحت الأندلس بقيادة موسى بن نصير وطارق بن زياد ، وأتمَّ المسلمون السيطرة عليها في غضون ثلاثة سنوات ونصف ، بل وتجاوزوها إلى فرنسا ، ودارت هناك مواقع كثيرة إقتسم فيها الفريقان النصر ، وإن كان النصر في فرنسا في النهاية كان للصليبيين في موقعة بلاط الشهداء سنة 114هـ = 732م ، التي أوقفت المد الإسلامي في أوربا ، ونشأت بعض الممالك النصرانية في شمال الأندلس ، أهمها ليون وقشتالة وأراجون ثم البرتغال بعد ذلك ، ودارت بينهم وبين المسلمين حروب متعددة على مدار عدة قرون .

وعلى هذا فقد صار هناك جبهتان للصراع بين الأمة الإسلامية وبين نصارى أوربا ؛ أما الجبهة الأولى فهي بين الدولة الإسلامية في المشرق متمثلة في الخلافة الأموية ، ثم العباسية ضد الدولة البيزنطية .

وأما الجبهة الثانية فكانت بين الدولة الإسلامية في الغرب وهي الأندلس ، وبين الممالك النصرانية في شمال الأندلس متعاونة كثيرًا مع فرنسا ، وأحيانًا مع إنجلترا وألمانيا وإيطاليا ..

وحيث كانت الخلافة الأموية تتخذ من بلاد الشام مركزًا لها ، فإن الحروب بينها وبين الدولة البيزنطية كانت كثيرة ، بل كانت هناك محاولات حقيقية لفتح القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية ، ولكن كلها لم تفلح .

وفي عهد الدولة العباسية الذي بدأ من سنة 132هـ = 750م ، خَفَتَ إلى حد كبير حدة الصراع بين الدولة الإسلامية والبيزنطية ؛ وذلك لأن الخلافة العباسية اتخذت من بغداد والعراق مركزًا لها، وبالتالي صار قلب العالم الإسلامي بعيدًا نسبيًّا عن الدولة البيزنطية ، وإن كانت الحروب لم تتوقف ، وكان ميدانها في غالب الأحيان أرض آسيا الصغرى، ومن أشهر الصدامات تخريب الدولة البيزنطية لمدينة زبطرة مسقط رأس الخليفة العباسي المعتصم ، وذلك في سنة 223هـ = 838م ، ثم بعدها حدث الانتصار الإسلامي الكبير بفتح عَمُّورِيَّة مسقط رأس الإمبراطور البيزنطي ثيوفيل سنة (223هـ) (838م) .

ثم شهدت الدولة العباسية إبتداءً من - منتصف القرن الثالث الهجري = منتصف القرن التاسع الميلادي - تدهورًا ملحوظًا ، وظهرت الدُّوَيلات المتفرقة بداخلها ، ومنها على سبيل المثال : الدولة الغزنوية، والدولة السامانية، والدولة الزيارية، والدولة الحمدانية، والدولة البويهية، والدولة الإخشيدية، وغيرهم ..

وهكذا ضعفت الشوكة ، وأدى ذلك إلى أن بدأت الدولة البيزنطية تقف موقفًا حازمًا من المسلمين ، حتى إنها في بداية القرن الرابع الهجري = العاشر الميلادي - ضمت معظم مدن الجزيرة تحت السيطرة البيزنطية ، ثم سقطت الجزر التي كان المسلمون قد سيطروا عليها في البحر الأبيض المتوسط مثل كريت وقبرص وذلك في سنة 350هـ = 961م ؛ مما أعاد للأساطيل البيزنطية السيطرة من جديد على البحر الأبيض المتوسط ، ثم حدث أمر كبير في سنة 358هـ = 969م - حيث سقطت أنطاكية ، وهي من أهم المدن في يد البيزنطيين ، وكان لهذا دويٌّ هائل في العالمين الإسلامي والمسيحي ..

ثم حدث أمر ضخم في الأمة الإسلامية حيث سقطت مصر تحت سيطرة الدولة العبيديّة الشيعية المعروفة بالفاطمية ، وذلك في سنة 358هـ = 969م ، وبذلك إنقسم العالم الإسلامي إلى قسمين كبيرين وهما : الخلافة العباسية السُّنِّية الضعيفة التي وقعت تحت سيطرة دولة بني بويه الشيعية ، والدولة الفاطمية الشيعية التي تسيطر على شمال إفريقيا ومصر وأجزاء من الشام .. وهكذا إزدادت الأمة الإسلامية ضعفًا وفُرقة ، وهذا أعطى للدولة البيزنطية الفرصة لكي تزداد جرأة في حربها للأمة الإسلامية ، فكان النصف الثاني من القرن الرابع الهجري = النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي - ميدانًا واسعًا للبيزنطيين ، إجتاحوا فيه أعالي الشام والعراق ، حتى وصل الأمر إلى أن دفعت الموصل وميافارقين وديار بكر ، بل وحمص ودمشق الجزية للإمبراطور البيزنطي حنا شمشقيق (تزمستكيس) ..

ومن الجدير بالذكر أن هذه الحملة الأخيرة للإمبراطور البيزنطي كانت تستهدف بيت المقدس إلا أنه لم يستطع الوصول له ، وكانت تفيض من كلماته ورسائله العبارات الدينية التي تؤكد الروح الصليبية التي كان مشحونًا بها في حربه .. وهذا الوجود البيزنطي في بلاد الشام وأنطاكية سيفسِّر لنا النزاع المستقبلي الذي سيدور بينهم وبين الصليبيين الغربيين حول الحق الشرعي في امتلاك هذه الأراضي والمدن ..

أما القرن الخامس الهجري = الحادي عشر الميلادي - فقد شهد نموًّا للدولة الفاطمية ، وتراخيًا من الدولة البيزنطية ؛ نتيجة انشغالهم بحرب البلغار ، وأيضًا لإنشغالهم بضم بمملكة أرمينية النصرانية ، التي كانت قد بلغت حدًّا مغريًا من الرخاء والتقدم ، شجَّع البيزنطيين على بذل الجهد لضمها ، وهذا أدى إلى أن بسطت الدولة الفاطمية سيطرتها على معظم الشام باستثناء حلب وأنطاكية .

وفي هذا القرن الخامس الهجري أيضًا ظهرت دولة السلاجقة الإسلامية العظيمة ، وكان لها دور كبير في الصراع الإسلامي النصراني ، وسوف نفرد لها صفحات كثيرة في هذا الكتاب للحديث عن مواقفها في هذا الصراع .

كان هذا هو الوضع في المشرق الإسلامي من بداية البعثة النبوية إلى أواخر القرن الخامس الهجري = خمسة قرون متتالية من الحروب المستمرة بين الدولة الإسلامية والدولة البيزنطية .. وعلى الصعيد الآخر كانت الحروب كذلك مستمرة في غرب العالم الإسلامي بين مسلمي الأندلس والدول النصرانية الغربية = شمال إسبانيا وفرنسا في الأساس ، وكانت الأيام دُولاً بين الفريقين ؛ فيوم للمسلمين ويوم للصليبيين ، إلا أن القرن الخامس الهجري = الحادي عشر الميلادي - كان في معظمه للصليبيين ، وهو العصر الذي عُرِف في التاريخ بعهد ملوك الطوائف ، حيث تفرقت جدًّا كلمة المسلمين ؛ مما أدى إلي إجتياح صليبي لقطاع كبير من شمال الأندلس ، وخاصةً في زمن ألفونسو السادس ملك ليون وقشتالة ، الذي أسقط في سنة 478هـ = 1085م مدينة طليطلة العتيدة ؛ مما أحدث دويًّا هائلاً في العالمين الإسلامي والمسيحي .

إنتصار المسلمين في الزلاقه .
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

غير أن نهاية هذا القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) كانت سعيدة للمسلمين ؛ حيث ظهرت دولة المرابطين القوية بالمغرب وغرب إفريقيا ، وعبرت إلى بلاد الأندلس ، وأنزلت بالصليبيين هزيمة فادحة في موقعة الزَّلاَّقَة سنة 479هـ = 1086م - أي بعد عام واحد من سقوط طليطلة ، وبسطت دولة المرابطين سيطرتها على أجزاء كبيرة من الأندلس ، إلا أنهم فشلوا في إسترجاع طليطلة .

وكتقييم عام للموقف في نهاية القرن الخامس الهجري = نهاية القرن الحادي عشر الميلادي - فإن العالم الإسلامي كان منقسمًا بين الخلافة العباسية تحت سيطرة السلجوقيين وبين الدولة الفاطمية ومقرها القاهرة ، وكانت نهايات القرن الخامس الهجري تمثِّل ضعفًا وفُرقة واضحين في الشرق الإسلامي ، بينما كانت نهاية القرن الخامس الهجري في الأندلس تحمل قوة بارزة للمسلمين بظهور دولة المرابطين الفتيَّة تحت قيادة القائد الفذِّ يوسف بن تاشفين رحمه الله .

ومن ثَمَّ فإنه عند ظهور الحركة الصليبية في غرب أوربا في هذا التوقيت - على نحو ما سنشرح في الصفحات القادمة بإذن الله - فكَّروا في غزو الشرق الإسلامي الضعيف، وهذا للمرة الأولى في تاريخ غرب أوربا ، بدلاً من الإنطلاق إلى الأندلس القوية تحت زعامة المرابطين .. وهكذا بدأت الحروب الصليبية من نهايات القرن الخامس الهجري وحتى نهايات القرن السابع الهجري = أكثر من مائتي سنة ؛ من نهاية القرن الحادي عشر إلى نهاية القرن الثالث عشر الميلادي .

إستمرت هذه الحروب الشرسة فترة الخلافة العباسية ودولة السلاجقة ، وكذلك الدولة الزنكية فالأيوبية فدولة المماليك ، وانتهت بطرد الصليبيين الغربيين وعودة الأراضي الإسلامية للمسلمين ، كما ذكرنا في أواخر القرن السابع الهجري .

وعلى الناحية الأخرى فإنه على الرغم من هزيمة الصليبيين من دولة الموحدين التي ورثت دولة المرابطين في موقعة الأرك سنة 591هـ = 1194م , فإن أوائل القرن السابع الهجري شهد في الأندلس تقدمًا ملحوظًا للصليبيين ، حيث إنتصروا على دولة الموحدين في موقعة العقاب سنة 609هـ = 1212م ، ثم توالى سقوط المعاقل الإسلامية الكبرى ، مثل قرطبة وإشبيلية، ولم يتبقَّ للمسلمين في نهاية القرن السابع الهجري إلا مملكة غرناطة الصغيرة في جنوب الأندلس ، التي قُدِّر لها أن تعيش حوالي قرنين ونصف القرن من الزمان .

وكانت نهايات القرن السابع الهجري قد شهدت أيضًا ظهورًا لدولة العثمانيين ، الذين حملوا راية الجهاد ضد الدولة البيزنطيَّة ، وذلك بعد رحيل الصليبيين الغربيين .

وفي القرن الثامن الهجري = الرابع عشر الميلادي - كانت الفتوحات العثمانية الإسلامية في منطقة آسيا الصغرى مستمرة، بينما استقرت أوضاع الأندلس أو غرناطة نسبيًّا .

دخول الفاتح - رحمه الله - القسطنطينية .
[
أما القرن التاسع الهجري = الخامس عشر الميلادي - فقد شهد إستمرارًا لحروب العثمانيين ضد البيزنطيين ، وتُوِّجت هذه الحروب بانتصار مهيب ، حيث فتحت القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية في عام 857هـ = 1453م ؛ مما فتح الطريق للمسلمين لينساحوا في شرق أوربا .

ومع هذا السرور العظيم الذي نَعِمَ به العالم الإسلامي على الجبهة الشرقية للنزاع بين المسلمين والنصارى ، إلا أن القرن التاسع الهجري = الخامس عشر الميلادي - شهد حادثًا مؤسفًا جدًّا ، وهو سقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس ، وبالتالي خروج المسلمين بالكُلِّيَّة من الأندلس بعد أكثر من 8 قرون، وذلك في سنة 897هـ = 1491م .

عبدالله الأحمر يُسلم مفاتيح غرناظه لإيزابيلا وفرديناند - زفرة العربي الأخيره !

​ورغم محاولات الدولة العثمانية لنجدة المسلمين في الأندلس إلا أن محاولتهم باءت بالفشل ؛ لإنشغال العثمانيين بالحروب مع شرق أوربا من جهة ، والصفويين الشيعة في إيران من جهة أخري .


أما القرن العاشر الهجري = السادس عشر الميلادي - فكان عثمانيًّا خالصًا ؛ إذ وصلت الفتوحات العثمانية الإسلامية إلي منتصف أوربا تقريبًا ، وإستطاع العثمانيون في عهد سليم الأول وسليمان القانوني أن يضما معظم أملاك الدولة البيزنطية إلى المسلمين ، وبذلك دخلت اليونان وألبانيا ويوغوسلافيا والمجر وبلغاريا في نطاق الدولة الإسلامية ، ووصلت الجيوش الإسلامية إلي فيينا عاصمة النمسا ، وقَبِل ملك النمسا آنذاك أن يدفع الجزية للمسلمين !!

وفي هذا القرن حاول الأسبان والبرتغال إحتلال دول شمال إفريقيا إلا أن المحاولات لم تكن ناجحة في الأغلب ، اللهم إلا نجاح الأسبان في انتزاع سبتة ومليلة من المغرب سنة 987هـ = 1580م - وبقائهما تحت الاحتلال حتى الآن !

وفي القرن الحادي عشر الهجري = السابع عشر الميلادي - بدأ التقلص العثماني في أوربا ، واستطاعت بعض الدول الأوربية الانتصار على الدولة العثمانية في عدة لقاءات ..

وعلى الساحة الغربية كان التفوق الإسباني والبرتغالي ملحوظًا ، وإن كان التفوق الهولندي كان أشدَّ وأكثر .

أما القرون الثلاثة التالية وهي القرن 12 و 13 و 14 الهجرية (18 و 19 و 20 الميلادية - فقد كان التفوق الصليبي واضحًا، وبدأت الدولة العثمانية في التقلص التدريجي تحت ضربات إنجلترا وفرنسا من ناحية ، وروسيا من ناحية أخرى ، وسقطت معظم دول العالم الإسلامي تحت الاحتلال الإنجليزي والفرنسي والروسي والصيني والهندي ، وكذلك اليهودي في فلسطين بمساعدة الإنجليز .

ثم شهد منتصف القرن 14 الهجري = منتصف القرن 20 - موجة تحرر واسعة النطاق في العالم الإسلامي ، بدأت في لبنان سنة 1360هـ = 1941م ، ثم سوريا 1362هـ = 1943م ، ثم ليبيا 1370هـ = 1951م ، ثم مصر 1371هـ = 1952م ، وهكذا تتابعت الدول الإسلامية في التحرر حتى لم يبق إلا فلسطين ، وسبتة ومليلة في المغرب ، هذا فضلاً عن الدول المحتلة من دول غير نصرانية ، كالدول المحتلة من الاتحاد السوفيتي أو الصين أو الهند .

ثم كانت الهجمة الصليبية الأخيرة على العالم الإسلامي ؛ حيث إحتلت الصرب البوسنة سنة (1412هـ = 1992م - ثم تحررت سنة 1415هـ = 1995م ، ثم إحتلت أمريكا أفغانستان سنة 1421هـ = 2001م ، ثم العراق سنة 1422هـ = 2003م .

وهكذا رأينا أنه منذ أيام البعثة النبوية الأولى وحتى أيامنا هذه لم تتوقف أبدًا حلقات الصراع الإسلامي- النصراني ، ولم يكن هناك عَقْد - فضلاً عن قرن - خلا من معارك ونزال ، وهذا أمر ليس مستغربًا ؛ حيث قال تعالى في كتابه الكريم : وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ، وقال أيضًا: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ إسْتَطَاعُوا .

وهكذا باستعراض هذه الحلقات نعرف أن قصة الحروب الصليبية التي نحن بصددها ليست قصة مستغربة ، بل إن المستغرب فيه حقيقة ألا توجد فترة فيها تصادم وتصارع .. ومع عدم رغبتنا في الصدام أو الصراع إلا أنه سنةٌ من سنن الكون ، ذكرها ربُّنا سبحانه وتعالى في كتابه حين قال : وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِين .

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 04-03-14, 04:20 AM

  رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

العالم الإسلامي قبيل الحروب الصليبية

في القرن الرابع الهجري وفي النصف الأول من القرن الخامس الهجري ، كان العالم الإسلامي كله إلا قليل القليل ، واقعًا تحت سيطرة المذهب الشيعي ..

ففي منطقة العراق كانت هناك الخلافة العباسية السُّنية ، ولكنها دخلت في طورٍ شديد من أطوار الضعف ؛ مما جعلها تقع فريسة للسيطرة الشيعية من بني بويه , الذين كانوا يسيطرون على فارس في ذلك الوقت ، وإستمرت هذه السيطرة حتى منتصف القرن الخامس الهجري .

وإلى الشرق من الخلافة العباسية وإيران حيث أقاليم آسيا الوسطى، كان السامانيون يسيطرون على شرق إيران ومنطقة أفغانستان وجنوب روسيا وما حولها ، أما الجزيرة العربية فكانت تحت حكم القرامطة .

ثم في وسط العالم الإسلامي وغربه كانت الدولة الفاطمية العبيدية الشيعية الإسماعيلية تسيطر على أرجاء واسعة ؛ حيث سيطرت على مصر سنة 358هـ = 969م ، وظلت مسيطرة عليها قرابة قرنين كاملين من الزمان ، وإمتدت سيطرتها بعد ذلك لتشمل أرض فلسطين والشام والجزيرة العربية .

وفي أوائل القرن الخامس ظهرت قوة جديدة على الساحة الإسلامية ، هي قوة الأتراك السُّنَّة القادمين من وسط آسيا ، وهم أكثر من قبيلة ، وإن كان يجمعهم العرق التركي .. وكان أبرز هذه القبائل هي قبيلة الغزنويين الأتراك ، الذين إستغلوا حالة الضعف التي إعترت دولة بني بويه وكذلك آل سامان ، فبدأت تنتشر وتسيطر على مناطق شرق إيران وأفغانستان والهند .

ثم ظهرت قبيلة أخرى من قبائل الأتراك هي قبيلة السلاجقة - نسبة إلى جَدِّهم سلجوق بن دقاق ، وتوغلت هذه القبيلة في إقليم خراسان ، وصارت تحت تبعية الغزنويين فترة من الزمان ، إلا أنهم في النهاية قاموا بالثورة عليهم ، واستقلوا بإقليم خراسان = شرق وشمال إيران - تحت قيادة طغرل بك ، وكان ذلك في 428هـ = 1037م ثم أخذ السلاجقة في التوسع على حساب القوى الإسلامية المحيطة ، وكذلك على حساب الدولة البيزنطية التي كانت قد دخلت في القرن الخامس الهجري = الحادي عشر الميلادي - في طور من أطوار ضعفها ، وبذلك شملت دولة السلاجقة مساحات واسعة من فارس وشمال العراق وأرمينية وآسيا الصغرى ، ثم حدث تطور خطير في سنة 447هـ = 1055م ، حيث إستنجد الخليفة العباسي القائم بأمر الله بطغرل بك لينجده من سيطرة بني بويه الشِّيعة ، وبالفعل دخل طغرل بك بغداد في سنة 447هـ ، ليبدأ عهد السيطرة السلجوقية على الخلافة العباسية ، ولا شكَّ أن هذا أعطى مكانه كبيرة لطغرل بك في العالم الإسلامي السُّني ؛ مما أدى إلى توحيد أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي تحت سيطرته ، خاصةً فارس والعراق وأجزاء من الشام وآسيا الصغرى ، وكانت هجمات السلاجقة متوالية على منطقة آسيا الصغرى ؛ مما أزعج الدولة البيزنطية جدًّا ، على الرغم من أن هذه الهجمات لم تكن منظمة بشكل كبير ، ولم تكن تستهدف الاستقرار في آسيا الصغرى .

وفي سنة 455هـ = 1063م - تُوفِّي طغرل بك ليخلفه القائد الإسلامي الفذُّ ألب أرسلان ، الذي غيَّر كثيرًا من سياسة السلاجقة في آسيا الصغرى ، حيث أصبحت تستهدف البقاء والسيطرة على الأراضي البيزنطية والأرمينية ، وأدى ذلك إلى نشوب معركة كبرى بين السلاجقة والدولة البيزنطية، وذلك في سنة 463هـ = 1071م - وهي معركة ملاذكرد = مانزكرت - وهي من أقوى المعارك في تاريخ المسلمين ، حيث استطاع السلاجقة بقيادة ألب أرسلان وبجيش قوامه عشرون ألفًا فقط ، أن يهزموا جيش الدولة البيزنطية المكوَّن من أكثر من 200 ألف جندي بقيادة رومانوس الرابع إمبراطور الدولة البيزنطية .

وكان جيش الدولة البيزنطية مكوَّنًا من خليط من الجنود البيزنطيين والجنود النورمان الإيطاليين المرتزقة ، وكذلك من جنود غربيين مرتزقة ، إضافةً إلى فرق من التركمان الآسيويين ، وقد سُحِق الجيش البيزنطي في هذه المعركة ، وقُتل منه عشرات الآلاف ، وأسر رومانوس الرابع نفسه ، وتمَّ فداؤه بمليون دينار ، إضافةً إلى إطلاق سراح كل أسرى المسلمين لدى الدولة البيزنطية ، وإنهارت الدولة البيزنطية في منطقة آسيا الصغرى ، وأصبح دورها في حماية البوابة الشرقية لأوربا دورًا مشكوكًا فيه ؛ مما أقلق النصارى في غرب أوربا جدًّا ، ولعل هذا من الأمور التي مهَّدت للحروب الصليبية بعد ذلك , بعد 25 سنة فقط من ملاذكرد !

وإنشغل ألب أرسلان بتثبيت دعائم دولته الكبرى ، وإهتم بالمنطقة الشرقية بصورة أكبر ، ولكن سرعان ما قُتِل في أحد معاركه في بلاد ما وراء النهر بعد ملاذكرد بسنة واحدة في 464هـ = 1072م ، ليخلفه ابنه ملكشاه الذي حكم من سنة 465 إلى سنة 485هـ =1072 إلى 1092م - ووصلت دولته من الصين شرقًا إلى بحر مرمرة غربًا، وهي الدولة التي عرفت بدولة السلاجقة الكبري ..

وعلى الرغم من هذا الاتساع الضخم إلا أنه - للأسف - فإن القاعدة الأصيلة تقول : إنه عند إنفتاح الدنيا وإتِّساع الأملاك ، يحدث التصارع والتنافس بين الإخوة ؛ وهذا مصداق حديث رسول الله - صلي الله عليه وسلم : " فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ" .

وقد حدث التنافس بين أبناء البيت السلجوقي ؛ مما أدى إلى انقسام الدولة إلى خمسة أجزاء ، بل وكان في داخل كل جزء عدة انقسامات أخرى ، مما أعطى طابع الفُرقة والتشتُّت في أواخر القرن الخامس الهجري = أواخر القرن الحادي عشر الميلادي - وهي الفترة التي شهدت الحركة الصليبية الغربية .

وعلى هذا ، فبالنظر إلى حال الأمة الإسلامية في هذا التوقيت ندرك يقينًا أن الأمة ستقع في أزمة كبيرة .. وتعالَوْا نلقي نظرة سريعة على الإمارات والدويلات الموجودة في ذلك الوقت ، لنفهم بعد ذلك ، لماذا اختار الصليبيون هذا التوقيت خصوصًا لغزو العالم الإسلامي ؟ ولماذا اختاروا هذه البقاع خاصَّةً ؟! .

لقد حدث صراع كبير بين السلاجقة الذين كانوا يعيشون في منطقة الأناضول = آسيا الصغرى - بقيادة سليمان بن قتلمش ، وبين السلاجقة الذين يعيشون في الشام بقيادة تتش بن ألب أرسلان ويعاونهم سلاجقة فارس ، وكان هذا الصراع في سنة 478هـ = 1086م ، ونتج عن هذا الصراع مقتل سليمان بن قتلمش ، وهو أقوى ملوك السلاجقة الروم ؛ مما أدى إلى فراغ سياسيٍّ ضخم في آسيا الصغرى ، خاصةً أنه ترك ولدًا صغيرًا على ولاية عهده هو قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش ، وبالتالي تفككت منطقة آسيا الصغرى إلى عدة دويلات صغيرة منفصلة ، بل ومتناحرة .

وكان من الآثار السيئة الأخرى لهذا الصراع أن فَقَد سلاجقة الروم وسلاجقة الشام أي ثقة في التعاون والاتحاد، وكان لهذا أشد الأثر في انهيار المقاومة أمام الصليبيين بعد ذلك ، وهكذا صار ملك السلاجقة موزَّعًا على الصورة الآتية في نهاية القرن الخامس الهجري :

أولاً : دولة السلاجقة الكبرى وهي التي خلفها ملكشاه الأول ، وظلت تحكم أقاليم واسعة أهمها العراق وإيران ، وكانت لها السيطرة المباشرة على الخلافة العباسية ، وهذه كان بها صراعات داخلية ، وإن كانت ظلت متماسكة إلى حدٍّ ما ، وكان يحكمها خلفًا لملكشاه ابنه الأكبر بركياروق ، وقامت ضده عدة ثورات من أقاربه وأعمامه ، ولكنه ظل حاكمًا حتى وفاته 498هـ = 1104م ..

ثانيًا : بيت سلاجقة كرمان = جنوب إيران ومنطقة باكستان - وهم عشيرة قاروت بك بن داود بن ميكائيل بن سلجوق ، وهو أخو القائد الكبير ألب أرسلان .

ثالثًا : سلاجقة عراق العجم وكردستان (في شمال العراق) .

رابعًا : سلاجقة الشام ، وهم بيت تتش بن ألب أرسلان ، وهؤلاء إنقسموا على أنفسهم عدة انقسامات ، وفتَّتوا الشام إلى عدة إمارات .

خامسًا : سلاجقة الروم بآسيا الصغرى ، وهم بيت قتلمش بن إسرائيل بن سلجوق ، والذي كان أكبرهم سليمان بن قتلمش أقوى ملوكهم ، الذي قُتل سنة 478هـ .

ونتيجة هذه الصراعات المتتالية صار الوضع مزريًا قبيل دخول الجيوش الصليبية إلى أرض المسلمين .

ففي أرض الشام صارت حلب إمارة مستقلة تحت زعامة رضوان بن تتش، وصارت دمشق أيضًا إمارة مستقلة تحت حكم دقاق بن تتش، أما فلسطين فقد كانت تحت حكم سقمان وإيلغازي أولاد أرتق التركماني ، وهو أحد القادة الذين كانوا يتبعون تتش بن ألب أرسلان ..

ثم إن الدولة العبيدية الفاطمية - التي كانت تحكم مصر آنذاك - كانت متفوقة في أسطولها البحري عن السلاجقة ؛ مما مكَّنها من السيطرة على موانئ الشام ، وأهمها صور وصيدا وعكا وجبيل ، غير أن ميناء طرابلس كان إمارة مستقلة تحت حكم إبن عمار أبي طالب ، وهو من الزعماء الشيعة المنشقِّين عن الدولة العبيديّة .

فكان هذا هو حال الشام ! وهي المنطقة التي ستوجَّه إليها الحملات الصليبية القادمة .

ولم يكن حال آسيا الصغرى بأفضل من حال الشام ، وخاصةً بعد مقتل سليمان بن قتلمش سنة 478هـ = 1086م ، وكان السلطان ملكشاه قد أخذ إبن سليمان بن قتلمش وهو قلج أرسلان إلى فارس تحت رقابته ، غير أنه عند وفاة ملكشاه وولاية ابنه بركياروق أطلق سراح قلج أرسلان ليصبح بذلك زعيم السلاجقة الروم ، وإن لم يتمكن من السيطرة على كل آسيا الصغرى .. ولا يخفى على أحد أنه كان لا يمتلك الخبرة الكافية لهذه المهمة الكبيرة ، وهي قيادة منطقة تموج بالمشاكل والفتن ، سواء من المسلمين أو من غير المسلمين ؛ فالمشاكل الداخلية بين الأتراك ، والمشاكل مع سلاجقة الشام كانت مستمرة ومستعرة ، إضافةً إلى وجودها إلى جوار الدولة البيزنطية العدو اللدود والتقليدي للمسلمين على مدار خمسة قرون متتالية .

ثم إن آسيا الصغرى لم تكن وحدة واحدة ، فأزمير مثلاً كانت تحت إمرة زاخارس ، بينما كانت هناك إمارة الدانشمند ، وهي إمارة أسسها أمير تركماني اسمه أحمد غازي ، وكانت تشغل الشمال الشرقي من آسيا الصغرى ، وكانت على خلاف مستمر مع السلاجقة في آسيا الصغرى، ومن ثَمَّ كان التحالف بينهما نادرًا ما يحدث، وفي ظروف ضيقة جداً .

وليس هذا فقط، فقد شهدت سنة490هـ توسُّعًا بيزنطيًّا في غرب آسيا الصغرى ، وإستولت على الجهات الساحلية في نيثنيا وأبونيا ، ومما زاد الموقف تعقيدًا في آسيا الصغرى وجود أعداد كبيرة من الأرمن كانوا يعيشون في دولتهم في هذه المنطقة منذ فترات طويلة ، لكن الدولة البيزنطية ضمت أرمينيا إلى أملاكها في القرن الرابع الهجري ، لكن مع توسع السلاجقة في القرن الخامس الهجري في آسيا الصغرى على حساب أملاك الدولة البيزنطية إجتاح السلاجقة الكثير من أقاليم أرمينيا ؛ مما جعل الأرمن يهاجرون إلى الجنوب الشرقي من آسيا الصغرى حيث الطبيعية الجبلية الصعبة في إقليم قليقية، كما تركزوا في ثلاث مناطق أخرى متفرقة هي ملطية والرُّها وأنطاكية ، مع العلم أن هذه المناطق الثلاثة الأخيرة كانت تجمعات بيزنطية قديمة ، ومن ثَمَّ أصبحت خليطًا من الأرمن الكاثوليك والبيزنطيين الأرثوذكس ، غير أن سليمان بن قتلمش إستطاع ضم أنطاكية لحكم السلاجقة سنة477هـ وتسرب إليها المسلمون ليعيشوا فيها جنبًا إلى جنب مع البيزنطيين والأرمن ، وكذلك الرها فقد سيطر عليها ملكشاه ، لكنه أقر على حكمها أحد الأرمن وهو ثوروس مع دفع الجزية ونفس الأمر حدث في ملطية فقد سيطر عليها أحد رجال الأرمن يُدعى جبريل، وكان كذلك يعلن الولاء للسلاجقة .

ومن هنا نرى أن هذا الوجود الأرمني المكثف جعل الأمور غير مستقرة وغير آمنة في هذه المناطق الثلاثة ، إضافةً إلى إقليم قليقية في الجنوب الشرقي من آسيا الصغرى ، وهذا كله سيكون له آثار مباشرة في نجاح الحملة الصليبية الأولى كما سيتضح لنا .

وهكذا نرى أن التركيبة السكانية الصعبة في آسيا الصغرى والمكوَّنة من سلاجقة وأرمن وبيزنطيين ، والتفتُّت الواضح في مراكز الحكم ، والعلاقات السلبية بين الطوائف المختلفة ، والتوتر الشديد مع المناطق المحيطة ، كل هذا أدَّى إلى وضع معقد جدًّا في هذه المناطق ، لعله يفسِّر الإقتحام الصليبي المرتقب لمنطقة آسيا الصغرى وما حولها .

كان هذا هو الوضع في شرق العالم الإسلامي ، وهو - كما رأينا - وضعٌ لا ينذر بخير ، سواء في مناطق آسيا الصغرى والشام وفلسطين أو في مناطق العراق وفارس .

ولم يكن الوضع في بقية بلاد العالم الإسلامي طيِّبًا ، اللهم إلا في بعض البقاع المتفرقة ، ولعل أهم المناطق التي تعنينا في هذه القصة هي منطقة مصر لقربها من الأحداث ، بل ولتعرضها لبعض الحملات الصليبية كما سيتبين لنا .

وكانت مصر في هذه الأثناء تحت حكم العبيديين الفاطميين ، وقد بدأ حكمهم في مصر سنة 358هـ بعد عدة محاولات لإحتلالها على مدار أكثر من خمسين سنة سابقة ، ثم آلت لهم في النهاية مع شمال إفريقيا ، بل وامتد حكمهم إلى الشام والحجاز .

والعبيديون طائفة متطرفة جدًّا من الشيعة ، يقولون بكل عقائد الشيعة وأكثر ، ويحرِّفون تحريفاتهم وأشد ، وهم يدَّعون النسب إلى فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وكذبوا في ذلك ، بل نسبهم إلى أحد اليهود الذين عاشوا في المغرب ، وقد سيطروا على المغرب سنة 296هـ ثم إنتشروا في شمال إفريقيا ، وأقاموا ما يسمونه بالخلافة الفاطمية ، وهي ليست في الأصل خلافة ولا فاطمية ، إنما هي دولة خبيثة قامت على قتل علماء السُّنَّة وإضطهادهم ، وأذاقت الناس العذاب ألوانًا ، وأظهرت من الفسق والفجور والمنكرات ، وتغيير العقائد والأخلاق ما لا يتخيل ، وكانوا جميعًا من طائفة الإسماعيلية ، وهي إحدى الطوائف المنشقة عن الشيعة والمنتسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق ، يقول الإسماعيلية : إن الإمام السابع هو ابنه إسماعيل ، بينما يقول الشيعة الاثنا عشرية : إن الإمام السابع هو موسى الكاظم الابن الآخر للإمام جعفر الصادق ، ويقول الإسماعيلية أيضًا : إنه كان بعد الإمام إسماعيل خمسة أئمة مستورين ، ثم الإمام الثالث عشر هو المهدي مؤسس الدولة العبيدية ، ويدَّعون في أئمتهم أشياء عجيبة وخوارق منكرة ، ووصل الأمر إلي إدِّعائهم أن الله - عز و جل - حلَّ في أئمتهم - تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا - ولذلك فهناك منهم من إدَّعى الألوهية وليس النبوة ، ومن أشهرهم الحاكم بأمر الله الذي كان زعيمًا لدولتهم في مصر ، وهو الذي خاطبه الشاعر بقوله :

ما شئتَ لا شاءت الأقدار ==== فإحكمْ فأنتَ الواحد القهارُ !!!

الجامع الأزهر - الذي أصبح منارة العالم الإسلامي السني .
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

وأنشأ هؤلاء الفُسَّاق الجامع الأزهر في مصر لينشر سمومهم وأفكارهم المتطرفة ، ولكن ردَّ الله كيدهم في نحورهم ، فأصبح الجامع الأزهر على مدار عدة قرون من مراكز إشعاع السُّنة في العالم , وكانوا يُظهِرون سبَّ الصحابة بل والأنبياء ، بل ورسول الله - صلي الله عليه وسلم - ومن ذلك ما كان ينادي به القائم بن المهدي في الأسواق : " إلعنوا عائشة وبعلها ، إلعنوا الغار وما حوى !! .

وكانوا يضربون عنق من أظهر حُبَّ أبي بكر أو عمر ، ويقطعون لسان من قال في الأذان حي على الفلاح ؛ لأنهم يستبدلون بها حي على خير العمل ، ومنكرات أخرى كثيرة مطولة مسجلة في كتب التاريخ .

لقد كانت هذه الدولة الخبيثة هي التي تحكم مصر في ذلك الوقت ، بل وإنها إنقسمت على نفسها في سنة 487هـ عندما تُوفِّي خليفتهم المستنصر ، وتكوَّنت فرقتان كبيرتان ؛ الأولى هي التي تقطن بمصر وتحكمها ، وهي المستعلية - نسبة إلى المستعلي بن المستنصر ، أما الفرقة الثانية فهي أشد شرًّا من كل ما سبق وهي فرقة النزارية ، وهي المنتسبة إلى نزار بن المستنصر أخي المستعلي بن المستنصر ، وهذه الطائفة ألغت الشعائر الدينية ، وإمتنعوا عن إقامة الفرائض ، ومع ذلك ظلوا يدَّعون الإسلام ، وهم الذين عرفوا في التاريخ باسم الباطنية ، وهم يُظهِرون شيئًا ويبطنون أشياء أخرى ، وكان من همِّهم الأكبر قتل علماء السُّنة ومجاهديهم ، وسيكون لهم أثر سلبي شديد على حركات الجهاد التي تهدف إلى إخراج الصليبيين من أرض المسلمين ، وكان هؤلاء الباطنية أهل حرب وحصون وقلاع ، وبأس شديد في القتال ، وكانوا يشنِّون حروب العصابات على القرى الآمنة ، وعاثوا في الأرض فسادًا ، وكانوا أشدَّ على المسلمين من الروم والصليبيين .

أما الطائفة التي كانت تحكم مصر في أواخر القرن الخامس الهجري ، أيام قدوم الحملة الصليبية فكانت طائفة المستعلية الإسماعيلية ، وكانوا قد فقدوا السيطرة تمامًا على مناطق شمال غرب إفريقيا ، ولم يعُدْ لهم في ملكهم إلا مصر ، وكانت لهم أطماع كبيرة في الشام وفلسطين ؛ ولذلك فإنهم كانوا في حروب مستمرة مع السلاجقة السُّنة ، ولم يكونوا يمانعون أبدًا في التحالف مع الروم البيزنطيين تارة ، ومع الصليبيين أنفسهم تارة أخرى في سبيل القضاء على السلاجقة ، وإقتطاع جزء من أرض الشام وفلسطين .

لقد كان الوضع مؤسفًا حقًّا ! وكان الجيش المصري آنذاك - وعماده في الأساس العبيديون الإسماعيلية - شوكةً في حلق الأمة الإسلامية ، وظل كذلك فترة من الزمان حتى ظهر نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي ، كما سيتضح لنا من مجريات الأحداث بإذن الله .

إذن كانت هذه هي الحال في مناطق آسيا الصغرى والشام والعراق ومصر ، وكلها كما رأينا كان سيِّئًا لسبب أو لآخر ، ولم يكن الحال في بقية أطراف العالم الإسلامي بأفضل من ذلك .. فقد كان الغزنويون يسيطرون على أفغانستان والهند ، ولكنهم - للأسف الشديد - كانوا قد دخلوا في وقت أفولهم ، وبالتالي ضعفت قوتهم جدًّا عن نصرة بلاد الشام ، فضلاً عن بُعد مسافاتهم عن هذه الأراضي .

وكانت اليمن مقسَّمة بين ثلاث طوائف هم : بنو نجاح ، والصليحيون ، وبنو زريع ؛ وكانت الحروب بينهم مستمرة ، وكان يغلب على معظمهم التشيُّع ، وكانوا يدينون بالولاء للدولة العبيديّة في مصر .

وكانت تونس تحت حكم آل زيري ، وكانوا أيضًا قد دخلوا في طور من الضعف ؛ مما أدى إلى فَقْد ثغر من أعظم الثغور الإسلامية ، وهي جزيرة صقلية ، حيث استطاع الإيطاليون النورمانيون أن يسيطروا عليها تمامًا سنة 484هـ = 1091م - وزال نفوذ آل زيري عنها ، وبالتبعية زال وجود المسلمين من الجزيرة بعد حكم دام مائتين وسبعين سنة متصلة !

أما المكان الوحيد الذي كان يشهد قوة إسلامية في ذلك الزمن ، فكان بلاد المغرب العربي وغرب إفريقيا والأندلس ؛ حيث كانت هذه المناطق تابعة لدولة المرابطين العظيمة تحت قيادة قائدهم الفذِّ يوسف بن تاشفين رحمه الله ، وهو من أعظم القادة في تاريخ الإسلام ، وهو الذي أنزل بالصليبيين القادمين من شمال إسبانيا وفرنسا الهزيمة الساحقة في معركة الزَّلاَّقة سنة في وسط بلاد الأندلس .

وهذه الدولة الكبيرة - على قوتها - لم تكن تستطيع أن تساعد بلاد المشرق في حروبهم ضد الحملات الصليبية ، لا لبُعد المسافة فقط ولكن لإنشغالهم الشديد في حرب الصليبيين شمال الأندلس ، والوثنيين في غرب إفريقيا ووسطها .

فهذه كانت نظرة عامة على بلاد العالم الإسلامي في أواخر القرن الخامس الهجري ، وهو الوضع الذي مهَّد لدخول الصليبيين إلى معاقلنا ، وليس دخول الصليبيين - كما سنتبين - راجعًا إلى قوتهم ، ولكنه يرجع في الأساس لضعفنا ، وفرقة صفِّنا ، وتشتت قوتنا ، وبُعدنا عن ديننا ، وهي عوامل مهلكة لا تخفى على لبيب ، ولا ينكرها عاقل .

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 04-03-14, 04:22 AM

  رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

أوربا قبل الحروب الصليبية


لن نستطيع أن نفهم حقيقة الحروب الصليبية ولا دوافعها وبواعثها بدون إطِّلاع دقيق على الحياة التي كانت تعيشها أوربا في ذلك الوقت ، ولا ينبغي أن يكون ذلك على المستوى السياسي فقط ، بل يجب أن يشمل أيضًا المستوى الاقتصادي والديني والاجتماعي؛ لنأخذ فكرة كاملة عن الأحوال هناك ، ومن ثَمَّ نفقه هذا التوجُّه الأوربي الشامل لغزو العالم الإسلامي الشرقي .

- الخلفية الدينية :

في هذه الحقبة التاريخية وفي القرون التي سبقت الحروب الصليبية ، وخاصةً القرن التاسع والعاشر الميلادي ، وكذلك الحادي عشر الذي تمت فيه الحروب الصليبية ، كان للكنيسة سيطرة كبيرة على مجريات الأمور في أوربا ، ولم تكن هذه السيطرة فكرية ودينية فقط، بل كانت سياسية واقتصادية وعسكرية أيضًا .

لقد كان في إمكان الكنيسة أن تسحب الثقة من الملوك والأمراء ، فتنقلب عليهم الأوضاع ، ويرفضهم الخاصَّة والعامَّة ، ومن ثَمَّ فالجميع ينظر إلى رأي الكنيسة بقدرٍ كبير من الرهبة والتبجيل ، ويكفي للدلالة على قوة البابا في ذلك الوقت أن نذكر موقفًا للبابا جريجوري السابع مع الإمبراطور الألماني هنري الرابع .. لقد كان الإمبراطور الألماني هو أقوى ملوك أوربا في زمانه ، ومع ذلك فقد غضب عليه البابا في أحد المواقف ، ورفض الإمبراطور الاعتذار للبابا ، فقام البابا بسحب الثقة منه ، وأعلن حرمانه من الرضا الكنسي ، وبالتالي حرمانه من الجنة كما يزعم ! وبدأ الناس يخرجون عن طوعه ، بل وكاد أن يفقد ملكه، فنصحه مقربوه بالاعتذار الفوري للبابا ، فماذا يفعل الإمبراطور الألماني الكبير ؟! لقد قرر أن يأتي من ألمانيا إلى روما ماشيًا حافي القدمين ! وذلك حتى يظهر ندمه الشديد على إغضابه للبابا , ثم كانت المفاجأة أن البابا رفض أن يقابله لمدة ثلاثة أيام كاملة ، فبقي الإمبراطور خارج الكنيسة في المطر والبرد الشديد حتى سمح له البابا بالمقابلة ، فما كان من الإمبراطور إلا أن ارتمى على الأرض يُقَّبل قدمي البابا ليصفح عنه !!

لقد كان هذا هو الحل الوحيد أمام الإمبراطور العظيم ليحتفظ بملكه !

وكانت الكنيسة الكبرى هي كنيسة روما ، والبابا يستطيع أن يتحكم في كل كنائس أوربا الكاثوليكية ، ومن ثَمَّ يستطيع السيطرة على الأحداث في البلاد المختلفة ، ولم تكن الكنيسة مكان عبادة أو معلِّم للأمور الدينية فقط ، إنما كانت مؤسَّسة ضخمة تُؤدَّى إليها سنويًّا الأموال الغزيرة ، ومن ثَمَّ فإنها كانت تملك الإقطاعيات الكبيرة في أوربا ، بل وكانت تملك الفرق العسكرية التي تدافع عن هذه الإقطاعيات ، وكانت الكنيسة تتحالف مع فرق عسكرية أخرى عند الحاجة ، ومن هنا أصبحت الكنيسة تمثِّل الحاكم الحقيقي لمعظم دول أوربا الغربية ، وإن لم يكن هناك إتحاد بالمعنى المفهوم بين هذه الدول .

ومع كون الكنيسة تحتل في هذا الوقت هذه المكانة الكبيرة إلا أن القساوسة كانوا على درجة كبيرة من الجهل والتخبط ، ولم يكن لهم في الغالب أي كفاءة دينية أو إدارية أو قيادية ، ولم يكن هذا فقط ، بل إن معظم البابوات في القرن التاسع والعاشر الميلادي كانوا على درجة كبيرة من الفساد الأخلاقي ، سواء في قضايا المال أو في قضايا النساء
, وكثير منهم قُتل في حوادث أخلاقية مخلَّة ، مع أنهم جميعًا كانوا يدَّعون الرهبانية ، ويعلنون اعتزالهم مُتَع الحياة ، ويشيعون الزهد في الدنيا ، ويمتنعون عن الزواج ، ثم يرتكبون بعد ذلك أبشع جرائم السرقة ، وكذلك الزنا ؛ وصدق الله - عزوجل - إذ يقول في كتابه واصفًا هذا التحريف والتبديل الذي أضافه هؤلاء القساوسة في دينهم فشقوا على أنفسهم ، وما إستطاعوا الالتزام بما فرضه بعضُهم على بعض، يقول تعالى : وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا .

وليس خافيًا على أحدٍ ما حدث منذ عدة سنوات عندما أمسكوا بجيمي سواجارت مع بعض العاهرات في أحد فنادق نيوأورليانز الأمريكية ، وكان جيمي سواجارت قسيسًا من الذين يقيمون المناظرات مع الداعية الإسلامي الكبير أحمد ديدات رحمه الله ، ثم أَبَى الله إلا أن يكشف أوراقه أمام الجميع ، فلا يمر أحدٌ الآن على الفندق الذي أمسكوه به إلا ويتذكر قصة هذا الدعيّ جيمي سواجارت .

ومع هذا الوضع السيئ للبابوات والقساوسة إلا أنهم كانوا يسيطرون على الأوضاع في أوربا ، وكان يساعدهم في ذلك السطحية والجهل والتخلف عند معظم شعوب أوربا آنذاك ، وكذلك مفهوم الدين عند هذه المجتمعات البدائية ، حيث كان الدين عندهم قائمًا على الخرافات والأباطيل، وكانت تسيطر عليهم فكرة الأشباح والأرواح والخوارق مثلما يحدث في مجتمع ريفي بسيط ، وكان هذا الوضع المتدني يساعد البابوات والقساوسة في السيطرة على عقول الناس عن طريق نشر الإشاعات والأوهام ، وعمليات غسيل المخ التي تمحو كل فرصة للتفكير عند الشعوب .

ومن الأفكار المهمة التي أشاعها البابوات والقساوسة في القرن الحادي عشر - أي قبيل الحروب الصليبية بقليل - أن الدنيا على وشك الانتهاء ، وأن يوم القيامة قد اقترب جدًّا ، وأن هذا مرتبط بمرور ألف سنة على نهاية عهد المسيح عليه السلام ، أي أن هذه الإشاعة بدأت تنتشر في سنة 424هـ = 1033 - تقريبًا وما بعدها ، وكانوا يفسِّرون كل الظواهر الكونية والطبيعية في ذلك الوقت على أنها أدلة على صدق الإشاعة ، ومن ذلك مثلاً ثورة بركان فيزوف في إيطاليا ، أو حدوث بعض الصواعق أو الزلازل .

وكان لإنتشار مثل هذه الشائعات الأثر في إحداث حالة من الوجل والرعب والهلع عند عموم الناس ، وخوفهم المفرط من ذنوبهم ، وبروز دور البابوات والقساوسة والكنيسة بصفة عامة لإنقاذ الناس من هذه الضغوط ، ومساعدتهم على التخلص من هذه الذنوب ، وضرب رجال الدين على هذا الوتر بشدة، واستغلوه في توجيه الناس إلى ما يريدون ، وقد كان من أهم الوسائل للتخلص من هذه الذنوب دفع الأموال للكنيسة ، وهو الأمر الذي تطور بعد ذلك إلى صكوك الغفران ، التي ثار عليها بعد ذلك بقرون مارتن لوثر مؤسِّس البروتستانتية .

غير أن هناك وسيلة أخرى أشاعها البابوات والقساوسة للتخلص من الذنوب لها علاقة كبيرة بموضوعنا ، وهو التشجيع على رحلات الحج إلى أرض فلسطين مهد المسيح ، وذلك للتكفير عن الذنوب ، وكانت رحلات الحج التكفيرية هذه تستغرق من الناس جهدًا كبيرًا ووقتًا طويلاَ ، قد يصل إلى سبع سنوات، وكانت هذه الرحلات بديلاً عن دفع المال الكثير للكنيسة ، ومن ثَمَّ رغب فيها الفقراء الذين لا يستطيعون شراء رضاء الكنيسة ، ومن هنا توالت رحلات الحج لفلسطين ، والتبرك بالآثار هناك، وأصبحت هذه الرحلات ثقافة عامة عند الناس ؛ ولذلك إنتشر إسم فلسطين ، وصار متداولاً بين عموم الناس . ولا شك أن هذا مهَّد نفسيًّا لقبول فكرة الحروب الصليبية بعد ذلك ، فهي تذهب إلي مكان مألوف محبوب سمع الناس كثيرًا عنه ، بل وشُجِّعوا على الذهاب إليه ، بل إن فلسطين صارت حُلمًا لكثير ممن يريد الذهاب للتخلص من ذنوبه قبل انتهاء الدنيا ، غير أنه يفتقد الطاقة البدنية أو المالية ليقوم بالرحلة ، وكل هذا - لا شكَّ - أدي إلى تضخيم حجم فلسطين في عيون الغربيين .

وتشير الكثير من المصادر والوثائق أن إستقبال المسلمين الذين يحكمون الشام وفلسطين لهؤلاء الحجاج كان استقبالاً طيبًا جدًّا ، ولم يثبت أي محاولات تضييق عليهم كما يحاول البابوات أن يشيعوا ؛ لكي يسوِّغوا فكرة الهجوم على فلسطين لتسهيل رحلات الحج لنصارى أوربا , فهذه الخلفيات الدينية المعقدة من رغبة حثيثة للكنيسة للسيطرة على عقول الناس وأموالهم ، ومن خوف مطَّرد عند الشعوب من فناء الدنيا وكثرة الذنوب ، ومن حبٍّ جارف لهذه الأرض التي وُلد بها المسيح ، والتي بسبب الرحلة إليها ستُغفر الذنوب .. كل هذا وغيره مهَّد لفكرة الحروب الصليبية وغزو فلسطين .

ولعل الخلفيات التي يجب أن تضاف إلى هذه الأمور السابقة ، والتي تفسِّر ولع الغرب بقضية فلسطين خصوصًا والشرق عمومًا ، هي ظهور رغبة عند بعض بابوات روما لضم الكنيستين الغربية الكاثوليكية والشرقية الأرثوذكسية تحت سقف واحد ، يحكمه الكاثوليكيون بالطبع ، وكان الذي تبنَّى هذا المشروع بقوة هو البابا جريجوري السابع، وهو البابا السابق مباشرة للبابا أوربان الثاني الذي وقعت في عهده الحروب الصليبية .

وكان من ضمن الخطوات التي أخذها البابا جريجوري السابع لإتمام هذه الخطوة الفريدة أن بدأ يحسِّن من علاقاته مع الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين , وهو الإمبراطور الذي سيعاصر الحروب الصليبية ؛ مما جعل المراسلات بينهما مستمرة ، ومما حدا - بعد ذلك - بالإمبراطور البيزنطي أن يستغيث بالغرب الكاثوليكي لنصرته ضد السلاجقة المسلمين ، وذلك مع شدة كراهية هذا الإمبراطور الأرثوذكسي لكل بابوات وملوك وشعوب أوربا الكاثوليكية .

ولعل الخلفيات التي ذكرناها سابقًا تفسِّر بوضوح الحميَّة المتناهية التي كانت عند الغرب للمشاركة في الحملات الصليبية ، ومع ذلك فليست الخلفية الدينية هي الخلفية الوحيدة عند الشعوب الأوربية آنذاك، ولكن كانت هناك عوامل أخرى مؤثرة جدًّا ، مثل العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية .

- الخلفية الاقتصادية :

عاشت أوربا عدة قرون تعاني من أزمات اقتصادية طاحنة ، فمع خصوبة الأرض إلا أنها مليئة بالغابات ، وإستصلاح الأراضي وزرعها يحتاج إلى فنٍّ وجهد وتقنية ، ولم يكن هذا متوفرًا في هذه البيئات الجاهلة ، وخاصةً في المناطق الشمالية ذات الصقيع القارس ، هذا فوق ضعف المواصلات وانقطاع الطرق ؛ مما كان يمنع وصول الغذاء من مكان إلى مكان ولو بغرض التجارة ، ومن ثَمَّ فإن نقص الإنتاج المحلي من الغذاء كان يعني ببساطة المجاعة القاتلة ! وكانت هذه المجاعات تستمر أحيانًا سنوات ، مما يؤدِّي إلي فناء قرى ومدن ، وكان إنتشار الأمراض وإنعدام العلاج يساهم في موت المزيد والمزيد ، وكل هذه الأمور جعلت الفقراء والفلاحين يضيقون ذرعًا بحياتهم ، ويشعرون بالإحباط الدائم واليأس المستمر ، فإذا أضفت لكل ذلك الضرائب الباهظة التي كان يدفعها الفلاحون أدركت مدي المعاناة التي كانوا يعيشونها .

وفي أخريات القرن الحادي عشر ، وخاصةً في السنوات العشر التي سبقت الحروب الصليبية حدثت مجاعات رهيبة قاتلة ، خاصةً في شمال فرنسا وغرب ألمانيا ، ولعل هذا يفسِّر خروج الكثير من الجيوش من هذه المناطق ، التي كان لا بد لها من أن تهرب إلى أي مكان به طعام وشراب ، ولو كان هذا المكان على بُعد مئات وآلاف الأميال ، فلن يكون أسوأ من الموت جوعًا !

وعلى النقيض من هذه الصورة ، كانت هناك صورة مغايرة تمامًا عند بعض الإقتصاديين في أوربا ، وخاصةً في الجنوب الأوربي وعلى سواحل البحر الأبيض المتوسط ، فقد إزدهرت التجارة البحرية في ذلك الوقت وأفاد تجَّار الجنوب الأوربي من وجودهم على السواحل في التجارة مع حوض البحر الأبيض المتوسط بكامله ، بل تجاوزوه إلى داخل آسيا وإفريقيا .. وكان من أبرز الموانئ التي ظهرت في الفترة التي سبقت الحروب الصليبية موانئ إيطاليا ، وخاصةً جنوة وبيزا ، فكانت هذه الموانئ تمثِّل قوة اقتصادية مؤثرة في هذا الوقت ، وكانت القوة الاقتصادية المنافسة الوحيدة هي قوة الاقتصاد الإسلامي ، وكانت لهذه القوة مراكزٌ مهمة في الشام ومصر والمغرب ، وكذلك في الأندلس , وكان هذا التنافس دافعًا للموانئ الإيطالية أن تتربص بالمسلمين قدر إستطاعتها ، ودفعها ذلك إلى تجهيز الحملات العسكرية لإخراج المسلمين من صقلية ، وتمَّ لهم ذلك كما مر بنا ، وخرج المسلمون خروجًا نهائيًّا من صقلية سنة 484هـ = 1091 - بعد حكم 270 سنة ، وهذا يسبق الحروب الصليبية بسبع سنوات فقط ، ولا شك أن هذا جعل الطريق البحري آمنًا إلى حد كبير !

تجار البندقية كان لهم دور كبير في تمويل هذه الحملات !
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

ومن هنا حرص تجار إيطاليا على دعم الحملات الصليبية المتجهة للشرق ، فهم بذلك سيقضون على منافسهم الوحيد ، ومن ناحية أخرى سيفتحون سوقًا هائلاً لتجارتهم في هذه البقاع الإسلامية .

وهكذا كان هناك شبه اتفاق بين المطحونين الكادحين الجائعين ، وبين الإقتصاديين والأثرياء المتخمين لغزو العالم الإسلامي والمشاركة في الحروب الصليبية !

- الخلفية السياسية :

في القرن الخامس الميلادي، وبالتحديد في سنة 476م ، سقطت الإمبراطورية الرومانية الغربية العتيدة، وذلك تحت الضربات الموجعة للقبائل الجرمانية الشمالية ، وهي قبائل همجية عنيفة لم تنظر بأي عين من الاعتبار للحضارة الرومانية المتميزة ، بل سعت إلى التدمير والإبادة , وفي غضون قرنين من الزمان ، كانت القبائل الجرمانية قد إنتشرت في كل أوربا، وكان هذا الإنتشار مصحوبًا بنشر الأفكار الجرمانية العنيفة ، والسلوك الإجرامي عند عامة الناس .

ثم شهد القرنان التاسع والعاشر الميلادي - قبل الحروب الصليبية بقرن من الزمان - عدَّة هجمات ضارية على أوربا ، سواء من الفايكنج القادمين من إسكندينافيا أو من المسلمين القادمين من الأندلس أو الشمال الإفريقي ، وهذا ساعد في زيادة الروح القتالية عند عموم الناس ، وتحول الأوربيون إلى الشكل العسكري ، حتى صارت صورة الشخص النبيل العظيم هي صورة الفارس المقاتل ..

الفارس المقاتل , أضحت هي الصوره المثالية لأي أوروبي بالعصور الوسطي !

ونتيجة نمو هذا الفكر العسكري داخل أوربا ، كان لا بد للقوى المختلفة أن تصطدم معًا ، فبدأ الصراع بين الدول الأوربية المختلفة بغية التوسع والسيطرة ، ثم قُسِّمت الدول إلى إقطاعيات منفصلة متصارعة فيما بينها ، وعلى كل إقطاعية أمير قد يدين بالولاء أو لا يدين للملك العام على الدولة ، وكوَّن كل أمير ميليشيات عسكرية خاصة به ، وعمَّت الفوضى كل أرجاء أوربا ؛ مما أدى إلى فَقْد الكنيسة السيطرة على هذه القوى الكثيرة والمتناحرة .

وكان الوضع أشد ما يكون ترديًا في فرنسا ، حيث فقد ملك فرنسا السيطرة كُلِّيَّةً على البلاد ، وصار الحكم فيها لأمراء الإقطاعيات ، وتفتَّتت الدولة إلى إمارات متعددة ، كلٌّ منها له جيشه الخاص , أما الوضع في ألمانيا فكان أفضل حالاً ، حيث ظهر فيها ملك قويّ هو هنري الثالث ، ثم إبنه هنري الرابع ، وذلك في القرن الحادي عشر وقبيل الحروب الصليبية مباشرة ؛ وهذا أدى إلى تماسك الوضع نسبيًّا في ألمانيا ، وإن كان هناك خلاف خطير نشأ بين هنري الرابع والبابا في روما كما مر بنا , كان له توابع سنراها مع سير الأحداث .

وفي إنجلترا ظهر ملك قوي أيضًا هو وليم الفاتح ، ولكن وضع إنجلترا الاقتصادي كان سيئًا جدًّا ؛ مما جعلها مشغولة تمامًا بنفسه .. أما الدويلات النصرانية في شمال الأندلس، فكانت تبذل كل طاقتها في حرب المسلمين هناك .

وتأتي القوة العسكرية الأخيرة في غرب أوربا متمثلة في إيطاليا ، وكانت في الواقع قوة كبيرة ، خاصةً في المناطق التي يسيطر عليها النورمانديون في جنوب إيطاليا ، وبالذات بعد ظهور زعيم قوي جدًّا هناك هو روبرت جويسكارد ، الذي كانت له أحلام توسعية هائلة وصلت إلى حروب مباشرة مع الدولة البيزنطية العتيدة ، وقد إستطاع هذا القائد أن يُسقِط البلقان البيزنطية تحت سيطرته ، بل وبذل أولى المحاولات لإحتلال أنطاكية التي كانت في حوزة البيزنطيين ثم المسلمين ، وكان الذي يبذل هذه المحاولات هو إبنه شخصيًّا وهو الأمير بوهيموند ، الذي سيكون بعد ذلك أحد أمراء الحملة الصليبية الأولي .

كما صاحب ظهور هذه القوة الإيطالية المتنامية نمو سريع لأسطول بحري عسكري لميناء البندقية الإيطالي ، وصار له أثر مباشر في تغيير سير الأحداث في حوض البحر الأبيض المتوسط بكامله .

إذن فالوضع السياسي في أوربا كان يضم عددًا كبيرًا من العسكريين المتصارعين ، والمتنافسين على تقسيم البلاد عليهم ، ولما كانت أوربا ضيقة وطبيعتها الجبلية والثلجية معوِّقة ، كان التفكير في التوسع خارج أوربا، كما فكر في ذلك روبرت جويسكارد زعيم النورمانديين الإيطاليين، كما سيحدث بعد ذلك في الحروب الصليبية .

- الخلفية الاجتماعية :

لم تكن الشعوب الأوربية في ذلك الوقت شعوبًا مستقرة ، بل كانت تعيش حياة البدو الرُّحَّل ، حيث ينتقلون من مكان إلى مكان سعيًا وراء الطعام أو الأمن ؛ وهذا أدى إلى عدم وجود روح الاستقرار والتمسُّك بأرض معينة , ولعل هذا سهَّل كثيرًا على الناس أن يتركوا أوربا بكاملها ، ويتجهون إلى فلسطين بحثًا عن نظام حياة أفضل وأسعد .

وكان الفلاحون في أوربا يعانون بطش أمراء الإقطاع ، ولم يكن للفلاحين أدنى حقوق ، بل كانوا يباعون مع الأرض ، ويستغلون تمام الاستغلال لجلب الرفاهية لمالك الإقطاعية ، وهذا ولَّد عندهم شعورًا بالحقد تجاه ملاَّك الأراضي وملاَّكهم ، ولكن لم يكن لهم فرصة ولا حتى حُلم في الخروج من أزمتهم ..

وفوق هذا الأسى الذي كان يعيشه معظم الشعوب فإن الجهل كان مُطبِقًا على الجميع ، وكانت الأمية طاغية ، ولم يكن هناك أي ميل للعلوم ، وهذه الحالة المتخلفة جعلت من السهل جدًّا السيطرة عليهم بأية أفكار أو دوافع ، ولم يكن عندهم من القدرة العقلية والذهنية ما يسمح لهم بتحليل الأفكار المعروضة عليهم ، أو ما يمكِّنهم من الاختيار بين رأيين متعارضين ، وهذا كله - ولا شك - سهَّل مهمة إقناعهم بترك كل شيء ، والتوجه للحرب في فلسطين !

هذه الخلفيات التي بحثناها ، وضحت لنا أن المجتمع الأوربي كان مكوَّنًا من طوائف شتى , دينية وسياسية واقتصادية وشعوبية ، وكل هذه الطوائف لها أهدافها ومطامعها ، تصغر أو تكبر بحسب حجمها ، وسيكون من العجيب حقًّا أن تظهر شخصية تجمع أهداف هذا الشتات في هدف واحد ، وتدفعهم جميعًا على اختلاف مستوياتهم المادية والعقلية في اتجاه واحد ؛ فيخرج الجميع , كلٌّ يبحث عن غايته ، وكلٌّ يسعى لتحقيق سعادته .

تُرى من هي هذه الشخصية ؟ وكيف جمعت هذا الشتات ؟ وما هي البواعث الحقيقية للحروب الصليبية ؟ وهل هي حرب سياسية أم اقتصادية أم دينية ؟ ..

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 04-03-14, 04:25 AM

  رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

الدعوة للحملة الصليبية الأولي

تولى الكرسي البابوي في سنة 480هـ =1088 - رجل من الرجال المهمين في الكنيسة الغربية ، وكان لولايته الأثر في تغيير عدة صفحات متتالية من التاريخ ، بل ولعل الآثار التي أحدثها هذا الرجل ما زالت موجودة إلى الآن , وهذا الرجل هو أوربان الثاني الذي تولى الكرسي البابوي في روما إحدى عشرة سنة ، وذلك من سنة 480ه = 1088 - إلي سنة 492هـ = 1099 - وكان هو الآخذ لقرار الحروب الصليبية على المشرق الإسلامي .

أوربان الثاني !

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

وكان أوربان الثاني رجلاً ذكيًّا سياسيًّا لبقًا ، وكان خطيبًا مفوَّهًا ، وكان أيضًا جريئًا حاسمًا ، وكان مطلعًا على أحوال العالم المعاصر له ، وفوق كل ذلك كان يُكِنُّ حقدًا كبيرًا على المسلمين ، سواء في بلاد المشرق حيث يحكمون أرض المسيح عليه السلام ، أو في الأندلس حيث يحكمون قطعة أوربية مهمَّة على مدار أربعة قرون متتالية حتى زمان تولِّيه البابوية , ثم إنه كان رجلاً ذا طموح كبير ، وأحلام واسعة بأن يكون هو الزعيم الأكبر والأوحد للمسيحيين جميعًا في العالم ، وذلك بتوحيد الكنيستين الغربية والشرقية ؛ استكمالاً لجهود البابا الذي سبقه وهو جريجوري السابع .

وكانت العلاقات كما ذكرنا قبل ذلك قد تحسنت نسبيًّا بين البابا السابق جريجوري السابع والإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين ، ولقد طلب هذا الأخير المساعدة قبل ذلك من جريجوري السابع لنصرته ضد السلاجقة المسلمين ، ولكن حركة جريجوري السابع لم تكن بالقوة المناسبة، ومن ثَمَّ فلم يكن هناك تحرك يُذكر لمساعدة البيزنطيين .

غير أن الإمبراطور البيزنطي كرَّر المحاولة مرة ثانية ، وأرسل وفدًا جديدًا إلى إيطاليا في مارس سنة 487هـ = 1095 - لمقابلة البابا أوربان الثاني ، وتجديد طلب المساعدة منه .. وفكر البابا أوربان الثاني في الأمر ، ووجد أنه لو إستجاب لطلب الإمبراطور البيزنطي ، وعلى نطاق واسع ، فسوف يحقِّق عدة أهداف في غاية الأهمية ، وفي ضربة واحدة .

فهو أولاً , سيعيد إبراز دور الكنيسة في حياة الأوربيين ، حيث سيحمل البابا من جديد دعوة تهمُّ كل الشعوب الأوربية ، وهي دعوة ستحمل بين طياتها الغفران الذي يبحث عنه الناس آنذاك بين يدي البابا .

وثانيًا , سيقوم البابا بحملة عسكرية تشمل التنسيق بين ممالك وإمارات أوربا المختلفة ، وسيحتفظ بالقيادة في يده ، فهو بذلك سيستعيد سلطان الكنيسة العسكري والسياسي على كامل أوربا ؛ وحيث إن القضية ذات طابع ديني ، فالذي سيرفض قد يعاقب بالحرمان ، وسحب الثقة ، وقد يؤدِّي ذلك إلى زلزلة عرشه ، وبالتالي يصبح البابا هو الشخصية الأولى في أوربا سياسيًّا كما هو دينيًّا .

وثالثًا , لن يتحسن وضع البابا دينيًّا وسياسيًّا فقط ، بل سيتحسن اقتصاديًّا أيضًا ، فالبلاد التي ستفتح ستدر أموالاً كثيرة ، والأوربيون الذين لن يستطيعوا المشاركة سيدفعون للكنيسة الأموال ؛ تكفيرًا عن إمتناعهم عن الذهاب لفلسطين .

ورابعًا , الثروات التي ستأتي من فلسطين والشام ، ستحل المشاكل الاقتصادية الطاحنة التي تعاني منها أوربا؛ وبذلك ستستقر الأوضاع المضطربة في أوربا .

وخامسًا , ستنصرف طاقات أوربا العسكرية إلى حرب خارجية يُبرِزون فيها قدراتهم ويستنزفون فيها رغباتهم العنيفة ، وذلك بدلاً من التصارع الداخلي بين الإمارات والإقطاعيات .

سادسًا , ستشن أوربا الصليبية حربًا على العدو التقليدي لهم وهم المسلمون ، وهي حرب في نظر البابا لا نهاية لها ، ولن يرضى من المسلمين بشيء إلا بتغيير الدين .

سابعًا , سيقوم البابا بذلك بنجدة آلاف الفقراء الذين يموتون في أوربا سنويًّا نتيجة الجوع والمرض والبرد ، وسيشعر الجميع بذلك بالرضا نحوه .

وثامنًا , ستتاح للبابا الكاثوليكي الفرصة الذهبية ليضم الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية إلى كنيسته الكاثوليكية ، وذلك تحت سيطرته هو ، فهو الذي جاء من أقصى البلاد لينقذ النصارى الشرقيين من المسلمين .

وتاسعًا , سيحقِّق حُلمًا عاطفيًّا دينيًّا قديمًا ، بالسيطرة على الأرض التي وُلد فيها المسيح وعاش .

وأخيرًا , قد لا تتكرر بعدُ ذلك الفرصة المناسبة التي تبرر للشعوب هذه الحروب الضخمة والتضحيات الهائلة، فالآن النصارى الشرقيون يستغيثون ، ومن ثَمَّ فهناك مسوّغ أن تنفق الأموال ، وتُزهَق الأرواح لنجدتهم ، وستصبح صورة الحرب نبيلة ، وستسكت الشعوب الأوربية عن مساءلة البابا عن الثمن الباهظ الذي سيدفعه في هذه الحروب ، بينما لو كان المبرر للقتال ليس واضحًا فقد يَفْقد البابا عرشه إذا خسرت أوربا كثيرًا في حربها ، وذلك مثلما حدث مع رومانوس الرابع إمبراطور الدولة البيزنطية ، الذي خُلع من منصبه بعد الهزيمة الساحقة من السلاجقة في موقعة ملاذكرد .. فالبابا سيحقق كل المكاسب بإستغلال هذه الفرصة ، ولن يخسر شيئًا لو حدث مكروه للجيوش ؛ لأنه في النهاية يحارب من أجل أهداف نبيلة فيما يبدو للناس .

فتلك عشرة كاملة!!

ومن هنا فإن البابا تحمَّس كثيرًا للطلب الذي طلبه الوفد البيزنطي الأرثوذكسي ، بل إنه جعل الوفد يقابل المجمع الكنسي المجتمع في إيطاليا آنذاك ؛ ليعرض صورة الوضع في الشرق ، وذلك يكون أبلغ في التأثير في القساوسة ، وينفي عن البابا شبهة التخطيط المنفرد للحملة ودون سبب واضح , وقد تحمس الحضور للفكرة ، وتكلم البابا مؤيدًا لكلام الوفد البيزنطي ، وقرر أن يُعِدَّ العدة لأخذ التدابير اللازمة لغزو الشرق الإسلامي .

ماذا فعل البابا؟!

لقد قرَّر أن يعقد مجلسًا كنسيًّا كبيرًا يضم القساوسة من أطراف أوربا الغربية ، وذلك لبحث أحوال الكنيسة المتردية ، ثم في نهاية هذا المجلس الكنسي يعقد مؤتمرًا موسعًا يدعو إليه أمراء الإقطاعيات المختلفة ، وكذلك الملوك إن أمكن , بل ويدعو إليه عامَّة الشعب ؛ ليصبح مؤتمرًا جماهيريًّا مؤثرًا ، وفي هذا المؤتمر سيدعو إلى التوجُّه عسكريًّا إلى فلسطين .

ولكن بقي السؤال: أين سيعقد هذا المؤتمر الكبير؟


كان البابا على خلاف مع معظم ملوك أوربا ، وخاصةً هنري الرابع ملك ألمانيا ، ولكنه كان على علاقة طيبة مع أمراء الإقطاعيات ، وخاصةً في فرنسا ؛ ولذلك قرر البابا أن يستفيد من علاقاته هذه مع الأمراء في فرنسا فيعقد المؤتمر هناك ، وخاصةً أن الكثافة السكانية في فرنسا كبيرة ، إضافةً إلى المجاعة الكبيرة التي ضربت شمال فرنسا وشرقه في السنوات العشر الأخيرة ، مما أثَّر في الظروف الاقتصادية ، وبالتالي سيكون قبولهم لفكرة الحروب ضد الشرق الإسلامي فكرة مقبولة لإخراجهم من أزماتهم الكثيرة ..

ومن ثَمَّ قرر البابا أن يعقد مؤتمره الجامع في مدينة كليرمون الفرنسية وذلك في 27 من نوفمبر سنة 1095م ، وقد آثر أن يكون الوقت متأخرًا نسبيًّا ؛ ليكون هناك فرصة لتبليغ الدعوة في أطراف فرنسا ، وليحضر أكبر عدد من الفرنسيين , كما آثر ألا يكون المؤتمر في باريس ؛ لكي لا يصطدم مع فيليب الأول ملك فرنسا ، الذي كان على خلاف مع البابا ، وأيضًا على خلاف مع أمراء الإقطاعيات الذين يعتمد عليهم البابا في مهمته .

كان البرد شديدًا في ذلك اليوم ، ومع ذلك فقد لبَّت جموع هائلة دعوة البابا ، وإجتمعوا في أحد الحقول الفسيحة في كليرمون ، بل وامتلأت القرى والمدن المجاورة لكليرمون بالقادمين من كل مكان لسماع الخطبة المهمة التي كان البابا يرتِّب لها منذ سبعة أشهر كاملة ..

خطب البابا خطبة طويلة عصماء ، وكان بليغًا مفوهًا ، وصبرت الجموع في البرد الشديد ، بل وتفاعلت تفاعلاً كبيرًا مع كلمات البابا ، الذي ضرب على أكثر من وتر في خطبته ؛ وذلك ليؤثِّر في كل الحضور علي إختلاف نوعياتهم وظروفهم وأهدافهم .

البابا أوربان الثاني وهو يخطب في إجتماع كليرمونت .
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

وقد جاءت خطبة البابا في أكثر من رواية من الروايات الأوربية التي صوَّرت الحدث ، وإستخدم فيها أكثر من وسيلة لإقناع الحضور بضرورة التوجه إلى فلسطين لنجدة النصارى الشرقيين ، ولحماية الحجاج المسيحيين الذين يعانون - كما يصور البابا - من ظلم وبطش الكفار وهو يقصد المسلمين ! وكان من المؤثرات التي استخدمها البابا في خطبته أنه لا يتكلم في هذه الخطبة نيابة عن نفسه، وإنما يتكلم نيابة عن المسيح عليه السلام نفسه ، فقال مثلاً : "ومن ثَمَّ فإنني لست أنا ، ولكن الرب هو الذي يحثكم باعتباركم وزراء المسيح أن تحضوا الناس من شتى الطبقات " ، وإستخدم فيها نصًّا من إنجيل لوقا فيه : "ومن لا يحمل صليبه ، ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا" .

وكان من المؤثرات أيضًا أنه وعد المشاركين في الحملة بالغفران ، وهو مطلب جماهيري في ذلك الوقت ، خاصةً مع شعور الناس أن الدنيا ستفنى قريبًا كما وضحنا قبل ذلك ، وكان من كلام البابا في هذه النقطة أنه قال : "إني أخاطب الحاضرين، وأعلن لأولئك الغائبين ، فضلاً عن أن المسيح يأمر بهذا ، أنه سوف يتم غفران ذنوب كل أولئك الذاهبين إلى هناك ، إذا ما إنتهت حياتهم بأغلالها الدنيوية ، سواء في مسيرتهم على الأرض ، أو أثناء عبورهم البحر ، أو في خضم قتالهم ضد الوثنيين - يقصد المسلمين ، وهذا الغفران أمنحه لكل من يذهب بمقتضى السلطة التي أعطاني الرب إياها ".

وهو في هذا المقام يقول للجميع أنكم في كل الأحوال محققون للفائدة والخير ، فحتي لو وصل الأمر لحدِّ الموت ، فإن المشارك سيموت وهو مغفور الذنب ..

وكان من المؤثرات أيضًا أنه إستفاض في تصوير مدى الألم والمعاناة التي يشعر بها الحجاج النصارى في فلسطين، وهذا كله من الكذب والزور، ولكنه صوَّر القضية كقضية إنسانية مؤثرة .

وكان من المؤثرات أيضًا أنه لوَّح بوضوح بالثراء الذي عليه بلاد الشرق ، بل إنه ذكر لهم ما جاء في الإنجيل عن أرض فلسطين حيث قال : " ووهبنا هذه الأراضي التي تفيض لبنًا وعسلاً " يقصد فلسطين ، وبذلك حرَّك عواطف الفقراء والأمراء معًا ؛ فالفقير يبحث عن الحياة ، والأمير يبحث عن التوسع والتملك .

وكان من المؤثرات أيضًا أنه نبَّه الفرسان إلى وجود ميدان خصب لاستعراض قوتهم ، وإبراز كفاءتهم بدلاً من التصارع معًا ، وإخلال الأمن في داخل أوربا ، وكان من المؤثرات أيضًا امتداح شجاعة الفرنسيين وقدراتهم القتالية ، وأيضًا امتداح تاريخ أسلافهم ، وتحميلهم تبعات سيادة أوربا وريادتها ..

وكان من المؤثرات أيضًا جذب المديون بوضع الدَّين عنه إذا شارك في القتال أو تقسيطه على فترات طويلة، وإعفاء أملاك الملاَّك من الضرائب أثناء القتال ، وإعفاء المجرمين من العقاب على جرائمهم إنْ هم شاركوا في الحملة .

ولقد صاغ البابا أوربان الثاني كل هذه المؤثرات بأسلوب بديع ، وكلمات مؤثرة ، وحجج مقنعة حتى دخلت كلماته قلوب كل الحضور ، وأشعلت - رغم البرد الشديد - حماسة كل السامعين ، حتى إنه بمجرد الانتهاء من كلمته استجاب الحضور استجابة هائلة ، وقاموا يطلقون صيحة واحدة ، يقولون فيها: " الرب يريدها Deus lo volt ، وهي الصيحة التي صارت شعارًا للحرب بعد ذلك ..

ومن الجدير بالذكر أن البابا أوربان الثاني نفسه لم يكن يتوقع هذه الاستجابة الهائلة من الناس ، بل إن هذه الإستجابة الضخمة أقلقته ؛ لأنه كان يريد الاعتماد على الفرق النظامية والجيوش المدربة وليس العوام من الناس ، ولكن العامَّة وجدوها فرصة للهروب من أزماتهم ومشاكلهم وديونهم وجوعهم ومرضهم ، وبالتالي لم يكن هناك فرصة للتراجع .

لقد كانت ثورة حقيقية في فرنسا ، ومنها انتقلت إلى كل غرب أوربا ، وفي هذا المؤتمر أعلن البابا أوربان الثاني أنه على كل من قرَّر الخروج إلى هذه الحملة أن يحيك صليبًا من قماش أحمر ليضعه على كتفه ؛ إشارةً إلى دينيَّة الحملة ، ونبل المقصد !

غير أن البابا لم يكتف بالحماسة الطاغية في المؤتمر ، إنما أتبع ذلك بخطة عمل محكمة تضمن استمرارية الحماسة ، وقوة التفاعل ؛ ولذلك فقد قام البابا بعدة خطوات مؤثرة، كان منها ما يلي :


أولاً : الحرص على وجود الغطاء الكنسيّ ، والهيمنة البابوية على الحملة من بدايتها الأولى ؛ ولذلك عيَّن في يوم مؤتمر كليرمون الأسقف أديمار دي مونتي أسقف لوبوي Le Puy قائدًا عامًّا رُوحيًّا للحملة، وكان بمنزلة نائب البابا في هذه الرحلة .

ثانيًا : تواصل البابا مع كل المجامع الدينية في أوربا الغربية ؛ ليأخذوا على عاتقهم مهمة تحميس الناس في مدنهم وقراهم، وبذلك تنتشر الدعوة إلى الحرب في كل مكان .

ثالثًا : قام البابا بتكليف أحد رهبان إميان ، و يُدعى بطرس الناسك ، بالقيام بجولات مكثفة في أوربا لتحميس الناس ، وجمع المقاتلين لغزو فلسطين ، وكان بطرس الناسك هذا رجلاً موهوبًا في الخطابة ، وكان يلبس الملابس الرَّثَّة ويمشي حافي القدمين ، ويركب حمارًا أعرجَ ، فأخذ القضية بمنتهى الجدية ، وبدأ في التجول في أنحاء فرنسا ، وخاصةً في الشمال الشرقي منها ، وكان له فعل السحر في الناس ، فكانوا يتبعونه بالعشرات والمئات والآلاف ، وإستطاع في غضون شهور قليلة أن يجمع خمسة عشر ألف رجل ، غير نسائهم وأطفالهم ، وكان جُلُّ من انضم إليه من عوام الناس الفقراء ، ومن المجرمين الخارجين على القانون ، كما إنضم إليه عدد قليل من الفرسان وأمراء الإقطاعيات .. وعُرفت المجموعة التي كوَّنها بطرس الناسك بحملة الرعاع أو حملة العامة ؛ لأنها لم تكن لها صبغة الجيش أو الميليشيات ، إنما كانت عبارة عن مجموعات ضخمة من العوام غير المنظمين ..

وكما قام بطرس الناسك بجولته هذه ، قام راهب آخر يدعى والتر ويلقَّب بالمفلس ، وإستطاع هو الآخر أن يجمع عددًا كبيرًا من المتطوعين الراغبين في الذهاب مع الحملة .

رابعًا : لم يشأ البابا أن يترك الأمور هكذا مفتوحة دون تحديد حتى لا يطول أمد التجميع والتجهيز ، فحدَّد موعدًا معينًا ومكانًا معينًا لاجتماع الجيوش والفرق من شتى البلدان ؛ فأما الموعد فكان 23 شعبان سنة 489هـ= 15 من أغسطس سنة 1096 - وأما المكان فكان في القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية ، وكان هذا الموعد متأخرًا ليأخذ الفرصة لجمع الجيوش ، وكذلك لتجميع المحاصيل في أول الربيع ، ثم تتحرك الجيوش مباشرة حيث ستقضي في الطريق ثلاثة أشهر تقريبًا .. وكان المكان المختار للتجمع هو القسطنطينية ؛ لأنها آخر محطة تقريبًا قبل دخول الأراضي الإسلامية في آسيا الصغرى ، حيث كان من المخطط أن يحارب الصليبيون السلاجقة هناك ثم في الشام، وذلك قبل الانتقال إلى الهدف الأخير وهو فلسطين، وخاصةً بيت المقدس , ومن جانب آخر فإنه كان لا بد من لقاء الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين ؛ وذلك لترتيب سبل التعاون معه لتسهيل أمور الحملة الصليبية .

خامسًا : قام البابا بعدة مراسلات مع ملوك وأمراء أوربا ليحثهم على الخروج معه في الحملة ، ولم يحقق في هذا المجال نجاحًا يُذكر مع الملوك ، ولكن حقق نجاحًا كبيرًا مع الأمراء ، وعلى رأس هؤلاء الأمراء ريمون الرابع كونت تولوز وبروفانس ، وهو من الأمراء الكبار الذي كان مهتمًّا جدًّا بحرب المسلمين ، حيث حاربهم قبل ذلك في الأندلس، كما ذهب أيضًا للحج في بيت المقدس ؛ وكان يرى في نفسه الكفاءة لقيادة الجيوش بكاملها ، واستغل البابا حماسته هذه وعقد معه عدة اجتماعات ، بل صحبه في مجمع نيم في يوليو 1096م ؛ وذلك لتحميس أكبر عدد من الناس للمشاركة في الحملة .

وغير ريمون الرابع فقد إستجاب عدد آخر من الأمراء ، وسيأتي تفصيل ذكرهم عند الحديث عن تقسيم الجيوش الصليبية إلى مجموعات قبل الخروج .

سادسًا : لم يكتف البابا بمراسلة الملوك والأمراء فقط ، بل راسل أيضًا العسكريين والاقتصاديين في ميناء جنوة الإيطالي للمساعدة بأسطول بحري يسهِّل مهمة الحملة الصليبية ، وقد استجاب الجنويون لنداء البابا ، وأعدوا اثنتي عشرة سفينة بحرية، وناقلة كبيرة للجنود ، وذلك في مقابل امتيازات كبيرة في بلاد الشام عند احتلالها .

سابعًا : لم يقتصر البابا على المراسلات المكثفة التي أرسلها لكل رءوس الدول والإمارات، إنما أخذ يتجول بنفسه في مدن كثيرة وقرى عديدة ، داعيًا لنفس المهمة ، فعقد مجمعًا في ليموج Limoges في ديسمبر 1095 بعد المؤتمر الأول بأقل من شهر ، ثم في عام 1096 قام بعدَّة جولات في أنجرز ومان وتورز وبواتييه وبوردو وتولوز ونيم ، وهذا كان في الفترة من يناير إلى يوليو 1096 ..

وقد أسفرت هذه الجهود عن تجميع عدد كبير من الجنود جُلُّهم من فرنسا ، وإن كان هناك جنود جاءوا كذلك من إيطاليا وإنجلترا وإسبانيا ، بل ومن بعض البلاد البعيدة مثل إسكتلندا والدنمارك ..

ثامنًا : هدَّد البابا بأن كل من يقرِّر المشاركة ويحمل شارة الصليب ثم يتخلف عن الخروج فإنه سيعاقب بعقوبة الحرمان ؛ وقد فعل ذلك لكي يتجنب خطورة الحماسة الطارئة التي ما تلبث أن تفتر ، فيجد أن الأعداد الكبيرة لم تصبر معه على الخروج مما ينذر بخطر كبير .. وهو بذلك التهديد قد ضمن أن كل من عرض الخروج سيخرج ؛ وبذلك يستطيع أن يبني حساباته على أرقام صحيحة .

لقد كان جهدًا كبيرًا ومنظمًا بذل فيه الكثير من الوقت والفكر والمال ، وجمعت فيه جهود أوربا الغربية في قضية واحدة ، وهذا لم يحدث منذ عدة قرون ، ومنذ سقوط الإمبراطورية الرومانية القديمة , بعد ذلك الاستعراض لخلفية أوربا التاريخية ، ولخلفية البابا الفكرية وللجهود التي بذلت ، وللجموع التي إستجابت للدعوة نستطيع أن ندرك البواعث الحقيقية لهذه الحملة الصليبية .

إن كثيرًا من المؤرخين يجعل الباعث وراء الحملة الصليبية سببًا معينًا واحدًا أو رئيسيًّا ، وينكر ما دونه من أسباب ودوافع ، وهذا ينافي الواقع الذي رأيناه ، وينافي خروج هذا الشتات من الناس ، حيث يمثِّلون عدة طبقات من المجتمع الأوربي ، وعدة بلاد مختلفة ، وعدة أمراء وزعماء ، وعدة لغات ولهجات ، وعدة مستويات إجتماعية .

إن هذا التنوع العجيب يثبت - بما لا يدع مجالاً للشك - أنه ليس هناك دافع واحد جمع كل هذا الشتات، إنما كانت الدوافع مختلفة، والبواعث متعددة ، وأفلح البابا أوربان الثاني في الضرب على كل وتر ؛ حتى يقنع الجميع بالخروج في رحلة واحدة وهدف واحد .

ونستطيع بملاحظة تاريخ أوربا قبل الحملة الصليبية ، وبملاحظة طرق التحميس ، وبملاحظة خط سير الحملة ، والمواقف التي تمت في رحلة الذهاب إلى أرض الشام، ثم بملاحظة الأحداث التي رأيناها أثناء الحروب الفعلية في آسيا الصغرى والشام وفلسطين ، نستطيع بملاحظة كل هذه الأمور أن نحدِّد البواعث التي دفعت هذه الجموع المختلفة أن تجتمع للخروج في الحملة الصليبية ، وهذه البواعث تضم ما يلي :


- الباعث الديني

وهذا الباعث يشكِّل أحد الدعامات الرئيسية لهذه الحملة ، وإن لم يكن كما ذكرنا الدافع الوحيد ، ونحن نعلم من القرآن الكريم ، وكذلك من السُّنَّة المطهرة أن الحرب أبدية بين الإسلام ومن يرفضه ، ولن يقنع الكثير من الناس بالتعايش السلمي مع الإسلام حتى لو مدَّ الإسلام يده بالتصافح والتحابِّ ؛ لذلك فليس مستغربًا أن يسعى البابا أوربان الثاني لحرب المسلمين حتى دون وجود مبررات معينة تدفع لهذه الحرب ، فهم مسلمون وهذا في حدِّ ذاته يكفي أن يكون سببًا في حربهم .. وقد تكررت في كلماته ألفاظ توحي بعدم إعترافه بالإسلام أصلاً ، كإطلاق لفظ الكفار أو الوثنيين على المسلمين ، وعلى ذلك فالدافع الديني واضح عند البابا ، ولا شك أنه واضح أيضًا عند بعض القساوسة والرهبان، كما أنه واضح أيضًا عند بعض الأمراء والقوَّاد .

وفوق كل ذلك فالهدف الديني هو الهدف المعلن للحملة ، وإنقاذ الدولة البيزنطية من المسلمين كان السبب المتداول بين الناس ، إضافةً إلى إدِّعاء البابا أن المسلمين يضطهدون الحجاج المسيحيين ، وإن كان واضحًا أن هذا الإدِّعاء ما ذكر إلا للإستهلاك المحلي في أوربا فقط ، ولتحميس الجيوش والشعوب النصرانية ؛ لأنه لم يثبت أبدًا أن المسلمين إضطهدوا الحجاج النصارى، وقد ذكر أحد كبار المؤرخين الأوربيين وهو غيورغي فاسيلييف أن المسيحيين بوجه عام تمتعوا بقسط وافر من الحرية الدينية وغير الدينية في ظل الحكم الإسلامي ، فلم يسمح لهم فقط بالاحتفاظ بكنائسهم القديمة ، وإنما سمح لهم أيضًا بتشييد كنائس وأديرة جديدة ، جمعوا في مكتباتها كتبًا دينية متنوعة في اللاهوت ، ويقول تومبسون - وهو مؤرخ : " إن المسيحيين الذين خضعوا لحكم السلاجقة صاروا أسعد حالاً من إخوانهم الذين عاشوا في قلب الإمبراطورية البيزنطية ذاتها" ..

بل إن كلام بطريرك القدس ثيودسيوس شخصيًّا في إحدى رسائله إلى بطريرك القسطنطينية سنة 255هـ = 869 - إمتدح المسلمين ، وأثنى على قلوبهم الرحيمة ، وتسامحهم المطلق ، حتى إنهم سمحوا للمسيحيين ببناء مزيد من الكنائس دون أي تدخل في شئونهم الخاصة ، وقد ذكر بطريرك القدس في رسالة حقيقية مهمة حين قال: "إن المسلمين قوم عادلون ، ونحن لا نلقى منهم أي أذى أو تعنت" ..

هذه الكلمات والشهادات وغيرها تثبت - بما لا يدع مجالاً للشك - أن كلام البابا أوربان الثاني عن إضطهاد المسلمين للحجاج المسيحيين ما هو إلا فِرْية لا أصل لها ، وتغطية مكشوفة على الدوافع الحقيقية وراء هذه الحملة العنيفة .

وفوق هذا فإننا لم نَرَ في سلوك المحاربين في هذه المعارك - سواء في رحلتهم إلي بيت المقدس أو في أثناء حروبهم - أيَّ علامات للزهد أو الورع الذي يتصف به المتدينون ، بل كانوا في غاية السفاهة والحمق ، وبلغوا الذروة في الشر والإجرام ، بل إنهم لم يتصفوا بذلك فقط عند تعاملهم مع المسلمين ، بل كذلك عند تعاملهم مع النصارى الشرقيين ، وسنرى طرفًا من هذا السلوك المقيت في أكثر من موضع من مواضع هذه القصة ، سواء مع نصارى المجر والنمسا وبلغاريا أو مع نصارى القسطنطينية ذاتها ، التي زعموا أنهم جاءوا لإنقاذها !

إذن كان الباعث الديني موجودًا ، ولكنه ليس هو الدافع الوحيد ، بل لا ينبغي أن يُضخَّم كثيرًا ؛ فعموم الحملة الصليبية لم يكن يعنيهم الدين لا من قريب ولا من بعيد ، وإن كانوا جميعًا يضعون شارة الصليب على أكتافهم ، ويدَّعون أنهم يريدون المغفرة !!

- الباعث الاقتصادي

وهذا الباعث أيضًا من أهم البواعث في هذه الحملة الصليبية ، فالجموع الهائلة من العامة خرجت لإحباطها التام من الحصول على أي قسط من رغد الحياة في أوربا ، فخرجوا يبحثون عنها في فلسطين ، وهم لن يخسروا شيئًا ، فحتى الموت أفضل من حالتهم البائسة تحت نير الإقطاعيين والملوك ..

والأمراء الإقطاعيون ما خرجوا إلا بغية الثراء والتملك ، وقد كانت الحرب في فلسطين فرصة للكثيرين من أمراء أوربا لتحقيق طموحات إستحال عليهم تحقيقها في أوربا ؛ لأن القانون الأوربي آنذاك كان يمنع تقسيم الميراث على كل الأبناء ، بل كانت تنتقل الإقطاعية بكاملها إلى الإبن الأكبر بعد وفاة الأب الأمير ، وذلك حتى لا تتفتت الثروة وتقلُّ الأرض ، وبالتالي تسقط الهيبة والكلمة .. وهذا الوضع خلق جيلاً من الأمراء لا أمل عندهم في التملُّك ، فلما فتحت أمامهم أبواب الحرب في فلسطين سارعوا جميعًا للحصول على أي ملكية ؛ لينافسوا بذلك إخوانهم الكبار .

وكان هذا الباعث الاقتصادي واضحًا أيضًا عند تجَّار الموانئ الإيطالية ، وأشهرها البندقية وبيزا وجنوة ، وكذلك تجَّار مرسيليا الفرنسية ، وغيرهم من تجار أوربا ؛ فقد رأى هؤلاء التجار أن الفرصة لتحقيق المصالح الذاتية لهم ، ولو على حساب البابوية والكنيسة , وكان تبادل المصالح واضحًا جدًّا بينهم وبين الكنيسة ، فالصليبيون لن يستطيعوا الاستغناء أبدًا عن معونة الأساطيل البحرية ، والتجار سوف يأخذون مقابلاً سخيًّا نظير هذه المعونة ، وهذا المقابل كان عبارة عن امتيازات خاصة تُعطَى للجمهورية التي تساهم في هذه الحروب المتواصلة، ولم تكن الامتيازات تشمل فقط حرية التجارة في البلاد المفتوحة ، بل كانوا يُعْطَون في كل مدينة تُفتح شارعًا وسوقًا وفندقًا به حمام ومخبزًا خاصًّا ، وكان التنافس بين الجمهوريات الإيطالية في هذا المجال كبيرًا جدًّا ، بل كان التصارع والتقاتل ، وما لبثت مرسيليا أن سارت على نهجهم وتنافست معهم ، وأخذت امتيازات قوية في بيت المقدس ذاته .

ولا يخفى على أحد أن النوايا الدينية لم تشغل أبدًا أذهان هؤلاء التجار الجشعين ، وكانت كنوز الشرق وأراضيه هي الباعث الأكبر لهم على بذل كل الجهد لإنجاح الحملة الصليبية .

- الباعث السياسي

وهذا الباعث الذي يهدف إلى توسيع النفوذ وقهر المنافسين ، كان باعثًا رئيسيًّا عند البابا أوربان الثاني شخصيًّا ، وكذلك عند ملوك أوربا , وهؤلاء الملوك لم يكن طموحهم يقف عند شيء ، وكانت قوة كل ملك فيهم ترتبط بالمساحة التي يسيطر عليها ، وهذا دفعهم بعد ذلك للمشاركة بقوة في الحملات الصليبية عندما شاهدوا النجاحات التي حققتها الحملة الأولى .

كما أن ملوك أوربا كانوا يرون أن الدولة البيزنطية دخلت طورًا واضحًا من أطوار الضعف ، ولو سقطت فإن هذا يعني فتح الباب الشرقي لأوربا لقوات المسلمين العسكرية ، سواء من السلاجقة أو من غيرهم ، وهذا قد يضعهم بين فكي كماشة ، أي المسلمين القادمين من الشرق والمسلمين في أرض الأندلس ؛ لذلك رأينا أنه برغم التباطُؤ الذي رأيناه من الملوك في بداية الحملات إلا أنهم تسارعوا بعد ذلك للمشاركة ، بل ذهب بعضهم بنفسه إلى أرض فلسطين أو مصر على قيادة جيوشه .

- الباعث الاجتماعي

مرَّ بنا عند الحديث عن الحالة في أوربا قبيل الحروب الصليبية ، الحالةُ المزرية التي كان يعيشها الفلاحون والعبيد في أوربا ؛ ففضلاً عن قلة الأقوات وإنعدام الطعام والشراب ، كانت المعاملة في غاية السوء ، ولم يكن لهم حقوق بالمرَّة ، بل كانوا يباعون مع الأرض ، ولا يسمح لهم بأي نوع من الملكية والإنسان قد يصبر على الجوع أحيانًا لكن الامتهان النفسي والأذى المعنوي ، قد يكون أشد ألمًا من الجوع والعطش ؛ ولذلك رأى العوام الفلاحون في أوربا أن هذه فرصة لتغيير نظام حياتهم ، والخروج المحتمل من قيود العبودية المذلَّة ؛ ولذلك خرج الفلاحون بنسائهم وأولادهم ، وحملوا معهم متاعهم القليل البسيط ، لقد كان خروجًا بلا عودة ، وتغييرًا كاملاً للأوضاع ، وثورة حقيقية على حياة التعاسة والاستغلال ؛ لذلك سنرى أثناء الأحداث أن هذه الجموع البائسة ما صبرت حتى تكتمل الجيوش وتنتظم ، بل خرجت بمفردها مسرعة ، وكأنها تهرب من أسرٍ طويل !

ولقد شارك هؤلاء البائسين فريقٌ آخر من المجرمين والخارجين على القانون الذين كانوا يعانون أحكامًا قضائية أو مهددين بذلك ، وقد وجدوا الخروج ليس فرصة للنجاة من الأحكام وحسب ، ولكنه فرصة أيضًا لمزاولة السلب والنهب والقتل والإغتصاب كما اعتادوا ذلك في حياتهم ؛ وهذا سيعطي الحملات الصليبية صبغة إجرامية لا يمكن تجاهلها أبدًا .

كانت هذه هي البواعث التي من أجلها تحركت أوربا لغزو العالم الإسلامي، والسيطرة على أرضه ومقدراته وشعوبه .

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 04-03-14, 04:26 AM

  رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

الطريق إلي بلاد المسلمين
تحركت جموع الفلاحين الأوربيين بنشاط لتهرب من الواقع الأليم الذي تعانيه، ولم تستطع أن تصبر حتى اكتمال تجهيز الجيوش النظامية ، فقررت أن تخرج بنفسها إلى بلاد المسلمين مغترة بأعدادها ومفتونة بحماسها ، وإن كانوا جميعًا ممن لا يحسنون القتال والحروب ، بل لعلهم لم يحملوا سيفًا طيلة حياتهم .. تولى قيادة الجموع الهمجية والتر المفلس ، وكان فارسًا شرسًا من بواسي Poissy , ولم يكن في هذه الحملة إلا ثمانية فرسان فقط ! , وخرجت هذه الحملة من فرنسا وإخترقت ألمانيا، وهي تجمع في طريقها الأنصار والمتحمسين ، وإن كان يبدو عليهم بوضوحٍ عدم الخبرة وإنعدام التنظيم .

ثم عبرت هذه الجموع إلى الأراضي المجرية ثم البيزنطية ، وفي هاتين المرحلتين الأخيرتين ظهرت بوضوح طبيعة هذه الحملات العدوانية ؛ فقد نظرت هذه الجموع إلى أعدادها وقوتها ، وإسترجعت تاريخها في الحرمان والفاقة ، فنسيت الهدف المعلن الذي خرجوا له ، وهو نصرة المسيحيين الشرقيين ، ومن ثَمَّ قرروا الهجوم على القرى والمدن الآمنة التي في الطريق ، وكلها آهلة بالسكان النصارى الذين من المفترض أنهم جاءوا لنصرتهم !! , لقد كانت وصمة في تاريخ أوربا حيث بدأ السلب والنهب والاعتداء على الرجال والنساء وسرقة الأموال والديار!

دُهِش الإمبراطور البيزنطي من هذه الأعمال التي إرتكبت في دولته من هذه الجموع التي لا تفقه شيئًا لا في الدين ولا في السياسة ولا في الحرب ؛ فإنعدام الدين عندهم واضح لكونهم يقتلون إخوانهم النصارى دون أدنى مبرر ، وإنعدام السياسة واضح أيضًا لأنهم يفعلون ذلك في أراضي الدولة البيزنطية غير مقدرين القوة العسكرية الضخمة لهذه الدولة العتيدة ، كما أنهم لا يفقهون شيئًا في القتال والنزال ، كما هو واضح من أشكالهم وتنظيمهم وطريقة حربهم ، ومع ذلك فإن الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين تذرَّع بالصبر ، ولم يشأ أن يهاجم هذه الجموع فيفنيها ؛ لأنه كان يريدها لحرب المسلمين ، ومن ثَمَّ لم يتعرض لحملة والتر المفلس بسوء ، وإن كان لم يأمنهم على القسطنطينية ؛ فأنزلهم خارج أسوارها لينتظروا بقية الحملات والجنود .

وفي هذه الأثناء كان بطرس الناسك قد جمع أعدادًا غفيرة من الفلاحين البؤساء رجالاً ونساءً وأطفالاً ، وإنضم لهم جمع كبير من الأفَّاقين والمجرمين وبنات الهوى ، وكان تجمعهم في حوض نهر الراين بألمانيا ، ثم غادروا الأراضي الألمانية في 489هـ = 20 من إبريل 1096م ، ولم يكن في هذه الجموع إلا عدد قليل من الفرسان يتقدمهم بطرس الناسك على حماره الأعرج .

وكما كانت رحلة والتر المفلس إجرامية إرهابية ، كانت أيضًا رحلة بطرس الناسك ؛ إذ إنها بمجرد دخولها للأراضي المجرية حتى بدأت تفسد في الأرض ، وبشكل أكبر وأوسع ؛ لأن أعدادهم كانت أكبر ، وطبيعتهم كانت أفسد ، وظهرت بوضوح في هذه الرحلة النوايا الخبيثة لبطرس الناسك الذي لم يكن يتورع عن إزهاق الأرواح النصرانية وسلب الأموال والممتلكات ، مع أنه كان يطلق على جيشه جيش الرب !

وتفاقمت المأساة وبلغت ذروتها عند مدينة سملين Semlin المجرية ، حيث هجم بطرس الناسك ومن معه على المدينة النصرانية ، فأحدثوا فيها مجزرة بشعة كان ضحيتها أربعة آلاف نصراني جملة واحدة !!

وإنتبه الملك المجري كولومان للمصيبة ، ولم يكن يتوقعها من أناس يرفعون الصليب شعارًا لهم ، فجمع قوته وهاجمهم ، فتفرقوا في الغابات المجرية ، وقتل منهم البعض ، وفر الباقون إلى الأراضي البيزنطية المجاورة ليستكملوا مسيرة الإفساد في الأرض .

وفي الأراضي البيزنطية تجمعت قوتهم من جديد ، ورصدتهم عيون المخابرات البيزنطية ، وتركتهم عمدًا يتحركون صوب القسطنطينية ؛ وذلك للإلتقاء مع جموع والتر المفلس .. غير أن هذا الهدوء من الدولة البيزنطية أغرى الجموع المفسدة بمواصلة السلب والنهب ، فتكررت مأساة سملين في مدينة نيش البيزنطية ، حيث قتل بطرس الناسك ومن معه أعدادًا كبيرة من النصارى الأرثوذكس وأحرقوا الديار بأهلها ، وهنا لم تعبر الجيوش البيزنطية ، بل هجمت على جموع بطرس الناسك ، وقتلت منهم عددًا كبيرًا ، كما إستولت على الأموال والتبرعات التي جمعها بطرس الناسك قبل ذلك من الغرب الأوربي ، ومع ذلك فلم يشأ الجيش البيزنطي أن يفني الجموع المفسدة ؛ لأنه كان يريد توجيههم لحرب المسلمين .

وعند مدينة صوفيا أرسل لهم الإمبراطور البيزنطي وفدًا يحذرهم من عواقب هذه الهمجية ، ويأمرهم بعدم البقاء أبدًا في أي مدينة بيزنطية أكثر من ثلاثة أيام ، ثم تولى فريق من البيزنطيين قيادة هذه الجموع إلى أسوار القسطنطينية لمقابلة فرقة والتر المفلس هناك .

إن الناظر لأحوال هذه الجموع المفسدة قد يتعجب ، ولكن المحلِّل للتاريخ بدقة سيجد أن هذا أمرٌ طبيعيٌّ جدًّا ، وكثير التكرار في كل مراحل التاريخ ؛ إنها القوة التي نزعت منها الرحمة والأخلاق والدين ، وأي قوة لم تُجمَّل بهذه الآداب فإنها - لا شك - ستكون طاغية مفسدة , لقد فعلت الجيوش الفارسية الشيء نفسه وهي في طريقها لحرب المسلمين في موقعة القادسية ، حيث أغارت على عدة مدن وقرى فارسية في طريقها ، وهذه المدن والقرى لا يقطن فيها إلا الفارسيون الذين تربطهم بهذا الجيش علاقات الدم والدين ، ومع ذلك عاث الجنود الفارسيون في الأرض فسادًا ، وذبحوا أهلها ، ونهبوا أموالهم وديارهم ، وإعتدوا على نسائهم وأطفالهم !

والجيوش البيزنطية ذاتها التي تأمر الآن الجموع المفسدة بأن تملك أعصابها ولا تقتل إخوانها ، هي ذاتها التي أذاقت أهل الشام النصارى العذاب ألوانًا ، وفرضت عليهم الضرائب الباهظة ، وحوَّلت كل المحاصيل والغلال إلى الدولة الرومانية ، وفعلت ذلك وأكثر في مصر ، مع أن الجميع في النهاية ينتمي إلى المذهب الأرثوذكسي !

والجيوش الألمانية النازية ، ماذا فعلت عندما شعرت بقوتها ؟!


إن كل الشعوب التي ذاقت ويلات الألمان كانت شعوبًا نصرانية مثل الألمان ، بل إن الجيوش الإسلامية إن لم تكن إسلامية إلا بالإسم فقط ، وفرغت من الخلق القويم والإلتزام الشديد بقواعد الدين وأصوله ؛ فإنها هي الأخرى جيوشٌ إرهابية يعاني منها المسلمون قبل غير المسلمين ، وهذا نشاهده كثيرًا في الجيوش المسلمة التي تتبع مناهج علمانية بعيدة كل البعد عن الإسلام .

إن هذا الاستعراض لرحلة والتر المفلس أو بطرس الناسك يوضِّح لنا بجلاء طبيعة الحملات الصليبية ، وأنها - وإن رفعت الصليب شعارًا - ما جاءت إلا للسلب والنهب والاستحواذ والتملُّك .

ولم تكن حملات والتر المفلس وبطرس الناسك هي الحملات الشعبية الوحيدة، بل خرجت حملات أخرى من غرب أوربا مثل : حملة فولكمار Volkmar، وحملة جوتشوك Gottschock، وحملة إميخ Emich ؛ وكان شعار كل هذه الحملات الإفساد في الأرض ، وقد قامت حملة إميخ بقتل إثني عشر يهوديًّا في مدينة سبير Spier في وادي الراين، ثم أتبعوهم بقتل خمسمائة يهودي في مدينة وُرمز في وادي الراين ، وذلك في 20 من مايو 1096م ، ثم زاد الأمر أكثر في مدينة مينز حيث قُتل ألف يهودي .

وقامت حملة فولكمار أيضًا بقتل عدد آخر من اليهود في مدينة براغ ، وكان من الواضح في هذه الحملات العنصرية الفجَّة ، فهم في البلاد الكاثوليكية يقتلون اليهود ، وفي البلاد الشرقية يقتلون الأرثوذكس ، وسوف يسعون بعد ذلك لقتل المسلمين .


غير أن هذه الحملات الأخيرة ، وخاصةً حملة إميخ وفولكمار ، تعرضت لصدمة قاسية في الطريق ، حيث ترصَّد لها ملك المجر كولومان ، وخاف من تكرار مأساة والتر المفلس ، وبطرس الناسك ؛ ومن ثَمَّ حاصر هذه الحملات الأخيرة ، وأبادها تمامًا ، فلم يكن لها أي دور في المشاركة مع والتر وبطرس في الحرب الصليبية .

لقد كانت نهاية تعيسة لجموع تعيسة هربت من حياة الضنك لتُقتل في غابات المجر ، وتقتل معها أحلام العيش السعيد في بلاد الشرق المسلمة !

نعود إلى أسوار القسطنطينية حيث وصل إليها بطرس الناسك في أوائل أغسطس 488هـ = 1096 - ليلتقي مع والتر المفلس وفرقته، ليصبح التجمع الصليبي كبيرًا جدًّا , وتختلف الروايات في تقدير عدد هؤلاء الفلاحين والمغامرين ، حيث تقدرهم بعض الروايات بخمسة وعشرين ألفًا ، بينما تصل بهم بعض الروايات إلى مائة ألف صليبي ، هذا بخلاف النساء والأطفال .

وعند قدوم بطرس الناسك إستقبله الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين استقبالاً حسنًا ، وإن كان متعجبًا لهذه الجموع الهمجية التي أرسلتها أوربا لنجدته من المسلمين ، غير أنه أدرك أن هذه الجموع ما هي إلا مقدِّمة للجيوش الصليبية المدربة ؛ ومن هنا نصح الإمبراطور بطرس الناسك ومن معه بإنتظار الجيوش النظامية ، وعدم التهوُّر بمقابلة الجيوش السلجوقية المدربة , غير أن الجموع النصرانية ما لبثت أن كررت الفساد في القرى والضِّياع المحيطة بالقسطنطينية ، وكادت السيطرة تفلت من أيدي الجيش البيزنطي ، مما دفع الإمبراطور البيزنطي إلى سرعة نقل هذه الجموع المفسدة عبر مضيق البسفور إلى آسيا الصغرى حيث السلاجقة المسلمين ؛ وذلك ليؤمِّن منطقة القسطنطينية وما حولها .. ومع غضبه الشديد إزاء هذه الأعمال المتهورة إلا أنه أمدَّهم بالنصح والإرشاد ، وساعدهم بالسفن البيزنطية وأعطاهم بعض السلاح ، وأرسل معهم بعض العيون والخبراء .

دخلت الجموع الصليبية إلى آسيا الصغرى ، ولم يطيقوا الصبر حتى تأتي جيوشهم المحترفة ، فقاموا بالإغارة على بعض القرى المسلمة ، وقتلوا وسلبوا ونهبوا ، وزادهم هذا إغراءً فتمادوا في الغيِّ ، وهم لا يدركون أنهم أصبحوا على بُعد عدة كيلو مترات فقط من مدينة نيقية قاعدة السلطان قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش ، سلطان السلاجقة في آسيا الصغرى آنذاك .

دبَّر السلطان قلج أرسلان مكيدة حربية ، وإستطاع الإيقاع بالجموع الساذجة في فخٍّ محكم ، وحاصرت الجيوش السلجوقية جموع الصليبيين ، ودارت معركة سريعة ظهر فيها الجهل الواضح لهذه الجموع الشعبية ، لينطلق السلاجقة في قتل معظم هذه الجموع ، حتى كادت تُباد عن آخرها ، لولا أن الإمبراطور البيزنطي سمع بأنباء الكارثة ، فأرسل سفنًا حربية وبعض الجنود البيزنطيين الذين إستطاعوا إنقاذ ثلاثة آلاف صليبي فقط ، بينما دُمِّر الباقي تمامًا في الكمين السلجوقي .. وكان ممن قتل في هذا الصدام والتر المفلس ، بينما نجا بطرس الناسك الذي كان في مقابلة مع الإمبراطور البيزنطي وقت وقوع الجموع الصليبية في الكمين السلجوقي .

كانت صدمة قاسية جدًّا للإمبراطور البيزنطي ، وبطبيعة الحال لبطرس الناسك ، وإحتفظ الإمبراطور بالبقية الباقية من هذه الجموع وقائدهم بطرس الناسك في مدينة القسطنطينية ؛ ليكونوا في انتظار الجيوش الصليبية المحترفة .

وهكذا كانت النهاية المأساوية لكل الحملات الشعبية ، سواء على يد ملك المجر كولومان أو على يد السلاجقة المسلمين ؛ ليدفع فقراء أوربا وفلاحوها ثمن الغرور الذي ملأ رجال دينهم وأمراءهم وإقطاعياتهم ، وهكذا دومًا تدفع الشعوب المغلوبة على أمرها ثمن هوانها وذلتها !

وبينما كان الحال كذلك مع هذه الحملات الشعبية كان العمل يجري على قدم وساق في أوربا الغربية وخاصةً فرنسا ؛ لتجميع الجيوش النظامية وبأعداد ضخمة لم تسبق في تاريخ أوربا ، بل لعلها لم تسبق في تاريخ العالم أجمع !

الإعداد العسكري للحملة الصليبية الأولي

لم تعرف أوربا الغربية في هذا الوقت الوحدة بأي شكل من الأشكال ، ولم يحدث منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية العظمى في سنة 476م - أي منذ أكثر من ستة قرون - أن تجمعت جيوش الدول الأوربية الغربية في معركة واحدة ، اللهم إلا المساعدات التي كانت تقدمها هذه الدول - وخاصةً فرنسا - للممالك النصرانية في شمال الأندلس في حروبهم ضد مسلمي الأندلس .

بل لم تعرف الدول ذاتها في ذلك الوقت الوَحْدة الداخلية ، فكانت كل دولة أو مملكة مقسمة لعدة إقطاعيات ، وعلى كل إقطاعية أمير يحكمها فيما يشبه الحكم الذاتي ، وإن كان يدين بالولاء للملك الذي يجمع الإقطاعيات معًا ، وإن كان هذا الولاء كثيرًا ما يكون ولاءً شكليًّا لا واقعيًّا .

إن وضعنا هذه الخلفية في أذهاننا ، فإننا سندرك أن تجميع هذه الإقطاعيات المتعددة في جيش واحد منظم سيكون أمرًا صعبًا جدًّا ، بل إنه يكاد يكون مستحيلاً ، وهذا سيعني أن الحملة الصليبية غالبًا ستكون مكوَّنة من عدة جيوش منفصلة ، على رأس كل جيش أمير له أحلامه الخاصة ، وله ولاءاته الخاصة أيضًا ، وقد يحدث التعاون بين هذه الجيوش المتعددة في بعض المواقف ، ولكنه - لا شك - سيحدث أيضًا التعارض والتشاحن بين نفس الجيوش ، خاصةً أن الكثير ممن شارك في هذه الحملة الصليبية الأولي كان متنافسًا مع أمراء آخرين شاركوا في نفس الحملة ؛ مما سيفرز مواقف ذات طابع خاص ، كلها يثبت في النهاية أن المطامع الشخصية والأهواء الخاصة كانت هي الدافع الوحيد لخروجهم - أو على الأقل لخروج معظمهم - ولم يكن في اعتبارهم أبدًا الدين أو الكنيسة أو الصليب .

وبالنظر إلى الجيوش التي كوَّنت الحملة الصليبية الأولى نجد أنها عبارة عنخمسة جيوش مستقلة :

1- كان الجيش الأول بقيادة الفرنسي جودفري دي بوايون GODFREY DE Bouillon وهو أمير لوثرتجيا جودفري البولوني ، وكان بصحبته أخوه الأمير بلدوين , كما التحق بجيشه عدة أمراء آخرين معظمهم من فرنسا ، وقد أعطت كثرة الأمراء في هذا الجيش صبغة خاصة من الأهمية له ، وكانوا في المعظم من منطقة اللورين شمال فرنسا، وكان في هذا الجيش أيضًا بعض الألمان .

والأمير جودفري بوايون وإن كان فرنسيًّا إلا أنه كان يدين بالولاء للإمبراطور الألماني القوي هنري الرابع ، ولم يكن يدين بالولاء للملك الفرنسي الضعيف آنذاك فيليب الأول ، وكان جودفري بوايون يحرص على أن يكون قائدًا عامًّا لكل الحملة الصليبية ، يؤيده في ذلك كثرة الأمراء في جيشه خاصة .

2- أما الجيش الثاني فكان جيشًا مهمًّا أيضًا ؛ إذ كان على رأسه الأمير ريمون الرابع كونت تولوز والبروفنسال ، وهو الجيش القادم من جنوب فرنسا ، وكان هذا الجيش يكتسب أهمية خاصة لكون الأمير ريمون يعتبر نفسه - كما كان جودفري بوايون - أهمَّ قواد الحملة الصليبية .. وكان الأمير ريمون أكبر الأمراء سنًّا ، كما أنه كان من أوائل الذين إستجابوا لدعوة البابا أوربان الثاني ، بل إنه صاحبه في أكثر من مؤتمر لجمع المحاربين ، وهو الذي قبل ذلك شارك في حرب المسلمين في بلاد الأندلس ، وكان صاحب صبغة دينية واضحة ، وكان مقربًا من البابا حتى إن البابا جعلَ في جيشه هو دون غيره ممثلَ الكنيسة أديمار أسقف لوبوي ، وفوق كل ذلك فإن جيشه كان أكبر الجيوش الصليبية ؛ كل هذه المقومات جعلت الأمير ريمون الرابع يطمع في أن تكون إمارة الجيوش العامة معه هو ، وليس مع غيره .

3- وأما الجيش الثالث فكان بقيادة الأمير روبرت دوك نورماندي Robert Duke Normandy الذي كان يصطحب معه زوج أخته ستيفن كونت بلوا Stephen Blois ، وكان هذا الجيش من غرب فرنسا في الأساس ، إضافةً إلى جيش نورماندي مع الكثير من الفرسان الإنجليز .

4- وكان الجيش الرابع فرنسيًّا أيضًا ، ولكنه كان جيشًا صغيرًا ، ويبدو أنه كان تمثيلاً شرفيًّا لملك فرنسا فيليب الأول ، حيث كان على قيادة الجيش شقيق الملك شخصيًّا ، واسمه هيو ، وكان كونت قرماندوHugh count vermanois

5- أما الجيش الخامس والأخير فكان جيشًا خطيرًا ومهمًّا ، وهو الجيش الإيطالي القادم من جنوب إيطاليا ، والمكوَّن من المقاتلين النورمان الأشداء ، وكان على قيادته الأمير الطموح بوهيموند ابن روبرت جويسكارد , وكان هذا الأمير يطمح - كما كان جودفري بوايون وريمون الرابع يطمحان - إلى قيادة الجيوش مجتمعة ، وكان يؤيِّده في ذلك أن جيشه هو أقوى الجيوش تنظيمًا ، وأكفأهم عسكريًّا ، وأشدهم قتالاً ، ثم إنه إبن روبرت جويسكارد ، وكان من أقوى أمراء أوربا مطلقًا ، وهو الذي إستطاع إخضاع البلقان لسيطرته بعد أن هزم الدولة البيزنطية ذاتها , كما أن لبوهيموند خبرة سابقة في حصار أنطاكية سنة 1081م ، ومواجهة الدولة البيزنطية هناك ، وكان بصحبة بوهيموند إبن أخته الأمير تانكرد ، وهو من الأمراء الأشداء الطموحين أيضًا ، كما إصطحب أيضًا عددًا من الأمراء النورمان الأكفاء .


وهكذا نجد أن الجيوش الصليبية لم تجمعها قيادة موحَّدة ، بل كان القواد منالبداية يتصارعون على القيادة العامة ، كما أن كل واحد منهم كانت أحلامهالخاصة تراوده في التوسع والتملك .

وكان أول الجيوش تحركًا ووصولاً إلى الدولة البيزنطية هو الجيش الرابع الصغير ، ولكنه كان تعيس المصير ؛ إذ سلك الطريق البحري ، وأصابته عاصفة شديدة بالقرب من سواحل الإمبراطورية البيزنطية ، فهلك الكثير منه ، وأنقذت فرقة من البحرية البيزنطية بقية الجيش ، وقابل الأمير هيو الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين ، ولم يكن عجيبًا في مثل هذه الظروف أن يُقسِم الأمير يمين الولاء والتبعية للإمبراطور البيزنطي .. كما أقسم على أنه سيبذل كل جهده لتحرير البلاد التي أخذها المسلمون من سلطان الدولة البيزنطية , ولم يكن هذا الجيش - كما هو واضح - مؤثرًا بشكل من الأشكال في خط سير الأحداث .

أما الجيش الذي وصل بعد ذلك فكان الجيش الأول ، وهو جيش جودفري بوايون ،ونحتاج إلى وقفة مهمة مع هذا الجيش .

لقد سلك هذا الجيش الطريق البريّ الذي سلكه قبل ذلك بطرس الناسك ووالتر المفلس وبقية الحملات الشعبي , وبالتالي فسيمر على المجر وغيرها من المناطق التي تحمل ذكريات مؤلمة للأوربيين الغربيين ، وقد تصطدم هذه الجيوش مع ملك المجر القوي كولومان ؛ مما قد يعطِّل مسيرتها ويبدِّد قوتها ؛ لذلك قرَّر جودفري بوايون في ذكاء شديد أن يعقد اجتماعًا مهمًّا مع ملك المجر على الحدود الألمانية المجرية وقبل أن يدخل الأراضي المجرية ؛ ليعقد معاهدة مع هذا الملك يضمن فيها عدم المساس بأية ممتلكات ، وعدم إيقاع الضرر بأي إنسان مجريٍّ ، ولكي يطمئن ملك المجر إلى وفاء الأمير جودفري فإنه قرر أن يترك أخاه الأمير بلدوين رهينة عند ملك المجر لحين عبور الجيش الصليبي ، كما أصدر جودفري الأوامر المشددة لجيشه بعدم القيام بأي عمليات سلب أو نهب في المنطقة .

وهكذا عبر الجيش الصليبي الأول مملكة المجر بأمان ، ثم عندما دخل إلى الأراضي البيزنطية قابل وفدًا للإمبراطور البيزنطي ، وذلك فيما بين بلجراد ونيش ، وتعهد لهذا الوفد أيضًا بعدم المساس بأية ممتلكات بيزنطية ، وفي المقابل تعهدت الإمبراطورية البيزنطية بتقديم كل ما يلزم الجيش الكبير من تموين ومساعدات حتى وصولهم إلى أرض المسلمين .

ثم أكمل الجيش الصليبي طريقه حتى وصل إلى شاطئ بحر مرمرة عند مدينة سليمبريا Selymbria البيزنطية ، وذلك في 489هـ = منتصف ديسمبر 1096م - وهناك فَقَد جودفري بوايون السيطرة على جيشه الذي لم يستطع أن يتمالك نفسه أمام ثراء المدينة ، فقام الجنود بسلب المدينة ونهبها .

وكانت هذه الحادثة علامة إنذار واضحة للإمبراطور البيزنطي تخيفه من هذه الجنود التي أتت من غرب أوربا ، ووقف الإمبراطور البيزنطي يحلِّل الموقف بدقة ؛ إنه لم يأت بهؤلاء الجنود إلى هذا المكان ، ولم يستنجد بالبابا إلا ليدفع خطر المسلمين ، ويعيد إمتلاك ما أخذ منه على مدار السنوات القادمة ، وعلى هذا فالذي كان في حساباته أن هذه الجيوش ستكون كالجنود المرتزقة الذين تعوَّدت الإمبراطورية البيزنطية على إستيرادهم قبل ذلك ، فهم سيقومون بمهمة ثم يأخذون أجرهم ، وينتهي بذلك دورهم .

أما ما رآه الإمبراطور البيزنطي من آثار الحملات الصليبية السابقة ، ومن جيش جودفري بوايون الآن فشيء يدعو إلى القلق العميق ؛ لأن هذه الجموع التي جاءت بنسائها وأولادها جاءت لتستقر ، كما أنها لا تحسب حسابًا للدولة البيزنطية العظمي .. ثم إن الجيوش الصليبية النظامية كبيرة وقوية ، وهذا الجيش الأول بقيادة جودفري جيش محترف وله بأس وقوة ، فكيف إذا اجتمعت الجيوش الصليبية كلها ؟! ثم إن الإمبراطور البيزنطي إسترجع بذاكرته قصة المغامر النورماندي رسل دي باليل Roussel De Bailleul الذي كان من الجنود المرتزقة المأجورة مع فرقته الإيطالية لدى الإمبراطورية البيزنطية ، ثم ما لبث أن أعلن عصيانه سنة 465هـ = 1073م - على الدولة البيزنطية وحاربها وأنزل بها ضررًا بالغًا ، ولم تنته قصته إلا بفَقْد عدد مهم من المدن البيزنطية أخذها السلاجقة المسلمون بعد الاتفاق مع الإمبراطور البيزنطي على التخلص من رسل باليل في مقابل أخذ ما يسيطرون عليه من المدن ، وإذا كان رسل باليل قد أحدث كل هذا الضرر بثلاثة آلاف مرتزقة كانوا معه ، فكيف سيكون الحال مع جيش كجيش جودفري ، أو المصيبة الكبري لو اجتمعت الجيوش الصليبية كلها على أمر واحد .

لذلك قرر الإمبراطور المحنك ألكسيوس كومنين أن يتعامل بالحزم من أول الأمر مع جودفري ، كما حرص كل الحرص على إنهاء مشكلته قبل أن يأتي جيش صليبي آخر فتزداد المشكلة تعقيدًا .

فماذا فعل الإمبراطور البيزنطي ؟!

لقد طلب من جودفري بوايون أن يقسم الولاء للإمبراطور البيزنطي ، وهذا يعني أنه سيقسم أن يكون تابعًا للإمبراطور البيزنطي في الأراضي التي يمتلكها المسلمون الآن ، وبالتالي فإن جودفري لو نجح في أخذها فسيأخذها لصالح الإمبراطور البيزنطي لا لصالح نفسه ، وبذلك يتحدد الوضع القانوني للبلاد منذ البداية ، ويحتفظ الإمبراطور بكل الحقوق للدولة البيزنطية .

وكان هذا - لا شك - طلبًا قاسيًا ، وشرطًا في غاية الصعوبة !

إن جودفري بوايون يدين بالولاء لإمبراطور آخر قد تتعارض أهدافه وأوامره مع الإمبراطور الأول ، ثم إن جودفري جاء بناءً على دعوة الكنيسة الكاثوليكية ، فكيف يُعطِي ولاءه للإمبراطور الذي يرعى الكنيسة الأرثوذكسية ! ثم فوق ذلك وقبل كل ذلك إنه يريد لنفسه السيطرة والملك ، وليس في اعتباراته أيُّ حقوق ماضية أو وقائع تاريخية , إنه يتعامل بأسلوب القراصنة ، ولا يحتاج لمبرر كي يستولي على أملاك غيره !!

ونتيجة لهذه العوامل فإن جودفري قرر أن يُسوِّف في الاستجابة لطلب الإمبراطور البيزنطي ، وذلك حتى تأتي بقية الجيوش الصليبية ، ومن ثَمَّ يستطيعون أخذ موقف موحَّد يحمي أحلامهم ، ولا يورِّطهم فيما لا يريدونه .

غير أن الإمبراطور البيزنطي لم يعجبه هذا السلوك وأدرك أهداف جودفري ؛ ولذلك فقد قرر عدم الانتظار ، وأخذ قرار قطع التموين الغذائي عن جيش جودفري ، فما كان من الجيش الصليبي إلا أن ردَّ بسلب ونهب الضياع والقرى المحيطة بالقسطنطينية ، وتأثر الإمبراطور البيزنطي وقرر العدول عن رأيه ، وأعاد التموين للجيش الصليبي ، بل وإستضاف الجيش الصليبي في ضاحية بيرا Pera (وهي من ضواحي القسطنطينية) ، ولكنه ظل مطالبًا جودفري بأن يقسم له بالتبعية والولاء ، ولكن جودفري ماطل من جديد ، وظل على هذه المماطلة ثلاثة أشهر كاملة من يناير إلى آخر مارس سنة 1097م، بل إنه رفض أن يقابل الإمبراطور البيزنطي أصلاً .

لكن في أوائل إبريل 1097م علم الإمبراطور البيزنطي أن الجيش النورماندي الإيطالي (وهو الجيش الخامس) قد قارب الوصول إلى القسطنطينية ، وكان يعلم قوة هذا الجيش وبأسه ، ولم يرد له أن يلتقي مع جيش جودفري إلا بعد الإنتهاء من مشكلة جودفري ؛ لذلك قرر من جديد أن يستثير جودفري بقطع الإمدادات عنه ، فردَّ جودفري بمهاجمة بيرا ونَهْبها ثم إحراقها ، بل قام بمهاجمة أسوار القسطنطينية نفسها ، وهنا إضطر الإمبراطور البيزنطي أن يخرج الجيش البيزنطي بكامل عدته وقوته ، فلم يستطع جودفري الصمود طويلاً أمامه ، وأدرك حجمه الحقيقي ؛ ومن ثَمَّ قرر في بساطة أن يغيِّر مبادئه وولاءه ، ويقسم يمين التبعية للإمبراطور البيزنطي !

وهكذا عقدت اتفاقية في أوائل إبريل 1097م ، أقسم بموجبها جودفري بوايون بالولاء والتبعية للإمبراطور البيزنطي ، وسُجِّل في هذه الاتفاقية أن كل الأراضي التي كانت مملوكة للدولة البيزنطية قبل موقعة ملاذكرد ستعود ملكيتها للدولة البيزنطية في حال تحريرها على يد جودفري وجيشه ، وهذا يعني أن طموح الدولة البيزنطية لا يقف على آسيا الصغرى فقط ، بل يشمل أيضًا مدن أعالي الشام والعراق مثل أنطاكية والرها ، بل إن بعض التفسيرات البيزنطية للإتفاقية شملت بيت المقدس نفسه على إعتبار أنه كان مملوكًا للدولة البيزنطية أيام الإمبراطور جستنيان (حكم من 527 إلى 565م) ؛ وهذا سيؤدي إلى صراع طويل بين البيزنطيين والصليبيين طوال القرن التالي لهذه الاتفاقية .

وبعد هذه الاتفاقية أظهر الإمبراطور البيزنطي الوُدَّ الكبير لجودفري ، ومنحه كمًّا هائلاً من الهدايا القيمة ، غير أنه بسرعة نقله إلى آسيا الصغرى ليتجنب لقاءه مع جيش بوهيموند النورماندي ؛ وبذلك يستطيع أن يُملِي شروطه على بوهيموند بمفرده .

وما إن عبر جودفري بجيشه إلى آسيا الصغرى حتى وصل بوهيموند النورماندي ! وكان هذا الجيش قد ركب البحر من إيطاليا ، ونزل عند مدينة أفلونا Avlona في ألبانيا ، ليخترق البلقان في طريقه إلى القسطنطينية .. وقد أفزع هذا الجيش الإمبراطور البيزنطي ، لا لقوته وبأسه فقط ولكن لتذكيره بما فعله رسل باليل النورماندي ، وكذلك ذكريات حصار القسطنطينية 473هـ = 1081م على يد الأمير بوهيموند نفسه ، الذي يأتي على رأس جيشٍ أضعاف الجيش القديم ، إضافةً إلى الجيوش الصليبية الأخري .

كانت هذه مخاوف الإمبراطور البيزنطي ، غير أن بوهيموند قرر سلوك أسلوب آخر يضمن له المكاسب العظيمة ؛ لقد أدرك بوهيموند قوة الإمبراطورية البيزنطية ، وأدرك أيضًا أن الجيوش الصليبية لن تستطيع احتلال البلاد الإسلامية دون مساعدة البيزنطيين ، وأدرك ثالثة الخلاف الذي حدث بين الإمبراطور البيزنطي وجودفري ، وكيف إنتهى هذا الخلاف بقسم جودفري بعد أن فَقَد هيبته .

أدرك بوهيموند من البداية ذلك ، وبالتالي قد تتاح له فرصة أن يتزعم الجميع إذا ناصره في ذلك الإمبراطور القويّ ، وعليه فقد أمر بوهيموند جنوده بالسلوك الحسن أثناء سيرهم في الأراضي البيزنطية ، وتوجَّه مباشرة إلى القسطنطينية ، وعلى أسوارها ترك تانكرد إبن أخته على رئاسة الجيش ، وتوجَّه هو إلى مقابلة الإمبراطور ليعلن بين يديه دون مقاومة قسمه بالولاء والتبعية للإمبراطور البيزنطي !

ولكنه في ذات الوقت لم يعلن هذا القسم دون مطالب ، فقد طلب صراحة أن يمنحه الإمبراطور البيزنطي إقطاعية كبرى في منطقة أنطاكية ، وقد وافق الإمبراطور على هذا الطلب لتصبح هذه الاتفاقية بمنزلة الميلاد الأول لإمارة أنطاكية النورماندية فيما بعد ، وفوق ذلك فقد طلب بوهيموند من الإمبراطور البيزنطي أن يجعله قائدًا عامًّا لكل الجيوش المشاركة في الحروب ، غير أن الإمبراطور رفض هذا الأمر ، ولعله رفض ذلك لكي لا يُرضِي جيشًا على حساب آخر ، وبذلك تظل كل المفاتيح في يده هو دون أن يثير حفيظة أحد عليه .

وبعد هذه الاتفاقية نقل الإمبراطور البيزنطي الجيش النورماندي إلى آسيا الصغرى ليحتل موقعه إلى جوار جيش جودفري بوايون ، وكان ذلك في 26 من إبريل سنة 1097م .

وكان الجيش الثاني في الوصول هو جيش جنوب فرنسا والبروفنسال تحت قيادة الأمير ريمون الرابع أمير تولوز والبروفنسال ، والذي سلك طريقًا بريًَّا , ووصل إلى القسطنطينية في أواخر إبريل سنة 1097م بعد أن قام ببعض التجاوزات في الطريق ؛ مما حدا بالجيش البيزنطي أن يردعه في بعض المواقف .. وعند وصول هذا الجيش إلى القسطنطينية طلب الإمبراطور البيزنطي من الأمير ريمون الرابع أن يحذو حذو الأمراء السابقين ، ويقسم له بالتبعية والولاء ، ولكن هذا الطلب جاء متعارضًا تمامًا مع أحلام ريمون الرابع الذي كان يريد قيادة كل الجيوش بحكم أنه المبعوث الرسمي للبابا الكاثوليكي ، وفي جيشه أديمار المندوب البابوي ، فكيف يقسم الآن لراعي الكنيسة الأرثوذكسية .. ثم إنه رأى أن منافسه اللدود بوهيموند النورماندي قد أصبح صديقًا حميمًا للإمبراطور ، وهذا يعني أن ريمون إن أقسم بالولاء للإمبراطور فقد يجعله تحت سيطرة إمرة بوهيموند ، وهذا ما لا يقبله ريمون أبدًا ؛ لذلك أعلن ريمون الرابع رفضه تمامًا لهذا القسم ، وأعلن أنه ما جاء إلى هنا إلا للمحاربة من أجل السيد المسيح لا من أجل الإمبراطور البيزنطي ، لكن الإمبراطور أصرَّ على هذا الطلب مما أنذر بصدام مسلح قريب ، وزاد الطينة بلة أن بوهيموند أراد الصيد في الماء العكر ، وذلك بإعلانه أنه في حال الصدام بين ريمون الرابع والإمبراطور البيزنطي ، فإنه سينضم بقواته النورماندية القوية إلى الإمبراطور البيزنطي ! وهنا تدخل جودفري بوايون وأقنع ريمون الرابع أن يرضخ للإمبراطور لقرب مواقع المسلمين ، وأن إحتمال هجومهم على الصليبيين قريب ، فوافق ريمون على حلٍّ وسط يحفظ له ماء وجهه ، وهو أن يقسم على إحترام حياة الإمبراطور وشرفه ، وألا يرتكب أمرًا يغضب الإمبراطور .. وإزاء هذه الأزمة قَبِل الإمبراطور بهذا الحل ، بل إنه إجتمع بريمون الرابع اجتماعًا خاصًّا ذكر له فيه بدهاء أنه لا يطمئن لإعطاء بوهيموند إمارة الجيوش كلها ، ولقد أتت هذه التصريحات أُكُلها ، وهدأت نفس ريمون ، وقرَّر أن يتحالف بقوة مع الإمبراطور البيزنطي .

أما الجيش الأخير وهو جيش روبرت أمير نورمانديا ومعه ستيفن أمير بلوا ، فقد وصل متأخرًا عن بقية الجيوش ، وكان قد جاء عن طريق إيطاليا ثم ركب البحر إلى البلقان ، ومنها إخترق الدولة البيزنطية إلى القسطنطينية ، ولم يُسبِّب أية مشكلة في طريقه ، ولم يمانع زعيمَا هذا الجيش في القسم بالتبعية والولاء لإمبراطور الدولة البيزنطية ، ومن ثَمَّ تم إغداق الهدايا عليهما ، ثم ساعدهما الإمبراطور في عبور البسفور إلى آسيا الصغرى ليلحق هذا الجيش بالجيوش التي سبقت .

بهذا تكون الجيوش الخمسة قد وصلت ، ولم تخسر في الطريق شيئًا تقريبًا من قواتها ، اللهم إلا ما حدث للجيش الرابع من هلكة في البحر إثر العاصفة البحرية ، ولكنه كان جيشًا صغيرًا غير مؤثِّر ، وبهذا وصلت الأعداد الغفيرة إلى آسيا الصغرى بلاد المسلمين !

ومن المهم الآن أن نذكر أن أقل تقدير للمقاتلين الرجال في هذه الحملة الهائلة كان ثلاثمائة ألف مقاتل ، بينما يصطحبون معهم نساءهم وأطفالهم بأعداد ضخمة وصلت بالحملة إلى مليون إنسان ! وقوم جاءوا معهم بسبعمائة ألف امرأة وطفل جاءوا ليستوطنوا لا ليحاربوا قومًا ثم يعودوا !

أما بالنسبة للإمبراطور البيزنطي فإنه رفض عرضًا من الصليبيين بقيادة الجيوش بنفسه ، وآثر أن يبقى في القسطنطينية الحصينة ملقيًا بالجيوش الصليبية في التجربة ، غير أنه حرص على إمداد الجيوش الصليبية بالمؤن اللازمة، وبالعيون والأدِلاَّء الخبيرة ، وأيضًا ببعض الضباط البيزنطيين أصحاب الخبرة في حروب المسلمين ، وهكذا صار الصدام بين الصليبيين والمسلمين قاب قوسين أو أدني .

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 04-03-14, 04:29 AM

  رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

الصدام مع السلاجقة الروم

كان قلج أرسلان سلطان السلاجقة في آسيا الصغرى يتخذ من مدينة نيقية الحصينة عاصمة له ، ومن ثَمَّ فالقوة الرئيسية لجيشه كانت بها ؛ ولهذا فقد قرَّر الصليبيون أن يبدءوا بهذه المدينة لكي لا يتركوا خلفهم هذه القوة الكبيرة ، ولكي لا يقطعوا على أنفسهم خطوط الإمداد البيزنطية ومن ثَمَّ توجهت الجيوش الصليبية الغفيرة ، ومعها فرقة صغيرة من الجيش البيزنطي لحصار المدينة المسلمة ، وقد أمدَّ الإمبراطور البيزنطي الجيوش الصليبية في هذه الموقعة بآلات الحصار الضخمة وكثير من السلاح ، وبدأ التوجه إليها في 490هـ - أواخر إبريل سنة 1097 ..

أين كان قلج أرسلان الأول في ذلك الوقت ؟!

إنه يجدر بنا قبل أن نعرف مكانه أن نأخذ فكرة عن شخصيته ومكانته ! إنه واحد من أهم السلاجقة في تاريخ آسيا الصغرى ، لا لشخصيته ومكانته فقط، ولكن للأحداث الضخمة التي حدثت في عهده وغيَّرت خريطة المنطقة تغييرًا جذريًّا ، إنه ابن سليمان بن قُتُلْمِش أعظم سلاجقة الروم ومؤسِّس دولتهم ، وقد ورث قلج أرسلان عن أبيه شدة البأس في القتال وحسن التخطيط في الإدارة والمعارك ؛ ولذلك إستطاع مع صغر سنِّه عند تولِّيه الحكم - فلم يزِدْ على السابعة عشرة من عمره - أن يصبح الشخصية الأولى في منطقة آسيا الصغرى بكاملها ، ومع هذه الكفاءة الإدارية والعسكرية إلا أننا لا نلمح في حياته توجهًا إسلاميًّا واضحًا ، أو رغبة حقيقية في توحيد صفِّ المسلمين ، إنما كان همُّه الأول هو توسيع الرقعة التي يحكمها، وتكثير الأتباع له؛ لذلك نجده لا يتردد كثيرًا في حرب المناوئين له ، وإن كانوا من المسلمين ، أو حتى من نفس عائلته التركية الكبرى ، أو السلجوقية نفسها ! وهذا الحب للتوسع كان أحيانًا يعمي بصره عن رؤية الأخطار على حقيقتها ، فيهمل أحيانًا خطرًا ساحقًا، ويهتم أحيانًا بمشكلة بسيطة، مما يستغرب جدًّا من رجل مثله له كفاءة معلومة كما ذكرنا ، وليس هذا إلا لأنه لم يكن - فيما يبدو لي - ينظر إلى مصلحة المسلمين، ولكن إلى مصلحته هو في المقام الأول .

أين كان إذن قلج أرسلان الأول وقت تدفق القوات الصليبية الهائلة صوب مدينة نيقية العاصمة ؟!

لقد كان خارج مدينته ، بل وعلى بُعد أكثر من تسعمائة كيلو متر إلى الشرق من المدينة ! لقد كان يحاصر مدينة ملطية ذات الكثافة الأرمينية ، حيث قام بينه وبين الزعيم المسلم غازي بن الدانشمند - وهو أحد الأتراك المسلمين الذين كانوا يحكمون شمال شرق آسيا الصغرى - نزاعٌ كبير حول ملكية هذه المدينة. وهذه الرغبة الجامحة للتوسع في مناطق جديدة جعلته لا يصرف كثير اهتمام إلى مسألة الصليبيين على خطورتها ، بل إنه عندما علم بقدوم الجيوش الصليبية مؤخرًا إلى القسطنطينية ظنَّ أنها مثل جموع العامة الذين جاءوا قبل ذلك ، ومن ثَمَّ توقع أن يقضي عليهم بفرقة من جيشه بسهولة، كما فعل مع جموع بطرس الناسك ووالتر المفلس , إضافةً إلى أنه خُدِع بمكيدة دبَّرها الإمبراطور الداهية ألكسيوس كومنين ، حيث أرسل بعض جواسيسه إلى قلج أرسلان الأول يُصوِّرون له الخلاف الذي كان بين الإمبراطور البيزنطي وزعماء الحملة الصليبية على أنه مستحكم لا حلَّ له، وبالتالي فلن يسمح الإمبراطور البيزنطي لهؤلاء الصليبيين بالعبور إلى آسيا الصغرى، وهذا الخداع خدَّر قلج أرسلان، وجعله يترك حامية صغيرة نسبيًَّا في مدينة نيقية العاصمة، ويتوجه بجيشه الرئيسي لحصار ملطية البعيدة. ومما يؤكد أنه كان مخدوعًا أنه ترك زوجته وولديه وكل أمواله وكنوزه في المدينة، ولو كان يشعر بأيِّ خطر ناحيتها ما فعل ذلك أبدًا ..

تدفقت الجيوش الصليبية الضخمة حول المدينة الحصينة ، وبدأ الحصار يوم 21 من جمادى الأولى 490هـ - 6 من مايو 1097 ، وكان الحصار من الجهات الثلاثة للمدينة بإستثناء الجهة الغربية التي كانت تطل على بحيرة طولها اثنا عشر ميلاً ، ولم يكن مع الجيوش الصليبية قوة بحرية تسمح لهم بإغلاق هذا المنفذ وبعد أسبوع من الحصار بدأ الصليبيون في قصف أسوار المدينة وأبراجها بالمجانيق التي أمدهم بها الإمبراطور البيزنطي .. صمدت المدينة في بادئ الأمر ، وبادلت الجيش الصليبي إطلاق السهام المسمومة ، وألقت عليهم الكلاليب المحمومة ، وأحدثت إصابات بالغة في الصليبيين، غير أنها لم تستطع فك الحصار , وبالتالي أرسلت رسالة عاجلة إلى قلج أرسلان تطلب النجدة السريعة ! أدرك قلج أرسلان خطورة الأمر ، فتحرك بسرعة صوب عاصمته بعد أن رفع الحصار عن ملطية ولكن طول المسافة ووعورة الطريق حالت دون وصوله بسرعة ، في هذه الأثناء أرسل الإمبراطور الداهية ألكسيوس كومنين مندوبًا سريًّا إلى داخل المدينة، وهو القائد العسكري بوميتس، ليتفاوض مع الحامية المسلمة ليسلموا له المدينة بدلاً من سقوطها في يد الصليبيين، وخوَّفهم أن الصليبيين في غاية التوحُّش، وسوف يقومون بقتل كل من في المدينة عند سقوطها. وهذا في الواقع أمر صحيح رأيناه - بعد ذلك - في بيت المقدس وغيره من المدن التي أسقطها الصليبيون .

أما لماذا حاول الإمبراطور التفاوض مع الحامية المسلمة دون علم الصليبيين ؛ فلأنه كان يتوقع الغدر منهم ، وعدم الالتزام بإتفاقية القسطنطينية التي تقضي بتسليم كل المدن التي كانت تحت سيطرة الدولة البيزنطية سابقًا إلى الإمبراطور البيزنطي حين سقوطها .. والواقع أن الحامية المسلمة بدأت تفكر في عرض الإمبراطور جديًّا ، وخاصةً أنه وعد بحفظ دماء المسلمين وعدم نهب البلد ، وحمايتها من الصليبيين .. ثم إنه أقدم على خطوة أخرى ماكرة تحقِّق المنفعة للإمبراطورية من وجهتين ؛ وهو أنه سمح عن طيب خاطر للإمدادات المسلمة أن تصل عن طريق البحرية إلى المدينة المحاصرة ، وكان قادرًا على منعها بإستخدام الأسطول البيزنطي القوي ، وإنما فعل ذلك ليقنع الصليبيين من جهة أنهم لا يستطيعون الاستغناء عنه في حروبهم ، ومن جهة أخرى لتطمئن الحامية المسلمة أنه سيفي بعهده لهم إنْ هم سلَّموا له المدينة. وبينما تفكر الحامية المسلمة في الأمر إذْ وصل قلج أرسلان الأول بجيشه ، وذلك في (490هـ - يوم 21 من مايو 1097 وإشتبك بمجرَّد وصوله مع الجيوش الصليبية لفتح طريقٍ إلى داخل المدينة ، ولكنه - للأسف - لم يستطع ، وأدرك أنه لن يفلح في فك الحصار ، بل إنه يَئِس من معركة يومٍ واحد ، وإنسحب بعيدًا ليترك مدينته تلقى مصيرها وهي واقعة بين شقي الرَّحَى : الصليبيين من ناحية ، والدولة البيزنطية من ناحية أخرى !

أكمل الإمبراطور البيزنطي لعبته بأن أخرج سفنه القوية لتمنع الإمداد البحري عن المدينة المسلمة، وبدأت المدينة تشعر بالأذى الشديد وتتوقع الهلكة القريبة ، وخفَّت مقاومتها جدًّا ، وأدرك الصليبيون أهمية الإمبراطور البيزنطي .

وأدركت الحامية المسلمة أيضًا أهمية هذا الإمبراطور الداهية، فأسرعت الحامية قبل السقوط بقبول عرض الإمبراطور الذي سعد بذلك جدًّا وأسرع بالموافقة، ومن ثَمَّ فوجئت الجيوش الصليبية بعد خمسة أسابيع من الحصار بالأَعْلام البيزنطية ترتفع فجأة على أبراج المدينة كلها، وليأتي مندوب الإمبراطور ليعلن أن المدينة أصبحت بيزنطية، وليمنع الجيوش الصليبية من دخول المدينة خوفًا من نهبها , وليوضع بوتوميتس قائدًا عسكريًّا على المدينة. وقرر الإمبراطور أن يتم عهده ويحفظ دماء المسلمين، بل إنه أعلن أنه على استعداد لإعادة زوجة قلج أرسلان وأخته وولديه إلى قلج أرسلان دون مقابل ..

أثار ذلك حنق الصليبيين وشعروا أنهم قد خُدعوا ، وغضبوا جدًّا للتسامح الذي أبداه الإمبراطور مع أهل المدينة ، وكانوا يريدونها عبرة لكل المدن ، لكنهم لم يستطيعوا فعل شيء بعد أن علموا أنهم يتعاملون مع قائد قويّ محنك صاحب خبرة طويلة ، ويقود دولة تضرب جذورها في أعماق التاريخ ..
أما الإمبراطور البيزنطي فقد حفظ وعده بالفعل ، ولا أعتقد - كما يحلِّل بعض المؤرخين - أنه فعل ذلك حبًّا في الأخلاق الحميدة ، ولكن الذي يبدو لي ويستقيم مع سيرته وقصة حياته أنه يريد أن يستغل هذه الحادثة لإيقاع بقية المدن الإسلامية في آسيا الصغرى ، فلو كانت الجيوش الصليبية تقدِّم الترهيب فهو يقدِّم الترغيب ، ولو تعاون الصليبيون مع الأرمن الكاثوليك ، فسيتعاون هو مع المسلمين ! إنها حرب المصالح ، ومباراة الاستحواذ .. والذي يثبت ذلك أنه بعد السيطرة على قونية أخذ زوجة قلج أرسلان وولديه وتوجه إلى أقاليم مسيا Mysia وأيوينا ولسيديا في غرب آسيا الصغرى ، وبدأ يساوم المدن هناك على التسليم في مقابل دمائهم ودماء زوجة قلج أرسلان وولديه .. وقد نجحت خطته وسلَّمت تلك المدن بسهولة ، وما هي إلا فترة بسيطة حتى صارت كل مدن غرب آسيا الصغرى تابعة للدولة البيزنطية , إنه كان واضحًا أن الأمة الإسلامية في طور ضعفٍ شديد ، وتتهاوى بسرعة ، وكان السباق محمومًا بين الصليبيين والدولة البيزنطية لاقتسام الميراث الضخم : ميراث المسلمين !

ومع أن سقوط نيقية كان سقوط مدينة واحدة إلا أن الآثار المترتبة على سقوطها كانت هائلة :

أولاً : ارتفعت جدًّا معنويات الجيش الصليبي ، وزالت من النفوس أزمة سحق حملة الجموع الشعبية بقيادة بطرس الناسك ووالتر المفلس ، ومن ثَمَّ ظهر التصميم عند القادة والجنود في غزو العالم الإسلامي ، على الرغم من الإصابات البالغة التي لحقت بالجيش في أثناء حصار نيقية ، أو في أثناء القتال مع قلج أرسلان ..
ثانيًا : ارتفعت جدًّا المعنويات في أوربا بعد الإحباط الذي عانت منه بعد مصيبة الحملات الشعبيَّة، وأدى هذا الارتفاع في المعنويات إلى تحميس جموع أخرى ، وبالتالي ازداد تدفق الجيوش الصليبية من أوربا إلى آسيا الصغرى والشام ، وبدأت الموانئ الإيطالية تفكر جديًّا في المشاركة في الحملات بصورة أساسية ..

ثالثًا : إرتفعت أيضًا معنويات الدولة البيزنطية ، حيث كان سقوط نيقية يمثِّل أول ثأر لكرامة الدولة البيزنطية بعد هزيمة ملاذكرد الشهيرة سنة 463هـ ، أي منذ أكثر من 27 سنة ، وهذا رفع جدًّا من أسهم الإمبراطور الداهية ألكسيوس كومنين ..

رابعًا : نتيجة إرتفاع معنويات الدولة البيزنطية تحركت بقوة مستغلِّة اضطراب السلاجقة، وبالتالي ضمت معظم أراضي غرب آسيا الصغرى إلى حوزة الإمبراطورية البيزنطية , كما بدأت الإمبراطورية في مهاجمة عدة مدن أخرى في شمال آسيا الصغرى وعلى ساحل البحر الأسود ولقد ظل غرب الأناضول بيزنطيًّا لمدة تزيد على ثلاثة قرون بعد موقعة نيقية !

خامسًا : في مقابل هذا الإرتفاع الواضح في معنويات الصليبيين والبيزنطيين على حدٍّ سواء ، كان هناك هبوط حاد في معنويات المسلمين : جيشًا وشعبًا، وقادةً وجنودًا ؛ فهذا سقوطٌ لأحصن مدن آسيا الصغرى، مما يعني أن سقوط المدن الأخرى سيكون أسهل ، ثم إن هذا إتحاد بين عملاقين كبيرين : الصليبيين الغربيين والبيزنطيين الشرقيين ، مما يعني أن الأيام الفادمة أصعب من التي مرت !

سادسًا : من الآثار المهمة لهذه الموقعة إزدياد الرواسب النفسية السيئة بين الصليبيين والبيزنطيين ، مما سيكون له أبلغ الأثر في خط سير الحملات بعد ذلك ؛ فهذا الإمبراطور يتصرف في سرية بعيدًا عن زعماء الصليبيين لمصالحه الخاصة ، وهؤلاء الزعماء يحنقون على الإمبراطور ويتوجسون منه خيفة ، وكان من الواضح أن هناك نارًا شديدة تحت الرماد ، وهذا الذي دعا الإمبراطور البيزنطي إلى الإصرار على أن يجتمع زعماء الصليبيين بعد الموقعة وقبل استكمال الغزو ، وأن يعيدوا القسم له بالتبعية والولاء، وقد فعلوا جميعًا ذلك مرغمين ، وإن كان بوهيموند قد أسرع لذلك دون تردد؛ ليستمر في كسب صداقة الإمبراطور ، غير أن ريمون الرابع أصرَّ على عدم القسم بالولاء والتبعية ولكنه كرَّر قسمه بتعظيم حياة الإمبراطور ، أيضًا لم يقسم تانكرد إبن أخت بوهيموند ، حيث لم يُقسِم من البداية مكتفيًا بقسم خاله بوهيموند ، وهذا سيكون له آثار فيما بعد على قراراته وتحركاته .

سابعًا : حدث نشاط أرمني ملحوظ نتيجة الهزيمة التي مُني بها السلاجقة ، وأيضًا نتيجة دخول الصليبيين الكاثوليك القريبين من الأرمن على عكس البيزنطيين الأرثوذكس ؛ ومن هنا سيظهر تعاون ملحوظ بين الأرمن وبين الصليبيين ، وظهرت دعوات من المدن ذات الكثافة الأرمينية تدعو الصليبيين إلى القدوم إليها ، وخاصةً في الجنوب الشرقي من آسيا الصغرى ، وهذا سيؤثر في خط سير الحملات الصليبية .

ثامنًا : عسكريًّا فإن الطريق فُتح إلى وسط آسيا الصغرى ، حيث كانت نيقية هي العقبة الكبرى في الطريق ، وبالتالي فإن فرصة الصليبيين أصبحت كبيرة للوصول إلى عمق آسيا الصغرى ، بل وبلوغ بلاد الشام ..

تاسعًا : بعد سقوط نيقية أسرع قلج أرسلان إلى مدينة قونية، واتخذها عاصمة جديدة له أو إن شئت فقل : قاعدة عسكرية جديدة له ينطلق منها في حربه ضد الصليبيين ، وهي مدينة على بُعد أربعمائة كيلو مترٍ من نيقية إلى الجنوب الشرقي منها ، وهي وإن لم تكن في نفس حصانة نيقية إلا أنها كانت حصينة أيضًا .

عاشرًا : قرر قلج أرسلان زعيم السلاجقة الروم وغازي بن الدانشمند زعيم التركمان تناسي خلافاتهما مؤقتًا ، وتشكيل جبهة متحدة لحرب الصليبيين ، وهذا الإتحاد وإن كان نقطة إيجابية إلا أنه كان هشًّا ؛ لعمق الخلافات بين الفريقين وقدمها ، ولغياب الدافع الإسلامي الواضح للوَحْدة أو للقتال ، وإنما كان إتحادهما لغرض الحفاظ على أملاكهم لا حمية للدين .

ولعلنا إن أردنا أن نحلِّل أسباب هذه الهزيمة القاسية للمسلمين ، فإننا سنلحظ بعض الأسباب التي ستتكرر في كل المواقع التي سيخسر فيها المسلمون ؛ لأن هذه سُنَّة ثابتة في كل الأزمان. ومن أهم الأسباب التي تظهر لنا :

أولاً : غياب التوجُّه الإسلامي والحميَّة الدينية عند المقاتلين المسلمين، وشتان بين مَن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ومن يقاتل من أجل مصلحته وحياته الخاصة .

ثانيًا : الصراعات المستحكمة بين المسلمين، وتفرُّق كلمتهم، والنزاع الدائر بينهم على معظم الجبهات، والله عزوجل يقول في كتابه : (وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) فالتنازع - كما هو واضح من الآية - سببٌ رئيسي من أسباب الفشل وذهاب الريح .

ثالثًا : عدم إكتراث المسلمين في الشام والعراق وشرق العالم الإسلامي ومصر بالحدث ، وترك سلاجقة آسيا الصغرى يواجهون الأمر بمفردهم ، وهذا سيكون له المردود السلبي على الجميع بعد ذلك .

رابعًا : غياب الإستعداد العسكري المناسب، حيث كانت مخابرات السلاجقة ضعيفة لم تدرك كل هذه التحركات الصليبية إلا بعد فوات الأوان ، بينما بذل الصليبيون والبيزنطيون الجهد كله في الإعداد لهذا اليوم ، ولا بد لمن بذل أن يجد نتيجةً لجهده وإعداده .

كانت هذه مجموعة من أهم الأسباب التي أدت إلى هزيمة نيقية وسقوطها ، وهي أسباب إن وجدت في أي جيل فلا شكَّ أنه سيعاني من نفس الهزيمة ، وسيقع في نفس المشكلات والأزمات .

ماذا فعل الصليبيون بعد سقوط نيقية ؟! لقد قرر الصليبيون الإنطلاق مباشرة بعد راحة أسبوع واحد ، وذلك في الإتجاه الجنوبي الشرقي صوب قونية العاصمة الجديدة لقلج أرسلان ، وقد قسَّم الصليبيون جيشَهم إلى نصفين ؛ أما النصف الأول فكان نورمانيًّا خالصًا حيث كان يضم نورمان إيطاليا ، وعلى رأسهم بوهيموند وتانكرد ، وأيضًا نورمان فرنسا بقيادة روبرت وستيفن ، وكانت الرئاسة العامة لهذا النصف مع بوهيموند ، وقد صحبت هذا القسم فرقة من الجيش البيزنطي ، عليها القائد الخبير تاتيكيوس .. أما القسم الثاني من الجيش الصليبي فكان مكوَّنًا من جنوب فرنسا بقيادة ريمون الرابع، وأيضًا جنود شمال فرنسا واللورين بقيادة جودفري، وكانت القيادة العامة في هذا القسم لريمون الرابع. وسارت الجيوش بشكل متوازٍ يفصل بينهما حوالي عشرة كيلو مترات، على أن يكون اللقاء في منطقة خرائب مدينة دوريليوم وهي على بُعد حوالي مائة كيلو متر من نيقية في اتجاه الجنوب الشرقي .

وقد إنقسم الجيش الصليبي إلى نصفين لعدة أهداف ؛ منها أن هذا أفضل في تموين الجيش حيث يعتمد الجيش على الغذاء من المحاصيل الموجودة في المزارع بالطريق ، وأيضًا يعتمد الجيش على الماء في العيون والآبار الموجودة بالمنطقة ومنها سلاسة الحركة وسرعتها حيث لا تستوعب الطرق الموجودة - مهما إتسعت - لأعداد المقاتلين الهائلة .

ومنها القضاء على جيوب فرق السلاجقة المتناثرة هنا وهناك ومنها التمويه على المخابرات السلجوقية ، حيث من الممكن أن تتصدى لأحد القسمين على اعتبار أنه الجيش بكامله، وهذا - لا شك - سيؤدِّي إلى خلل كبير في خطة القتال ، وهو ما حدث بالفعل مع هذه الجيوش العملاقة .

وصل أحد الجيشين الصليبيين - الذي كان برئاسة بوهيموند - إلى منطقة دوريليوم حيث وجد الجيش الإسلامي منتظرًا في هذه السهول والمرتفعات؛ والجيش الإسلامي كان عبارة عن جيش قلج أرسلان المتَّحِد مع جيش غازي بن الدانشمند. وكما توقع الصليبيون فقد ظنَّ الجيش الإسلامي أن جيش بوهيموند هو كل الجيش الصليبي، على الأقل في هذه المنطقة، ودارت معركة كبيرة بين الجيشين في (490هـ) 1 من يوليو 1097م، ودارت رَحَى المعركة في بداية الأمر على الجيش الصليبي، وتوقع المسلمون أن يتم لهم النصر بعد لحظات، لولا ظهور جيش ريمون الرابع وجودفري دي بوايون فجأةً واشتراكه المباشر في المعركة؛ مما أدى إلى انقلاب الأوضاع، وتبدُّل الحال، وسيطرة الصليبيين على مجريات القتال، على الرغم من إصابة بوهيموند النورماني. وما هي إلا لحظات حتى ظهر الضعف على الجيش الإسلامي، وحلت به الهزيمة المُرَّة، وانسحب قلج أرسلان بسرعة إلى داخل الأناضول، مخلِّفًا وراءه كمًّا هائلاً من المؤن والغنائم، ليتحقق للصليبيين نصر ثانٍ كبير، يُعرف في التاريخ بموقعة دوريليوم ..

وهكذا تعمقت آثار سقوط نيقية بعد هزيمة دوريليوم ، وإرتفعت معنويات الصليبيين والبيزنطيين والأرمن أكثر وأكثر ، وهبطت معنويات الجيش الإسلامي للحضيض ، حتى إنَّ قلج أرسلان ما جَرُؤ بعد ذلك على مواجهة الجيش الصليبي وجهًا لوجه ، بل إنه أخلى كل المدن والقرى التي في الطريق ، حيث واصل الصليبيون زحفهم ليتسلموا المناطق الواسعة دون قتال يُذكر ، بل الأدهى من ذلك أن الصليبيين وجدوا مدينة قونية - التي كان قلج أرسلان قد إتخذها عاصمة جديدة بعد سقوط نيقية - خاليةً تمامًا من السكان اللهم إلا بعض الأرمن ، فإحتلوها في يسرٍ، ثم تجاوزوها إلى مدينة هرقلة ، فإحتلوها أيضًا ، ثم إتجهوا إلى الشمال الشرقي ليحتلوا مدينة قيصرية ، ثم إجتازوا مجموعة من سلاسل جبال طوروس ليصلوا إلى مدينة مَرْعَش وهي مدينة غالب سكانها من الأرمن)، فإستقبلوا الصليبيين بحفاوة، وتسلَّم الصليبيون المدينة في 490هـ - 13 من أكتوبر 1097م .

ومن الجدير بالذكر أنه حتى هذه اللحظة فإن الجيوش الصليبية كانت تسلِّم الدولة البيزنطية كل ما يُفتح من المدن، وهو ما اتفق عليه قبل ذلك في اتفاقية القسطنطينية ، وإن كان من الواضح أن هذا لم يكن عن طيب خاطر، ولكن لاضطرارهم إلى الخبرة البيزنطية وآلات الحصار والأدِلاَّء ، وما إلى ذلك من وسائل مساعدة .

وكان من الواضح أيضًا أن الصليبيين سينتهزون فرصة قريبة للخروج من هيمنة الدولة البيزنطية ، فهم لم يقطعوا كل هذه المسافات، ولم ينفقوا كل هذه الأموال والأرواح حبًّا في النصارى الأرثوذكس ، أو رغبة في ردِّ كرامة الإمبراطورية البيزنطية ، إنما كان الهدف في الأساس هو الامتلاك الشخصي لكل أمير من أمراء الحملة ، والتمتُّع بثروات الشرق ، وهذا ما سيظهر في الخطوات القادمة من حركة الحملة الصليبية .
ولعل أول مظاهر هذه الرغبة التوسعية ظهرت عندما انفصل تانكرد النورماني ابن أخت بوهيموند، ومعه بلدوين أخو جودفري بوايون، ليقوما بغزو إقليم قليقية صاحب الكثافة الأرمينية ، وكانت بداية انفصال هاتين السريتين من جيش الصليبيين في 490هـ - 14 من سبتمبر 1097م، وتوجها مباشرةً إلى مدينة طرسوس وذلك في (490هـ - 21 من سبتمبر 1097 .
وكانت سرية تانكرد أسرع في الوصول إلى مدينة طرسوس ، وإشتبكت في صراع مع الحامية التركيَّة في داخل المدينة، وصبرت الحامية التركية لولا ظهور جيش بلدوين، فأدركت الحامية أن الأمل ضعيف في المقاومة ، لذلك أخلت المدينة ودخلها تانكرد أولاً، ورفع أعلامه عليها متناسيًا إتفاقية القسطنطينية التي تقضي بتسليم المدينة إلى الإمبراطورية البيزنطية ، وإستقبله السكان الأرمن بالترحاب ولكن بلدوين لم يعجبه هذا الأمر فثار وغضب ، وكاد يدخل في صراعٍ مع تانكرد، ولم يكن غضبه لصالح الدولة البيزنطية بالطبع ، وإنما كان غضبه لنفسه؛ فقد كان يريد المدينة له لا لتانكرد .. وفي النهاية قَبِل تانكرد أن يترك المدينة لبلدوين ، وإتجه هو إلى مدينة أخرى هي موبسواسطيه ، ورفع بلدوين أعلامه على المدينة طامعًا أن تكون ملكًا شخصيًّا له ..

وفي هذه الأثناء حدث أمران غيَّرا من سير الأحداث في منطقة طرسوس؛ أما الأمر الأول فهو أن بوهيموند كان قد أرسل ثلاثمائة من الجنود نجدةً إلى تانكرد ابن أخته، فوصل هؤلاء الجنود ليلاً إلى مدينة طرسوس، فوجدوا أن تانكرد قد غادرها، والمدينة أصبحت بيد بلدوين، فطلبوا المبيت إلى الصباح في داخل المدينة، ولكن بلدوين رفض دخولهم وأجبرهم على المبيت خارج المدينة، فناموا في العراء فدهمتهم فرقة من الأتراك وأبادوهم عن آخرهم ووصل هذا الأمر إلى الجيوش الصليبية، فحنقت أشد الحنق على بلدوين الذي كان سببًا في هلاك هذه الفرقة ..
وأما الأمر الثاني فهو أن أحد الأرمن المقرَّبين من بلدوين نصحه أن يترك هذه المدينة المحدودة، ويتجه إلى مدينة الرها على شاطئ الفرات؛ لأنها أخصب وأوسع وأعظم كثيرًا من طرسوس.
طمع بلدوين في نصيحة الأرمني، وترك المدينة متجهًا ناحية الشرق، وفي الطريق وجد تانكرد على أبواب مدينة موبسواسطيه، فدار بينهما قتال بسبب الفرقة الإيطالية التي هلكت خارج أسوار طرسوس ، ثم تصالحا في النهاية وأكملا الطريق لملاقاة الجيش الصليبي الرئيسي المتجه إلى أنطاكية.
ولكن عند وصولهم إلى الجيش الصليبي اجتمع زعماء الحملة الصليبية على لوم وتقريع بلدوين بما فيهم أخوه جودفري بوايون، واستغل بلدوين هذا اللوم والعتاب ليغضب وينسحب بجيشه من الجيوش الصليبية الرئيسية متجهًا ناحية الرها في الشرق ، متناسيًا تمامًا قصة بيت المقدس والحجيج النصارى ، فلم يكن له همٌّ إلا تأسيس مملكة خاصَّة به ، وإن كانت بعيدة كل البعد عن بيت المقدس وطريق الحجيج .

وبالفعل خرج بلدوين من الجيش واتجه إلى الرها، وفي الطريق سلَّمت له كل المدن دون قتال، وغالبية سكانها كانت من الأرمن، ثم وصل إلى الرها، وإستقبله أهلها الأرمن بالترحاب، وكان هذا على غير رغبة أميرها اليوناني ثوروس Thoros ، الذي كان يدفع الجزية قبل ذلك للمسلمين وكان يأمل أن يستقلَّ بالمدينة لنفسه ليصبح تابعًا للدولة البيزنطية لا لبلدوين ، غير أن الأمير تعامل مع الأمر في واقعية، وقرر أن يأخذ حلاًّ وسطًا، وهو أن يعرض على بلدوين أن يصبح بمنزلة ابنه - وكان هذا الأمير مسنًّا - ومن ثَمَّ يُصبح الوريث الشرعي له على مدينة الرها وما حولها من مدن وقرى ، وهي منطقة غنية خصبة ، فوافق بلدوين على ذلك، ودخل المدينة ، ثم إنه اتفق مع بعض الأرمن في المدينة على الغدر بثوروس ، وبالفعل قتلوه ، ليتسلم بلدوين مقاليد الحكم في المدينة ، وليؤسِّس أول إمارة صليبية في العالم الإسلامي ، وهي إمارة الرها ، وذلك في 491هـ - مارس سنة 1098 ..

ولما كانت الحامية الصليبية في منطقة الرها صغيرة ، والشعب بكامله من الأرمن تقريبًا، فقد إتخذ بلدوين عدة خطوات لتثبيت أركان إمارته ، وعدم السماح بحدوث قلاقل أو إضطرابات .. كان من هذه الخطوات التزاوج بين الصليبيين الغربيين والأرمن، وبدأ بلدوين بنفسه حيث تزوج من الأميرة الأرمينية أردا Arda ، وهي إبنة أحد زعماء الأرمن ..

وكان من هذه الخطوات أيضًا توسيع رقعة إمارة الرها ، وذلك على حساب العدو اللدود للأرمن وهم الأتراك، فاتجه بجيش مشترك من الصليبيين والأرمن إلى مدينة سُمَيْساط، وهي على بُعد مسيرة يوم من الرها (45 كيلو مترًا شرقي الرها)، وكان على رأسها أحد السلاجقة الأتراك، الذي أدرك من الوهلة الأولى أنْ لا طاقة له بحرب الجيش الصليبي الأرمني، وخاصةً بعد الهزائم المتتالية للسلاجقة في آسيا الصغرى، وعدم اهتمام سلاجقة فارس أو الشام بالأمر حتى هذه اللحظة، وهذا الإحباط دفعه إلى فعل شنيع؛ إذ طلب من بلدوين أن يقبل بشراء سميساط بالمال، ويوفِّر على نفسه القتال والحرب، وطلب الأمير التركي مبلغ عشرة آلاف دينار ذهب مقابل تسليم المدينة بشعبها، ووافق بلدوين على الفور، فقد كانت خزينة الزعيم الراحل ثوروس مليئة بالأموال، ودفع المبلغ المطلوب، وتسلَّم المدينة المسلمة دون قتال !! ولا شك أن وجود مثل هؤلاء القادة المفرطين، والبائعين لكل شيء في مقابل المال كتفسيرٍ واضح لهذا الاجتياح الصليبي للبلاد المسلمة !! ولم يكتف بلدوين بضم سميساط ولكن أتبعها بعد ذلك بضم سروج ثم البيرة لتتسع رقعة إمارة الرها ، وتصبح مُرضيَّة لغرور الأمير الفرنسي بلدوين .

ومن خطوات بلدوين أيضًا لتثبيت أقدامه في إمارة الرها أنه كان حريصًا عند ضم المدن الإسلامية أن يحرِّر الأسرى الأرمن من السجون التركية، وخاصة في سميساط ، وإرجاع هؤلاء الأسرى إلى عائلتهم الأرمينية دون مقابل ؛ مما أكسبه مودة الشعب الأرمني وتعاطفه .
وكان من الخطوات الرئيسية التي إتخذها بلدوين أنه أنكر تبعيته للإمبراطور البيزنطي، وتحلَّل صراحةً من اتفاقية القسطنطينية ، وضرب بهذا عصفورين بحجر واحد ؛ فهو حقق أحلامه بتكوين إمارة يصبح هو القائد الوحيد لها دون تبعيته لأحد، ثم إنه أرضى الشعب الأرمني جدًّا حيث إن الأرمن المتعصبين لمذهبهم كان يحنقون بشدة على المذهب الأرثوذكسي .. والجدير بالذكر أن المذهب الأرمني أقرب إلى الكنيسة الغربية منه إلى الأرثوذكس، ولكنه ليس متطابقًا معها ، ومع ذلك فقد سمح بلدوين بالحرية العقائدية في إمارة الرها، ولم يضغط مطلقًا على الأرمن لتقليد المذهب الكاثوليكي الغربي ، ولا شكَّ أن هذا وافق قبولاً عامًّا عند الشعب الأرمني ..

أما بالنسبة للإمبراطور البيزنطي فإنه لم يستطع أن يفعل شيئًا ؛ لأن الرها كانت بعيدة عن مركز قوته، وكان تركيزه الأساسي على غرب آسيا الصغرى ، ومدن منطقة قليقية ، وعلى رأسها طرسوس وأذنة والمصيصة ، كما كان مشغولاً جدًّا بأمر مدينة أنطاكية المهمة، التي يتجه إليها الجيش الصليبي الآن ..

أما بالنسبة لبلدوين فإنه لم يكتف بقبول الشعب الأرمني له ، فإنه يدرك كقائد محنك أن هؤلاء ما استقبلوه بالترحاب إلا هربًا من التبعية البيزنطية من ناحية، وهربًا من السيطرة التركية من ناحية أخرى ، وأنهم متى توفرت لهم القوة فسوف يستقلون بحكمهم ، ويطردون بلدوين وجيشه ؛ لذلك بدأ بلدوين يسعى في تغيير التركيبة السكانية في إمارة الرها لصالح الصليبيين، ففعل مثلما يفعل اليهود الآن في فلسطين ، حيث بدأ يرسل إلى أوربا يستقدم الصليبيين الغربيين ، وخاصة من فرنسا للقدوم والاستيطان الكامل في إمارة الرها، فهو لم يكن يستقدم الجنود المرتزقة، ولكن كان يستقدم العائلات الأوربية برجالها ونسائها وأطفالها، وكان يستقدم أيضًا أصحاب الوجاهة والأمراء في مقابل مبالغ مالية كبيرة من المال، وإغراءات كثيرة تشمل إعطاء إقطاعيات خارج أسوار مدينة الرها تبلغ مساحات كبيرة. وهكذا حوَّل بلدوين إمارة الرها إلى قطعة من الغرب الأوربي ، فيها النظام الإقطاعي المعروف هناك ، حيث صار الصليبيون على رءوس الإقطاعيات، بينما الأرمن يعملون في الزراعة والتجارة تحت الهيمنة الصليبية .

ولا شك أن هذه الأوضاع أثارت بعض الأرمن ، فقاموا ببعض الثورات على حكم بلدوين ، ولكن بلدوين قابلها بقسوة بالغة وبردعٍ صارم ؛ مما أدى إلى هدوء الأوضاع بعد ذلك في الإمارة بكاملها .

وهكذا بالترغيب والترهيب ، والتواصل مع الشعب الأرمني، والتعاون الوثيق مع نصارى غرب أوربا إستطاع بلدوين أن يتمكن من حكم هذه الإمارة في عمق العالم الإسلامي ، وكانت هذه الإمارة هي حاجز الصدِّ الأول ضد سلاجقة فارس وشرق العالم الإسلامي لوقوعها في الطريق بينهم وبين منطقة الشام وبيت المقدس ، حيث ستكون هناك بقية الإمارات والممالك الصليبية ، وهي لكونها قريبة جدًّا من إمارة الموصل وديار بكر والجزيرة - وهي مناطق إسلامية صرفة من ناحية التركيبة السكانية ، فإنها كانت أشد الإمارات الصليبية إيذاءً للمسلمين ، غير أنها من الناحية الأخرى كانت أضعف الإمارات الصليبية لبُعدها عن بقيَّة الإمارات الصليبية في الشام ، ولعدم قدرتها على الإفادة من الأساطيل الإيطالية في البحر الأبيض المتوسط ولكونها تحكم شعبًا من الأرمن له أطماعه الخاصة، ثم لقربها من الموصل التي ستشهد - مستقبلاً - نهضةً إسلامية جهادية سيكون لها أثرٌ في حياة إمارة الرها .

ولنعُدْ بعد هذه الرحلة في مدينة الرها وما حولها إلى الجيوش الصليبية، وهي تقطع الطرق الوعرة في آسيا الصغرى من خلال طبيعة الجبال القاسية، وندرة الماء في بعض الأماكن، وحدوث ما يمكن أن نسمِّيه بحرب العصابات من الأتراك المتفرقين هنا وهناك، إلا أنهم في النهاية وصلوا إلى المدينة المهمة جدًّا : مدينة أنطاكية، وكان وصولهم هذا في - 490هـ , 21 من أكتوبر 1097 .

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 04-03-14, 04:30 AM

  رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

حصار أنطاكية

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة


تُعَدُّ مدينة أنطاكية من أهم المدن في منطقة الشام وآسيا الصغرى ، بل لا نبالغ إن قلنا أنها كانت من أهم مدن العالم القديم بأسره ، وذلك لمميزات خاصَّة تفوقت بها هذه المدينة على غيرها .


فهي أولاً : مدينة رئيسية منذ قديم الزمان ، كانت تتخذها الدولة البيزنطية قديمًا عاصمة لمنطقة الشام بكاملها ولعدة قرون .

وثانيًا : هي مدينة دينية من الطراز الأول، حيث يعظِّم النصارى شأنها جدًّا ، فهي أول مدينة أطلق فيها على أتباع المسيح إسم المسيحيين ، وذلك كما جاء في سِفْر أعمال الرسل : ودُعي التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولاً , وفي هذه المدينة أسَّس القديس بطرس أول أسقفية له .

وثالثًا : وصل الفتح الإسلامي إلى هذه المدينة مبكرًا جدًّا ، ففتحت بالإسلام في سنة (15هـ) 636م على يد المجاهد الجليل أبي عبيدة بن الجراح ، فهي إسلامية منذ أكثر من 460 سنة .

ويرجع الفضل في تحويلها إلى منطقة إسلامية واضحة المعالم إلى الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان ، الذي لاحظ تكرار الهجمات البيزنطية على هذه المدينة بالذات ، فقرر أن يُعطِي فيها وحَوْلها إقطاعاتٍ ضخمة لمن ينتقل إليها من المسلمين ؛ فرحل إليها المسلمون من دمشق وحمص ولبنان ، بل ومن العراق ، ليستوطنوا في هذه المنطقة ، وبالتالي تغيرت التركيبة السكانية في المنطقة لصالح المسلمين ، وصارت المدينة إسلامية آمنة ، خاصةً بعد تثبيت الأقدام الإسلامية في المدن التي تقع في شمالها مثل مرعش وطرسوس وملطية وغيرها .

ورابعًا : فهذه المدينة صاحبة تاريخٍ تجاريٍّ عظيم ، فهي من أهم المراكز الاقتصادية في المنطقة ، بل إنها كانت من مراكز التبادل التجاري المشهورة بين الدولة الإسلامية والدولة البيزنطية في الفترات التي كان السِّلم يغلب فيها على العَلاقة بين الدولتين .

وخامسًا : تُعَدُّ هذه المدينة من أحصن مدن الشام ، بل من أحصن مدن العالم آنذاك ، وكانوا يقارنون حصانتها بحصانة القسطنطينية أحصن مدن العالم القديم ..

ولعلنا إذا نظرنا نظرة سريعة إلى جغرافيتها ندرك مدى الحصانة الطبيعية التي وهبها الله عزوجل لهذه المدينة ، فضلاً عن القلاع والحصون ؛ فالمدينة محاطة بالجبال العالية من جهتي الجنوب والشرق ، ويحدها من الغرب نهر العاصي ، وهي محاطة أيضًا من الشمال بمستنقعات وأحراش .. وفوق هذه الحماية الطبيعية فهي محاطة بأسوارٍ عالية من كل جانب ، وعلى هذه الأسوار ثلاثمائة وستون برجًا للمراقبة وإطلاق السهام والرماح والقذائف المشتعلة ، فضلاً عن قلعة حصينة جدًّا من الصعب أن تُقتحم !

سادسًا : تقع هذه المدينة على أول طريق الشام للقادمين من آسيا الصغرى ، وعلى ذلك فسقوطها يعني فتح الطريق للشام ، كما أن بقاءها بما فيها من جنود و حامية يجعل تجاوزها دون إسقاط أمرًا في غاية الخطورة ؛ لذلك لم يكن هناك بُدٌّ للصليبيين من التوقف أمامها .

سابعًا
: هذه المدينة وإن كانت مدينة داخلية غير ساحلية إلا أنها على مقربة جدًّا من البحر الأبيض المتوسط وموانئ السويدية واللاذقية ، مما يجعل وصول المؤن إليها عن طريق البحر أمرًا ممكنًا بل ميسورًا .

ثامنًا : التركيبة السكانية في داخل أنطاكية كان لها طابع خاص جدًّا ، فعلى الرغم من قدم توطُّن المسلمين فيها إلا أنه كان بها أعدادٌ كبيرة من النصارى الأرثوذكس ، وأيضًا من النصارى الأرمن ؛ وذلك للأهمية الدينية لهذه المدينة عندهم ، وقد عاشوا قرونًا طويلة مع المسلمين في هذه المدينة في تعايش جميل ، لم يعكر صفوه على مدار السنين فتنة طائفية ولا إضطهاد عنصري .

تاسعًا : التاريخ القريب لهذه المدينة شهد بعض التغيرات التي أضافت بعض التعقيدات إلى القصة، فهذه المدينة سقطت في أيدي الدولة البيزنطية في (358هـ) أول نوفمبر سنة 969م ، في عهد الإمبراطور نقفور فوقاس ، وأحدث سقوطها دويًّا هائلاً في العالمين الإسلامي والمسيحي، فهي وقت سقوطها كان قد مرَّ عليها أكثر من ثلاثة قرون بأيدي المسلمين ، وهي في نفس الوقت المدينة الدينية المعظَّمة عند عموم العالم المسيحي بشقيه الأرثوذكسي والكاثوليكي ، كما أن الدولة البيزنطية بعد سقوطها قتلت الكثير من أهلها ، وأخرجت الباقي ، وهجَّرتهم خارجها ، وإستقدمت جموعًا هائلة من المسيحيين ليعيشوا فيها ، وظل الوضع على هذه الصورة إلى العقد الثامن من القرن الحادي عشر ، أي بعد موقعة ملاذكرد الشهيرة سنة (463هـ) 1071م ؛ حيث شهدت منطقة أنطاكية هجرة مزدوجة من السلاجقة والأرمن ، مما أدى إلى تغيُّر الخريطة السكانية من جديد ، بل إن العنصر الأرمني غلب على التوزيعة الجديدة .. وقد أدى الانهيار البيزنطي أمام السلاجقة إلى سعي الدولة البيزنطية إلى التعاون مع الأرمن - على كراهيتها لهم - لمقاومة السلاجقة ؛ وهذا أدى إلى رسوخ قدم أكبر في المنطقة ، بل تطاول الأرمن أكثر وأكثر ، وخرجوا عن تبعية الدولة البيزنطية ، وحاصر أحد أكبر قادتهم وهو فيلاريتوس مدينة الرها ، وإستولى عليها من البيزنطيين، وذلك في سنة (469هـ) 1077م ، ثم في السنة التالية مباشرة (470هـ) 1078م إستطاع فيلاريتوس أن يستولي على أنطاكية ذاتها بعد قتل آخر حاكم بيزنطي لها ..

غير أن الأرمن لم يحكموا أنطاكية إلا سبع سنوات فقط ، حيث سقطت في يد سليمان بن قُتلمش مؤسِّس دولة سلاجقة الروم ، وذلك في سنة (477هـ) 1085م ، ليبدأ فيها حكمًا إسلاميًّا من جديد بعد غياب 119 سنة متصلة , ومن جديد بدأ السلاجقة وعموم المسلمين يتزايدون في المدينة ، وذلك جنبًا إلى جنب مع النصارى الأرثوذكس على أَتْباع المذهب البيزنطي ، والأرمن الذين تكاثروا في السنوات الأخيرة ؛ وهذا التاريخ القريب - كما نرى - أعطى تعقيدًا واضحًا للموقف ، فأنطاكية متنازعٌ عليها بوضوح من الطوائف الثلاثة : المسلمين بقيادة السلاجقة ، والدولة البيزنطية والأرمن ، إضافةً إلى القوة الجديدة القادمة من أوربا الغربية !

عاشرًا وأخيرًا : أنطاكية بالذات حلم كبير في ذهن بوهيموند ، الزعيم النورماندي الشرس , فهو لا ينسى أنها كانت أُمْنيَّة أبيه روبرت جويسكارد زعيم النورمان الإيطاليين الشهير، وأن أباه أرسل جيشًا قبل ذلك بسبعة عشر عامًا ، وبالتحديد في سنة (473هـ) 1081م لإسقاط أنطاكية ، وكان على رأس هذا الجيش بوهيموند نفسه ، ولكن هذا الجيش فشل في إسقاط المدينة الحصينة ، والفشل في عُرْف هؤلاء القراصنة عار كبير، فهم لا يعيشون إلا على السلب والنهب والسرقة والقنص ؛ ولذلك فإن بوهيموند لم ينس أنطاكية أبدًا ، ويأخذ القضية كثأر قديم ، ويضحِّي بكل شيء من أجل إستحواذها ، وليس في ذهنه دين ولا صليب ، ولا يتحرك قلبه لقدس أو حجيج ، ولا يخشى في ذلك إمبراطور الدولة البيزنطية الذي تظاهر بالصداقة له ، ولا زعماء الحملة الصليبية الذين يصاحبونه في هذه العمليات الإجرامية , إن المسألة عنده مسألة شخصيَّة تمامًا ، وسيبيع كل شيء ويشتري أنطاكية !

هذه أمور عشرة جعلت قضية أنطاكية قضية معقدة جدًّا ، وهي محطُّ أنظار الجميع ، وعليها سيكون التنافس بين كل القوى الموجودة في المنطقة .

- مَن الذي يحكم أنطاكية في ذلك الوقت؟

كان يحكمها أحد العسكريين التركمان الأشداء ، وهو ياغي سيان ومن خلال إستعراض قصته سنجد أنه كان من الزعماء السياسيين والعسكريين المتميزين ، وكانت له حكمة بالغة في التراتيب الإدارية ، والمواقف السياسية ، والقتال الحربي ، وإن لم يكن متحليًا بالأخلاق الإسلامية الرفيعة ، فليس عنده مبدأ معين فقد يصادق إنسانًا ويعاديه في يوم آخر لتعارض المصالح ، وهو في قتاله لا يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، ولكن يقاتل من أجل حب البقاء ، وحب التملك والسيطرة ، وحب الكرسيِّ ، وما إلى ذلك من أمور الدنيا .

وهذه النوعية من الحكام - مع كفاءَتها السياسيَّة والعسكريَّة - لا تصلح للحفاظ على هيبة المسلمين طويلاً ، فهم - لا شكَّ - يسقطون وتسقط معهم الشعوب التي قبلت بهم، وتسقط كذلك المدن والدول التي يحكمونها , إن النصر في المفهوم الإسلامي لا يكون إلا من عند الله ، والله لا ينصر إلا من نصره، يقول تعالى : إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ .. ويقول أيضًا : وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ .

وهذا الذي لم يضع نصر الله في حساباته لا ينصره الله أبدًا، وإن قعد في كرسيِّه عشرات السنين ، وإن تعلَّم علوم الحرب والسياسة، وفَقِه في أمور القيادة والإدارة .

ولعلنا إذا راجعنا قصة ياغي سيان نفهم طبيعته ، ومن ثَمَّ نفهم قصة حصار أنطاكية ,
لقد كان ياغي سيان قائدًا من القوَّاد المهرة للسلطان السلجوقي الشهير ملكشاه بن ألب أرسلان الذي قاد دولة السلاجقة العظام ، وهي التي كانت تسيطر على فارس والعراق وأجزاء من الشام من سنة 464هـ إلى سنة 485هـ (من 1072 إلى 1092م) ، وكان أخو ملكشاه وهو تتش بن ألب أرسلان يحكم الشام ، وحدث قتال بين تتش وسليمان بن قتلمش زعيم سلاجقة الروم الذي حرَّر أنطاكية بعد إحتلال دام 119 سنة من الدولة البيزنطية ، وذلك في سنة (477هـ) 1085م، وكانت نتيجة قتال تتش وسليمان أن قُتل سليمان ، وذلك في سنة (478هـ) 1086م، وهكذا صارت أنطاكية من أملاك تتش ، غير أن ملكشاه نزع أنطاكية من ملك أخيه وأعطاها إلى ياغي سيان ، وذلك في سنة (479هـ) 1087م وهذا - لا شك - أوغر صدر تتش تجاه ياغي سيان ، ولكن قوَّة ملكشاه منعت تتش من إتخاذ أي موقف تجاه ياغي سيان ، ومرت السنوات ومات ملكشاه في سنة (484هـ) 1092م ، أي بعد خمس سنوات من ولاية ياغي سيان على أنطاكية ، ومع أننا توقعنا صدامًا قويًّا بين تتش وياغي سيان على أنطاكية ، إلا أن ياغي سيان إستطاع بحكمته وسياسته أن يتقرب إلى تتش مما جعله يُقِرُّه على أنطاكية ، بل وبدأ ياغي سيان يخطب لتتش في أنطاكية , ثم إشترك ياغي سيان مع تتش في حرب بركياروق بن ملكشاه إبن أخي تتش ! وإنخذل ياغي سيان أثناء القتال ؛ مما أدى إلى هزيمة تتش وقتله في سنة (488هـ) 1095م ، ليعود ياغي سيان إلى حكم أنطاكية منفردًا ، ويتولى أولاد تتش حكم الشام بالتقاسم ، فيأخذ رضوان بن تتش حلب ، ويأخذ دقاق بن تتش دمشق ..

وكعادة هذا الزمان دار الصراع بين الإخوة بغية التوسع والتملك ، وأسرع كل زعيم يضم إليه ما حوله من مدن، وطمع رضوان زعيم حلب في أنطاكية القريبة ، فحدث بينه وبين ياغي سيان شقاق وصراع ، إنتصر فيه ياغي سيان وبقي محتفظًا بأنطاكية ، ثم دارت حرب مباشرة بين رضوان زعيم حلب ودقاق أخيه زعيم دمشق وذلك في سنة (489هـ) 1096م ، وللعجب الشديد فإن ياغي سيان إنضم إلى رضوان ! وحاول رضوان احتلال دمشق ولكنه فشل في ذلك , ثم مرت الأيام وأراد دقاق أن يغزو حلب ، فإنضم ياغي سيان في هذه المرة إلى دقاق في الحرب ضد رضوان ، غير أنهم لم يتمكنوا من غزو حلب !

إنه كان يعيش حياة الجنود المرتزقة الذين يقاتلون في جيشٍ بغية درهم أو دينار ، فإذا دفع الطرف الآخر أكثر إنضم إليه ونسي ولاءَه الأول .

إنَّ هذه القصة لا تعطينا فقط انطباعًا عن طبيعة حاكم أنطاكية ياغي سيان ، بل تعطينا إنطباعًا أوسع وأشمل عن طبيعة ذلك الزمن بأسره ، فهؤلاء هم الحكام في منطقة الشام يوم غزو الجيوش الصليبية .

وليست المشكلة في الحكام فقط، فهؤلاء الزعماء لا يقاتلون بمفردهم في الحروب ، إنما يقاتلون بجيوش ، ومن وراء الجيوش شعوب ، ولا شك أن هذه الجيوش التي لا تعرف لها قضية، وهذه الشعوب التافهة المغيَّبة تستحق ما يحدث لها من نكبات وأزمات .

وهكذا عندما جاءت الجيوش الصليبية حول أنطاكية في أكتوبر سنة (460هـ) 1097م ، كان ياغي سيان حاكمًا للمدينة منذ عشر سنوات كاملة ، وعلى خلاف وشقاق كبير مع أقرب المدن إليه وهي حلب ، والعلاقة بينه وبين المدن الأخرى عَلاقات فاترة لا تقوم إلا على المصالح والمنافع الدنيوية ,, وجاء الصليبيون بحدِّهم وحديدهم ! وأحكموا قبضتهم حول المدينة !

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

وقف الجيش النورماني الإيطالي بقيادة بوهيموند أمام الجهة الشمالية للمدينة عند باب بولس، ووقف جيش جودفري بوايون في الجهة الشمالية الغربية في مواجهة باب الجنينة ، ووقفت بقية الجيوش وعلى رأسها روبرت وستيفن وهيو والأمير ريمون الرابع كلهم من الناحية الغربية أمام باب الكلـــب , وكما ذكرنا قبل ذلك فإن الناحية الشرقية والجنوبية كانت محاطة بالجبال العالية ؛ ولذلك لم يكن عندها جيوش ..

وغني عن البيان أن الدولة البيزنطية كانت تشارك في هذا الحصار بسرية بيزنطية على رأسها قائد محترف هو تاتيكيوس Tatikios ؛ وذلك لكي يحفظ حق الدولة البيزنطية في المدينة بعد سقوطها .

وكان بالمدينة - كما مرَّ بنا - عددٌ كبير من النصارى الأرثوذكس والأرمن ؛ تقول الرواية اللاتينية أنهم خرجوا من المدينة بمجرَّد قدوم الجيوش الصليبية ، وأمدوهم بأسرار كثيرة عن مداخل المدينة ومخارجها ووسائل الدفاع وكميات المؤن وأعداد المقاتلين ، وما إلى ذلك من معلومات تسهِّل فتح المدينة ..

وكان ياغي سيان قد أعدَّ المؤن الكثيرة التي تكفي الحياة المدنية لمدة طويلة من الزمن وكذلك إستعد الصليبيون بكميات من المؤن جمعوها من القرى المجاورة عن طريق السلب والنهب ، كما وصل إلى ميناء السويدية عند مصب نهر العاصي - وهو ميناء قريب جدًّا من أنطاكية - أسطولٌ جنويٌّ يحمل إمدادات مهمة للصليبيين ..

وفوق ذلك فميناء اللاذقية القريب أيضًا كان قد وقع تحت سيطرة القرصان البولوني ونمار ، وكان يمد الصليبيين بما يحتاجونه من مؤن , وهكذا أغلق الصليبيون الطرق المؤدية إلى أنطاكية وسيطروا على الموانئ الغربية ، ولم يعد أمام المسلمين المحاصَرين إلا ما هو داخل المدينة من مؤن وسلاح .

ومن داخل المدينة المحاصَرة أرسل ياغي سيان رسائل تطلب النجدة من زعماء الإمارات الإسلامية المجاورة وما من شك أنه لم يستطع أن يرسل رسالة إلى رضوان أمير حلب نظرًا للخيانة القريبة التي فعلها ياغي سيان بإنضمامه إلى دقاق بعد أن كان محالفًا لرضوان ؛ لذلك أرسل ياغي سيان إلى دقاق ملك دمشق ، وجناح الدولة أمير حمص ، وهما يقعان على بُعد أكثر من مائة وأربعين كيلو مترًا من المدينة ، بل إنه أرسل إلى كربوغا أمير الموصل التي تقع على بُعد سبعمائة كيلو متر ، وكذلك إلى بركياروق سلطان سلاجقة فارس وهو أبعد وأبعد ، ولم يتمكَّن كما ذكرنا من طلب المساعدة من حلب التي تقع على مسافة أقل من ستين كيلو مترًا من أنطاكية !!

ومرت الأيام ثقيلة على الطرفين ؛ فالمدينة المحاصَرة لا يصل إليها أي إمداد خارجي ، وكذلك الصليبيون يمرون بأزمة واضحة ؛ إذ إن الجيوش هائلة ، والمؤن ليست كافية في هذه المنطقة المحدودة ، وهم لا يستطيعون الابتعاد كثيرًا عن أنطاكية؛ لكي لا يعطوا فرصة للمحاصَرين أن يخرجوا , وقد حدث ذات مرة أن إبتعدت بعض الجيوش الصليبية للإغارة على بعض القرى ، فخرج ياغي سيان لقتال الجيوش المتبقية ، وكاد ينتصر عليهم لولا مهارة بوهيموند وسيطرته على الموقف حتى عودة بقية الجيوش ..

وهكذا صار الحصار صعبًا على الصليبيين كما كان صعبًا على المسلمين ، غير أنه كان على الصليبيين أشق وأصعب ، وخاصةً أن الحصار بدأ في (490هـ) 21 من أكتوبر 1097م ، وقد دخلت الأشهر الباردة ، وهم في العراء يعانون الجوع والبرد .

وبعد مرور أكثر من شهرين على الحصار جاءت نجدة إسلامية من دمشق على رأسها دقاق السلجوقي ، ومن حمص وعلى رأسها جناح الدولة حسين بن ملاعب ، وإلتقوا مع الجيش الصليبي في منطقة جنوب أنطاكية عند البارة في آخر ديسمبر (490هـ) 1097م ، وكان الجيش الصليبي يبحث في هذا المكان عن إمدادات غذائية ، ودارت معركة ظهر فيها تفوق المسلمين وإن لم يحقِّقوا نصرًا حاسمًا ، ومع ذلك فقد قرر دقاق الانسحاب والعودة إلى دمشق ليؤمِّن مدينته ، ويدرس الموقف من جديد! وفي هذه الأثناء أرسل له الصليبيون رسالة يسكِّنونه فيها ويخدِّرونه ، إذ قالوا له أنهم ما جاءوا إلى هذه المناطق إلا لتحرير المدن الشمالية التي كانت ملكًا للدولة البيزنطية مثل الرها وأنطاكية ، وأنهم ليس لهم حاجة في دمشق ما دامت لا تقاتلهم وقد أقنعت هذه الكلمات دقاق فترك أنطاكية تواجه مصيرها ، وسكن في مدينته ..

وهكذا عاد الموقف صعبًا من جديد ، ولكن مع بدايات السنة الميلادية الجديدة ودخول شهر يناير (491هـ) 1098م ، وإشتداد البرد وقلة الزاد بدأت الأزمة تتفاقم جدًّا في المعسكر الصليبي ، بل نشأت الفوضى بين الجند ، وظهرت الاعتراضات هنا وهناك , بل ظهرت دعوات بفك الحصار ، بل وأشد من ذلك بدأت تظهر حالات هروب من المنطقة بكاملها ، وكانت المفاجأة أنه كان على رأس الهاربين بطرس الناسك الذي كان يُجمِّع الجيوش في فرنسا قبل ذلك ، مما يؤكِّد عدم وجود البُعد الديني تمامًا في رؤيته ، ولقد جدَّ تانكرد في إثره حتى عثر عليه وهو في طريقه للقسطنطينية ، وأجبره على العودة للبقاء مع الجيش الصليبي ، وكانت عودته عودة مخزية مشينة ، وضَّحت أهداف الحملة الصليبية تمامًا .

كان بوهيموند النورماني يرقب كل هذه الأوضاع ، ويحاول أن يوظِّف الظروف لخدمة مآربه الخاصة، ومطامعه الكبيرة في الحصول على أنطاكية لصالحه هو ، وكان يعلم أن الأمراء الصليبيين سينافسونه فيها ، كما أن صديقه الإمبراطور البيزنطي لن يسمح له بأخذ أنطاكية ، التي تعتبر من أهم المطامع البيزنطية في المنطقة , فماذا يفعل بوهيموند إزاء هذا الوضع ؟!


لقد كان داهيةً على أعلى مستوى ، وكان ماكرًا إلى أبعد حدود المكر !


لقد أعلن بوهيموند - وهم في هذه المرحلة الحرجة من الحصار - أنه ما عاد يطيق البقاء في هذه الظروف، وأن عنده ارتباطات كبيرة خاصَّة بمملكته في إيطاليا ، ومن ثَمَّ فهو سيسحب جيشه من الحصار ، ويقفل راجعًا إلى إيطاليا ..

لقد كانت هذه كارثة بالنسبة للجيوش الصليبية ! فالجميع يعلم أن أقوى الفرق مطلقًا هي فرقة بوهيموند ، ولعله هو أمهر القادة وأقدرهم على وضع الخطط الحربية وأصبرهم على القتال، وعودة بوهيموند إلى إيطاليا كانت تعني بالنسبة لهم فشل الحملة الصليبية ، وضياع كل المكاسب المتحققة والمرجوة ، وضياع كل ما جرى إنفاقه حتى هذه اللحظة من أموال وأرواح وأوقات .

لقد كان تهديدًا يحمل كارثة للصليبيين ، وكان بوهيموند القائد الماكر يعلم قيمته في الجيش ، ولم يكن في قرارة نفسه يفكر في العودة ، فإنه ما جاء إلى هذه البلاد نصرة للرب ، ولا حماية للحجيج ، ولا صداقة للإمبراطور البيزنطي ، إنما جاء من أجل أنطاكية وأنطاكية فقط فموقفه هذا لم يكن إلا لعبة سياسية خطيرة ، ولكنه لعبها بدرجة عالية من الاحتراف !

دبَّ الهلع في قلوب زعماء الجيوش الصليبية ، وإلتفوا حول بوهيموند يتوسلون إليه ألا يتركهم ، ثم اجتمعوا على منحه أنطاكية له خالصة دون مشاركة في حال سقوطها ، فتحقق له ما يريد ؛ ومن هنا قرر البقاء والعمل معهم بكل طاقته !! وهكذا سيطر بوهيموند على الموقف مع زعماء الحملة الصليبية .

لكن بقيت له مشكلة ، وهي وجود السرية البيزنطية بزعامة تاتيكيوس ، وإتفاقية القسطنطينية التي تقضي بتسليم أنطاكية إلى الدولة البيزنطية ، ويمين الولاء والتبعية الذي أقسمه لهذا الإمبراطور قبل ذلك ..ماذا يفعل في هذه الالتزامات ؟!

لقد بدأ بوهيموند في إستفزاز القائد البيزنطي تاتيكيوس ، وبدأ ينكر أي جهود بيزنطية في المساعدة ، بل بدأ يفعل ما هو أخطر إذ أشاع أن هناك تنسيقًا سريًّا بين تاتيكيوس والأتراك المسلمين ، وأن هناك خيانة للقضية الصليبية ، وهذا قد حدث قبل ذلك عند إسقاط نيقية ، فلماذا لا يحدث الآن ؟

أثارت هذه الإشاعات غضب تاتيكيوس ، فأسرع إلى الزعماء الصليبيين يشكو لهم ، غير أنهم وجدوها فرصة للتخلص من الالتزامات تجاه الدولة البيزنطية ، وقالوا أن الدولة لم تساعدهم في أزمتهم بشيء يُذكر ، ومن ثَمَّ فهي البادئة بنقض الاتفاقية ، وفي هذا مبرر للصليبيين ألا يلتزموا باتفاقيتهم , وهنا شعر تاتيكيوس بالخطر على نفسه ، فإنتهز الفرصة وهرب ليلاً إلى قبرص عن طريق ميناء السويدية وهكذا تحقق هدف بوهيموند في إبعاد الدولة البيزنطية عن الساحة على الأقل عند لحظات سقوط أنطاكية ، وبذلك يضمن أن تكون له لا لغيره ! وبدأ بوهيموند من جديد ينسق الجيوش ، ويرسل الفرق هنا وهناك للإتيان بالمؤن والغذاء ، وأخذ يبثُّ الحماسة في قلوب الجنود الصليبيين وزعمائهم ..

في هذه الأثناء وفي (491هـ) يناير سنة 1098م حدث أمر غيَّر كثيرًا في سير الأحداث ، وأضاف قوة ملموسة إلى المعسكر الصليبي ؛ لقد جاءت سفارة من دولة مصر تعرض التفاهم والتفاوض مع الجيش الصليبي لتحقيق مصالح مشتركة !!


لقد كانت مصر في ذلك الوقت تحت حكم العبيديين المعروفين بالفاطميين ، وهم كما ذكرنا من الشيعة الإسماعيلية ، وكانوا على خلاف كبير مع السلاجقة السُّنَّة ، وكذلك مع الخلافة العباسية السُّنِّيَّة ؛ ففكر هؤلاء العبيديون في التعاون مع الصليبيين لحرب السلاجقة السنة!! وكان الخليفة العبيديّ في ذلك الوقت هو المستعلي بالله ، وإن كانت الأمور كلها في يد الوزير الأفضل بن بدر الجماليِّ .. وكان عرض الدولة العبيدية يشمل الاتفاق مع الصليبيين على تقسيم الشام بينهما ، فيأخذ الصليبيون أنطاكية ومدن الشمال ، بينما يأخذ العبيديون بيت المقدس وكان العبيديون بالفعل يسيطرون على بيت المقدس حيث قاموا بإحتلاله سنة (491هـ) 1097م ، حينما كان السلاجقة مشغولين بحرب الصليبيين في آسيا الصغرى ..

لقد كانت هذه السفارة تحمل البشريات للجيش الصليبي ، بينما كانت طعنة نافذة في صدر - بل في ظهر - الأمة الإسلامية !!


لقد كان لها من الآثار السلبية ما يخرج عن حدِّ التخيل :


فأولاً : رفعت هذه السفارة جدًّا من معنويات الجيش الصليبي ؛ إذ علموا أنهم يتعاملون مع أمَّة ضائعة ، ليس لها من همٍّ إلا التملك والثروة ، وأنهم على استعداد لبيع بعضهم البعض ، ولو كان المشتري هم الصليبيون ..

وثانيًا : سيؤدِّي هذا الجهد العبيديّ إلى تشتيت السلاجقة السُّنَّة ، وإحداث الإضطراب بين صفوفهم ؛ فالصليبيون سيهاجمون من الشمال، والعبيديون من الجنوب .

ثالثًا : سيأمن الصليبيون من هجوم الدولة المصرية التي كانت تملك جيشًا كبيرًا ، إضافةً إلى أسطول بحري قوي ، كان من الممكن أن يغيِّر الموقف في أنطاكية وغيرها لو كان يملكه مخلصون للمسلمين .

رابعًا : وهو أمر مهم جدًّا أن هذه السفارة تعني الاعتراف من الدولة المصرية لهذا الكيان الجديد القادم على أرض المسلمين ، وأن له الأحقية الشرعية في أرض أنطاكية وعندها لا يجوز للمسلمين أن يطالبوا بهذه الأرض ، فقد أعطوها في مقابل أرض بيت المقدس ، وسينسى الناس بعد ذلك أن كلتا الأرضين مسلم !!

لقد كانت خيانة بكل المقاييس !

ولقد أظهر الصليبيون الترحاب بالسفارة مع أنهم يعزمون تمامًا على أخذ بيت المقدس، بل ويعلنون ذلك جهرةً في كل محافلهم، ولكنهم قبلوا بهذا الطرح مؤقتًا , وسوف يتجاهلونه مستقبلاً كما تجاهلوا وعودهم للدولة البيزنطية ، وهو ما يسمى في أعرافهم سياسة ، ولكنها - للأسف - سياسة لا تنجح إلا مع الأغبياء أو العملاء ! ولقد كان كثير من زعماء المسلمين في ذلك الوقت من أحد هذين الصنفين أو منهما معًا ! كان هذا هو موقف الدولة العبيدية الشيعية .

وماذا كان موقف رضوان بن تُتش حاكم حلب ؟!


إن موقفه خطير جدًّا ؛ فهو وإن كان على خلاف مع ياغي سيان إلا أنه يعتبر أنطاكية من ممتلكاته الشخصية وأن ياغي سيان إستولى عليها ، ومن ثَمَّ فالصليبيون الآن يأخذون جزءًا من ميراثه ، فوق أنهم قريبون جدًّا منه ، وقد يتوجَّهون إلى حلب بعد سقوط أنطاكية ؛ لذلك إنتهز رضوان فرصة قدوم طلب نجدة من ياغي سيان بعد أن يَئِس ياغي سيان من دقاق وغيره ، فأسرع بتجهيز جيش لملاقاة الصليبيين ، وصاحبه في حملته أمير حماة وبعض القوات من ديار بكر ، واجتمعت كل القوات في حارم على بُعد ثلاثين كيلو مترًا شرق أنطاكية .

إنهم لم يخرجوا ليحفظوا دين الإسلام وأرضه وأعراض المسلمين !! بل خرجوا حفظًا لأملاكهم، أو ذرًّا للرماد في العيون وهذه النوعية من الجيوش لا تُنصر عادةً !

تم الاتفاق بين رضوان من ناحية وياغي سيان من ناحية أخرى على الخروج في وقت متزامن من حارم وأنطاكية لحرب الصليبيين من الشرق والغرب ، فيقع بذلك الصليبيون في كمين بين الفريقين ..

الخطة محكمة ، لكن القلوب مريضة والأجساد عليلة !


تسربت أنباء الخطة عن طريق نصارى حلب إلى الجيش الصليبي ، فخرج بوهيموند بنفسه على رأس فرقة صغيرة من الفرسان تبلغ سبعمائة فارس فقط ، وترك جيشه محاصِرًا لأنطاكية ، وإلتقى بوهيموند بهذه الفرقة الصغيرة مع جيوش حلب وحماة وديار بكر عند بحيرة العمق في شرق أنطاكية , وللأسف الشديد فإن كثرة الجيوش الإسلامية لم تغنِ عنها شيئًا ، وإذا بالقلة الصليبية تسيطر على الموقف بسرعة ، وأسرعت الجيوش الإسلامية بالفرار ، وقُتل منهم عدد كبير ، وقطَّع بوهيموند رءوسهم ، وحملها على أسِنَّة الرماح ، وعاد مسرعًا إلى أنطاكية في هذه الأثناء كان ياغي سيان قد خرج لحرب الجيوش الصليبية بعد إبتعاد بوهيموند ، إلا أنه - للأسف - هُزم هو الآخر فدخل مسرعًا إلى حصونه ، ثم جاء بوهيموند وألقى بالرءوس المقطَّعة داخل أسوار أنطاكية ؛ ليرسل رسالة رعب إلى ياغي سيان وشعبه ..

إستمر حصار أنطاكية ، بل وبدأ الصليبيون في بناء قلعة مجاورة على تل قريب من أسوار أنطاكية لإستخدامها في قصف أسوار أنطاكية ، والتحصن بداخلها من السهام المسلمة , وأثناء بناء القلعة ، وفي (491هـ) 4 من مارس سنة 1098م وصل أسطول إنجليزي إلى ميناء السويدية يحمل كميات كبيرة من الزاد والسلاح وآلات الحصار ؛ مما رفع معنويات الجيش الصليبي جدًّا ، ثم تمَّ لهم بناء القلعة في (491هـ) 19 من مارس 1098م ، وبذلك صار الحصار مشددًا بشكل أكبر وأخطر ..

جدد ياغي سيان استغاثته بسلطان سلاجقة فارس بركياروق، وكذلك بواليه على الموصل كربوغا ، وقد استجاب كربوغا لنداء ياغي سيان ، وجهَّز جيشًا كبيرًا ، ولكنه - للأسف - قرر أن يحاصر الرها ويحاول إسقاطها قبل أن يأتي إلى أنطاكية ، والذي دفعه إلى ذلك قرب إمارة الرها - وعلى رأسها الداهية بلدوين - من إمارة الموصل، فخَشِي كربوغا إن أخذ جيشه وذهب إلى أنطاكية وهي على بُعد أكثر من سبعمائة كيلو متر من الموصل , أن يهجم بلدوين على الموصل الخالية من الجيوش , وهكذا أضاع هذا الأمر عدة أسابيع من كربوغا ، وهو في محاولة فاشلة لإسقاط الرها ، ولم يتحرك في اتجاه أنطاكية إلا في (491هـ) أواخر شهر مايو 1098م .

أثار قدوم كربوغا في الطريق إلى أنطاكية الفزع في الجيش الصليبي , فالأخبار تقول أن جيشه كبير ، والصليبيون قد تعبوا من طول الحصار ، فقد مرت عليهم حتى الآن أكثر من سبعة أشهر ، وهم مرابضون أمام أسوار أنطاكية ، وفي هذه الحالة السيئة وفي يوم 2 من يونيو 1098م قرر ستيفن دي بلوا الإنسحاب من المعركة ليأسه من فتح أنطاكية ، وأخذ معه عدد كبير من الفرنسيين ، وإتجه إلى ميناء الأسكندرونة ليقفل عائدًا إلى فرنسا ..

لقد تأزم الموقف جدًّا على الفريقين !


لكن في هذه الأثناء لعبت الخيانة دورها ؛ لقد ظهر في أنطاكية رجل أرمني الأصل تظاهر بالإسلام إسمه نيروز أو فيروز ، وتبادل الرسائل السرية مع الأرمن الموجودين في الجيش الصليبي ، وكان كثير من الأرمن من أهل أنطاكية خرجوا من المدينة عند بدء الحصار وانضموا إلى الجيش الصليبي ، وقال هذا الرجل الأرمني : إنه يعلم أسرارًا قد تسهِّل فتح حصون أنطاكية , لقد كان هذا الرجل مقربًا من ياغي سيان ، وكان ياغي سيان يوليه حراسة عدد من أبراج أنطاكية المهمة وصلت هذه المعلومات إلى بوهيموند شخصيًّا ، فتكتمها عن بقية الزعماء الصليبيين ، وتراسل مع هذا الأرمني الذي طلب مالاً وإقطاعًا في البلد بعد سقوطها ، فأقره بوهيموند على ذلك ، جمع بوهيموند زعماء الحملة الصليبية وأعاد على أسماعهم خطورة الموقف ، وتيقن مرة ثانية من أنهم سيسلمونه أنطاكية إذا تم فتحها ، ثم بدأ يحدِّد لحظة الهجوم وساعة الصفر ، وكانت في (491هـ) صباح يوم 3 من يونيو 1098م أي بعد يوم واحد من رحيل ستيفن دي بلوا ومن معه من الفرنسيين ، فتح نيروز الأرمني الأبواب في برجه وفي بعض الأبراج المجاورة ، بل إن بعض الروايات تذكر أنه قتل أخًا له ؛ لكي لا يكشف قصة المؤامرة ، وهكذا إنسابت الجيوش الصليبية الهائلة داخل المدينة مع الساعات الأولى من الصباح , أسرعت الأرمن في داخل المدينة بالإنضمام إلى الصليبيين ، وأدرك ياغي سيان المؤامرة بعد فوات الأوان ، وقرر الهروب في مجموعة من الأتراك ، غير أن الأرمن من أهل أنطاكية أحاطوا به وقتلوه ، وحملوا رأسه إلى الصليبيين ؛ لتسقط بذلك كل عزيمة عند الشعب المسلم والجنود على حد سواء .

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

وسادت موجة من الذعر هائلة في داخل أنطاكية ، وإنطلق الصليبيون يستبيحون المدينة بعد الحصار الطويل ، وقتل من الرجال والنساء والأطفال ما يخرج عن حد الإحصاء ، وسبيت أعداد هائلة من النساء والأطفال , وسرعان ما إرتفعت أعلام بوهيموند النورماني على أسوار أنطاكية وأبراجها .

لقد كان سقوطًا مروعًا هزَّ العالم الإسلامي بأسره ، كما هزَّ العالم المسيحي ، إنها المدينة القديمة الجميلة الحصينة التي تحمل تاريخًا إسلاميًّا مسيحيًّا طويلاً ، ثم إنه السقوط المروع بعد حصار أكثر من سبعة أشهرٍ متصلة ، ثم إنها المذبحة الهائلة التي سقط فيها عشرات الآلاف من المسلمين !

وأسرع الصليبيون لدفن الجثث المتراكمة ؛ لئلا تنتشر الأوبئة في المدينة فتُهلِك الجيش بأكمله ، وبدءوا أيضًا في الانتشار في الحصون والأبراج ، وسيطروا سيطرة كاملة على مداخل المدينة ومخارجها ..

وفي هذه الأثناء كان كربوغا يتحرك بجيشه من الرها بعد أن يَئِس من إسقاطها ، ثم توقف في مرج دابق على بُعد 650 كيلو مترًا تقريبًا من أنطاكية ، حيث عقد إجتماعًا مع بعض رءوس الإمارات من الأمراء والملوك ليكوِّن جيشًا كبيرًا لإنقاذ أنطاكية ، وكان جيش كربوغا هذا مرسَلاً من قِبل بركياروق سلطان السلاجقة وأقوى الشخصيات السلجوقية في ذلك الوقت ؛ لذلك أذعن لكربوغا عدد كبير من الأمراء منهم دقاق صاحب دمشق ، وأرسلان تتش صاحب سنجار ، وجناح الدولة أمير حمص وغيرهم ، غير أن رضوان صاحب حلب رفض الخروج في جيش فيه أخوه دقاق عدوه اللدود !!

وهكذا خرج الجيش السلجوقي الكبير إلى أنطاكية ، ووصل إليها بعد حوالي ستة أيام من سقوطها ، وحاول كربوغا إقتحام المدينة ولكنه فشل لحصانتها ، فقام بضرب الحصار حولها ، لتنقلب الآية ؛ فالصليبيون داخل أنطاكية محصورون ، والمسلمون من خارجها مُحاصِرون لها ! وقد بدأ هذا الحصار في 8 من يونيو 1098م ..

وعاش الصليبيون معاناة حقيقية ، فالمدينة كانت قد خلت تقريبًا من الغذاء بعد حصار المسلمين بها مدةَ سبعة أشهر متصلة ، وشعر الصليبيون بالندم لقدومهم إلى الشرق ، وقد صاروا على أبواب مجاعة مهلكة ، وقد اضطروا إلى أكل الميتة وورق الشجر !
ماذا يفعل الصليبيون في هذا الموقف العصيب ؟

لقد فكَّر الصليبيون في الاستعانة بالإمبراطور البيزنطي ؛ إنها حياة المصالح .


إنهم يحتاجون إليه الآن ، فلا مانع عندهم من التزلف مرة ثانية ، والتملق ، والنفاق!
ووجدها الإمبراطور البيزنطي فرصة لإمتلاك أنطاكية المحبوبة ، فخرج بنفسه على رأس جيش كبير مخترقًا آسيا الصغرى صوب أنطاكية ، لكنه في الطريق وصلته أنباء بكبر حجم الجيش السلجوقي ، وبكونه مؤلَّفًا من أكثر من إمارة ، فخاف على نفسه وسلطانه ، وقال : إن حماية القسطنطينية والبيزنطيين أعظم عنده ألف مرة من حماية أنطاكية والصليبيين, فقرر الرجوع فجأة ، وعبثًا حاول رسل الصليبيين إثناءه عن رأيه ، ولكنهم فشلوا !!

إن القضية ليست دينية أبدًا ! إن كل زعيم من هؤلاء لا يهتم إلا بملكه وعرشه ! وساء وضع الصليبيين أكثر؛ وبعد 4 أيام فقط من الحصار بدأ الصليبيون يتركون مواقعهم الأمامية في المقاومة من الإجهاد والتعب ، ويتجهون إلى البيوت في داخل المدينة وهذا يوضِّح روح اليأس والإحباط التي سيطرت على الصليبيين ، وواجه بوهيموند الموقف بصلابة نادرة , إنه يرى حُلمه ينهار ، ويرى أنطاكية الجميلة تضيع من يده بعد كل هذا الجهد ، بل يرى حياته وحياة جنده على مقربة من النهاية ، فماذا فعل بوهيموند ؟! لقد أحرق الدور والبيوت الداخلية ، وذلك في (491هـ) يوم 12 من يونيو 1098م ؛ ليجبر الجنود على تركها والعودة إلى مواقعهم الأمامية ..

لقد كان قائدًا من طراز عجيب ! ومع ذلك فالقبضة الإسلامية محكمة حول أنطاكية ، وكان من الممكن أن تكون نهاية جيوش الصليبيين بكاملها ، لولا الأحداث المؤسفة التي حدثت في داخل الجيش الإسلامي !! ليتيقن المسلمون من الحقيقة القائلة : "إن أعداءنا لا يُنصرون علينا بقوتهم ، ولكن بضعفنا ! ".

ماذا حدث في الجيش الإسلامي ؟! لقد شعر كربوغا أن جيشه وإن كان كبيرًا إلا أن جيوش الصليبيين أكبر، ولو حدث وخرج الصليبيون للقتال فقد تدور الدائرة على المسلمين إن طال الحصار ، ففكر كربوغا أن أفضل طريقة لتقوية الجيش الإسلامي هي إعادة فتح التفاوض مع رضوان بن تتش أمير حلب لينضم إليهم بجيشه ؛ فجيش حلب كبير ، ورضوان نفسه كفاءة عسكرية معروفة ، والأهم من ذلك أن حلب مدينة قريبة وغنية جدًّا ، وتستطيع إمداد الجيش الإسلامية بالمؤن اللازمة والسلاح وأدوات الحصار .

كانت هذه فكرة كربوغا ، وهي فكرة صائبة لا شك ، لكنها لا تصلح مع هذه الزعامات الفارغة , إن الأمر وصل إلى إثارة قلق دقاق نفسه ، وغضب من كربوغا ، وحدث الشقاق والخلاف في الجيش المسلم ، وأعلن دقاق عن رغبته في العودة إلى دمشق ، وخاصةً أنه كان يخاف من توسع العبيديين في جنوب الشام ، وهذا - ولا شك - خلق جوًّا من التوتر في الجيش الإسلامي وأضاف إلى هذا التوتر خوف جناح الدولة حسين بن ملاعب أمير حمص من إنتقام يوسف بن أبق أمير الرَّحبة ومَنْبِج الذي كان مواليًا لرضوان ، فإعتبر جناح الدولة وجوده في الجيش الإسلامي عداءً لرضوان وحلفائه ، ومن ثَمَّ عاش في توتر كبير أثَّر في معنويات الجيش بكامله ..

لقد ذاق المسلمون ثمرات الوَحْدة المؤقتة التي حدثت بينهم ، وإنكمش الصليبيون داخل أنطاكية ، وكانوا على أبواب الهلكة، والآن ها هم يتفرقون ليذوقوا ويلات التشتُّت والتشرذم ! يقول تعالى: وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ .

ثم زاد الطينة بلة ، وعظمت الكارثة بظهور فتنة عنصرية في الجيش ، حيث نشأ خلاف بين العنصر التركي والعنصر العربي في الجيش ، وكان على رأس الأتراك كربوغا قائد الجيوش وأمير الموصل ، وكان على رأس العرب أمير إسمه وثاب بن محمود المرداسي، وثارت فتنة زكَّاها رضوان من بعيدٍ برسائله المحفزة للتركمان ضد العرب ! يقول رسول الله :"إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ ، مُؤْمِنٌ تَقِىٌّ وَفَاجِرٌ شَقِىٌّ ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ ، لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ فَخْرَهُمْ بِرِجَالٍ أَوْ لَيَكُونَنَّ أَهْوَنَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ عِدَّتِهِمْ مِنَ الْجِعْلاَنِ الَّتِى تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتَنَ" .

كان هذا هو الوضع في الجيش الإسلامي ! ونعود إلى داخل أسوار أنطاكية ؛ لقد شعر بوهيموند - رغم عناده وإصراره - بقرب النهاية , فأرسل في يوم 27 من يونيو 1098م - بعد تسعة عشر يومًا من الحصار - سفارة إلى كربوغا من رجلين أحدهما بطرس الناسك ، يعرض عليه فك الحصار وتأمين الجيوش في سبيل رحيلها , وعلى الرغم من التفكك الذي كان في جيش كربوغا إلا أنه خاف أولاً من خيانة بوهيموند وهي خيانة متوقعة ، ثم إنه شعر بضعف الصليبيين فطمع في القضاء عليهم تمامًا في معركة فاصلة .

ويبدو أنه لم يقدر مدى الضعف الذي يسيطر على جنود الجيوش الإسلامية وقادتها وهكذا رفض كربوغا السفارة ، ومن ثَمَّ لم يعد أمام بوهيموند إلا قرار الحرب ، والحرب السريعة قبل أن يهلك الجيش الصليبي من الجوع .

نظر بوهيموند في جيشه فوجد حالتهم النفسية في الحضيض ، فأراد أن يرفع من معنوياتهم ، ويرسخ عندهم مفهوم النصر الأكيد في المعركة القادمة، فماذا فعل ؟! لقد أشاع بواسطة كاهن من أهل مرسليا اسمه بطرس برتولوني أن القديس أندراوس الرسول ظهر لهذا الكاهن في الحلم ثلاث مرات ليدله على مكان في كنيسة القديس بطرس بأنطاكية ، دفنت فيه الحربة التي طعن بها المسيح عليه السلام ، وأنهم إذا حفروا ووجدوا الحربة فإنهم يحملونها أمام جيوشهم، وهذا الجيش يتحقق له النصر لا محال ! ثم كان من بوهيموند أن أمر الكاهن وبعض الرهبان بالحفر للبحث عن الحربة المزعومة، ثم أخرجوا حربة من الحَفْر، وقالوا: إن هذه معجزة، وإن هذا الجيش منصورٌ ..


وبالطبع فإن هذه قصة لفَّقها بوهيموند وأتباعه لتحميس جيشه ، ولا يُقِرُّ عامة المؤرخين بصدق هذه الحادثة ، ولا غرابة فهؤلاء القساوسة الذين لفَّقوا الحكاية يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله وعندنا في عقيدتنا يقينٌ أن المسيح عليه السلام لم يُقتل أصلاً ، يقول تعالى : وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ .

فهذه الحربة - ولا شك - فِرْية أرادوا بها رفع معنويات المقاتلين الصليبيين ، وقد تحقق لهم مرادهم، وعادت لكثيرٍ من الجند الحماسة ، وقرروا الخروج من اليوم التالي مباشرة لحرب المسلمين .

وفي صبيحة اليوم التالي 28 من يونيو 1098م بدأ الصليبيون في الخروج من المدينة للقتال ، وأشار المسلمون على كربوغا أن يبدأ في قتالهم قبل أن يكتمل خروجهم ، إذ كانوا يخرجون في جماعات صغيرة، غير أنه رفض وأصرَّ على اكتمال خروجهم ثم يبدأ بقتالهم ؛ يقول بعض المؤرخين : إن هذا ضيَّع عليه فرصة قتالهم منفردين , ولكن يبدو أنه كان يريد خروجهم بالكامل حتى لا يبقى أحد منهم بداخل المدينة متحصنًا، فخشي إن قاتل الجماعات الصغيرة التي تخرج أن يمتنع بقية الجيش من الخروج ، ومن الواضح أن كربوغا كانت تملؤُه الثقة بالنفس والاعتزاز بالأعداد التي معه ، وأغراه حالة البؤس التي كانت عليها الجيوش الصليبية بعد الحصار الطويل ، وأيضًا طلبهم منه أن يرفع الحصار كل ذلك أدى إلى تركه لهم حتى إكتمل عددهم ، ورتبوا صفوفهم تحت قيادة كل زعمائهم، وكان ريمون الرابع يتقدمهم وهو رافع للحربة المزعومة .

ودارت معركة شرسة جدًّا أمام أسوار أنطاكية ، وكانت الغلبة في البداية للمسلمين ، لكنَّ الصليبيين كانوا يقاتلون قتال حياة أو موت ، وعلى العكس كان المسلمون يقاتلون للحفاظ على ملكهم وثرواتهم ، ومَن قاتل على هذه النوايا فهو لا يريد أن يموت ، وهي نوايا لا تصلح أبدًا لجيش مسلم يريد الانتصار , وما أعظم ما قاله رسول الله وهو يحفز جيشه ليلة بدر على القتال في صبيحة اليوم التالي ! فكان يقول لهم : "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يُقَاتِلُهُمْ الْيَوْمَ رَجُلٌ فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ إلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ"

إنه في هذا الموقف لا يشجعهم على الحفاظ على حياتهم ، لكن يشجعهم على بذلها في سبيل الله ، ولا يجعل همهم غنائم العدو أو بلاده، ولو كانت هذه البلد هي مكة المكرمة ، ولكن يجعل همهم دخول الجنة , وشتَّان بين كل ما رأيناه من رسول الله في ليلة بدر، وما حدث في يوم 28 من يونيو 1098م ؛ إذ ما لبث الزعماء المسلمون أن تزعزعوا ، وبدأ كل منهم يحاول النَّأْي بنفسه وجيشه ، وكان من أوائل الذين فروا التركمان بما فيهم دقاق ملك دمشق ، وثبت جناح الدولة فترة ثم أسرع بالفرار هو الآخر ، ثم فرَّ في النهاية كربوغا نفسه ، وأسرع المسلمون في كل إتجاه ، وكانت الأوامر من قادة الصليبيين ألا يلتفت الجيش إلى الأسلاب والغنائم وإنما يتتبعون المسلمين ، وهكذا تمت مطاردة شرسة لمسافة ثلاثة كيلو مترات شرق أنطاكية حتى حصن حارم , قُتل فيها عدد كبير من المسلمين ، ثم عاد الصليبيون ليجمعوا ما لا يحصى من الغنائم والمؤن والسلاح ، ووصل كربوغا في فراره إلى الموصل ، وكذلك دقاق إلى دمشق .

لقد كانت مأساة حقيقية لهذا التجمُّع الإسلامي ! وما أشد الشَّبه بين هذه التجمعات الفاشلة التي رأيناها ، وبين تجمع الجيوش العربية لحرب اليهود في سنة (1367هـ) 1948م في فلسطين ، فالجيوش لم تخرج لله ، ولم تخرج لتكون كلمة الله هي العليا ، ولا تعرف قرآنًا ولا سنة ، إنما خرجت لذرِّ الرماد في العيون ، أو للحفاظ على مُلك بائدٍ ، أو لأخذ نصيب من الأرض ، ومَن كانت هذه نواياه فلا يتحقق له نصر أبدًا .

ولنا في التاريخ عبرة !

صارت أنطاكية بذلك مدينة صليبية ، ويَئِس المسلمون آنذاك من تحريرها، لكن الصليبيين وجدوا أنفسهم أمام عدة مشاكل ضخمة في أنطاكية ، منعتهم من التقدم مباشرة صوب بيت المقدس، الذي كان الهدف الأول من هذه الحملة .

1- فمن المشاكل الضخمة التي واجهت الصليبيين هو تناقص عددهم بصورة مخيفة؛ فلقد واجهوا السلاجقة منذ لحظة نزولهم في آسيا الصغرى ، ومنذ موقعة نيقية في (490هـ) مايو 1097م - أي أكثر من سنة - في عدة معارك، وقُتل من الصليبيين عدد كبير، ثم إن الكثير منهم هلكوا في المسافات الكبيرة التي قطعوها دون غذاء كافٍ أو ماء ، وهلك منهم عدد آخر في الحصار الطويل لمدينة أنطاكية ، سواء في المرحلة الأولى التي حاصروا فيها المسلمين ، أو في المرحلة الثانية التي حاصرهم المسلمون داخل المدينة، ثم هلك منهم عدد آخر في الموقعة الأخيرة ضد كربوغا، وأخيرًا هلك عدد ضخم في الأوبئة التي انتشرت في أنطاكية نتيجة كثرة القتلى .

لقد تناقصت بشدة أعداد الصليبيين إلى الدرجة التي صعب معها السيطرة على كل الأبراج في الأسوار الطويلة لأنطاكية ، فكيف بإعداد العدة للزحف نحو بيت المقدس ، هذا فضلاً عن أن الذي بقي من الصليبيين يعاني من الإعياء والإجهاد الشديد، ولا يَقْوَى على قطع المسافة الكبيرة من أنطاكية إلى بيت المقدس - 600 كيلو متر تقريبًا - فضلاً عن أنهم قد يقاتلون هناك الدولة العبيدية بكل مقدرات الجيش المصري آنذاك .

هذه الأزمة الكبيرة جعلتهم يفترون عن الزحف إلى بيت المقدس ، ولم يكن هذا الفتور لأيام معدودات، إنما إستمر ستة أشهر كاملة ..


2- وهذه الأزمة أيضًا دفعتهم إلى عدم القدرة على إعلان العصيان المباشر للدولة البيزنطية، فهم مع كونهم من البداية يكرهون الإمبراطور البيزنطي المتسلط عليهم بقرارته والمخالف لهم في العقيدة ، ومع كونهم يشعرون أنه لم يشارك معهم بجدية في حصار أنطاكية، ومع كونهم يحنقون عليه أشد الحنق لعدم نجدتهم في حربهم ضد كربوغا في (491هـ) يونيو سنة 1098م ، إلا أنهم يدركون أنهم قد يحتاجون إلى إمكانيات الدولة البيزنطية في أي لحظة[85]، وهذا الشعور جعلهم يتحفظون في التعامل مع مشكلة أخرى كبيرة قابلتهم بعد إسقاط أنطاكية ، وهي اكتشافهم أن بداخلها أعدادًا كبيرة من النصارى الأرثوذكس ، وكان الصليبيون لا يثقون بهم ، ويعرفون أنهم يدينون بالولاء للدولة البيزنطية قلبًا وقالبًا ، ومع ذلك فإن الصليبيين ما استطاعوا أن يعلنوا هذه المخاوف ، بل إنهم عظموا جدًّا من شأن بطريرك الأرثوذكس حنا الرابع، ووضعوه على رأس كنيسة أنطاكية ، ولم يعزلوا القساوسة الأرثوذكس من أماكنهم ، وإكتفوا بوضع قساوسة كاثوليك على بعض الكنائس الشاغرة , وكل هذا كنوع من التقارب مع الدولة البيزنطية ، وشراء ودِّها إلى اللحظات الأخيرة .

3- وكان من المشاكل الضخمة التي واجهتهم أيضًا خلوُّ مخازن المدينة من الغلال والمؤن على عكس ما توقع الصليبيون ، فطول مدة الحصار وإنشغال الناس في الحرب ضيَّع ثروات البلد ، ولم يبق شيء يعتمد عليه في مخازنها , وعلى هذا ففي الأيام القادمة لا بد أن يدبر الجيش الصليبي حاله ، إما عن طريق الإمدادات الخارجية من أوربا أو الدولة البيزنطية ، وإما عن طريق الإغارة على المدن والقرى المجاورة، وإلا سيقع الجيش في أزمة اقتصادية طاحنة .

غير أن أعظم المشاكل التي واجهت الصليبيين ، هي مشكلة من الذي يجب أن يحكم أنطاكية ؟ فبوهيموند كما وضحنا كان يجعل هذه قضية مصيرية في حربه من البداية، وما خرج هذا الهدف من ذهنه منذ غادر إيطاليا، وحتى اللحظة التي دخل فيها أنطاكية، واشترط بوضوح على زعماء الحملة الصليبية أن يجعلوا أنطاكية خالصة له إذا بقي معهم للقتال ..

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

هذه كانت أحلام بوهيموند !!


فهل كانت هي الأحلام الوحيدة في القصة ؟!


لقد نازعه في حلمه هذا زعيم صليبي آخر في غاية الطموح هو ريمون الرابع كونت تولوز ، فهذا الزعيم - وإن كان في بادئ القصة يتظاهر بالتدين والورع واتِّباع رأي البابا ، وإعلان أنه لا يستطيع أن يقسم بالتبعية لإمبراطور بيزنطة لأنه يتبع المسيح ! وحمله للحربة المزعومة أمام الجيش الصليبي - أظهر عند سقوط أنطاكية مشاعر مختلفة تمامًا! لقد ثار ريمون الرابع على بوهيموند ، وقال : إنه لا يستحق فضلاً زائدًا عن بقية الزعماء ، وتنكَّر لمواقفه السابقة بإعطاء أنطاكية لبوهيموند حال سقوطها. ولم يكن اعتراض ريمون باللسان فقط، ولكن كان بالسلاح أيضًا ! إذ أخذ جيشه وسيطر على بعض الأبراج والأبواب ، ورفض التسليم لبوهيموند ، وإشتعل الجدال في أنطاكية بين مؤيد ومعارض ..

ولم يكن ريمون هو الوحيد الذي ينازع بوهيموند إمارة أنطاكية ، فهناك الإمبراطور البيزنطي الذي يجد أنطاكية حقًّا دينيًّا وتاريخيًّا وجغرافيًّا للدولة البيزنطية ، وفوق ذلك فهناك إتفاقية القسطنطينية التي عقدت سنة 1097م ، وتقضي بتسليم المدن البيزنطية القديمة وعلى رأسها أنطاكية للدولة البيزنطية ..

فلمن يكون حكم أنطاكية ؟! إن هذا الصراع ليدلنا بأقوى الأدلة أن هؤلاء الزعماء ما خرجوا خدمة للدين ولا حماية للصليب، ولا طمعًا في إرضاء المسيح عليه السلام , إننا رأينا من الجميع - تقريبًا - رغبة حميمة في تحقيق المجد الشخصي، بصرف النظر عن الواجب الديني الذي خرجوا من أجله .

فهاهو الإمبراطور البيزنطي الذي طلب النجدة من البابا وصوَّر حال الحجيج النصارى بشكل بائس ، ها هو لا يحمل همًّا سوى توسيع سيطرته على المدن التي أخذها السلاجقة قبل ذلك، وعند أول اختبار حقيقي لشجاعته وتجرُّدِه أثناء حصار أنطاكية إذا به يتقاعس ، ويرفض القدوم تاركًا الحملة الصليبية تواجه مصيرها، مع أنها من المفترض أنها جاءت لمساعدته !

وها هو بلدوين ينعزل عن الجيش ويقنع بإمارة الرها ، ولا يفكر في إكمال الرحلة إلى بيت المقدس !

وها هو بوهيموند يقنع كذلك بإمارة أنطاكية ، ويتحايل على الجميع لكي يضمن لنفسه ملكًا، بصرف النظر عن قضية القدس، وبصرف النظر عن حقوق غيره وأطماعهم!
وها هو بطرس الناسك يهرب من حصار أنطاكية الصعب ، ويجبره تانكرد على الرجوع ذليلاً مهينًا !

وها هو تانكرد من قبل يتصارع مع بلدوين على طرسوس حتى رفعوا السلاح على بعضهم البعض !

وها هو كذلك ستيفن دي بلوا يترك الجمل بما حمل ، ويأخذ جيشه ويقفل عائدًا إلى فرنسا في اللحظات الأخيرة من الحصار ، عندما أدرك أن أحلامه في الملك تبددت !

إن جميع المحتلين يرفعون شعارات برَّاقة خادعة للسيطرة على عقول شعوبهم وجيوشهم ، وأيضًا لتخدير الشعوب المحتلة وتسكيتها؛ فهذا يقاتل من أجل المسيح ، وذاك يدافع عن الحجيج ، وهؤلاء يريدون استقرار الديموقراطية ، وأولئك يدافعون عن حقوق الإنسان .
وهكذا تبدو حروبهم من أجل الفضيلة ، والأصل أنها لا لشيء إلا للأمجاد الشخصية والأطماع الذاتية !

ماذا يفعل الزعماء الصليبيون إزاء هذه المشكلة العظمى؟! لقد عقد الزعماء الصليبيون اجتماعًا مهمًّا في أوائل يوليو 1098م يقررون فيه مصيرهم ومصير أنطاكية ومصير بيت المقدس , إن طاقتهم الآن هزيلة عن بلوغ بيت المقدس ، وخاصةً أنهم سيحاربون هناك جيشًا مستريحًا مستقرًّا ، وهم لا غنى لهم عن الدولة البيزنطية في هذه المعركة القادمة ، ومن ثَمَّ فهم سوف يطلبون طلبًا صريحًا من الإمبراطور البيزنطي أن يساندهم في هذا المشروع، لكن الإمبراطور البيزنطي لن يقبل بالمساعدة إلا إذا أخذ أنطاكية ، ومن هنا إتفق الزعماء بما فيهم بوهيموند وريمون على تسليم أنطاكية إلى الإمبراطور البيزنطي ، بشرط أن يأتي بنفسه على رأس جيش كبير يشاركهم في احتلال بيت المقدس , ولم يستطع بوهيموند أن يعترض في هذا التوقيت ؛ لأنه كان يعلم أن قوتهم قاصرة عن إتمام هذه المهمة وهم في هذه الحالة الواهنة ، وعلى ذلك فإذا جاء الإمبراطور البيزنطي فسوف يساعدهم في تحقيق أحلام أوسع ، وإذا لم يأتِ لم يسلموا له أنطاكية، وعندها يفتحون ملف أنطاكية من جديد ليروا من أحق الزعماء بها .

إستقر على ذلك الأمراء الصليبيون ، وأرسلوا رسالة إلى الإمبراطور البيزنطي يطلبون منه فيها أن يأتي لتسلُّم أنطاكية بشرط المساعدة في احتلال بيت المقدس .

ماذا كان ردُّ فعل الإمبراطور البيزنطي لهذه الرسالة؟! لقد كان الإمبراطور ألكسيوس كومنين نفعيًّا إلى أقصى درجة ، فهو يريد أن يجني ثمار دون تضحية ، ثم إنه كان خبيثًاً يريد أن يمسك بكل أطراف اللعبة في يده ، وليس عنده مانع أن يتحالف مع عدو أو أن يخون صديقًا !

لقد أراد الإمبراطور أن يستغل الجيش الصليبي في كسر المقاومة الإسلامية دون أن يعطيهم شيئًا ، وقد خَبُرهم في آسيا الصغرى ، ورأى أنهم سلموه كل المدن , وهم وإن كانوا يطمعون في أنطاكية الآن فإنهم لن يستطيعوا الصمود طويلاً بعيدًا عن بلادهم ، إنه أراد أن يستنفزهم لأقصى درجة ، فيقتلون المسلمين ويقتلهم المسلمون ، حتى إذا خلت المنطقة من الأقوياء تقدم الإمبراطور ليتسلم كل الميراث بجهد يسيرٍ أو دون جهد !

إنها خطة خبيثة تقوم بها الكثير من الدول الاستعمارية ذات الخبرة الطويلة في المؤمرات والمكائد ! إنها تدفع فريقًا ليحارب فريقًا آخر، وقد تدل كل فريق على عورات الآخر ، حتى إذا فنيت القوتان دخلت هي لتجمع كل الثمرات .

ومن هنا فكر الإمبراطور أن يتريث في الأمور ، ولا يرفض رفضًا باتًّا؛ لكي لا يوغر صدور الصليبيين ، ولا يقدم قدومًا سريعًا فيوغر صدور العبيديين المسيطرين على بيت المقدس الآن ؛ ولذلك فقد قرر الإمبراطور أن يتجاهل الرد على الرسالة حتى يمر بعض الوقت، وتزداد الأزمة اشتعالاً !

من جانب الصليبيين فقد وجدوا أن الإمبراطور لا يرد طلبهم ، وهم لا يستطيعون البقاء فترة طويلة دون الانتهاء من مهتمهم ؛ ولذلك قرروا تحديد موعد لغزو بيت المقدس بصرف النظر عن موافقة الإمبراطور ، وكان هذا الموعد في (491هـ) نوفمبر 1098م، بعد أن تخف درجة الحرارة ..

أما الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين فلم يكتف باللعب بزعماء الصليبيين ، ولكن أراد أن يتعامل مع الجهة الأخرى أيضًا ، فتراسل مع العبيديين بمصر وهو يعرض عليهم صورة من صور التعاون ! ولكن لسوء حظِّه وقعت رسالته إلى العبيديين في قبضة الصليبيين ، فأدركوا أنه يلعب بهم ..

هنا قرَّر زعماء الحملة الصليبية أن يخرجوا بمفردهم إلى بيت المقدس ولكن بعد الاستعداد الكافي عن طريق جمع المؤن ، وتثبيت الأقدام في أنطاكية وما حولها ؛ ولذلك أمضى زعماء الصليبيين شهري أغسطس وأكتوبر في بعض الحملات في المناطق المحيطة بأنطاكية ، وفي هذه الأثناء كان بوهيموند يحاول أن يظهر دائمًا في صورة أمير أنطاكية الأوحد ..

وفي يوم 5 من نوفمبر 1098م عقد الصليبيون اجتماعًا قرروا فيه الزحف صوب بيت المقدس , ومن جديدٍ برزت مشكلة إمارة أنطاكية ، وتنازع الزعيمان بوهيموند وريمون الأمرَ، وأعلن بوهيموند العصيان المباشر على إمبراطور الدولة البيزنطية، وأكد ذلك بعزل حنا الرابع من الكنيسة الأرثوذكسية؛ ليصبح بذلك أميرًا لأنطاكية وغير متقيد مطلقًا بالقسطنطينية ، غير أن الأمير ريمون وجد أنه لكي يستولي على أنطاكية فإنه يجب أن يوالي الإمبراطور ألكسيوس كومنين ليتغلب على بوهيموند ، وهكذا أدت المصالح إلى اختلاف الولاءات اختلافًا بيِّنًا !! فهذا بوهيموند الذي كان أقرب الأصدقاء إلى الإمبراطور البيزنطي يعلن العصيان ليتملك أنطاكية، ناسيًا يمينه الذي أقسمه بالتبعية للإمبراطور، وهذا ريمون الذي رفض أن يقسم بالتبعية للإمبراطور يعلن أنه يقف إلى جواره !!
وتعالت الأصوات ، وكاد السلاح يعلو أيضًا بين الزعيمين الصليبيين !

وإستاء بقية الزعماء جدًّا وأيضًا الجند ، وحدثت ثورة عجيبة في أنطاكية ، حيث قرر الزعماء والجند معهم أن يهدموا أسوار أنطاكية إذا لم يكفّ الزعيمان عن حربهما ، وساعتها سيتركونهم مكشوفين للبيزنطيين والمسلمين على حدٍّ سواء، وسوف يتجه الجيش بكامله إلى بيت المقدس ...


هنا شعر بوهيموند وريمون بالخوف الشديد أن ينفذ الصليبيون تهديدهم ، فجلسوا في هدوء ليبحثوا حلاًّ للموضوع، ولكي يقطعوا الوقت ويشغلوا الناس حتى الوصول إلى حلٍّ قرروا الخروج جميعًا في حملة إلى معرة النعمان، وهي إلى الجنوب الشرقي من أنطاكية، وهي من أعمال الحلب ، وحاصرها الصليبيون بالفعل ، واستعانت أهلها برضوان ملك حلب إلا أنه لم يعرهم اهتمامًا يذكر ، وكان أن إستسلمت المدينة في (492هـ) 11 من ديسمبر 1098م للصليبيين بعد أن أعطوهم الأمان ، لكن - للأسف - بعد سقوط المدينة لم يلتزم الصليبيون بعهدهم ، وأجروا فيها مذبحة عظيمة ، وسلبوا كل شيء، وأحرقوا المدينة عن آخرها .

ثم تنافس الأمراء من جديد في قضية النزاع بين بوهيموند وريمون ، ووجد ريمون أن عامة الأمراء يرجحون كفة بوهيموند ، فآثر أن يخرج بشيء ، فعرض أن يقود الحملة الصليبية إلى بيت المقدس ، ويصبح هو بذلك القائد الأعلى ، فوافق الأمراء لتحل المشكلة ، ويبقى بذلك بوهيموند أميرًا على أنطاكية , وهكذا فضَّل بوهيموند أن يتخلف عن حملة بيت المقدس ، ناسيًا قصة الحجيج ليقنع بإمارته التي كانت حلمًا قديمًا له !!

ولبس ريمون ملابس الحجاج ، وخرج حافي القدمين يقود الجيوش في رحلة دينية لاحتلال بيت المقدس ، وكان ذلك في (492هـ) 13 من يناير 1099م ، بعد أكثر من سبعة أشهر من سقوط أنطاكية ، وقد حاول أن يقنع الجميع أنه يتحرك إرضاءً للمسيح ، ولكن من الواضح أن تمثيليته أصبحت مكشوفة ، وهكذا كل التمثيليات لأمثال هؤلاء النفعيين من الزعماء !!

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 04-03-14, 04:32 AM

  رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

الطريق إلى بيت المقدس


في يوم 13 من يناير 1099م (492هـ) تحرَّكت الجيوش الصليبية ناحية الهدف الرئيسي التي خرجت من أجله وهو إحتلال بيت المقدس ، وتفاوتت الروايات في تقدير عدد الجيش الصليبي الذي خرج من أنطاكية وما حولها لغزو فلسطين ، فالمقلِّل يصل إلى ستة آلاف مقاتل فقط , والمكثِّر يصل به إلى ثمانين ألفًا من الصليبيين ، وهو في الحالتين بعيدٌ جدًّا عن الأرقام التي عرَفناها عند نزولهم أرض الإسلام ؛ إذ كان الجنود في أقلِّ تقدير ثلاثمائة ألف مقاتل .

وهذا النقص الحادُّ في العدوِّ إنما كان للمعارك المتتالية ، وللموت أثناء الانتقال والحصار وفترات الجوع الطويلة ، وكذلك لإنفصال جيش بلدوين في الرها وبوهيموند في أنطاكية ، ولترك حامية صليبية في كل مدينة يحتلونها بدءًا من نيقية وإنتهاءً بمعرَّة النعمان جنوب أنطاكية ؛ غير أنِّي أُرَجِّح أن الجيش كان في حدود ثمانين ألفًا أو نحوها ؛ لأن المسافة التي إخترقها الجيش داخل أراضي سوريا ولبنان وفلسطين كبيرة يصعب فيها أن يتحرَّك ستة آلاف جندي فقط دون حماية ، كما أنه لو لم يتبقَّ من الثلاثمائة ألف إلا ستة آلاف فقط لكان قرارهم - دون أدنى شكٍّ - هو الرجوع إلى أوربا والنجاة بالنفس ، فضلاً عن أن معظم المعارك التي اشترك فيها الصليبيون كان النصر حليفهم ، ولم نسمع عن قتلى بهذه الأعداد الضخمة ، سواء في صفِّهم أو في صف المسلمين المهزومين .

تحرَّكت الجيوش بقيادة ريمون الرابع ، وهو وإن كان يرتدي ملابس الحُجَّاج ويُعْلِن خدمة الربِّ إلاَّ أنه كان في منتهى الغيظ والحنق لعدم حصوله على إمارة حتى هذه اللحظة كزميليه بلدوين وبوهيموند ، وهذا أثَّرَ في قراراته كما سيتَبَيَّن لنا من رحلته للقدس .

سار الصليبيون جنوبًا ، وهم يقتربون من الساحل أحيانًا ، ويتعمَّقون في الداخل أحيانًا أخرى، وكانوا في طريقهم يمرُّون بمدن إسلامية صرفة، ومع ذلك فقد كان ردُّ فعل هذه المدن في منتهى الخزي !

لقد أسرع الحُكَّام والأهالي في هذه المدن بتقديم الهدايا الثمينة والمؤن ، بل والأدِلَّة للجيش الصليبي بُغْيَة الحصول على رضاه، وتجنُّب وحشيته، وكانت أخبار مذبحتي أنطاكية ومعرَّة النعمان قد وصلت إلى مكانٍ ، ففعلت فعلها في إرهاب الشعوب حتى تفقد كلَّ أمل في المقاومة ، ويصبح كلُّ همِّها البحث عن لحظات حياة أطول ، ولو كانت هذه اللحظات تعيسة أو مَهِينَة ، تمامًا كما فعلت مذبحة دير ياسين التي قام بها اليهود سنة (1367هـ) 1948م لتسهيل مهمَّة احتلال فلسطين، والتاريخ يتكرَّر !!

فمن الأمثلة الشاذَّة التي رأيناها ما حدث من أمير شيزر عندما تعهَّد لريمون ألاَّ يعترض طريق الصليبيين أثناء إختراقهم إقليم شيزر، وأن يُقَدِّم لهم ما يحتاجون إليه من الغذاء والمئُونة ، بل وقدَّم لهم دليلَيْنِ أرشدوا الصليبيين في أثناء عبورهم إقليم العاصي !
وكذلك رأينا أمير حمص جناح الدولة حسين بن ملاعب - الذي كان يقاتل الصليبيين منذ شهور مع كربوغا - يُرسِل وفدًا محمَّلاً بالهدايا الثمينة يخطب ودَّ المحتلين؛ لكي لا يتعرَّضوا لإمارته بسوء ..

لقد كانوا يحكمون إمارات غير صالحة للاستقلال أبدًا، فالمساحات صغيرة والشعوب ضعيفة والإمكانيات هزيلة، ولكنهم يَقْنَعُون بها ليحتفظوا بالعرش، ولو كان عرشًا زائفًا لا قيمة له !! ثم مرَّ الجيش الصليبي على مدينة طرابُلُس اللُّبنانيَّة , وكانت هذه المدينة مقرَّ حُكم أحد العائلات الشيعيَّة ، وهي عائلة بني عمَّار ، وحاكمها في ذلك الوقت هو فخر الملك أبو عليّ ، ومع كونها شيعيَّة إلاَّ أنها كانت منشقَّة عن الدولة العبيدية بمصر ، وكانت هذه المدينة تُسيطر على عدَّة مدن وقرى مجاورة مكوِّنة بذلك إمارة واسعة نسبيًّا ، تحكم عدَّة مناطق في لُبنان وسوريا .

قرَّر فخر الملك أبو علي بن عمار أن يُهَادن الصليبيين ، فرفع أعلامهم على أسوار مدينته دلالة تبعيته لهم ، وأقرَّ بدفع جزية لهم ، وأرسل إليه ريمون الرابع بعض رسله للتفاوض فدخلوا مدينته ثم عادوا إلى ريمون بالأخبار السعيدة : إن المدينة شديدة الثراء ، عظيمة الجمال , وسال لُعاب ريمون الرابع ، ونسِيَ قضية القدس ، وتجاهل ملابس الحجاج ، ووجد في طرابلس الفرصة لتحقيق حلم الإمارة الخاصَّة به !

فكَّر ريمون ومن معه من القادة أن يضغطوا عسكريًّا على المدينة أو أعمالها لكي يَزيدوا في الجزية المعروضة أو أن يُسقطوا المدينة تمامًا، وهذا - لا شكَّ - أفضل ، وتوجَّه ريمون لحصار مدينة تسمى عِرْقَةَ شرق طرابلس وفي ذات الوقت هي مدينة غنية بمياهها وثرواتها الطبيعية ، وإتجه جودفري وروبرت لحصار مدينة جبلة ، وهي مدينة ساحلية سوريَّة جنوب اللاذقيَّة تتبع أيضًا طرابلس ، وسرعان ما أعلنت جبلة إستسلامها بعد حصار تسعة أيام من 2 إلى 11 مارس 1099م ، وأقرَّت بدفع جزية وفيرة من المال والخيول ، غير أن عِرْقَةَ صمدت ، وكانت مدينة حصينة فشل ريمون في إسقاطها .

إضطر ريمون أن يستنجد بجودفري وروبرت لإسقاط عِرْقَةَ فجاءا إليه واشتركا معه في الحصار ، وهذه الاستغاثة من ريمون رفعت من أسهم جودفري وقلَّلت من أسهمه هو ؛ فقد صار الصليبيون ينظرون إلى جودفري على أنه القائد العامُّ وليس ريمون الرابع .

وإستمرَّ الحصار حول عِرْقَةَ فترة طويلة ، وبدا للصليبيين أنهم سيُكَرِّرُون مأساة أنطاكية ، وفي هذه الأثناء وفي 10 من إبريل 1099م وصلت رسالة من الإمبراطور البيزنطي تعرض عليهم أن ينتظروه إلى آخر يونية ، وسوف يأتي بجيش كبير للإشتراك معهم في غزو بيت المقدس، وسيتحمَّل تكاليف الحملة كلها، والواضح أن الإمبراطور البيزنطي كان يعمل على كل الجهات ، ويتعامل بحرفيَّة عالية جدًّا مع الأمور، ويعرف احتياج الصليبيين إلى المساعدة .

إجتمع الصليبيون لمناقشة رأي الإمبراطور ، ولا شك أنهم كانوا في أزمة ، خاصةً أن أدهمار - المندوب البابوي - كان قد مات في أنطاكية بعد سقوطها بعدة أيام، وافتقد الجيش الصليبي الزعامة الرُّوحيَّة المجمِّعة، وصار كقوات التحالف التي لا يربطها رباط وثيق، فقد يقوم الإمبراطور بهذا الرباط ، فوق أنه ستحمل تبعات خطيرة سواء في الأموال أو في الأرواح ، فكانت هذه إيجابيات واضحة، لكنها لم تكن بلا سلبيات ، فالإمبراطور مخادع ، وقد يكون هذا مجرَّد تخدير للجيش الصليبي ، وقد تركهم قبل ذلك لمصيرهم في حرب كربوغا مع أنه وعدهم بالقدوم لنُصرتهم ، ثم هو يتعامل مع العبيديين الذين كانوا يحكمون بيت المقدس الآن ، هذا كله إضافةً إلى أن قدومه سيجعل بيت المقدس حقًّا خالصًا له، وهم - أي الزعماء الصليبيين - يريدونه لهم لا للإمبراطور .

ماذا رأى الزعماء الصليبيون ؟!

تزعَّم ريمون الرابع رأيًا يُنادي بإنتظار الإمبراطور، وهذا الرأي لم يكن بالطبع لمصلحة الجيوش الصليبيَّة إنما كان لمصلحته هو ، فالإنتظار سيعطيه فرصة أكبر لتحقيق حلمه بتكوين إمارة له في طرابلس ، وقد تساعده في ذلك القوات البيزنطية ، وسوف يعلم الإمبراطور البيزنطي القوي أن ريمون الرابع كان مناصرًا له ، وهذا قد يساعده كثيرًا في إستقرار أوضاعه ..

أمَّا جودفري بوايون فقد رأى رأيًا آخر ، لقد رأى أن إنتظار الإمبراطور تضييعٌ للوقت وللجهد ، وبِنَاء لقصور من الرمال ، وأنه من الأصلح أن تتوجَّه الجيوش مباشرة إلى بيت المقدس ، خاصَّة أن المقاومة الإسلاميَّة منعدمة في هذه المناطق حتى الآن .

وتَنَازَعَ الزعيمان ، وظهر التوتُّر بينهما ، والقضية لم تكن خالصة للربِّ ؛ فريمون له أطماع في طرابلس ، وجودفري له أطماع في بيت المقدس ، والأطماع متعارضة وإن كان الجيش واحد !!

وقف الزعماء جميعًا مع رأي جودفري بوايون ، وهذا رفع أسهمه أكثر وأكثر، وصار فعليًّا القائد الأعلى للجيوش الصليبيَّة , وعاند ريمون وأصرَّ على استكمال حصار عِرْقَةَ حتى إسقاطها، على الرغم من مرور أكثر من شهرين على حصارها دون فائدة وتأزَّم الموقف ومرَّت الأيام !!

وأخيرًا ، وفي (492هـ) 13 من مايو 1099م، وبعد حصار ثلاثة أشهر ونصف، اضطر ريمون لرفع الحصار لفشله في إسقاط المدينة الصغيرة عِرقة ، ولا شكَّ أن إسقاط طرابلس ذاتها سيكون أصعب وأصعب، ونزل ريمون على رأي جودفري وبقية الزعماء وقبلوا بجزية فخر الملك بن عمَّار , وأكملوا الطريق إلى بيت المقدس، بعد أن فقدوا وقتًا غاليًا، خاصَّة أن شهور الصيف قد قاربت على البدء، وهكذا بدأ الصليبيون في الاستعداد للرحيل، إلا أنهم فوجئوا بسفارة عبيدية مصرية تأتيهم عند أسوار طرابلس !!

ماذا يُريد العبيديون؟!

لقد جاءت السفارة محمَّلة بالأموال الغزيرة والهدايا الثمينة لكل قائد من قوَّاد الحملة ، وبعرضٍ من الدولة العبيدية أن تسهِّل حجَّ الصليبيين وكل النصارى إلى بيت المقدس (المحكوم حتى هذه اللحظة بالدولة العبيدية) ، على أن يدخل الحجاج إلى القدس غير مسلَّحين، وسوف تقرُّ الدولة العبيدية الصليبيين على ما تحت أيديهم من بلاد، سواء في آسيا الصغرى أو سوريا أو لبنان .
هكذا !!

ولكنَّ الصليبيين فاجئوا السفارة بالردِّ الساخر ، أنهم سيتمكَّنون من أداء الحج كما يريدون ولكن ليس بمساعدة الدولة العبيدية ، وهذا يعني إعلانًا مباشرًا للحرب , إذ كيف سيدخلون البلد دون سماح حُكَّامها ؟!

والحقُّ أن الموقف يحتاج إلى نظرة وتدبُّر ، وعودة للوراء قليلاً لنعرف شيئًا عن الدولة العبيدية، وعن تاريخ بيت لمقدس في هذه الفترة .

إن بعض المؤرِّخين - سواء من القدامى أو من المحدثين - يتعجَّبون من ردِّ فعل الدولة العبيدية تجاه الحملة الصليبية ، ومن حالة المعاملة الفجَّة التي ظهرت في أقوالهم وأفعالهم ، ومن بعض المواقف التي لا تُوصَف بأقل من أنها مخزية ومشينة ، ومع ذلك فالذي يُرَاجِع التاريخ يجد أنه لا عجب مطلقًا فيما رأيناه من ردِّ فعلٍ للدولة العبيدية تجاه الحروب الصليبية .

لقد كان من أهداف الدولة العبيدية الرئيسية منذ قامت هي أن تُحَارِب المسلمين السُّنَّة في كل مكان ، فقد حاربت أهل السُّنَّة في المغرب ، وقتلت العلماء والعُبَّاد ، وكان ذلك في سنة 296هـ ، ثم جعلت من همِّها أن تحارب الدولة السُنِّيَّة في الأندلس ، بل وتعاونت مع الصليبيين في شمال الأندلس ضد دولة عبد الرحمن الناصر رحمه الله ، ثم إجتاحت شمال إفريقيا ، وإحتلت مصر سنة 358هـ\ 969م ، وفعلت بعلمائها السُّنَّة مثلما فعلت في المغرب ، ثم توسَّعت في نفس السنة في الشام، وإحتلت بيت المقدس وكذلك دمشق , ودام هذا الإحتلال أكثر من مائة سنة ، لقد بقِيَ العبيديون في بيت المقدس حتى حرَّرها ألب أرسلان رحمه الله عن طريق قائده أتسز (الأقسيس) ، وذلك في سنة (463هـ) 1071م، ثم دخل بيت المقدس في مُلْكِ تتش بن ألب أرسلان سنة (471هـ) 1079م ، وتولَّى الإمارة حينئذ أرتق بن أكسب، ثم إبنه سكمان بن أرتق سنة (485هـ) 1091م تحت ولاية دقاق بن تتش مَلِكِ دمشق ..

ولكن العبيديين لم يُسَلِّموا بضياع بيت المقدس وفلسطين من أيديهم؛ ولذلك رحبوا بقدوم الصليبيين إلى آسيا الصغرى والشام لكي يشغلوا الأتراك السُّنَّة وينفردوا هم ببيت لمقدس وفلسطين ؛ ولذلك فقد استغلَّ العبيديون فرصة انشغال الأتراك في حرب الصليبيين، ووجَّهوا قوتهم لغزو بيت المقدس سنة (490هـ) 1097م ، وإستولَوْا عليه بالفعل , بل ولم يتورَّعوا عن القيام بمفاوضات مع الصليبيين لإقرارهم على الشام في مقابل إقرار الصليبيين لهم على فلسطين كما وضَّحْنَا .

إنه تاريخ طويل من الخيانة والعمالة والطعن في ظُهُورِ المسلمين السُّنَّة .

أمَّا الصليبيون فقد أخذوا قرار احتلال فلسطين، وخاصَّةً بيت المقدس ، فلا مجال عندهم الآن للتفاوض مع العبيديين، ومن ثَمَّ كان ردُّهم الساخر على سفارتهم .

وهكذا ترك الصليبيون طرابلس ووصلوا إلى بيروت فصيدا ثم صور ، والمسلمون في كل ذلك يتجنَّبونهم بالهدايا والأموال لكيلا يتعرضوا للإيذاء ، ثم اخترقوا لبنان إلى فلسطين، وعبروا نهر الكلب، وهو الحدُّ الفاصل آنذاك بين أملاك السلاجقة وأملاك الدولة العبيدية، فمرُّوا بعكا فقام أميرها العبيديّ بتمويلهم بالطعام والمؤن، ووعد بالدخول في طاعتهم بعد سقوط بيت المقدس !

ثم مرَّ الصليبيون بقَيْسَارِيَة ثم أُرْسُوف , ثم غيَّروا طريق الساحل، وشقُّوا البلاد شرقًا إلى الداخل صوب بيت المقدس، واحتلُّوا في طريقهم الرَّمْلَة، وهي مدينة صغيرة، ولكنها تسيطر على الطريق الواصل من بيت المقدس إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، فسيطر عليها الصليبيون ليؤمِّنوا طريقهم بعد ذلك إلى البحر ؛ حفاظًا على إمدادات السفن والأساطيل الأوربية ، وفي هذه المدينة (الرملة) توقَّف الصليبيون ليعقدوا اجتماعًا مهمًّا لتحديد خطوات الغزو، وكان ذلك في (492هـ) أوائل يونيو 1099م .

لقد بحث الصليبيون في هذا الاجتماع نقطة مهمة تُفَسِّر خطوات مستقبليَّة في الحملات الصليبيَّة ، لقد ناقشوا قضيَّة غزو القاهرة وإسقاط مصر !!

لقد فهم الصليبيون في ذلك الوقت المتقدِّم أن مفاتيح بيت المقدس موجودة في القاهرة ، ولم يكن هذا فقط لأن العبيديين يُسيطرون على بيت المقدس الآن ؛ فقد إتضح للصليبيين مدى هلعهم من قوَّة الصليبيين، ولكن للبُعْدِ الإستراتيجي المهمِّ لهذا البلد الكبير مصر، والذي يحدُّ فلسطين من جنوبها وغربها ، والذي به طاقة بشريَّة ضخمة ، وإمكانيات إقتصاديَّة عالية ، وشعور فطريّ بالتقارب مع فلسطين ، وخاصَّة فيما يتعلق ببيت المقدس ، وبه المسجد الأقصى ؛ لذلك فكَّر الصليبيون في هذا الاجتماع في قضية غزو مصر غير أنهم وجدوا أن قوتهم غير كافية لهذه الخطوة الجريئة ، خاصة أن عليهم إذا فعلوا ذلك أن يجتازوا حاجزًا صحراويًّا صعبًا وهو صحراء سيناء ، وقد تهلك فيه القوة الصليبية ؛ ولذلك عدلوا عن هذا الرأي ، وقرَّروا التوجُّه مباشرة إلى بيت المقدس ، لكن هذا الاجتماع أظهر فكرة ظلَّت مسيطرة على عقول قادة الحروب الصليبية وخلفائهم ، والتي وُضِعت بعد ذلك موضع التنفيذ في الحملتين الخامسة والسابعة من الحملات الصليبية، حيث تمَّ غزو مصر غزوًا صريحًاً ..

والسؤال :

أين الجيوش الإسلاميَّة في طول هذه المسافة التي قطعها الجيش الصليبي من أنطاكية إلى بيت المقدس، وهي مسافة تزيد على ستمائة كيلو متر ؟!

أليس في هذه المناطق كلها رجل رشيد ؟!

لقد افتقد المسلمون في هذه الآونة لمقوِّمات رئيسية من مقومات قيام الأُمَّة؛ لذلك قَبِلَتْ جموع المسلمين أن تَحُثَّ هذه الأقدام النجسة على طريقها إلى مسرى رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وأُولَى القبلتين وثالث الحرمين ، وإلى الأرض المباركة ، دون أن يتحرَّك لهم ساكن ؛ ولذلك حُصِر المسلمون في بيت المقدس !

لقد عانى المسلمون في هذا الوقت من أمراضٍ شتَّى .. لقد عانَوْا من بُعْدٍ عن الدين ، وغياب للحميَّة الإسلاميَّة ، وإفتقاد للنخوة المستندة إلى عقيدة قويَّة صحيحة , وعانوا كذلك من فُرقة مؤلمة ، وتشتُّت فاضح ، حتى صارت كل مدينة إمارة مستقلة، ودويلة منفصلة ، بل ومتصارعة مع جيرانها المسلمين .

وعانوا أيضًا من افتقار لزعامة مخلصة متجرِّدة، تجمع الشتات في كيان واحد، وترغب في رفعة هذه الأمة دون نظر إلى مصالح الذات ورغبات النفس , كما عانى المسلمون فوق ذلك من رؤية واضحة للواقع الذي يعيشونه، وللأخطار المحدقة بهم ، وعانوا أيضًا من نقص حادٍّ في الدراية السياسية أو الكفاءة العسكريَّة .

لقد كانت الأُمَّة تمرُّ فعلاً بأزمة مركَّبة معقدة !

لكن إن كنا نتعجب من موقف الأمة وتخاذلها، فإن العجب يأخذنا وبشكل أكبر من موقف الصليبيين ! كيف أَمِنُوا على أنفسهم أن يخوضوا كل هذه المسافات في عمق العالم الإسلامي ، وهم لا يشعرون بخوفٍ ولا وَجَلٍ ؟! إنهم يتوغلون في كثافة بشريَّة عالية جدًّا ، ومحصورون بين عدة إمارات تحوي عدَّة جيوش مسلمة ، والمسافة بينهم وبين أوطانهم بعيدة هائلة ، فلو هُزِمُوا سُحِقُوا ، وليس لهم مهرب ولا منجى !

كيف إستطاعوا أن يتغلَّبوا على الخوف الفطريّ للبشر ، وقَبِلُوا بهذه المغامرة الخطيرة ؟!
إن الإجابة بأنهم خرجوا من ظروف صعبة جدًّا في أوربا - كما فسرْنَا في أوَّل الكتاب - جَعَلَت الحياة هناك أقرب إلى الموت ، وجعلت طموحهم في ترك واقعهم الأليم يطغى على أية رغبة أخرى ، وجعلت الموت في أرض فلسطين لا يفترق كثيرًا عن الحياة في أوربا الفقيرة آنذاك , إن هذه الإجابة فقط لا تشفي الغليل ، ولا تفسِّر عدم الرهبة ، وقلَّة الاكتراث الذي رأيناه في الجيوش الصليبية ؛ فالروح عزيزة على النفس ، وخاصَّةً إن لم يكن الإيمان باليوم الآخر والجنة وازعًا قويًّا يدفع إلى الموت .

فما تفسير هذه المعادلة الصعبة ؟

ولماذا بدت الشجاعة في قلوب الصليبيين واضحة جليلة ؟!

إن هذا يفسره لنا حديث رسول الله - صلي الله عليه وسلم - الذي رواه ثوبان ، وبه يفسِّر الأوضاع وكأنه يراها رأي العين ؛ قال رسول الله : "يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا". قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: "أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ". قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: "حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ .


إن الأمم الغربيَّة التي تداعت من فرنسا وإيطاليا وإنجلترا وألمانيا لم تأتِ بهذه القوة والشجاعة إلاَّ لأنَّ الله عزوجل - نزع الرهبة من قلوبها من جموع المسلمين ، فصاروا لا يكترثون بهم ولا بأعدادهم وحصونهم وسلاحهم، ورأينا اجتماعات الصليبيين لا تُعَبِّر أبدًا عن خوف في صدورهم ، أو عن قلق من مقاومة المسلمين ، إنما يتحرَّكون هنا وهناك بحرية تامَّة، وباطمئنان كامل !!

والمسلمون على الجانب الآخر أُلقى في قلوبهم الوَهْن والضعف والخَوَر ، فيرتعبون لرؤية الجنود الصليبيين، ولو كان الصليبيون أقلَّ منهم في العدد، وأضعف منهم في العُدَّة .
ولنا مع الحديث وقفتان ، وإن كانت وقفاته كثيرة :

أمَّا الوقفة الأولى : فهي أن الله هو الذي ينزع الرهبة مِنَّا من قلوب أعدائنا، وهو الذي يلقي في قلوبنا الوهن ! وقد يقول قائل : ولماذا يفعل ربنا ذلك، مع أننا في النهاية مؤمنون ، وهم كافرون ؟! فنقول: إن الله أَبَى أن يُعِزَّ المسلمين إلا إذا ارتبطوا بالإسلام ، والتزموا بالقرآن والسُّنَّة ، ولو نَصَرَهُم وهم يُفْرِطون في الشرع لصارت فتنة عظيمة؛ إذ سيقول الناس : إننا لسنا في حاجة للإسلام، فقد نُصِرْنَا بغيره؛ لذلك تحدث مثل هذه المواقف العجيبة ليلتفت المسلمون إلى دينهم، وليضع المسلمون أيديهم على مفاتيح النصر الحقيقيَّة .

أما الوقفة الثانية : فإنها مع السبب الذي من أجله حدثت كل هذه التداعيات المؤلمة ، إنَّ وصف الحدث والمأساة أخذ كلمات كثيرة ، ولكن السبب وراء كل ذلك لم يأتِ إلاَّ في جُمْلَتين قصيرتين : حُبّ الدنيا، وكراهية الموت .

إن المسلمين تعلَّقوا بالدنيا تعلُّقًا غير مقبول ، حتى صاروا يكرهون الموت في سبيل الله، وأُمَّة ترهب الموت لا بُدَّ أن تُقْهَر، وأُمَّة تعشق الدنيا لا بُدَّ أن تذلَّ ، والدنيا ملعونة كما ذكر رسولنا , والمتمسِّك بها يهلك، ليس هذا فقط بل وتضيع منه الآخرة .

إن هذا السبب يُفَسِّر لنا التخاذل الرهيب الذي رأيناه من جموع المسلمين التي كانت تخرج إلى الصليبيين وهي تحمل الهدايا النفيسة ، والأموال الطائلة ، لكي يتركونهم "يعيشون"! مجرَّد حياة ، أيًّا كانت هذه الحياة، وهذا - والله - هو الهوان بعينه .

هكذا حُصِرَ المسلمون المتمسِّكون بدُنياهم في بيت المقدس، وراقب المسلمون البعيدون عن القدس الموقف في سكون، ينتظرون اليوم الذي ستدور عليهم فيه الدوائر !!

غادر الصليبيون الرملة في (492هـ) 6 من يونيو 1099م، ووصلوا حول أسوار بيت المقدس في (492هـ) 7 من يونيو 1099م. لقد وصلوا إلى المحطَّة الأخيرة في الخُطَّة التي وضعها البابا أوربان الثاني في كليرمون بفرنسا قبل هذا الموقف بأكثر من ثلاث سنوات ونصف .

ويفيض هنا المؤرخون الأوربيون في وصف مشاعر الصليبيين عندما رأوا المدينة المقدسة ! وليس هذا إلاَّ لتجميل الوجه القبيح للغزو الصليبي البشع، فهذه الجموع كثيرًا ما تردَّدت في الوصول إلى هذا المكان؛ لأنهم قَنَعُوا في الطريق بممالك أخرى، وهذه الجموع تنازعت كل أنواع الدنيا من مال وأسلاب وأملاك وزعامة، وهذه الجموع أقسمت الأَيْمان ثم غدرت، وهذه الجموع سترتكب في داخل المدينة المقدسة ما تخجل منه الإنسانية جميعًا !!

بدأ الحصار المحكم حول المدينة في يوم 7 من يونيو 1099م , ولم يُضَيِّع الصليبيون وقتًا، بل أخذوا يقصفون المدينة معتمدين على عدد كبير من آلات الحصار كانوا يصحبونها معهم ولم يمْلِك المسلمون في داخل المدينة إلاَّ محاولة المقاومة اليائسة، والمطاولة قَدْرَ ما يستطيعون .

وفي يوم 15 من يونيو 1099م، وبعد أسبوع من الحصار وصلت إلى ميناء يافا بعض السفن الجنويّة تحمل المؤن والسلاح وبعض الجنود، واستطاعت هذه السفن القليلة أن تُسيطر على ميناء يافا بسهولة؛ لأن السكان هجروا المدينة بعد أن اقترب الصليبيون من أُرْسُوف! وكان لهذه الإمدادات أكبر الأثر في تثبيت أقدام الصليبيين , ومن ثَمَّ ازداد الحصار ضراوة وقوة، ومرَّت الأيام الصعبة، والعالم الإسلامي يُشاهِد الجريمة في صمت، ومرَّ شهر كامل والمدينة محاصَرة ، وأصبح الموقف صعبًا على الفريقين؛ إذ بدأت حرارة الصيف تُلهب رءوس الصليبيين، فهذا شهر يوليو بشمسه الملهبة وترامت بعض الأخبار أن العبديين أخرجوا جيشًا من مصر لإنقاذ المدينة المحاصَرة، فأسرع الصليببيون الخطوات لكي يُسقطوا المدينة المقدسة قبل أن يتعرضوا للمشاكل التي عانوا منها في حصار أنطاكية ، وصنع الصليبيون بُرجين خشبيين للارتفاع فوق أسوار المدينة، وقد تم صنع هذين البرجين باستخدام خشب الأسقف من المنازل ببيت لحم بعد هدمها ، وبدأ الهجوم باستخدام الأبراج، وأحرق المسلمون البرج الأول باستخدام السهام المشتعلة ، غير أن الصليبيين إستطاعوا الضغط على المدينة باستخدام البرج الثاني، وعبر الجنود الصليبيون فوق الأسوار إلى داخل المدينة , واستطاعوا فتح الأبواب من الداخل، ومن ثَمَّ تدفَّق الصليبيون بغزارة داخل المدينة المقدسة !! وكان ذلك في يوم الجمعة 22 من شعبان سنة 492هـ الموافق 15 من يوليو سنة 1099م ، وهو من الأيام المحزنة التي لا تُنْسَى في تاريخ الأُمَّة ..

ولم يكن للمسلمين المحاصرين في داخل القدس من هَمٍّ إلاَّ الفِرار من وجه الجنود الصليبيين الذين كانت تبدو عليهم علامات الوحشيَّة والبربريَّة .

وتساؤل مهمٌّ :

أين كانت الحامية العسكريَّة العبيديَّة، وقائد المدينة العبيديّ إفتخار الدولة؟

لقد تركوا الشعب وذهبوا إلى محراب داود واعتصموا به ثلاثة أيام ، ثم في ظروف غامضة تم إخراجهم بواسطة الصليبيين في أمان تام , حيث نُقلوا إلى عسقلان ومنها إلى مصر دون أن يلحقهم أذى !! مما يؤكِّد أنهم إتفقوا مع الصليبيين على تسليم المدينة مقابل الأمان لهم ..وتُرِكَت المدينة بلا جيش !

وانطلق الصليبيون الهمج ليستبيحوا المدينة المستسلمة ، ولم يجد السكان المذعورون أملاً في النجاة إلا في الاعتصام بالمسجد الأقصى؛ لعل الصليبيين يحترمون قدسيَّة المكان، أو حُرمة دُور العبادة، لكن هذه المعاني لا تشغل عقول الصليبيين، لا من قريب ولا من بعيد ,وذُبح في المسجد الأقصى سبعون ألف مسلم، ما بين رجل وامرأة وطفل!! وهؤلاء هم كل سكان المدينة تقريبًا، فقد صُفِّيَتْ تمامًا، ولم ينجُ منها إلا الحامية العسكريَّة العبيديَّة ..


هذه هي الحملة الدينيَّة التي جاءت من أجل الربِّ، وخدمة للمسيح عليه السلام! وصمة عار حقيقية في جبين أوربا لا تُنْسَى على مرِّ العصور ! لقد ذكر وليم الصوري - وهو أحد مؤرِّخي الحرب الصليبية - أن بيت المقدس شهد عند دخول الصليبيين مذبحة رهيبة، حتى أصبح البلد مَخَاضَة واسعة من دماء المسلمين، أثارت الرعب والاشمئزاز ,
بل وذكر مؤرِّخ معاصر للحروب الصليبية أنه عندما زار الحرم الشريف غداة المذبحة الرهيبة التي أحدثها الصليبيون فيه ، لم يستطع أن يشقَّ طريقه وسط أشلاء المسلمين إلاَّ في صعوبة بالغة، وأن دماء القتلى بلغت ركبتيه ..

والجدير بالذكر أن القتل في هذا اليوم لم يكن خاصًّا بالمسلمين فقط، بل عانى منه اليهود أيضًا ، فلقد جمع الصليبيون اليهودَ في الكَنِيسِ ثم أحرقوه عليهم ! لقد كانت مجزرة تَطَهُّر عرقيّ بمعنى الكلمة .

ومع وصول الخبر إلى كل بقاع العالم الإسلامي سادت موجة كئيبة من الحزن والكمد، ولكنه - للأسف - كان حزنًا سلبيًّا، بل كان حزنًا مُقعِدًا شلَّ المسلمين عن الحركة، فلم نسمع عن حركة جيش لتحرير الأقصى والقدس وفلسطين، كما لم نسمع آنذاك نداءً شعبيًّا يُطالِب الحكام بحمل المسئولية , لقد كانت أزمة دينيَّة أخلاقية، شملت الشعوب جميعًا بحكَّامها ومحكوميها .

وفي نفس الوقت عمَّت الفرحة أرجاء العالم المسيحي ؛ فبيت المقدس لم يُحكم بالنصارى منذ خروج الدولة النورمانية منذ العام 16هـ\ 637م ، أي منذ أكثر من أربعمائة وسبعين سنة، وبيت المقدس كان الهدف الرئيسي المُعلَن للحملة الصليبية ، ومعنى هذا أن هذا هو أدلُّ برهان على نجاح الحملة وخطتها ، ونجاح البابا أوربان الثاني فيما خطط له، لكن من الجدير بالذكر أن البابا أوربان لم يسعد بسماع أخبار سقوط بيت المقدس في أيدي جنوده، فقد مات في 29 من يوليو 1099م، أي بعد سقوط بيت المقدس بأسبوعين، لكن الخبر ينتقل من القدس إلى روما في وقت أطول من هذا بكثير، ومن ثَمَّ فقد ترك الدنيا دون أن يعرف أن ثمرة جهده على وجه التحقيق ! وما نحسب أنه كان سيحزن للمذابح التي إرتكبت باسم المسيح في بيت المقدس ؛ لأنه شاهد قبلها مذابح أنطاكية ومعرَّة النعمان ولم يتكلم، بل وشاهد مذبحة سملين ضد نصارى المجَرِ ولم يتحرك ، كما أن البابا الذي تولى مكانه - وهو باسكال الثاني - لم يُعَلِّق على الأمر مطلقًا، بل ولم يُعَلِّق عليه أيٌّ من البابوات على مر التاريخ ، مع إعتراف جميع المؤرخين بأن هذه الحادثة البشعة راح ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء، ومع أنَّ بعض البابوات إعتذروا لليهود عن مذابح هتلر لهم ، بل ورفعوا من على اليهود إثم تهمة قتل المسيح ، مع قناعة المسيحيين - على خلاف عقيدتنا - أنه قُتل .

لقد صار السكوت على هذه الجريمة المنكرة أمرًا مطَّردًا وكأنه عقيدة يتوارثها الناس ، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على أن الروح الصليبية القاسية التي قادت الجيوش إلى مثل هذه الأفعال ما زالت تسري في أجساد كثير من القادة، سواء القادة المدنيين أو العسكريين أو الفكريين .

ونعود إلى بيت المقدس !

بعد أن خمدت الحركة تمامًا في بيت المقدس، واختفى المسلمون كُلِّيَّة من المدينة، دخل زعماء الحملة الصليبيَّة في مساء يوم سقوط القدس إلى كنيسة القيامة ليُصَلُّوا للربِّ على توفيقهم في هذا العمل، فلا شك أن كلاًّ منهم كان يُصَلِّي للربِّ أيضًا أن يُوَفِّقه في "حُكْمِ" المدينة المقدسة !! ودليل ذلك ما حدث بعد يومين من السيطرة على المدينة، وتحديدًا في 17 من يوليو 1099م حيث اجتمع الزعماء المتناحرون الطموحون لتنازع سلطة حكم بيت المقدس !

من يحكم بيت المقدس ؟

إن القضية شائكة جدًّا ، والأطراف المتنازِعة عليها كبيرة وكثيرة، وليس الإغراء في قصَّة بيت المقدس إغراء ثروة ومُلْكٍ فقط، بل هو إغراء شرف ورفعة كذلك؛ فالذي سيحكم بيت المقدس سيُصبح قِبْلَة النصارى من مشارق الأرض ومغاربها، وسينال وضعًا خاصًّا في الكنيسة العالميَّة، سواء كانت الغربيَّة أو الشرقيَّة أو الأرمينيَّة أو غيرها، وسيحفر اسمه في التاريخ كلِّه، فالقدس محطُّ أنظار كلِّ الديانات، ويُعَظِّمها المسلمون والنصارى واليهود .

إنها مدينة ذات طابع خاصٍّ جدًّا، لعلَّه لا يتكرَّر مع أي مدينة أخرى في العالم.
مَن هم المتنازعون على حكم بيت المقدس ؟

هناك زعماء الحملة الصليبيَّة الذين لم يغنموا بمُلْكٍ بعدُ، ولم يحصلوا على ما حصل عليه بلدوين في الرها أو بوهيموند في أنطاكية .
هناك جودفري بوايون أمير الجيش الذي خرج من شمال فرنسا واللورين وألمانيا، وكان من بداية خروجه وهو يأخذ طابعًا مميَّزًا يرفعه فوق بقيَّة القوَّاد؛ وذلك لانضمام عدد كبير من الأمراء تحت قيادته، ومعظم هؤلاء الأمراء أقوياء، بل إن هناك بلدوين الذي كان تحت قيادته، وهو يحكم الآن إمارة مستقلَّة هي الرها وكان جودفري بوايون يتبع في ولائه للإمبراطور الألماني القويّ هنري الرابع، وهذا يُعطِيه قوةً أكبر، ثم إنه كان محبوبًا من بقيَّة زعماء الحملة، حيث كان صدره متَّسِعًا لآرائهم، وكانت له الكثير من الآراء الحكيمة في أثناء سير الحملة ومعاركها
؛ وعلى هذا ففرصته في ولاية الأمر في بيت المقدس كبيرة .

وهناك أيضًا ريمون الرابع الذي حاول منذ بداية الرحلة أن يُضْفِي على نفسه شكلاً دينيًّا، وأن يجعل من نفسه وكأنه قائد الحملة بكاملها؛ لأنه صديق للبابا أوربان الثاني، ويتكلَّم كثيرًا عن الصليب والمسيح، ومن ثَمَّ فهو يعتبر نفسه أولى الناس بزعامة هذا المكان المقدَّس، ثم إن ريمون كان يُبَالِغ في تقدير إمكانيات نفسه، وكان هذا يبدو في شكل غطرسة وتكبُّر جعلت مكانته في قلوب بقية الزعماء تقلُّ , وجعلهم يرغبون في مخالفته لا لشيء إلا لإثبات وجودهم وعدم رغبتهم في أتِّبَاعه .

وهناك أيضًا بقيَّة الزعماء، وإن كانت فرصهم أقلَّ، مثل تانكرد النورماني ابن أخت بوهيموند الذي رفض البقاء مع خاله في أنطاكية؛ لأن لتانكرد أطماعه الخاصَّة، ولا يريد أن يكون تابعًا لأحد، بل يطمع في أن يكون أميرًا على إمارة خاصَّة به، وظهر ذلك منذ أوَّل أيام الحملة الصليبية في منطقة آسيا الصغرى، عندما كان يتنازع مع بلدوين على إمارة طَرَسُوس وغيرها .

أمَّا روبرت أمير الغرب الفرنسي فكان يُدْرِك أن إمكانياته أقلُّ من السابقين؛ ولذلك كان قانعًا بكونه قائدًا تابعًا لغيره، لا مستقلاًّ بذاته .. فهؤلاء هم زعماء الحملة الصليبية والمرشَّحون لولاية الكرسيِّ المهمّ في بيت المقدس .

لكن هل هم فقط الذين يطمعون في هذا الكرسيِّ؟!

إن هناك دون أدنى شكٍّ أطماع الكنيسة الكاثوليكيَّة، فالحملة خرجت من الأساس بتوجيه من البابا أوربان الثاني، والكنيسة كما ذكرنا قبل ذلك لم تكن شَرَفِيَّة فقط في هذه الأيام، إنما كانت قوَّة مؤثِّرة، لها إقطاعياتها وجيوشها وأموالها، والبابا له أطماع حكم كعامَّة الملوك والأمراء بل أشدّ، وهذا بيت المقدس ، وولاية الكنيسة عليه أمر منطقي تمامًا، لكنَّ الكنيسة مُنِيَتْ في الأيام الأخيرة بضربتين كبيرتين ؛ أما الأولى فوفاة المندوب البابوي المصاحب للحملة أدهمار، الذي تُوُفِّيَ في أنطاكية منذ عام واحد تقريبًا
، ولو كان موجودًا لكان تسلُّمه بيت المقدس أمرًا منطقيًّا تمامًا , والضربة الثانية كانت وفاة أوربان الثاني الذي حرَّك الجموع لهذه الحرب، ولا شكَّ أن حميَّته للقضية كانت أشدَّ من حميَّة البابا الجديد باسكال الثاني ، ومن ثَمَّ فإن مساحة حرِّيَّة الحركة عند الأمراء ستكون أوسع في ظلِّ الوضع الجديد .

ولقد كان النزاع قديمًا في أوربا بين العلمانيين اللادينيين وهم هنا طبقة الأمراء ، والكنسيين وهم البابوات والأساقفة والقساوسة ، ولا شكَّ أن في الظروف التي وصفناها صارت فرصة العلمانيين لولاية بيت المقدس أكبر وأعظم ..

غير أن هناك قوَّة أخرى كانت تطمع في ولاية بيت المقدس، وهي قوَّة الدولة البيزنطيَّة، ومن المؤكَّد أن أطماع ألكسيوس كومنين لا تقف عند آسيا الصغرى ، ومن المؤكَّد أيضًا أنها لا ينسَوْنَ تاريخًا قديمًا كانوا يحكمون فيه فلسطين بكاملها بما فيها بيت المقدس، والدولة البيزنطيَّة الآن ترى القوة الإسلاميَّة المنافِسَة لها تتهاوى، وفرصة استعادة الأملاك القديمة واردة، والجميع في هذه الحملة - باستثناء ريمون - كان قد أقسم يمين الولاء للإمبراطور البيزنطي، وحتى ريمون نفسه كان قد أقسم بحماية شرف الإمبراطور، كما أنه بالغ في تضخيم دور الإمبراطور في الأيام الأخيرة وأثناء حصار طرابلس .

هذا كله يعني أن الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة من المتوقَّع ألا تسكت على السيطرة الصليبيَّة على بيت المقدس ؛ ولذلك كان من الضروري للصليبيين أن يختاروا زعيمًا بسرعة يُرَتِّب الأوضاع، وينظِّم الجيوش ، ويستعدُّ للأيام القادمة، خاصَّةً أن الدولة العبيديَّة قد تُحَاول استرداد بيت المقدس بعدما ظهرت لها أطماع الصليبيين بوضوح، كما أن المسلمين في الشرق وفي الخلافة العباسيَّة قد يكون لهم دور في الأيام المقبلة .

من التحليل السابق يظهر أن التنافس محصور بين القائدَيْنِ العسكريين جودفري بوايون وريمون الرابع، ولكي لا تحدث مشاحنات بين الزعيمَيْنِ اجتمع عموم الزعماء ليختاروا مَنْ يتولَّى زعامة بيت المقدس، وكان هذا في 17 من يوليو 1099م ..

ومع أن الأمير ريمون كان أغزر مالاً وأعظم ثروة، ومع أنه كان أكثر طموحًا في التملُّك
إلاَّ أن الأمراء اجتمعوا على اختيار جودفري بوايون ليكون حاكمًا لبيت المقدس ؛ لأنهم في وجوده سيكون لهم رأي وأطماع، على العكس من ريمون الذي يتصلَّب في رأيه، ولا يقبل أحدًا معه في الحكم

وهكذا أصبح جودفري بوايون زعيمًا لبيت المقدس!

وقد حاول جودفري بوايون عند ولايته لبيت المقدس أن يُبْدِي شيئًا من التواضع يتناسب مع المهمَّة الدينيَّة المزعومة التي خرجوا من أجلها، فقال في البداية أنه يرفض هذه الولاية؛ لأن هذا شرف كبير لا يستحقُّه ليعطي الانطباع الكاذب أنه لم يأتِ إلى هذه البلاد طمعًا في مُلْكٍ، ولا حُبًّا في سيادة، ثم قَبِل بعد ذلك - بالطبع - عندما أصرَّ الأمراء عليه، ثم رفض لقب أمير أو ملك، واختار أن يُلقَّب بلقب ديني يدلُّ على تواضعه، وهو "حامي بيت المقدس"
، كما رفض أن يَلْبَسَ تاجًا من الذهب والمجوهرات في بلدٍ لَبِسَ فيه المسيح تاجًا من الشوك !

لقد كانت تمثيليَّة متقنة لإقناع العالم أن الصليبيين ما جاءوا إلى هذا المكان إلاَّ نصرة للدِّين، وأن زعماء هذه الحملة طيِّبون مخلصون متواضعون !

ولقد تعجَّبت كثيرًا عندما قرأت لبعض المؤلِّفين المسلمين الذين كتبوا عن الحروب الصليبيَّة من مراجع غربيَّة صليبيَّة، عندما وجدتهم يقولون : إن اختيار جودفري بوايون كان يرجع إلى طيبته، وكذلك إلى تواضعه وتقواه !!

يقولون هذا الكلام وينسَوْنَ أن هذا الاختيار له كان في يوم 17 من يوليو 1099م، أي بعد يومين فقط من ذبح سبعين ألف مسلم مدني من الرجال والنساء والأطفال
، وقَبْلَهُ ذبح أهل أنطاكية ومعرَّة النعمان كما مرَّ بنا .. إنها أزمة النقل الحرفي عن المؤرِّخين الغربيين دون إعطاء فرصة للعقل أن يتدبَّر أو يفهم !

إن التفسير المنطقي لهذه التصرفات من جودفري بوايون هو محاولة كسب ودّ وتعاطف بقيَّة الزعماء ليتمكَّن من السيطرة على الفِرَقِ المتباينة والمختلِفة في داخل الحملة الصليبيَّة، والذي يُفَسِّر اختياره لِلَقَبِ "حامي بيت المقدس"، وهو التقرُّب والتزلُّف للكنيسة لتَقْبَل به حاكمًا على بيت المقدس، فالتنافس بصفة عامَّة بين الملوك والأمراء وبين الكنيسة على المناصب والإقطاعات والسلطات كان كبيرًا ومشتهرًا في أوربا، فإذا أضفنا إلى ذلك أن المتنافَس عليه الآن هو مدينة القدس المقدَّسة، وإذا أضفنا أن المحرِّك للجموع الصليبية والمدبِّر لكلِّ تفصيلات الحملة كان أحدَ البابوات المهمين في تاريخ أوربا وهو أوربان الثاني، إذا أدركنا كلَّ ذلك عرفنا أنَّ الجميع كان يتوقَّع قيادة كنيسة بيت المقدس، وهذا يفسِّر محاولة جودفري بوايون الظهور بشكلِ الرجل المُتَدَيِّن جدًّا ليجمع بين صفات الملوك وصفات القساوسة !

ويُعَضِّد هذا ويؤكِّده ما فعله الصليبيون الزعماء، وفي مقدِّمتهم جودفري، حين قاموا باختيار بطريرك جديد للقدس، فاختاروا رجلاً ضعيفًا ليس له تاريخ مُشَرِّف، بل إنَّ هناك طعوناتٍ كثيرةً في أخلاقه بصفة عامَّة، وفي سلوكه أثناء الحملة الصليبيَّة بوجه خاصٍّ، وهذا الرجل هو أرنولف مالكورن، وهذا حتى لا يكون له أطماع في قيادة بيت المقدس، وسنرى في مستقبل الأحداث أنه ما إن يأتي رجل قوي يُمْسِك بزمام الكنيسة إلا وستكون له أطماع واضحة في حكم هذه المدينة المقدَّسة .

هذا ما يمكن أن يقال عن تواضع جودفري بوايون قائد الحملات الصليبيَّة!

ثم إنه بمناسبة الحديث عن الكنيسة في بيت المقدس، فإنه يجب أن نعرف أن الصليبيين غيَّروا الأوضاع تمامًا في المدينة، فاستبعدوا القساوسة الأرثوذكس من كنيسة القيامة، ممَّا أثار استياء المسيحيين المحلِّيِّين
، لكن لم يكن لهم يَدٌ في التغيير، كما أَجْبَر جودفري القساوسة الأرثوذكس على إعادة صليب الصَّلبوت - أو الصليب الأعظم - وكانوا قد أخْفَوْهُ ، وهو الصليب الذي يزعمون كَذِبًا أن المسيح قد صُلِبَ عليه ، ولم يَعُدْ أمام الأرثوذكس في بيت المقدس سِوَى قَبُول هذا الوضع بعد فقدانهم الأمل في تعيين بطريرك أرثوذكسي ؛ ليفتقد المسيحيُّون الشرقيُّون جزءًا كبيرًا من الحريَّة التي كانوا يَنْعَمُون بها في ظلِّ حُكْمِ المسلمين !

والآن؛ وبَعْدَ سقوط بيت المقدس، هل تحقَّق حُلم الصليبيين وهدفهم، ومن ثَمَّ يَكُفُّون عن التوسُّع والاحتلال ؟! إنَّ نَفْسَ الإنسان تُحِبُّ دومًا التملُّك والتكاثر؛ يقول الله : أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، ويقول رسول الله : لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لابْتَغَى ثَالِثًا، وَلاَ يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ , فهذه رَغَبَات الإنسان بصفة عامَّة، فما بالُكم برغبات قُسَاة القلب، غلاظِ الطِّباع كهؤلاء الهمج الذين جاءوا من غرب أوربا ؟!

لقد بدأ الصليبيون فورًا في النظر إلى ما حولهم من مدن وقُرًى ليتوسَّعوا أكثر وأكثر، والحُجَّة هي تأمين المدينة المقدَّسة، وحماية الطرق المؤدِّيَة إليها !! والواقع الأليم الذي كانت تعيشه الأُمَّة جعل هذه الأحلام الصليبيَّة مؤلمة، فالمسلمون هنا وهناك افتقروا إلى زعامة مخلِصة تجمعهم على الكتاب والسُّنَّة، وافتقروا إلى وَحْدَةٍ تجمع شملهم، وافتقروا أيضًا إلى رُوحٍ جهاديَّة وحُبٍّ للموت في سبيل الله، فأذهلتهم مذابحُ القدس، وقرَّرُوا فعل أي شيء ليتجنَّبُوا الموت، ومن ثَمَّ أُطْلِقَتْ أيدي الصليبيين في فلسطين .

وكانت أوَّل المدن الفلسطينيَّة سقوطًا بعد القدس هي مدينة نابُلُس، التي تقع على بُعْدِ خمسين كيلو مترًا فقط شمال القدس، وكان سقوطها مزريًا؛ حيث جاء أهلها بأنفُسُهم لتسليم المدينة للصليبيين، فتَسَلَّمَهَا تانكرد في (492هـ) أواخر يوليو 1099م ..

وفي الرابع من أغسطس عام 1099م - أي بعد سقوط بيت المقدس بعشرين يومًا - وَصَل الجيش العبيديّ إلى ميناء عَسْقَلان لقتال الصليبيين ، واكتشف الصليبيون أمر الجيش وهو ما زال بالميناء، فأسرعت القوَّات الصليبيَّة من كل مكان، وحدث قتال كبير بين الجيشين، وخاصَّة أنَّ كلاًّ منهما يقوده الزعيم الأكبر في كل جيش؛ فجيش الصليبيين على رأسه جودفري بوايون، وجيش العبيديين على رأسه الأفضل شاهنشاه بن بدر الجَمَالِيّ
، وهو الوزير الأوَّل في مصر والمتحكِّم في الأمور بها، وهو أعلى سلطةً وأَجَلُّ من الخليفة العبيديّ نفسه .

دارت الموقعة في (492هـ) الثاني عشر من أغسطس عام 1099م، وما هي إلاَّ لحظات قليلة حتى تشتَّت شمل العبيديين، وقُتِلَ منهم العددُ الكبير، وفرَّ الأفضلُ الجَمَالِيُّ مع بعض مقرَّبيه على سفينة راجعًا إلى مصر، وكانت هذه المعركة خاتمة للمحاولات الجادَّة من الدولة العبيديَّة لاسترداد المفقود من أرض فلسطين ..

ثم إننا نحِبُّ أن نتوقَّف وقفة مع ما حدث بعد ذلك من الصليبيين تجاه مدينة عَسْقَلان المُسْلِمَة؛ لنرى طبيعة العَلاقة بين زعماء الجيش الصليبي وأهداف القتال والغزو، ولنعرف أيضًا طبيعة المسلمين في ذلك الوقت .

لقد حاصر الصليبيون فورًا مدينة عَسْقَلان مستغِلِّينَ الحالة المعنويَّة العالية لجنودهم، والإحباط الذي أُصِيبَ به المسلمون، وقد أُسْقِطَ في يَدِ المُسْلِمِينَ، فَهُمْ لا طاقة لهم بجودفري وجنوده، فماذا يفعلون ؟!

لقد ترامت الأنباءُ إلى داخل أسوار عَسْقَلان أنَّ الذي أخرج الحامية العبيديَّة من داخل بيت المقدس بأمان هو العهد الذي أعطاه إيَّاهم ريمون الرابع أثناء عملية الغزو ، ولعلَّه قد ترامى إليهم أيضًا أنَّ هناك خلافًا بين جودفري وريمون على زعامة الصليبيين، وقد يكون ريمون أعطى قبل ذلك الأمان لجنود الحامية نكايةً في جودفري، وكنوع من إثبات الوجود في داخل الجيش الصليبي، ومن ثَمَّ فقد رأى أهل عسقلان أنهم لو طلبوا الأمان من ريمون الرابع فإنَّ هذا سيكون أوقع ، حيث سَيَتَحَمَّس ريمون لمعارضة جودفري، ولكسب يَدٍ عند أهل عَسْقَلان، فهو رجل يبحث عن إمارة له، فلماذا لا تكون عَسْقلان هي إمارته، إذا كان سيُعْطيهم وعدًا بالحياة !

هكذا فكَّر أهل عسقلان ! ولقد صدق حَدْسُهم !

لقد تحمَّس ريمون لقضيَّة أهل عَسْقَلان، وتناقش فورًا مع جودفري لفكِّ الحصار عن عسقلان، لكن جودفري أيقن أنَّ ريمون لا يريد رفع الحصار عطفًا على أهل عسقلان، أو رغبة في إظهار محاسن الأخلاق، إنما أراد ذلك لتكون عسقلان إمارة له، وهذا يتعارض مع أهداف جودفري نفسه، فهو يريد لميناء عسقلان أن يكون تابعًا لبيت المقدس، حتى يكون له مخرجٌ كبير على البحر الأبيض المتوسط يستوعب الإمدادات البشريَّة والعسكريَّة والغذائيَّة القادمة لمدينة القدس الداخليَّة، كما يُريد موانئ تِجَارِيَّة تُنْعِشُ اقتصاديَّات بيت المقدس؛ لذلك رفض جودفري صراحة أنْ يُعْطِيَ عسقلان لريمون، وغضب ريمون جدًّا لدرجة أنه قرَّر أنْ يَنْسَحِبَ بجنوده من الحصار، مُفَضِّلاً أن تبقى عسقلان في يَدِ المسلمين على أنْ يأخذها جودفري بوايون ..

وهذا ما حدث بالفعل ! لقد ضعفت قوَّة الحصار عن المدينة بعد إنسحاب ريمون ، بل إنَّ ريمون أسرع إلى مدينة أخرى هي أُرْسُوف؛ ليقوم معها بنفس المهمَّة آملاً أن تكون أُرْسُوف هي إمارته، فأسرع خلفه جودفري تاركًا عَسْقَلان، وكرَّر نفس الحوار مع ريمون، فجودفري - الطيب كما يدَّعون، والتقيُّ كما يصفون - يُريد لأُرْسُوف أيضًا أن تكون تابعة له !

وإشتدَّ غضب ريمون، وإن كان لم يستطع أن يفعل شيئًا، كذلك شَعَرَ بقيَّة الأمراء أنَّ هذا الفكر الاستحواذي الذي يتعامل به جودفري سيمنعهم من تنفيذ أي طموح، أو امتلاك أي شيء، وخاصةً أنهم أضعف من ريمون؛ ولذلك فقد قرَّر الجميع أن يتركوا الساحة خالية لجودفري !

أما ريمون فقد توجَّه إلى الشمال في مناطق لُبْنَان والشام؛ ليبحث له عن مُلْكٍ بجوار أنطاكية، وأمَّا بقيَّة الأمراء - وعلى رأسهم روبرت النورماني، وروبرت دي فلاندر فقد قرَّروا العودة إلى فرنسا ، ولا شكَّ أنهم حُمِّلوا في عودتهم بكَمِّيَّات هائلة من الأموال والغنائم يُعَوِّضهم عن ترك الساحة بكاملها لجودفري وجنوده، وهكذا لم يبقَ مع جودفري من زعماء الحملة الصليبيَّة إلا تانكرد النورماني ، الذي آثر أن يبقى مع جودفري ولا يذهب إلى خاله بوهيموند ؛ حيث يُمْكِنُ له في فلسطين أنْ يستحوذَ على إمارة هنا أو هناك، ولو تحت حكم جودفري العامِّ، بينما سيكون الحُكْمُ في أنطاكية مقصورًا على خاله فقط !! إنها المصالح الشخصيَّة فقط هي التي تحكم تصرُّف كل زعيم من زعماء الحملة الصليبيَّة !
ولم يُخَيِّب جودفري ظنَّ تانكرد، إذ أَمَرَهُ أنْ يحتلَّ إقليم الجَلِيل، فإن وُفِّق في ذلك كان واليًا عليه، وتحمَّس تانكرد جدًّا للمهمَّة
، ولم تكن مسألةً صعبةً، فهو مع قلَّة رجاله، وضعف إمكانياته بعدَ رحيل العديد من الأمراء والجنود إلاَّ أنَّ أهل الإقليم كانوا أضعف، حتى إنَّه احتلَّه في فترة وجيزة، وأيضًا احتلَّ مدينة طبرية في سهولة بعد أن هرب منها أهلها ، وفَعَلَ الشيء نفسه في مدينة بيسان في الجنوب الشرقي لإقليم الجَلِيل، وهكذا صار إقليم الجَلِيل تابعًا للصليبيين وتحت إمارة تانكرد، على أن هذا الإقليم صار تابعًا لبيت المقدس وليس مستقلاًّ بذاته .

وهكذا صارت عدَّة مُدُنٍ من مُدُن فلسطين تحت سيطرة الصليبيين، منها بيت المقدس ويافا واللُّدُّ والرملة ونابُلُس وبَيْسَان وطبرية
، وفي نفس الوقت لم يستطع الصليبيون في هذه المرحلة أن يحتلُّوا عكَّا أو عَسْقَلان أو أُرْسُوف، ولم يستطيعوا دخول لُبْنَان، حيث بقِيَت طرابُلُس وبَيْرُوت وصيدا في أيدي المسلمين ..

ومن الجدير بالذِّكر أنْ نعلم أنَّ القوَّة الصليبيَّة في كل هذه المدن الفلسطينيَّة المحتلَّة - بما فيها بيت المقدس - كانت ضعيفة جدًّا؛ لتَفَرُّقِ الحاميات الصليبيَّة بين هذه المدن الكثيرة، ولرجوع أعداد كبيرة من الجُنْدِ إلى فلسطين، وأيضًا لانسحاب ريمون بجيشه إلى الشمال بعيدًا عن فلسطين وعن نفوذ جودفري
، وعلى الرغم من هذا الضعف إلاَّ أنَّ المقاومة الإسلاميَّة آنذاك كانت أضعف ؛ حيث هُزِمَ المسلمون نفسيًّا قبل أن يُهْزَمُوا عسكريًّا، وشعروا أنَّ قتال الصليبيين ضربٌ من المستحيل ، وهذا أدَّى إلى استقرار الصليبيين على الرغم من قلَّة أعدادهم !

وقبل أن تتعجَّب لعلَّك ينبغي أنْ تُفَكِّرَ في بقاء اليهود في زماننا الآن بأعدادهم القليلة جدًّا وسط هذا الكمِّ الضخم الهائل من المسلمين؛ لندرك جميعًا أن القضيَّة ليست قضيَّة أعداد وعُدَّة، ولكنها قضيَّة دين وعقيدة وفكر ورُوح .

ولكن ينبغي أيضًا أن نَقِفَ وقفة مع جودفري وسياسته في السيطرة على الأوضاع في فلسطين، على الرغم من قلَّة أعداد جنوده واتساع المساحة المحتلَّة، لقد سلك جودفري عدَّة طُرُق لتأمين المناطق التي يحتلُّها، يَحْسُنُ بنا أن نَقِفَ معها بتدبُّر؛ فالتاريخ يتكرَّر!

أوَّلاً : عَمِلَ جودفري على تقوية وتحصين ميناء يافا فهو المَنْفَذ البَحْرِيُّ الوحيد حتى هذه اللحظة لبيت المقدس ، وهي شِرْيَان الحياة الذي ينبغي أن يَظَلَّ مفتوحًا وقويًّا ، ولقد قَوِي شأنُ يافا تِجَارِيًّا وعسكريًّا حتى أثَّرت في كل الموانئ المحيطة بما فيها موانئ مصر كالإسكندريَّة ودِمْيَاط ..

ثانيًا : الاتفاق مع الجمهوريَّات الإيطاليَّة على إمداد بيت المقدس بالأساطيل التِّجاريَّة والعسكريَّة؛ وذلك لحماية الشواطئ الفلسطينية، ولقد كانت الجمهوريَّات الإيطاليَّة في ذلك الوقت وخاصَّةً بيزا وجنوة والبندقيَّة تمتلك أقوى أساطيل البحر الأبيض المتوسط وهكذا سيطر الإيطاليُّون فعلاً على مجريات الأمور، فخَبَتْ جذوة الموانئ الإسلاميَّة كثيرًا , بل إنَّ الإيطاليين كانوا يهاجِمُون السفن القادمة من مصر؛ فيستولون على تجارتها ويقتلون تُجَّارَها ، ومع مرور الوقت ضعفت موانئ عكَّا وأُرْسُوف وغيرهما، ممَّا سيُسَهِّل بعد ذلك إحتلالَهم .

ثالثًا : سياسة الإرهاب والبطش والمذابح البشعة التي تُحْدِثُ آثارًا إعلاميَّة ضخمة ، ومن ذلك مثلاً ما فعلوه مع بعض المزارعين من أُرْسُوف الذين أمسك بهم الصليبيُّون أثناء خروجهم من حصونهم لرعاية أراضيهم الزراعيَّة، حيث لم يَكْتَفِ الصليبيُّون بقتلهم بل وقطعوا أنوفهم وأيدِيَهم وأرجلَهم؛ لبثِّ الرُّعْب في قلوب المسلمين ..

رابعًا: حرص الصليبيون على طريقة خبيثة تُمَكِّنُ لهم السيطرة على البلاد، وفي نفس الوقت تضمن لهم أنْ تسيرَ الأمور بصفة عامَّة على ما يُرَامُ، فسياسة الإرهاب وحدها لن تؤَدِّيَ إلى النتائج المرجُوَّة، حيث قد يُسيطر الصليبيون على الأوضاع أمنيًّا، لكنهم سيتأثَّرون سلبًا تجاريًّا ومدنيًّا، فأعداد الصليبيين قليلة، ومن ثَمَّ فهم يحتاجون إلى الفلاحين المسلمين ليزرعوا الأراضيَ الواسعة، ويحتاجون إلى العُمَّال المسلمين ليقوموا بأعمال البناء والتشييد وتمهيد الأراضي، بل وبِنَاءِ القلاع والحصون، وهم في نفس الوقت يحتاجون إلى الشعب المسلم هناك لكي يتعامل تِجَارِيًّا مع البضائع الإيطاليَّة والغربيَّة، وإلاَّ فتَوَقُّف التِّجارة سيؤدِّي إلى نفور السفن الإيطاليَّة عن البقاء في هذا المكان، ومن ثَمَّ ستضعف القوَّة البَحْرِيَّة لبيت المقدس .

من أجل ذلك كلِّه حرص جودفري على اتِّباع سياسة جديدة حقَّقت مصالح جمَّة للصليبيين، وهي سياسة مباحثات السلام !! لقد فكَّر جودفري في هذه السياسة الماكرة التي تُحَقِّق مصالح هائلة له، ودون أن يخسر شيئًا، لقد عرض على المدن الإسلاميَّة التي لم تسقط بعدُ أن تَعْقِد معه اتفاقيَّات سلام ، يبقى فيها الحُكْمُ في يَدِ الحاكم المسلم، ولا تدخل حامية صليبيَّة في داخل المدينة، وهذا الحُكْمُ الذاتيُّ سيُعْطِي الحاكمَ المسلم ما يرغب فيه من قوَّة تَسَلُّطِيَّة، ومن وضع اجتماعيٍّ ، وسيُعطي الشعب الأمانَ الذي يُريده، والاستقرارَ الاقتصاديَّ الذي يتمنَّاه، ولكن ما هو المقابل الذي سيأخذه جودفري ؟! إنه ليس من أدنى شكٍّ أنَّ أحلام جودفري التوسُّعيَّة لن تتوقَّف ، فلماذا يَقْبَلُ بمثل هذه المباحثات السِّلْمِيَّة، وهو الذي مَسَح منذ أَمَدٍ كلمة (السلام) من قاموسه ؟! إنها المصالح الهائلة المتحقِّقَة، وهي واضحة لكلِّ مُحَلِّلٍ ومدقِّق في الأحداث، إلاَّ مَنْ عَمِيَتْ بصيرته ، أو أَغْفَلَ النظرَ عمدًا؛ خيانةً منه للوطن والعِرْضِ والدِّين !!

وبعض هذه المصالح يتلخَّص فيما يلي :

أوَّلاً : ولعلَّ هذه أهمُّ المصالح مطلقًا، وهي "الاعتراف بدولة بيت المقدس الصليبيَّة"، أي الاعتراف أن بيت المقدس من حقِّ الصليبيين، وليس للمسلمين أن يُطَالِبُوا به في يوم من الأيام، وتُصْبِحُ المفاوضات هي التوثيق الطبيعي لهذا الكيان الصليبي، وهذا سيُعْطِي شرعيَّة قانونيَّة للصليبيين ضدَّ المسلمين، وأيضًا للبيزنطيين .

وهذا الاعتراف وإنْ كان شكليًّا في الوقت الحاضر إلاَّ أنَّ آثارَه في المستقبل ستكون مُعَقَّدة جدًّا، وسيُصْبِح من الصعب على الأبناء والأحفاد أن يُطالِبوا بحقٍّ فرَّط فيه الآباء والأجداد .

ثانيًا : الصليبيون يُعانُون من نقص في الأعداد، وهم وإن كانوا يسعَوْنَ الآن لاستقدام الأفواج النصرانيَّة من أوربا ليستوطنوا في فلسطين، إلاَّ أنهم في حاجة شديدة للأيدي العاملة، ونقص الأيدي العاملة سيؤدِّي إلى بوار الأرض وقلَّة الغذاء، وعدم القدرة على بناء المستوطنات والحصون، فلو كانت هناك عَلاقة سلام حقيقيَّة لخرج المسلمون البسطاء ليعملوا في الأملاك الصليبيَّة، وحين يكثُر الصليبيون القادمون من أوربا سيُطْرَد المسلمون من أعمالهم، وقد يُطْرَدون من البلد بكاملها .

ثالثًا : التُّجَّار الإيطاليُّون سيجدون مشْتَرِين لبضائعهم، وطريقًا مفتوحًا لبلاد الشرق بكاملها، ولا شكَّ أنَّ هذا إغراءٌ كبير للجمهوريَّات الإيطاليَّة يضمن بقاءها في المنطقة، وهي ضروريَّة جدًّا لتأمين الصليبيين .

رابعًا : ستؤَدِّي هذه المباحثات إلى تقطيع الوشائج والعَلاقات بين أهل فلسطين وبقيَّة أقطار العالم الإسلامي، فهذه الأقطار سَتَرَى أنَّ العَلاقة أصبحت سلميَّة بين العدوِّ والشعب المحتلِّ، وسيقولون أنَّ أهل البلد قد ارتضوا ضياعه، وفي ظلِّ غياب الفَهْمِ الإسلامي الصحيح لن يُدْرِكَ المسلمون في أقطار العالم الإسلامي أنَّ القضيَّة ليست فلسطينية محلِّيَّة، بل هي إسلاميَّة عامَّة، ولا يحقُّ لأهل فلسطين - حتى إذا أرادوا ذلك برغبتهم - أنْ يبيعوا البلاد لأعداء المسلمين .

خامسًا : سيحدث إنقسام خطير في المجتمع الفلسطيني ، وكذلك في المجتمع الإسلامي كَكُلٍّ؛ فهناك فريق سيَرْضَى بالتصالح مع الصليبيين من أجل الحياة، وسيرضى بالتعايش السلمي مع المحتلِّ، وسيقبل بالأمر الواقع ولو كان مُرًّا، وهناك فريق آخر سيرفع راية الجهاد في سبيل الله، ويرفض الظلمَ، ويأبى أن يبيع دينه وأرضه، وليس بمُسْتَبْعَدٍ أبدًا أن يتناحر الطرفان ويتصارعان، بل قد يصل الأمر إلى القتال بالسلاح، وهذا ما حدث تمامًا؛ إذ كان لِزَامًا في وقت من الأوقات على المجاهدين في سبيل الله أنْ يُقَاتِلوا أولئك الذين فَرَّطُوا في كل شيء من أَجْلِ كرسيٍّ أو صفقة أو أمان، ولا يخفى على أحد أنَّ حدوث مثل هذا التصارع سيؤدِّي إلى فشل الصفِّ المُسْلِم، وَثَبَاتِ المحتلِّينَ في الأرض .

سادسًا : ولعلَّ من أخطر نتائج هذه المباحثات هي أنها تُؤَدِّي مع مرور الوقت إلى تسكين الرُّوح العَدَائيَّة عند المسلمين تجاه الصليبيين المحتلِّين، فبعد مرور عدَّة سنوات أو أجيال لن تُصبح العَلاقة بين الفريقين عَلاقة ظالم ومظلوم، أو مغتصِبٍ ومنهوب، ولن يُنْظَرَ إلى الصليبيين على أنهم أعداءٌ مجرمون، ولكن ستُصبح العَلاقة عَلاقة صداقة وجِوَار، ومودَّة ووئام , وفي غضون هذه الأوضاع المقلوبة سيُنْزَعُ الجهاد من قلوب الأجيال القادمة، وسيرى المسلمون السفَّاح الصليبي رجلاً وديعًا محبًّا للسلام ، وقد يُطلَق على هؤلاء الراغبين في السلام أنهم الحمائم ، ويُطلق على مَنْ يرفُض هذا الوضع المُخِلّ أنه إرهابي يُرِيد زَعْزَعَة الاستقرار في المنطقة، وينظر تحت قدميه ولا يرى المستقبل .

سابعًا : في غضون هذه المباحثات السِّلْمِيَّة سيُحْرَم المسلمون من أيِّ استعداد عسكري، وستُقَيَّد حركتُهم، ولن يُسْمَح لهم بتكوين جيش، بل قد يحتفظون فقط بشرطة محلِّيَّة تُنَسِّقُ أمور مدنهم، دون القدرة على قتال الجيوش الصليبيَّة، وسيُسَيْطر الصليبيُّون على كل المحاور، ولن يخرج مسلم من بلده إلاَّ بإذن الصليبيين، وكذلك لن يدخل إلى هذه البلاد المُسْلِمَة مسلمٌ من بلد آخر، وهكذا ستمرُّ السنواتُ ويَنْسَى المسلمون في هذه البلاد كلَّ طُرُقِ الحرب والقتال، وتتَّسع الفجوة بين الصليبيين والمسلمين .

ثامنًا : سيدفع المسلمون في هذه البلاد إتاوة سنويَّة أو جزية للصليبيين في سبيل استمرار هذه العَلاقة السلميَّة، وهذه الجزية إضافةً إلى أنها ستستنزف الطاقات الإسلاميَّة، وستُنْعِش الكيان الصليبي فإنها ستهزُّ معنويًّا أهل البلد المسلم، فيشعرون دومًا بالتبعيَّة للكيان الصليبي .

هذه هي بعضُ المصالح التي رأت الجيوش الصليبيَّة أنها ستتحقَّق إذا ما أتمَّت مباحثات السلام مع مسلمي فلسطين، وهي مصالحُ هائلةٌ كما رأينا؛ ولذلك فليس مستَغْرَبًا أبدًا أنْ نرى جودفري السفَّاح الذي أشرف على ذبح سبعين ألف مسلم منذ أيَّام أو أشهر يمدُّ يَدَه بالسلام نحو المسلمين الذين لم يتعرَّضوا للمذبحة !! وما أكثرَ السفَّاحين الذين يمدُّون أيديهم بالسلام!! ولكن لاستكمال الصورة فإننا لا بُدَّ أن نَعْلَمَ أنَّ كُلَّ ما فعله الصليبيون هذا إنما هو مؤقَّت، وإلى أَجَلٍ مُعَيَّن، ويوم يَجِدُ الصليبيون في أنفسهم القدرة على نقض العهد، وإلغاء المفاوضات، واحتلال البلاد المسلمة فإنهم لن يتردَّدوا في ذلك مطلقًا، وستُصبح المعاهدة حبرًا على ورق، وسيحُلُّ السيف محلَّ غصن الزيتون، وسيدفع المسلمون ثمن الغِشاوة التي وضعوها على أبصارهم وهم يُسَاقُون إلى المقصلة على مَرْأًى ومَسْمَعٍ من العالمين .

وهكذا تمَّت هذه المباحثاتُ الآثمة - التي أُطْلِقَ عليها مباحثاتُ السلام - مع عدَّة مدن فلسطينية مثل عَسْقَلان وأُرْسُوف وعكَّا وقَيْسَارِيَة وغيرها ، وطالت أعمار ساكنيها قليلاً انتظارًا لزحف صليبي جديد عندما تحين الفرصة .

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 04-03-14, 04:33 AM

  رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

وقفة للتحليل بعد سقوط بيت المقدس

الآن وبعد سقوط بيت المقدس في قبضة الصليبيين، وبعد مرور أكثر من سنتين على نزول الصليبيين أرض الإسلام نحتاج أن نقف وقفة لتحليل الوضع .

فالأمور أصبحت متشابكة جدًّا ، والقوى المتنازعة على حكم الشام وفلسطين وآسيا الصغرى كثيرة، ولا بد من أخذ صورة عامة عن حال كل قوة على الساحة ؛ لنفهم التطورات التي سنُقبل عليها في القصة بعد ذلك، وعليه فإننا سنقف هنا عشر وقفات مهمة :

الوقفة الأولى : مع حال الإمارات الصليبية التي تكوَّنت في أرض الإسلام ، وحال الزعماء الصليبيين الذين قطعوا المسافات لتحقيق أحلامهم التوسعية .

أول الإمارات تكوينًا كانت إمارة الرها، وتولى قيادتها بلدوين أخو جودفري بوايون، وكانت قاعدتها هي مدينة الرها غرب الفرات ، وإستطاع بلدوين أن يضم إليها مدينة سُمَيْساط وسروج، وبذلك تكوَّنت الإمارة في شمال الجزيرة، أي المنطقة الواقعة بين دجلة والفرات، وكذلك غرب الفرات ، وهي في تقسيمات الدول الحالية تضم أجزاء من العراق وسوريا وتركيا، وهذه الإمارة كان يغلب على سكانها الأرمن، ولم تكن تدين بالولاء حتى هذه اللحظة للقوات الصليبية ولا للدولة البيزنطية، ولكنها كانت منفصلة مستقلة، وبذلك تحققت فيها أحلام بلدوين .

وأمَّا الإمارة الثانية التي تكونت فهي إمارة أنطاكية، وهي مكوَّنة من مدينة أنطاكية في الأساس، وبعض المدن الصغيرة والقرى في شمالها وجنوبها وشرقها، وكان على رأس هذه الإمارة بوهيموند النورماني، وبها غالب الجيش النورماني، وسيطر عليها بوهيموند بعد صراع مع ريمون الرابع كونت تولوز، وكان غالبية السكان من النصارى الكاثوليك وهو جيش بوهيموند والنصارى الأرثوذكس ، وكذلك الأرمن الذين يعيشون في هذه المدينة منذ أمدٍ، أما مسلمو المدينة فقد ذُبح أكثرهم، وطُرد الباقي إلى المناطق المجاورة .

وبذلك حقَّق بوهيموند أطماعه هو الآخر، وكوَّن إمارة مستقلة عن القوات الصليبية، وأنكر بوهيموند في الوقت نفسه صلته الحميمة بإمبراطور الدولة البيزنطية ألكسيوس كومنين، ومن ثَمَّ أصبحت إمارة أنطاكية معادية للدولة البيزنطية كما هي معادية للمسلمين .

ومع أن الإمارتين السابقتين منفصلتان تمامًا عن القوات الصليبية التي أكملت الطريق إلى بيت المقدس، فإنَّ وجودهما كان له أكبر النفع لهذه القوات الصليبية الغازية؛ حيث كانت تقوم بدور عزل القوات السلجوقية عن الجيش الصليبي، ومن ثَمَّ تأمين ظهره أثناء عملية التقدم إلى بيت المقدس، وقد ظلت هاتان الإمارتان - وخاصةً إمارة الرها - تتحملان عبء صدِّ الهجوم القادم من شرق العالم الإسلامي في السنوات اللاحقة .

وثالث الإمارات تكوينًا كانت إمارة بيت المقدس، والتي لن تلبث إلا قليلاً - كما سيتبين لنا - حتى تتحول إلى مملكة متكاملة، فقد قامت على مساحة واسعة نسبيًّا من أرض فلسطين تشمل مدينة القدس ذاتها، إضافةً إلى يافا والرَّمْلة واللُّدِّ، مع عقد معاهدات استسلام مع عكَّا وقَيْسَارِيَة وأُرْسُوف وعَسْقلان، ورأس هذه الإمارة الجديدة جودفري بوايون، وكانت أهم الإمارات، حيث إنها تسيطر على أهم مدينة عند النصارى في العالم، وهي مدينة القدس؛ ولذلك حاول جودفري بوايون أن يجمع في حكمه بين الشكل العلماني الذي يتميز به الملوك والأمراء والشكل الديني الذي يتميز به القساوسة والرهبان، ومن ثَمَّ أطلق على نفسه لقب (حامي بيت المقدس) بدلاً من أمير أو ملك .

ومن الجدير بالذكر أن أعداد الصليبيين كانت قد قلت جدًّا، على الرغم من الإمدادات القادمة عن طريق البحر بواسطة السفن الإيطالية، ولم يكن يُؤمِّن كل إمارة إلا عدد محدود من الجنود، وإن كان تعرضهم لهجمات المسلمين كان قليلاً؛ لذعر المسلمين من الصليبيين بوجه عام .

أما الزعيم الفرنسي ريمون الرابع فلم يجد له إمارة حتى الآن، ولقد فشلت محاولته في تكوين إمارة خاصة به في أنطاكية ثم في عِرْقَةَ بلبنان، ثم في بيت المقدس ثم في عسقلان، ومن ثَمَّ فقد غادر فلسطين كلها بجيشه وهو غاضب، واتجه ناحية لبنان حيث سيسعى إلى تكوين إمارة هناك حول مدينة طَرابُلُس .

هذا هو حال الجيش الصليبي، ولا شك أنه - على رغم قتل العدد الكبير وهلاكه من الجيش - حقَّق نجاحًا ملحوظًا بتكوين ثلاث إمارات في العالم الإسلامي في غضون سنتين تقريبًا من نزول الأراضي الإسلامية، وما زال راغبًا في التوسُّع والزيادة .

الوقفة الثانية : مع الكنيسة البابوية في روما

لقد دعت الكنيسة في روما لهذه الحروب لتضم إلى أملاكها بيت المقدس، وفيه كنيسة القيامة، ولم تقم بهذه الحملة بهذه الصورة الضخمة من أجل توسيع ممتلكات بوهيموند أو بلدوين أو جودفري أو ريمون الرابع ؛ ولذلك أرسلت الكنيسة على رأس الحملة المندوب البابويّ (أدهمار) ليكون زعيمًا لكل الجيوش، وقد قام أدهمار بدوره على الوجه الأكمل، وكان صاحب كلمة مسموعة في الجيش غير أنه مات فجأة في (491هـ) أغسطس 1098م في أنطاكية، وبذلك فقدت الكنيسة رجلاً مهمًّا في وقت حرج جدًّا ، ووصلت الأنباء متأخرة إلى البابا أوربان الثاني في روما، فأرسل مندوبًا بابويًّا آخر (دايمبرت) رئيس أساقفة بيزا الإيطالية ، ولم يكن اختيار دايمبرت راجعًا لحسن سياسته فقط، ولكن لكونه ممثِّلاً لمدينة بيزا القوية؛ مما سيجعل أساطيل بيزا القوية تقف إلى جوار البابا في تنفيذ مشروعه الصليبي الكبير، هذا إضافةً إلى خبرة دايمبرت في التعامل مع هذه الأمور العسكرية، وخاصةً المتعلقة بالمسلمين حيث كان هو المندوب البابوي في الحروب الصليبية التي شنَّها ملك قشتالة الإسبانية النصرانية على المسلمين في الأندلس ، هذا على الرغم من السمعة السيئة الأخلاقية وانحراف السلوك الذي كان يشتهر به ، ولكن هذا كان أمرًا عامًّا مشتهرًا في الكنائس الأوربية !

وهكذا وصل دايمبرت على رأس أسطول بيزيٍّ مكوَّن من مائة وعشرين سفينة في (492هـ) صيف 1099م إلى ميناء اللاذقية في الشام، محاولاً الوصول قبل سقوط بيت المقدس ليسيطر على الأمور قبل جمع الملوك والأمراء، غير أنه وصل بعد احتلال الصليبيين لبيت المقدس وولاية جودفري عليه ، ومن ثَمَّ انطلق إلى بوهيموند أمير أنطاكية القريبة من اللاَّذِقِيَّة، وذلك للتفاهم معه حول الشأن الجديد في بلاد الشام ، مع العلم أن البابا أوربان الثاني مات بعد أسبوعين من سقوط بيت المقدس، وتولى من بعده باسكال الثاني كما مرَّ بنا .

فهل تترك الكنيسة البابوية بيت المقدس يسقط في يد جودفري ، أم تسعى الكنيسة للسيطرة عليه ؟! سؤال سوف تجيب عنه الأيام القادمة .

الوقفة الثالثة : مع الدولة البيزنطية .

كانت الدولة البيزنطية تهدف من وراء الإستنجاد بالغرب الكاثوليكي أن تأتي الجيوش الأوربية كمرتزقة يهاجمون السلاجقة المسلمين ، ويستردون المدن البيزنطية لصالح الإمبراطورية البيزنطية في مقابل الأسلاب والغنائم ، أو في مقابل الأموال والعطايا كما هو معتاد مع المرتزقة ، ولم يكن الإمبراطور ألكسيوس كومنين يتوقع أن تأتي الجيوش الأوربية بهذه الكثافة ، ولا بهذه الأطماع والأحلام ؛ لذلك فُجعت الدولة البيزنطية من الوضع الجديد، وبدأت تصطدم مع الواقع الذي لم تحسب له حسابًا، إذ كان من الواضح أن هذه الجيوش جاءت لتبقى وتعيش، لا لتقاتل وترحل، وصار هذا الأمر صريحًا عند احتلال الرها وأنطاكية ثم بيت المقدس، ثم إنها بدأت تخسر الزعماء الصليبيين واحدًا بعد الآخر، ولم يعد هناك من لا يزال على العهد والصداقة إلا ريمون الرابع، والذي شعر أن آماله في التملُّك بدأت تتحطم في المشرق الإسلامي، وأن أمله الوحيد في مصادقة الإمبراطور البيزنطي؛ لعله يساعده في تكوين إمارة خاصة به .

ومع هذا الوضع غير المتوقع للدولة البيزنطية فإنها إستطاعت أن تضم حتى الآن كل المدن الواقعة في غرب آسيا الصغرى على ساحل بحر مرمرة الشرقي ، كما أنها تسلمت المدينة الحصينة نيقية عاصمة قلج أرسلان زعيم السلاجقة، ثم تسلمت بعدها عدة مدن متتالية مثل قونية وهرقلة وغيرها، ومع ذلك فوجودها في هذه المناطق ما زال ضعيفًا؛ لأنها غير مطمئنة للسلاجقة المنتشرين في وسط آسيا الصغرى وشرقها وجنوبها .

ولا شك أن الدولة البيزنطية لن تسلم بسهولة بضياع المدن البيزنطية العريقة مثل أنطاكية وطرسوس واللاذقية وغيرها، كما أنها - لا شك - تحلم ببيت المقدس الذي فقدته من أيام عمر بن الخطاب منذ أكثر من أربعمائة وسبعين سنة كاملة .

الوقفة الرابعة : مع الخليفة العباسي .

كان الخليفة في ذلك الوقت لا يملك من أمره شيئًا ، وإن كان يحمل اللقب الكبير لقب خليفة المسلمين، ولكنه كان تحت السيطرة السلجوقية التامة، وكانت جيوشه شرفيَّة لا تستطيع أن تصد هجومًا أو ترفع راية أو تحرر أرضًا، ومن ثَمَّ فقد قابل أنباء الاحتلال الصليبي بشيء من البرود يعبر عن حالة الضعف الشديدة التي كان يعاني منها، ولم يكلف نفسه أن يشير على سلطان السلاجقة بمقاومة هذا الاحتلال العنيف ، ولعله كان مطمئنًا إلى وضعه الآمن في بغداد بعيدًا عن ساحل الشام الذي يتعرض للهجمة الصليبية، وقد كان خليفة المسلمين في هذا الوقت هو المستظهر بالله، وإن كانت هذه معلومة غير مهمة؛ فأسماء الخلفاء في هذه الفترة لم تكن تعني أي شيء ولا أي قيمة!، والذي حكم من سنة (487 إلى 512هـ\ 1094 إلى 1118م)، وكان يبلغ من العمر عند ولايته ستة عشر عامًا .

الوقفة الخامسة : مع سلطان السلاجقة العظام , بركياروق بن ملكشاه !

والسلاجقة العظام - كما مرَّ بنا - هم السلاجقة الذين يحكمون فارس وما حولها، وكذلك يهيمنون على الخلافة العباسية والعراق بالتبعية، وهم أقوى السلاجقة جميعًا، ولعلهم أقوى قوة إسلامية في ذلك الوقت .

ومع كونهم في هذه القوة فإنهم لم يحرِّكوا ساكنًا لهذه الأحداث الساخنة التي تدور في أرض الشام، اللهم إلا الجيش الهزيل الذي قاده كربوغا أمير الموصل بتوجيهٍ من بركياروق سلطان السلاجقة الأكبر .

ولماذا لم يتحرك السلاجقة العظام لهذه الأزمة الخطيرة، مع أن لهم تاريخًا مشرفًا في حرب الدولة البيزنطية قبل ذلك، وخاصةً في زمان جدهم العظيم حقًّا ألب أرسلان؟!
لعله من المناسب لندرك الإجابة على هذا السؤال أن نرجع قليلاً عدة سنوات لنعرف خلفيات العلاقة بين بركياروق سلطان السلاجقة في فارس والعراق، وبين سلاجقة الروم حين دخلت القوات الصليبية .

لقد ترك ألب أرسلان بعد وفاته عدة أولاد، فحكم ابنه الأكبر ملكشاه دولة السلاجقة العظام، ووصلت دولته في زمان مجدها إلى حدود الصين شرقًا وإلى الشام غربًا ، كما حكم ابنه الآخر تتش معظم الشام ، وكان راغبًا في توسيع ملكه غير أنه كان يخشى أخاه الأقوى ملكشاه، ولكن عند وفاة ملكشاه في سنة (484هـ) 1092م خلفه ابنه بركياروق على حكم دولة السلاجقة العظام، وكان بركياروق صغيرًا في السن لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره؛ مما أطمع عمه تتش في ملكه، مما أدى إلى استغلاله لحالة الفوضى الناتجة عن وفاة أخيه ملكشاه، ومن ثَمَّ تحرك بجيشه لإخضاع حلب تحت حكمه ، بل ومحاولة الاستحواذ على مدن أخرى من ملك بركياروق ابن أخيه، وكانت حلب تحت قيادة آقْ سُنْقُر الحاجب، وكان مواليًا لبركياروق، لكنه إضطر للرضوخ لتتش لفرط قوته ولضعف بركياروق، ومن ثَمَّ انضم إليه ظاهريًّا، وسار معه هو وياغي سيان حاكم أنطاكية المسلم، وكذلك بوزان حاكم الرها المسلم ، وكل هذه كانت مدنًا تابعة لملكشاه قبل وفاته، وتحرك هذا الجيش المركَّب جنوب فارس ليقاتل بركياروق في سلطنته، وذلك في سنة (485هـ) 1093م، وكاد تتش يُحقِّق ما أراد ، لولا أن آق سنقر وياغي سيان تخليا عن تتش في هذه اللحظة، وانضما إلى سلطانهما الأول بركياروق، فتحطمت خطة تتش وعاد مسرعًا إلى دمشق، وعاد آق سنقر لحكم حلب وبوزان لحكم الرها، غير أنه في سنة (486هـ) 1094م ، أعاد تتش هجومه على حلب، فقاتله آق سنقر متحدًا مع بوزان، إلا أنه هذه المرة انتصر تتش وقتل على الفور آق سنقر وبوزان، ودانت له السيطرة على حلب ودمشق ومعظم الشام .

وفي سنة (487هـ)1095م - قبل الحروب الصليبية بسنتين فقط - تحرك تتش بقواته من جديد لقتال ابن أخيه بركياروق، ووقع القتال فعلاً بالقرب من الرَّيِّ في فارس، ولكن في هذه المرة لم يُهزم تتش فقط، بل وقتل في أثناء المعركة !

ومع كونه قُتل إلا أن بركياروق اكتفى بحكم فارس والعراق ولم يحاول ضم بلاد الشام إليه، فتقاسم حكمَها ولدا تتش؛ وهما رضوان بن تتش على إمارة حلب، ودقاق بن تتش على إمارة دمشق .

وهكذا يتضح لنا أن بركياروق هو ابن عم زعماء حلب ودمشق، ولم يكن مجرد ابن عم مخاصم أو كاره لسياستهما، بل كان مقاتلاً وقاتلاً لأبيهما، وهو يرى - ونحن نرى معه كذلك - أن أطماع تتش كانت متجاوزة الحد، وأنه لم يرع حرمة أخيه ملكشاه، ولا حرمة أبيه العظيم ألب أرسلان، ولا حرمة الشعوب المسلمة التي تزهق أرواحها في حروبه، ولا حرمة الدين الإسلامي الذي يخرم مثل هذا القتال النفعي الذي يثير الفتنة في بلاد الإسلام. وهذا بالطبع يفسر لنا عدم حماسة بركياروق في نجدة بلاد الشام عند دخول الصليبيين , هذا من جانب ..

ومن جانب آخر فإنه قد حدثت ثورات أخرى، ومشاكل ضخمة في إقليم فارس والعراق، حيث قام أخو بركياروق وهو محمد بن ملكشاه بثورة على أخيه يطالب فيها بجزء من المملكة ، ودارت صراعات طويلة بين الجانبين استمرت عدة سنوات، ولا شك أن هذه الثورات والصراعات شغلت بركياروق وأخاه محمد عن مشاكل المسلمين في أرض الشام وفلسطين .

إن الأمة في ذلك الوقت صارت كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا، فبعد القوة البالغة في زمان ألب أرسلان، وبعد الانتشار المهيب في زمان ملكشاه بن ألب أرسلان، وصلنا إلى تلك الحالة التي وصفنا، ولقد جنيناه على أنفسنا، وما جاناه علينا أحد !!

الوقفة السادسة : مع الخليفة العبيدي (الفاطمي) بالقاهرة .

كان الخليفة العبيدي في ذلك الوقت هو المستعلي بالله ، وكان مثل غيره من الخلفاء العبيديين إسماعيلي المذهب ، شديد التطرف في معتقده، حاقدًا على أهل السنة، يعتبرهم العدو الأساسي له، لا يمانع في سبيل عداوتهم من أن يضع يده في أيدي الصليبيين أو غيرهم من أعداء الأمة، ولقد رأينا سفارتين منه إلى الصليبيين تعرضان عليه التعاون لتقسيم الشام السني بينهما، غير أنَّ هذه السفارات لم تفلح؛ لأن الصليبيين كانوا يريدون الشام كله لهم، وخاصةً بيت المقدس الذي يطمع في حكمه العبيديون، ورأينا كيف أخرج الصليبيون العبيديين من بيت المقدس دون مقاومة تذكر .

ومع ذلك فالعبيديون ما زالوا يسيطرون على عدة مدن على ساحل الشام وفلسطين منها عسقلان وعكا وبيروت وصور، وبعض هذه المدن دخل في معاهدة مع الصليبيين كعكا وعسقلان، والآخر ما زال يدرس الأوضاع، لكن هل ستسكت الدولة العبيدية على ضياع جزء كبير من ممتلكاتها مثل فلسطين؟ وهل ستترك عدوًا قويًّا كالصليبيين على الحدود الشرقية لمعقلها الأخير في العالم وهو دولة مصر؟ إن هذا سؤال ستتحدد إجابته في خلال الشهور والسنوات المقبلة .

ولعله من الضروري أن نعرف أن مقاليد الحكم الحقيقية في الدولة المصرية آنذاك، لم تكن في يد الخليفة نفسه، ولكنها كانت في يد الوزير القوي الأفضل بن بدر الجمالي، كما ينبغي أن نعرف أن جيش العبيديين الرئيسي كان معتمدًا على المغاربة الذين أتوا مع الجيوش الأولى التي احتلت مصر سنة (358هـ) 969م، وأيضًا على الجنود القادمين من السودان وغيرها من البلاد البعيدة، ولم يكن بجيشهم عدد يذكر من المصريين؛ لأن المصريين - على الرغم من حكمهم بالشيعة فترة طويلة من الزمان تجاوزت حتى زمن الحروب الصليبية - لم يتشيعوا مطلقًا، وظلوا محتفظين بطابعهم السني على الرغم من قهر العبيديين لهم .

وهكذا خرجت قلعة عظيمة من قلاع الإسلام وهي مصر من معادلة القوى المؤثرة في الأحداث؛ حيث قاد دفَّة الأمور فيها من لا يرجو رفعة، ولا عزًّا إلا لنفسه فقط، ومن لا يضع أحلام الأمة وأمنياتها في حساباته ولا قدر أنملة !

الوقفة السابعة : مع حكام المسلمين في منطقة الشام .

كان الشام مقسمًا في ذلك الوقت - بلا مبالغة - إلى عشرات الإمارات، وعلى كل إمارة زعيم يعتقد أنه محور العالم، ويُصوِّره إعلامه على أنه الرجل الأوحد الحكيم الذي لم يتكرر في التاريخ، والذي لم - ولن - تنجب البلاد مثله!! لقد كانوا في تمثيلية وهميَّة خدعوا بها أنفسهم، وخدعوا بها شعوبهم، ثم جاءت الحملة الصليبية لتكشف للجميع زيف هذه الزعامات الفارغة .

ولم يكن من همِّ هؤلاء الأمراء والملوك إلا الحفاظ على كراسيهم وأملاكهم، وعلى هذا فلم يكن يعنيهم من قريب ولا بعيد أمر الصليبيين إذا احتلوا الشام بكامله وتركوهم دون أذى، وعليه فلم يتحرك هؤلاء إلا عندما شعروا بالخطر يتهددهم هم شخصيًّا، وحتى عندما تحرَّكُوا تحركوا بمعاهدة مخزية أو بحرب فاشلة أو بهروب فاضح !!

وكان أهم ملوك الشام - في ذلك الوقت - رجلين هما : ملك دمشق دقاق بن تتش ، وملك حلب رضوان بن تتش ، وكانا شخصيتين نفعيتين بعيدتين كل البعد عن السلوك الإسلامي، ولم يكن الأمر يقف عند هذا الحد، بل كانا - مع أنهما أشقاء - في حرب مستمرة وعداء مُطَّرد ، وكأنهما ورثا قطيعة الرحم وغياب الرؤية من أبيهما تتش بن أرسلان؛ ولهذا لم يكن هناك من سبيل لتوحيد جهود حلب ودمشق لمقاومة الغزو الصليبي .

وفوق هذه المأساة التي كان يعيشها هذان الحاكمان وغيرهما، فإن رضوان بن تتش كان يعيش مأساة أخرى من طراز أشنع ؛ فقد رأى رضوان بن تتش أن القوى من حوله تتكاثر وهو ضعيف؛ لذلك فكر في وسيلة يُقوِّي بها مركزه، فقرر التعاون مع الدولة العبيدية في مصر ، ولم يكتفِ مع مرور الوقت بالتعاون معهم بل صار من دعاتهم، ومن الذين يتبنَّون الفكر الشيعي الإسماعيلي، ومن ثَمَّ عيَّن دعاة الإسماعيلية في حلب في المناصب الكبيرة، وصار لهم في حلب جاهٌ عظيم وقدرة فائقة، وأصبح زعيم الباطنية الإسماعيلية في حلب - وهو الحكيم المنجم - مقربًا جدًّا من رضوان، وأثار هذا استياء عامة قواد وأمراء السلاجقة في كل مكان ؛ لأن السلاجقة سُنَّة منذ إسلامهم، بل ويتولون الدفاع عن المذهب السني في كثير من المواقف في حياتهم، وهم الذين أنقذوا الخلافة العباسية قبل ذلك في سنة (447هـ) 1055م من الحكم البويهيِّ الشيعي ؛ لذلك كان مستغربًا من رضوان جدًّا أن يأخذ هذا التوجُّه الذي يدل على شخصية نفعيَّة بحتة، لا تبحث إلا عن مصالحها بدون النظر إلى أي إعتبارات أخرى .

كانت هذه هي طبيعة حُكَّام المنطقة إبَّان دخول القوات الصليبية في الشام .

الوقفة الثامنة : مع قلج أرسلان وسلاجقة الروم

لقد مرَّ بنا الغزو الصليبي لآسيا الصغرى في بادئ الأمر ، وقتال السلاجقة وعلى رأسهم سلطانهم قلج أرسلان، وإسقاط عاصمتهم نيقية وغيرها من المدن، غير أن هذا الصدام من الصليبيين لم يكن بهدف إحتلال آسيا الصغرى ، إنما كان مجرد تصفية للقوى التي تواجه الجيوش في طريقها إلى الشام ، وهذا تدبير خبيث من الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين، الذي أراد أن تسلك القوات الصليبية هذا الطريق لتقضي على العدو التقليدي للدولة البيزنطية في ذلك الوقت وهم السلاجقة ، وبذلك تسترد الإمبراطورية مدنها القديمة، وكان من الممكن للدولة البيزنطية - لو أرادت - أن تنقل الجيوش الصليبية بأساطيلها الضخمة إلى سواحل الشام القريبة من بيت المقدس مثل يافا أو عسقلان أو حيفا، لكنَّ كل فريق - كما هو واضح - يبحث عن غاياته وأهدافه .

ولذلك - على الرغم من المعارك العنيفة التي دارت في آسيا الصغرى، وأهمها معركتا نيقية ودوريليوم - فإن القوات الصليبية لم تشأ أن تمكث في أراضي آسيا الصغرى، وخاصةً أن هذه الأراضي ذات طبيعة جغرافية صعبة، تجعل السيطرة عليها مهمة شاقة ، كما أنها قريبة من الإمبراطورية البيزنطية صاحبة الأطماع، إضافةً إلى أن القوات الصليبية فَقَدت في هذه المعارك ، وفي أثناء الطريق إلى أنطاكية عددًا كبيرًا من جنودها ، مما جعل إبقاء حاميات صليبية في هذه المدن الكثيرة أمرًا في غاية الخطورة .

لكل هذا قررت الجيوش الصليبية أن تسحب قواتها من آسيا الصغرى، ولا تسعى للتوسع فيها، اللهم إلا في المدن القريبة من إمارتي أنطاكية والرُّها المجاورتين لآسيا الصغرى، ولهذا بعد فترة قصيرة من الحروب الصليبية خلت منطقة آسيا الصغرى من أي وجود صليبي، وأصبحت السيطرة على هذه المناطق موزعة بين الدولة البيزنطية في الغرب والشمال، وبين السلاجقة في الوسط والشرق .

ولهذا فعلى الرغم من الهزائم المُرَّة التي تلقاها سلاجقة الروم على يد الصليبيين فإنهم لم يفقدوا وجودهم ولا أعدادهم؛ غاية الأمر ضياع غرب آسيا الصغرى، ومجموعة من قلاع الوسط، أما جيوشهم وشعوبهم فكانت موجودة في أماكن مختلفة من هذه المناطق، مستغلةً الطبيعة الجبلية الوعرة لآسيا الصغرى بصفة عامة .

وكان على رأس السلاجقة في هذه المناطق سلطانهم قلج أرسلان الذي خسر الكثير في صدامه مع الصليبيين، ولكنه - لا شك - سيظل يبحث عن ملكه الضائع، وعن ثروته التي بددت .
ولم يكن قلج أرسلان ولا السلاجقة هم القوة الإسلامية الوحيدة في آسيا الصغرى، ولكن كان هناك - كما فصَّلنا قبل ذلك - بيت بني الدانشمند، والذين كانوا يسيطرون على الشمال الشرقي، وكانوا دومًا في نزاع مع السلاجقة، ولم يتحدوا معهم إلا مؤقتًا عند دخول الصليبيين، ثم عادت العلاقة للتوتر بعد ذلك كما هو متوقع .

ماذا سيكون ردُّ فعل قلج أرسلان وقبائل الدانشمند على الأوضاع الجديدة؟ وكيف سيكون الوضع في آسيا الصغرى؟ هذا سؤال يحتاج إلى إجابة !

الوقفة التاسعة: مع نصارى الشام وآسيا الصغرى .

توجد أعداد كبيرة من النصارى في منطقة الشام وفلسطين ، وكذلك في آسيا الصغرى ، ومجرد وجود هذه الأعداد الكبيرة دليل على سماحة الإسلام وعدله، فعلى الرغم من مرور خمسة قرون على الحكم الإسلامي فإنَّ هؤلاء المخالفين لدين الإسلام ما زالوا يعيشون في البلاد دون قتل أو طرد مثلما إعتاد الصليبيون أن يفعلوا بنا في البلاد المحتلة في الأندلس ، هذا فضلاً عن الشهادات المنصفة التي تشهد للمسلمين بهذا العدل على مرِّ العصور.
وغالبية نصارى الشام ينتمون إلى الطائفة الأرثوذكسية , ويتبعون معقل الأرثوذكسية الأول في العالم، وهو مدينة القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، وهذا - لا شك - جعل ولاءَهم السياسي والعسكري والديني في المقام الأول لهذه الإمبراطورية، غير أن هؤلاء النصارى فرحوا جدًّا بالغزو الصليبي، ومهَّدوا له الطريق بكل وسيلة لأنهم في النهاية مسيحيون، إضافةً إلى أن الإمارات والممالك الصليبية كانت تعتمد على هؤلاء النصارى في معظم الأعمال ؛ لأنها كانت لا تُبقِي المسلمين في داخل إماراتهم، ولهذا صار للنصارى وضع يدفع إلى رغبتهم في استمرار الحال على ما هو عليه، كل هذا مع كون النصارى الأرثوذكس على خلاف كبير مع المذهب الكاثوليكي، لكن الصليبيين كانوا من الذكاء في أنهم لم يثيروا هذه القضية، غاية الأمر أنهم كانوا يُقلبون الكنائس الكبرى إلى كاثوليكية، لكن يتركون كل نصراني على عقيدته الخاصة .

أما غالبية نصارى آسيا الصغرى فكانوا من الأرمن ، وهؤلاء - على عكس نصارى الشام - لم تكن أحلامهم تقتصر على مجرد رغد العيش أو فرصة العمل، ولكنهم كانوا يريدون دولة وسيادة، وهم قد عاشوا فترة طويلة في تبعية الدولة البيزنطية، ثم بعدها في تبعية السلاجقة، وهم يتبعون كنيسة خاصة بهم أقرب إلى الكاثوليكية، وإن كانت مستقلة، وأعدادهم كانت كبيرة، ولهم تاريخ بالمنطقة، ولهم لغة خاصة بهم؛ لكل هذا لم تقف رغبتهم عند مجرد التبعية لأحد، ولهذا تجمعوا في معظمهم في جنوب شرق آسيا الصغرى، وخاصة في إقليم قليقية كما مر بنا، وهم سعدوا بالحروب الصليبية لأنهم رأوا فيها - بدايةً - خلاصًا من السلاجقة المسلمين، وأيضًا خلاصًا من الدولة البيزنطية والأرثوذكسية المخالفة لهم في العقيدة؛ ولذلك أحسنوا استقبال الصليبيين واعتبروهم محرِّرين لهم ، وإن كانوا لم يذوقوا بعدُ طريقة الحكم الأوربي، والتي تعتمد في الأساس على النظام الإقطاعي الاستعبادي؛ ولذلك فسنرى بعد ذلك كيف سيكون التعامل على ضوء المعطيات الجديدة .

كما أن بعض الأرمن إستغلوا سوء الأوضاع السياسي، وانشغال السلاجقة والبيزنطيين والصليبيين في الحروب المستمرة، واستقلَّ ببعض المدن، وخاصةً الموجودة في الجبال الجنوبية الشرقية في آسيا الصغرى ، ليؤسس شبه إمارة تعتمد كليًّا على الأرمن، ومن هؤلاء على سبيل المثال كوغ باسيل الأرمني الذي أسس إمارة أرمنية خالصة قوية، كان مركزها في الأساس مدينتي كيسوم ورعبان، وازداد نفوذه واتسع لدرجة أقلقت الصليبيين أنفسهم .

ومن المعلوم أن غالب سكان إمارة الرها في أول نشأتها كانوا من الأرمن، ولا شك أن هذا سيكون له أثر على سير الأحداث في الأيام المقبلة .

الوقفة العاشرة والأخيرة : مع الشعوب المسلمة !

يَنْحَى كثير من المؤرخين دائمًا باللوم الكامل على طائفة الحكام والسياسيين، ولا يعلق - لا من قريب ولا من بعيد - على الشعوب التي تعيش تحت حكمهم، ولا شك أن دور الحكام كبير ومؤثر، ولا شك أيضًا أن الشعوب من المسئولية تجاه الأحداث المؤسفة التي شهدتها المنطقة في هذه الحقبة من الزمان .
فالحكام إفراز طبيعي للشعوب، وكما يقول رسول الله : "كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ" ؛ فالشعب الصالح يُقيِّض له الله رجلاً صالحًا، والشعب المجاهد ييسر له رب العالمين قائدًا مجاهدًا، أما الشعب الخانع الضعيف الراغب في مجرد الحصول على لقمة العيش أو على وظيفة طيبة، فإنه يُبتلى بحاكم ظالم يُضيِّع عليه الدنيا والدين. إن الحاكم لا يستمد قوته حقيقةً إلا من شعبه ، وإلا فمن هو الحاكم بدون شعبه؟ من الحاكم بدون جيشٍ ووزارات وسفارات ومصالح حكومية وموظفين وعمال وتجار وغيرهم ؟ من هو الحاكم إذا تخلى عنه كل هؤلاء؟ ثم من الذي فرض على الشعب أن يسير وراء حاكمٍ بائع لدينه ووطنه، ومبدلٍ لشرع الله قادح فيه؟ أهو السيف والسوط فقط ؟! ألم يعلم هذا الشعب أن الأجل لا ينقص ساعة، وأن الرزق لا يقل درهمًا عما قدَّره رب السموات والأرض؟! إن هذه بديهيات لا تغيب عن ذهن شعب واعٍ فاهم، وهذه ليست بديهيات مستحيلة، فكثير من شعوب الأرض على اختلاف مللهم وعقائدهم فَهِمُوا هذه البديهيات فعاشوا حياة كريمة، أفلا يفهمها المسلمون الذين أنعم الله عليهم بقرآن وسنة ؟!

إننا لا يجب أن نعفي الشعوب التي رضيت برضوان ودقاق وغيرهما من الزعامات التافهة التي خربت البلاد، وظلمت العباد ، وفتحت الطريق لألد أعداء الأمة ليسيطروا على مقدراتنا دون عناء، ولا يجب أن نعفي الشعوب التي رضيت بالحكم الصليبي في مقابل أن يسمح لهم أن يعيشوا بضع ساعات أكثر ، ولا يجب أن نعفي الشعوب التي ما زالت تتعامل بالبيع والشراء مع عدو سفك دمها واستحل أرضها وأحرق مساجدها ونهب ثرواتها، كما لا يجب أبدًا أن نعفي الشعوب التي مسحت من قاموسها كلمة (الجهاد)، حتى في أحرج المواقف التي تحتل فيها البلاد، ويصبح الجهاد فرض عين على كل المسلمين، بل إن كل شرائع العالم السماوية والوضعية لا تنكر على شعب احتلت أرضه أن يقاوم ويقاتل ويجاهد، فكيف بشعبٍ مسلم جعل الله  له الجهاد ذروة سنام دينه ؟!

إن هذا الكلام ليس قاسيًّا أبدًا، بل هو واقعي تمامًا، وسنرى أنه يوم تدرك الشعوب دورها، وتتحرك طالبة من حاكمها إما أن يجاهد لرفع الظلم، وإما أن يترك المسئولية لغيره ليصلح الأوضاع، حين نرى هذا اليوم ستتغير الأوضاع، وتتبدل الأحوال، ويرفع الظلم، ويُمحى الذل، ويبدأ الشعب في الوصول إلى ما يجب أن يصل إليه .

إذن كان هذا هو الحال بعد سنتين من دخول القوات الصليبية إلى أرض الإسلام , ويمكن أن نلخص ذلك في النقاط العشر التالية :

أولاً : تكونت ثلاثة إمارات صليبية هي الرها وأنطاكية وبيت المقدس، وما زال ريمون الرابع يبحث له عن إمارة .

ثانيًا : أرسلت الكنيسة في روما أسقف بيزا دايمبرت ليحاول فرض سيطرة الكنيسة على بيت المقدس .
ثالثًا : إستطاعت الدولة البيزنطية أن تسترد غرب آسيا الصغرى، ولكنها فقدت أنطاكية والرها وبيت المقدس، ولا شك أنها لن ترضى بهذا الوضع .

رابعًا : الخليفة العباسي ضعيف جدًّا ، ولا يُرجى منه تغيير الوضع المتأزم .

خامسًا : السلطان بركياروق سلطان السلاجقة في فارس مشغول بالفتن الداخلية في دولته، فضلاً عن خلافه العميق مع أمراء الشام .

سادسًا : الخليفة العبيدي في القاهرة له أطماعه الخاصة في بيت المقدس وفلسطين، وإن لم تكن له القدرة الكاملة على مواجهة الصليبيين .

سابعًا : حكام الإمارات الإسلامية في منطقة الشام ضعفاء جدًّا من الناحيتين الإيمانية والإدارية على حد سواء، ومن ثَمَّ فهم لم يكونوا على قدر الأزمة التي عصفت بالأمة في هذه الآونة .

ثامنًا : سلاجقة الروم بزعامة قلج أرسلان ما زالوا في آسيا الصغرى، وما زالوا أيضًا يبحثون عن وجود لدولتهم، وإن كانوا منعزلين تمام الانعزال عن مشكلة الشام .

تاسعًا : النصارى الأرثوذكس يرحبون بالصليبيين، وكذلك الأرمن، وإن كان الأرمن لهم أطماع استقلالية، وخاصةً في الجنوب الشرقي لآسيا الصغرى .

عاشرًا : الشعوب المسلمة في المناطق المحتلة وغيرها كانت راضيةً بالوضع لحرصها على أي حياة، ولم يكن طموحها يرقى إلى معاني الجهاد والبذل والتضحية .

هذا هو الوضع بعد سقوط بيت المقدس ، وفي أخريات القرن الحادي عشر الميلادي (آخر الخامس الهجري)، وتحديدًا في (رمضان 492هـ) أخريات يوليو 1099م .

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 04-03-14, 04:35 AM

  رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

- النجدة الصليبية

ماذا حدث بعد سقوط بيت المقدس والمدن الفلسطينية المختلفة ؟ , لقد وصل مندوب البابا - رئيس أساقفة بيزا دايمبرت - إلى الشام في صيف 1099م بعد سقوط بيت المقدس، ووصلته هذه الأنباء، وإجتمع مع بوهيموند أمير أنطاكية ليتباحثا معًا أحوال القوات الصليبية، وكان ذهن دايمبرت يعمل في اتجاه الحصول على أملاك تخص الكنيسة، واستغل بوهيموند هذه الرغبة، ووجَّه أطماع دايمبرت إلى ميناء اللاذقية .

ولماذا اللاذقية بالذات ؟ ,, لقد سيطرت الدولة البيزنطية على ميناء اللاذقية بمساعدة الأمير ريمون الرابع ، وحيث إن هذا الميناء يقع في جنوب أنطاكية فهو يمثل خطورة كبيرة على بوهيموند الذي صار معاديًا بصراحة للدولة البيزنطية، ومن ثَمَّ دفع بوهيموند الأسقف دايمبرت لاستغلال أسطول بيزا القوي لحصار اللاذقية وإسقاطها، ووافق الأسقف دايمبرت دون تفكير كثير على هذه الخطوة ؛ خشية ألا تبقى هناك مدن مناسبة للاحتلال مع مرور الوقت، وبالفعل تمَّ الحصار، وكادت المدينة أن تسقط لولا حدوث أمر غيَّر الأحداث !

لقد جاء ريمون الرابع بجيشه في هذه اللحظة حيث فشل كما رأينا في الحصول على إمارة في فلسطين ، فجاء يكرر سعيه للحصول على إمارة في الشام أو لبنان ، وفُوجئ ريمون بالحصار المشترك بين بوهيموند ودايمبرت لميناء اللاذقية، فتدخل مسرعًا، وقام بزجر بوهيموند، وقال لدايمبرت : إنه ليس من الحكمة مطلقًا أن نخطو الآن خطوة نستعدي بها الدولة البيزنطية ، وأن هذا سيقضي على آمال توحيد الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية تحت زعامة بابا روما ، وأن فرصة دايمبرت أكبر في فلسطين حيث توجد القدس.
ووجد دايمبرت أن الكلام مقنع ، ومن ثَمَّ - وعلى غير رغبة بوهيموند - رفع دايمبرت الحصار، ودخل ريمون البلدة ليرفع فيها علمه إلى جوار علم الإمبراطورية البيزنطية ، وليتجه دايمبرت ومعه بوهيموند أمير أنطاكية وأيضًا بلدوين أمير الرها إلى القدس. لقد ذهبوا جميعًا لدفع الأمور إلى تعيين دايمبرت في أسقفية القدس، ليكون بذلك لهم يدٌ عند دايمبرت ومِن ورائه البابا .

وسار الموكب المكون من جيوش دايمبرت وبوهيموند وبلدوين، ولاقى بعض المصاعب في الطريق، غير أنه وجد كل الترحيب من ابن عمار أمير طرابلس حيث قدَّم لهم التموين، ولكن دون فتح أبواب المدينة خشية أن يحتلوها .

ووصل الموكب الكبير إلى بيت المقدس، وسُرَّ جودفري برؤية هذه الأعداد الضخمة من الصليبيين لأنه أصبح في حاجة إلى الجنود ، ولكن هؤلاء جاءوا بهدف ، وهو عزل الأسقف الموجود وهو أرنولف مالكون، وتعيين دايمبرت مكانه ، ووجد جودفري نفسه مضطرًا إلى هذا الأمر حيث إنه محتاج إلى أسطول بيزا القوي ، كما يحتاج أيضًا إلى تأييد البابا، وهكذا دُبِّرت محاكمة سريعة للأسقف القديم أثبتوا فيها أن تعيينه كان باطلاً، ومن ثَمَّ عُزِل ، ووُلِّي دايمبرت على الأسقفية !

غير أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل بدأ دايمبرت يتدخل في شئون بيت المقدس السياسية، فهو لم يكن يريد هذا المنصب ليمارس شعائر دينية، إنما كان يريده ليفرض نفسه على الأوضاع ليصير هو السيد المتحكم في الأمور ، بل وصل الأمر في سنة (493هـ) فبراير 1100م إلى نزاعٍ معلن بين جودفري ودايمبرت حول ملكية البلاد المحتلة؛ فقد كان دايمبرت يريد لنفسه ملكًا خاصًّا في يافا، وأيضًا في بيت المقدس ، بل إن جودفري عرض صراحة أن ينتقل ملك المدينتين إلى دايمبرت بعد وفاة جودفري، ولكن هذا لم يعجب دايمبرت، فعرض عليه أن ينتظر حتى يستولي على مدينتين غيرهما من المسلمين، فيعطي حينئذٍ بيت المقدس ويافا لدايمبرت، ولكن هذا لم يعجب أيضًا دايمبرت، فهو لا يستطيع الانتظار ! وهكذا ظل الصراع بين زعيم بيت المقدس وزعيم الكنيسة هناك دون الوصول إلى نتيجة !!

إنها حرب الجشع والطمع والاستحواذ ، ولا مكان فيها لدين أو صليب ! وكذلك فعل بوهيموند النورماني !

لقد عاد بوهيموند بعد إختيار دايمبرت أسقفًا لكنيسة القدس ليواصل أحلامه التوسعية، ولم يقاتل في جبهة واحدة بل قاده جشعه أن يقاتل في أربع جبهات في آنٍ واحد !
لقد حاول في البداية أن يستولي على قلعة فامية في حوض نهر العاصي ، والمملوكة للأمير العربي سيف الدولة خلف بن ملاعب ، وهو أخو أمير حمص جناح الدولة حسين بن ملاعب ، غير أن بوهيموند فشل في الاستيلاء على القلعة الحصينة، ومن ثَمَّ اكتفى بحرق المزارع حول القلعة ، وإتجه إلى الجبهة الثانية وهي مدينة حلب، حيث التقى مع رضوان بن تتش أمير حلب في موقعة شديدة في (493هـ) يوم 5 من يوليو 1100م نجح فيها بوهيموند في إنزال هزيمة قاسية برضوان، وأخذ الكثير من الغنائم، وأسر أكثر من خمسمائة مسلم ، مما جعل رضوان يستنجد بأمير حمص جناح الدولة حسين بن ملاعب، وهذه كانت إهانة كبيرة لرضوان، وضربة لكرامة السلاجقة المتنازعين دومًا مع العرب ، ومنهم حسين بن ملاعب، إضافةً إلى صغر سن حسين بن ملاعب وصغر مقامه كأمير لحمص بالقياس إلى حلب، وهذه العوامل جعلت رضوان يسيء الأدب في استقبال جناح الدولة حسين بن ملاعب، مع أن رضوان هو الذي استنجد به، ولا شك أن هذا ترك أثرًا سلبيًّا سيئًا في نفس جناح الدولة حسين بن ملاعب .

وكان بوهيموند ينوي في ذلك الوقت أن يضرب حصارًا شديدًا على حلب ليسقط هذه المدينة العريقة، ويضمها إلى إمارته، فتصبح بذلك نقلة نوعية هائلة لإمارة أنطاكية والنورمان ، إلا أن بوهيموند الجشع قرر أن ينتقل فجأة إلى حصار مدينة مرعش في الشمال ، وهي مملوكة الآن للدولة البيزنطية بعد أن سيطر عليها الصليبيون قبل ذلك بعامين ، ويبدو أنه فعل ذلك لإحساسه أن حصار حلب الحصينة سيطول ، ولشعوره أن فرصة سقوط مرعش في يده كبيرة لصغر الحامية البيزنطية بها، ولهذا ترك جبهة حلب وانتقل إلى الجبهة الثالثة مرعش، وحاصرها عدة أيام لكنها استعصت عليه، وفي أثناء محاولاته لإسقاطها جاءته استغاثة من حاكم ملطية ، وهي مدينة أخرى إلى الشمال من مرعش غالب سكانها من الأرمن، وكانت محاصرة من الملك غازي كمشتكين بن الدانشمند ، فاستنجد حاكمها الأرمني جبريل ببوهيموند ، فوجدها بوهيموند فرصة، فترك مرعش وأخذ فرقة من خمسمائة فارس لقتال الملك غازي والاستيلاء على ملطية!
هكذا قاده غروره أن يفتح على نفسه أربع جبهات: في قلعة فامية، وفي حلب، وفي مرعش، وفي ملطية ؛ وهو يقاتل في هذه الجبهات العرب والسلاجقة والبيزنطيين والدانشمند , إنه الغرور الذي يُعمِي الأبصار؛ إذ وزَّع قواته هنا وهناك، وتوغَّل بخمسمائة فارس فقط في أراضي آسيا الصغرى !

وكأن لا بد للقائد المغرور أن يقع في أخطاء , راجعوا قصة نابليون بونابرت وسقوطه في روسيا .. وراجعوا قصة هتلر وسقوطه في فرنسا وروسيا ، بل راجعوا قصة فرعون الذي شاهد البحر ينفلق ، فإذا به في غرور عجيب ، يصل إلى حدِّ الغباء والعمى يأخذ جيشه ويقتحم البحر حتى يهلك !!

لقد سقط المغرور بوهيموند في كمين تركي صنعه الملك غازي بن الدانشمند، وسقط معه في نفس الكمين خمسمائة فارس هي كل القوة التي كانت معه ، وسرعان ما كُبِّل الأمير بوهيموند بالأغلال، وقُتل عدد كبير من فرسانه وأسر الباقي !

لقد كان صيدًا ثمينًا في وقت حرج جدًّا من أوقات الغزو الصليبي، وكان ذلك في سنة (493هـ) أوائل أغسطس سنة 1100م، وقبل أن يسقط بوهيموند في الأسر أرسل رسالة نجدة إلى بلدوين حاكم الرها، فتحرك بسرعة بسرية مكونة من مائة وأربعين فارسًا فقط لنجدته ! وكان من الممكن أن يلقى نفس المصير الذي لاقاه بوهيموند ، لولا أن الملك غازي انسحب مسرعًا بصيده الثمين حتى وصل إلى قلعة نكسار على ساحل البحر الأسود في أقصى شمال آسيا الصغرى ليؤمِّن أسر الأمير النورماني .

وجد بلدوين الطريق مفتوحًا إلى ملطية، فدخلها بسريته، ورحب به أهلها، وكذلك زعيمها جبريل، وسرعان ما ضمها بلدوين إلى إمارة الرها؛ ليوسِّع بذلك إمارته! إن النية لم تكن خالصة لإنقاذ بوهيموند، والتنافس بينهما قديم، ولكن هي يدٌ يقدمها الآن لعلها تنفع غدًا، وفي نفس الوقت هي فرصة ذهبية لضم مدينة تطلب النجدة !

ولم يفكر بلدوين بالطبع في مغامرة تتبع القوات التركية إلى قلعة نكسار، وإنما عاد إلى الرها بعد أن ترك خمسين فارسًا في ملطية كنوع من إثبات الوجود، وللدلالة على تبعية المدينة له .
وقد ترك أسر بوهيموند فراغًا سياسيًّا وعسكريًّا كبيرًا في المنطقة؛ فإمارة أنطاكية إمارة مهمة جدًّا، والأطماع فيها كثيرة، فهناك المسلمون السلاجقة وعلى رأسهم قلج أرسلان في آسيا الصغرى، وهناك كذلك الأمير رضوان الذي يعتبر أنطاكية من نصيبه في الميراث! وهناك الدولة البيزنطية الطامعة في أنطاكية منذ زمن بعيد، بل إن هناك ريمون الرابع الذي يبحث له عن إمارة، وأبدى قبل ذلك رغبته الشديدة في حكم أنطاكية، أو على الأقل اقتسام حكمها. ثم إن إمارة أنطاكية لم تعد مدينة واحدة، بل ضمت إليها عدة مدن وقرى وقلاع مجاورة، وهي أغنى الإمارات وأحصنها .

إن هذا الفراغ السياسي الكبير قد يقود إلى صراع مرتقب بين أطراف عدة. ماذا يفعل الجيش النورماني المسيطر على أنطاكية قبل أن تحدث الكارثة وتتكالب القوى المختلفة على أنطاكية ؟! وماذا يفعل بنو الدانشمند المسلمون وقد امتلكوا ورقة رابحة جدًّا من أوراق اللعبة؟ وماذا يفعل المسلمون بصفة عامة إزاء هذا التطور الإيجابي الأخير ؟

وقبل أن يفكر نورماني أو مسلم في الوضع الجديد إذا بحدث آخر مُجَلْجِل يحدث في بيت المقدس، يُغيِّر من كل الحسابات، ويزيد الموقف تعقيدًا !! لقد مات فجأة جودفري بوايون زعيم بيت المقدس ، لتتفجر بذلك مشكلة في حجم مشكلة أنطاكية ، أو لعلها أكبر !

إنه فراغ سياسي جديد في مدينة القدس قد يؤدي إلى كارثة صليبية جديدة ، وخاصةً أن مدينة القدس ذاتها محل صراع كبير بين الصليبيين أنفسهم قبل المسلمين .
لقد حدثت هذه الوفاة المفاجئة بينما تانكرد ودايمبرت في حصار عكا ثم حيفا ! ولعلنا نتساءل : ماذا يفعل الأسقف الديني في حصار عسكري ؟! إنه يبحث عن مدينة يقودها أو قرية يملكها ! وأثناء حصار حيفا وصلت أنباء موت جودفري ، وكاد تانكرد ينسحب بجيشه عندما علم بأن جودفري قد أوصى قبل موته بإعطاء حيفا لأمير صليبي إسمه جالدمار ، لولا أن دايمبرت أقنعه بالبقاء في نظير أن يعطيه مدينة حيفا بعد سقوطها، وفي هذا الوعد من دايمبرت إشارة واضحة إلى أنه كان يعتقد تمام الاعتقاد أن حكم بيت المقدس سيئُول له، وبالفعل سقطت حيفا بعد مقاومة ، وعاد الجميع إلى بيت المقدس لمناقشة القضية الكبرى : من سيحكم بيت المقدس ؟!

لقد حكم جودفري بوايون القدس سنة واحدة فقط ، ولم يترك وريثًا شرعيًّا له يحكم البلاد كما هو معتاد في النظام الأوربي الغربي آنذاك ، وكان جودفري يحكم حكمًا وسطًا بين العلمانية الملكية الموافقة لرغبات الزعماء العسكريين للحملة الصليبية، وبين الحكم الديني الموافق لرغبات الكنيسة ، فلما مات جودفري قامت قوتان كبيرتان تتنازعان الحكم في بيت المقدس .

أما القوة الأولى : فهي القوة الدينية متمثلة في دايمبرت أسقف القدس صاحب الأطماع الكبيرة، والمرشح الأول في داخل مدينة القدس، ومندوب البابا الذي حرَّك الجموع الأوربية لهذه الحملة، وأسقف المدينة المقدسة. وهذا الأسقف كان على دراية بالأوضاع السياسية والموازنات في الجيش الصليبي، فعقد على الفور اتفاقًا مع تانكرد لمساعدته في الوصول إلى كرسي الحكم في القدس ، وأرسل رسالة إلى صديقه بوهيموند أمير أنطاكية يستحثه فيها على القدوم إلى بيت المقدس لتزكية ولايته عليه ، ولم يكن خبر أسر بوهيموند قد وصل إلى القدس .

أما القوة الثانية : فهي العلمانية الملكية ؛ ففرسان جودفري بوايون يملئون القدس، وهم جميعًا يرفضون الحكم الثيوقراطي - أي الديني - ويرفضون أن تُعطى القدس للكنيسة بعد كل هذا المشوار الطويل من الجهد والعطاء ، ولقد وقف إلى جوار هذا الفريق أتباع الأسقف المعزول أرنولف مالكون، والذين رفضوا حكم دايمبرت مع أنه حكم ديني لا لشيء إلا نكاية في دايمبرت ! فليست القضية قضية مبدأ ، إنما الصراعات الشخصية والأطماع الخاصة .

ومن هو يا ترى مرشح الحكم والقيادة عند فرسان جودفري ؟!

إنهم - ولعقليتهم الأوربية الوراثية - ذهبوا بفكرهم إلى أقرب الناس إلى جودفري بوايون، وهذا هو بلدوين أخوه حاكم الرها! ولم يذهبوا مثلاً إلى تانكرد الذي ساهم بجهد وفير في تذليل الصعاب والسيطرة على الأوضاع في منطقة بيت المقدس ويافا وحيفا، وهو الذي كان يرأس إقليم الجليل في عهد جودفري ، ولم يذهبوا أيضًا بعقولهم إلى ريمون الرابع الأمير الذي يبحث عن إمارة ، إنما ذهبوا إلى الأخ الذي يحكم بالفعل إمارة أخرى هي الرها، وهو الأخ الذي لم يبذل جهدًا قَطُّ في إسقاط بيت المقدس !

وأرسل فرسان جودفري رسالة سرية سريعة إلى بلدوين في الرها تحثه على القدوم بسرعة لتسلُّم مقاليد الحكم في بيت المقدس ! ووجدها بلدوين فرصة لا تعوض، فشتَّان بين الرها وبيت المقدس ؛ ومن هنا أسرع بلدوين بترك إماراته لابن عمه بلدوين دي بورج، وترك معه حامية قوية، وأخذ حامية أخرى وإنطلق مسرعًا إلى بيت المقدس ، وقد حاول دقاق ملك دمشق الإمساك به في الطريق ، ولكن إبن عمار زعيم طرابلس الشيعي قدم المساعدات لبلدوين ليقاوم عدوهما المشترك دقاق السلجوقي السني ! ومن ثَمَّ استطاع بلدوين أن ينتصر على دقاق ، بل وغنم كمية كبيرة من المال والسلاح !!
إن الوضع كان مزريًا حقًّا !

ووصل بلدوين سالمًا إلى بيت المقدس في سنة (493هـ) 10 من نوفمبر سنة 1100م.
وكان فرسان جودفري وأتباع الأسقف القديم أرنولف مالكون قد هيَّئُوا الشعب في داخل بيت المقدس لهذا الموقف؛ فما أن دخل بلدوين المدينة إذا بجميع النصارى والفرسان يخرجون في استقبال بلدوين في مظاهرة كبرى يطالبون فيها بحكمه، ويعلنون رغبتهم الجماعية في سيادته عليهم !

وإزاء هذه المفاجأة لم يستطع دايمبرت أن يواجه الرأي العام المسيحي في بيت المقدس، خاصةً أن فرسان جودفري الراحل، وأيضًا فرسان بلدوين القادمين معه كانوا على أهبة الاستعداد لبذل سيوفهم في سبيل قيام ملكية علمانية بعيدة عن هيمنة الكنيسة، وآثر الأسقف دايمبرت السلامة، وقنع بكرسيه في الأسقفية ، ومن ثَمَّ تُوِّج بلدوين زعيمًا على بيت المقدس، ولكنه في هذه المرة لم يَتَسَمَّ بلقب (حامي بيت المقدس) ، كما فعل أخوه من قبل، ولم يتسمَّ بلقب أمير كما فعل بقية الزعماء ، إنما تلقَّب بلقب ملك ! وهذا يعني أنه لا يتبع أحدًا، بل الجميع يتبعونه، وهذا إن لم يكن واقعًا الآن فسيكون واقعًا في المستقبل، فهو أقوى الزعماء، وهو الذي يحكم أهم المدن ، ولهذا تلقَّب بملك بيت المقدس، وهكذا أسست مملكة بيت المقدس ليكون أول زعمائها هو بلدوين الذي عُرِف ببلدوين الأول، وكان ذلك بداية من 11 من نوفمبر 1100م ، وإن كان التتويج الرسمي تمَّ في يوم عيد الميلاد الغربي الكاثوليكي، وهو 25 من ديسمبر سنةَ 1100م .

وكان بلدوين الأول من الذكاء بحيث إنه لم يعزل دايمبرت فورًا عن مركزه، وإن كان يعلم أنه كان منافسًا له على كرسي الحكم، وذلك حتى لا يحدث فراغًا في الكنيسة قد لا يستطيع أن يملأه بسهولة، ولكي لا يستعدي دايمبرت ووراءه الأسطول البيزيّ الذي كان بلدوين الأول في أشد الحاجة إليه .

وهكذا إلتفت بلدوين الأول إلى إقرار الأوضاع في بيت المقدس ، وإلى تأمين الطرق حوله، وكذلك إلى توزيع الإمارات والمراكز على أعوانه ومقربيه ، ولا شك أن هذا الوضع الجديد كان على غير رغبة تانكرد تمامًا، فتانكرد لا ينسى أنه كان متنازعًا مع بلدوين هذا على مدينة قليقية منذ ثلاث سنوات عند بداية الغزو الصليبي، كما أن تانكرد راهن على الحصان الخاسر في المعركة وهو دايمبرت؛ لذلك علم تانكرد أن بلدوين لن يلبث أن يعزله من إمارة الجليل التابعة لبيت المقدس، وسيقع تانكرد صاحب الأحلام العريضة في مشكلة كبيرة .

غير أن الأيام حملت مفاجأة كبيرة سارَّة لتانكرد وهي مفاجأة أسر خاله بوهيموند !! ولا يحسبنَّ أحدٌ أن تانكرد كان حزينًا لهذا الخبر، فليذهب بوهيموند كما يقولون إلى الجحيم! فتانكرد يبحث عن مصالحه هو لا عن مصالح خاله، وقد رأينا ذلك في قصته قبل ذلك حين ترك خاله في أنطاكية وآثر أن ينزل إلى مكان آخر يبحث له فيه عن إمارة بعيدًا عن خاله القوي بوهيموند؛ ولهذا فعندما وصل خبر أسر بوهيموند وصلت معه رسالة من الجيش النورماني في أنطاكية باستدعاء تانكرد ليكون أميرًا مؤقتًا على أنطاكية لحين فك أسر بوهيموند، وكان هذا الاستدعاء نجدة لتانكرد وأحلامه، كما كان نجدة لبلدوين الأول الذي تخلص من أمير مكروه لديه دون مشكلة أو صراع .

وهكذا وفي سنة 494هـ\ أوائل 1101م صار بلدوين الأول ملكًا على مملكة بيت المقدس، وتانكرد أميرًا على أنطاكية، وبلدوين دي بروج أميرًا على الرها، وما زال ريمون الرابع يبحث عن إمارة في منطقة طرابلس، وما زال بوهيموند أسيرًا في يد الملك غازي بن الدانشمند .

وفي وسط كل هذه الأحداث الساخنة والمتلاحقة، يجب أن نتساءل وبقوة : أين كان المسلمون ؟!

لقد كانت هذه الأزمات القوية التي تعرض لها الصليبيون فرصة للمسلمين أن يستعيدوا توازنهم، وأن يجمعوا صفهم، وأن يوحدوا هدفهم، لكن - للأسف - تشعبت بهم الأهواء، ولم يكن لهم زعيم مخلص يُجمِّع ويعلِّم ويوجِّه، فضاعت الفرص تلو الفرص، وأَلِف المسلمون الهوان والذل، وقبلوا بالواقع المرير الذي يكرهونه جميعًا ، ولم تتحرك فيهم نوازع رفع الظلم ، وتغيير المنكر .. وهكذا مرت الأيام والشهور بل والسنوات ، والصليبيون كالمرض العضال يزداد توحشًا وتمكنًا من الجسد الإسلامي الضعيف .

إن الصليبيين في هذه الظروف، وهم يرون المسلمين لا يحركون ساكنًا، بل يسعون إلى عقد اتفاقيات سلام، ومباحثات جوار، وعقود تنازل، في هذه الظروف رأى الصليبيون أن يسرعوا بتوسيع أملاكهم، واستغلال أزمة المسلمين بأقصى درجة .

ففي بيت المقدس بدأ بلدوين الأول يقوم ببعض الحملات العسكرية الخاطفة حول المدينة ليختبر قواته العسكرية، وليكتشف الطرق، ويدرب جنوده على الأوضاع الجديدة، ثم ما لبث أن أخذ جيشه وحاصر أرسوف التي سقطت في يده بعد قليل بمساعدة أسطول بحري قدم من جنوة الإيطالية ، ثم أتبع ذلك بحصار قيسارية فسقطت هي الأخرى ، وتعرضت بعد سقوطها لمذبحة بشعة قُتل فيها عدد ضخم من السكان المدنيين ، بل إن السكان عندما احتموا بمسجد المدينة لحقهم الصليبيون بقيادة بلدوين الأول - الذي تصفه المصادر التاريخية بالحكمة!- وقاموا بذبح كل مَن في المسجد من الرجال والنساء والأطفال، حتى تحول المسجد إلى بركة هائلة من دماء المسلمين والمسلمات !

وفي أنطاكية خرج تانكرد ليمارس نشاطه التوسعي بسرعة قبل أن يفكر أحد في ضعف إمارته لفقدها زعيمها بوهيموند، ولقد كان تانكرد لا يقل شراسة ولا قوة ولا خبرة ولا مهارة عسكرية عن خاله بوهيموند ، ولقد استطاع في غضون شهور قليلة جدًّا أن يستولي على ثلاث مدن مهمة في إقليم قليقية شمال أنطاكية ، هي مدن طرسوس وأذنة والمصيصة، وكانت تحت السيطرة البيزنطية ، بل إنه حاصر مدينة اللاذقية المهمة جنوب أنطاكية، والتي اضطر بوهيموند قبل ذلك بأكثر من سنة أن يرفع عنها الحصار بسبب ريمون الرابع وموالاته للدولة البيزنطية ، أما الآن فتانكرد لا يحسب حسابًا أبدًا للإمبراطورية العجوز ، ولذلك نصب جيشه حول اللاذقية بغية إسقاطها ، وهو ما تمَّ له بالفعل، ولكن بعد قرابة السنتين !!

أما في إمارة الرها فقد بدأ بلدوين دي بروج نشاطه بمهاجمة مدينة سروج المسلمة، والتي حاول سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا - وهو من الأمراء المسلمين - أن يستردها عند رحيل بلدوين الأول إلى بيت المقدس ، غير أنه - للأسف - لم يتلقَّ أي مساعدة من الأمراء المسلمين في المنطقة؛ مما أدى إلي إنتصار بلدوين دي بورج عليه بعد قتال شديد، واستبيحت سروج، وأُخذ منها عدد كبير من الأسرى .

كان هذا هو الوضع في مملكة بيت المقدس وإمارتي أنطاكية والرها، فماذا فعل ريمون الرابع ؟! لقد فشل ريمون الرابع في رفع حصار تانكرد من حول اللاذقية، وكنا قد علمنا قبل ذلك أن ريمون يسيطر على اللاذقية لصالح الدولة البيزنطية ، ومن ثَمَّ فقد ترك ريمون المدينة وإنطلق إلى القسطنطينية ليتباحث مع ألكسيوس كومنين كيفية تخليص اللاذقية ، غير أنهم فوجئوا بحدث مهم ضخم غيَّر من حساباتهم ، وأوشك أن يغيِّر من خطط الجميع !!

لقد وصلت جموع هائلة من الغرب الأوربي تسعى للمشاركة في الحملة الصليبية ! لقد سمع الأوربيون بأخبار تأسيس ثلاث إمارات في داخل أراضي المسلمين ، وسمعوا بأخبار الغنائم والأموال والأسلاب، وسمعوا بأخبار الموانئ الإسلامية التي تتساقط في أيدي الصليبيين، وسمعوا عن العقود التجارية التي فازت بها أساطيل الجمهوريات الإيطالية ، وسمعوا عن إستكانة المسلمين غير المتوقعة وفرقتهم وتشرذمهم، لقد دفعتهم كل هذه المعلومات إلى تجميع الأعداد الكبيرة للاستفادة من هذا الموروث السهل !

ولقد وصلت هذه الجموع الهائلة إلى القسطنطينية في (494هـ \ مارس سنة 1101م (خريطة 19) ، وكان أول المجموعات وصولاً هي مجموعة اللمبارديين ، وهم أهل شمال إيطاليا، وكان على رأسهم (أنسلم) رئيس أساقفة ميلانو ، وكان بصحبتهم أيضًا مجموعة من الأمراء الإيطاليين مثل ألبرت وجيوبرت وهيومن وغيرهم ، غير أن عموم الحملة كانوا من الفلاحين والعوام ، وأيضًا من النساء والأطفال ، وكانت هذه الحملة أشبه ما تكون بحملة بطرس الناسك ووالتر المفلس ، ولعلنا نلاحظ أن الحملة العسكرية الأولى كانت بقيادة أدهمار المندوب البابوي (أسقف بوي) ، ثم كانت النجدة الثانية بقيادة دايمبرت رئيس أساقفة بيزا ، وها هو أنسلم رئيس أساقفة ميلانو يقود النجدة الحالية ، ليبرز لنا بوضوح دور الكنيسة في تحريك الجموع بغزو البلاد الإسلامية .

وعندما وصلت هذه الجموع إلى القسطنطينية قاموا بالإفساد الذي تعوَّد عليه شعب أوربا في ذلك الوقت ؛ مما دفع ألكسيوس كومنين أن يعجل بنقلهم عبر مضيق البسفور إلى أرض آسيا الصغرى، حيث توجهوا إلى مدينة نيقية، ليكونوا في انتظار بقية الجموع ، ثم اتفق ألكسيوس كومنين مع ريمون الرابع على أن يرأس ريمون الرابع هذه الجموع لخبرته في المنطقة ، ولدرايته بحروب المسلمين، وليضمن كذلك أن توجه الحملة إلى أطماع ألكسيوس كومنين، لا إلى أطماع تانكرد أو بلدوين الأول أو غيرهما !!

ثم مرَّ شهر أو يزيد ووصلت جموع أخرى من الصليبيين، وخاصة من فرنسا وألمانيا ، وانضمت إلى القوات الأولى في نيقية، ليصل مجموع الحملة الصليبية إلى مائتي ألف في أقل تقدير ! بينما يصل بهم ابن الأثير إلى ثلاثمائة ألف !!

لقد كان جيشًا هائلاً تولى قيادته ريمون الرابع ، وسار بهم في إتجاه دوريليوم ليلحق ببقية الصليبيين في الشام ، وكانت هذه هي رغبة ألكسيوس كومنين أيضًا، حيث كان يريد إعادة السيطرة على المدن التي ضاعت منه هناك ، وكان ريمون يريد لهذه الجموع أن تساعده في إسقاط طرابلس لينشأ له إمارة هناك، إلا أن جموع اللمبارديين رفضت هذا التوجُّه، وأرادت أن تنحرف بالحملة إلى الاتجاه الشمالي الشرقي لتغزو مناطق بني الدانشمند، وذلك بغية فك الزعيم النورماني الكبير بوهيموند من أسره ، ولا ننسى أن جموع اللمبارديين من إيطاليا بلد الزعيم المأسور، وعندما أشار ريمون الرابع إلى صعوبة تحرير بوهيموند المحبوس في قلعة نكسار الحصينة في مناطق جبلية وعرة على ساحل البحر الأسود رفض اللمبارديون إشارته ، وقالوا: إنهم إن فشلوا في تحريره فإنهم على الأقل سيدمرون أهم مدينتين في أقاليم بني الدانشمند ، وهما مديتنا أماسية وسيواس ، وأمام إصرار القوة الرئيسية في الجيش رضخ ريمون الرابع ، وإنحرف بالجيش في الاتجاه الشمالي الشرقي ، فوصلوا إلى أنقرة في (494هـ) أواخر يونية 1101م وإستولوا عليها في سهولة بالغة ، ثم أكملوا طريقهم في اتجاه قسطموني شمالاً !

إنهم يتجهون الآن إلى عمق بلاد الأتراك المسلمين ، فماذا كان ردُّ فعل الملك غازي كمشتكين ؟ وماذا فعل قلج أرسلان الذي كان يتخذ من قونية قاعدة له ؟ ,, لقد قام الملك غازي بالفعل الصائب إذ أرسل إلى قلج أرسلان السلجوقي ليستعين به في حروب الصليبيين، ولم يخيِّب قلج أرسلان ظنَّه ، وجمع جيشه وإنضم إليه ، بل وانضم إليهما بعد ذلك بعض جنود رضوان بن تتش زعيم حلب !

لقد كان خليطًا عجيبًا من زعماء تناحروا قبل ذلك كثيرًا، ولكنهم رأوا أن الدائرة ستدور عليهم قريبًا، وخاصةً أن هذه الجموع تجاوزت المائتي ألف ؛ ولذلك توحدوا !! ومع كون التاريخ غير مبشِّر ، ومع كون القلوب غير صافية إلا أن الوَحْدة - مهما كانت - تؤتي ثمارًا ونتائج ، نعم قد تكون ثمارًا مؤقتة إن لم تكن هذه الوحدة لله ، ولكنها تظل أفضل من الفرقة والتشتت , وهكذا على الرغم من عدم قناعتنا الكاملة بهذه الشخصيات فإنهم استطاعوا أن يفعلوا شيئًا، وشيئًا كبيرًا، لتبقى القاعدة الذهبية الأصيلة : " يد الله مع الجماعة!" .

ماذا فعلت الجيوش الإسلامية المتحدة ؟!

لقد تقدمت فرقة قلج أرسلان أمام الجيش الصليبي ، ثم بدأت تظهر الإنسحاب أمامه لتشجعه على الاستمرار في التقدم ، وفي أثناء هذا الإنسحاب كان السلاجقة يقومون بحرق المزروعات في الحقول ، وبردم الآبار ، وتدمير المؤن والأغذية حتى لا يتركوا فرصة للجيش الصليبي للتزود بأي تموين ، وطال الطريق على الجيش الصليبي ، وبدأ يشعر بالتعب والإنهاك ، وخاصةً أن هذه الأحداث كانت تدور في شهر يوليو من سنة 1101م، والحرارة عالية، وطبيعة الطريق الجبلية والصخرية مرهقة، وأكثر من ذلك أن السلاجقة كانوا يمارسون مع الجيش حروب استنزاف سريعة أثناء حركة الجيش جعلت الحالة النفسية للصليبيين مضطربة، وحاول ريمون أن يثني الجيش الصليبي عن عزمه باقتحام أرض الدانشمنديين ، إلا أن الجيش أصرَّ على تخليص بوهيموند ليكون قائدًا لهم في غزو بلاد الشام !

وإجتاز الصليبيون نهر هاليس ليدخلوا بذلك إلى أرض بني الدانشمند ، وواصلوا تقدمهم شرقًا حتى وصلوا إلى مدينة مرسيفان في منتصف الطريق تقريبًا بين نهر هاليس ومدينة أماسية ، وأدركت عيون الأتراك في ذلك الوقت أن الصليبيين قد بلغوا درجة كبيرة من الإعياء، فنصبوا كمينًا خطيرًا للجيش الصليبي ، وبدأ الصدام المروّع ..

ومع كثرة أعداد الصليبيين فإنَّ اللقاء لم يكن متكافئًا ، فالصليبيون في حالة مزرية من الجوع والعطش والإرهاق وإرتفاع درجة الحرارة، إضافةً إلى وجود أعداد كبيرة من الفلاحين غير المحترفين للقتال ، مع جهل الجميع بطبيعة الأراضي ومسالكها .

لقد كان قتالاً من جانب واحد ، إستطاع فيه المسلمون أن يحققوا نصرًا ساحقًا ، حيث هلك أربعة أخماس الجيش الصليبي، وأُسر معظم الباقين، ولم ينجُ من الجيش إلا مجموعة من الأمراء على رأسهم ريمون الرابع ، والذين نجوا بأنفسهم عندما رأوا الدائرة تدور على جيشهم، ووصلوا في فرارهم إلى القسطنطينية !

فَقَد الجيش الصليبي في هذه المعركة أكثر من مائة وستين ألف مقاتل، وفقدوا نساءهم وأطفالهم وأموالهم وسلاحهم ، وفقدوا سمعتهم وهيبتهم، وكانت هذه الأحداث في (494هـ) أوائل أغسطس سنة 1101 .

ولم تكن هذه هي الكارثة الأخيرة للصليبيين في هذه الظروف ، إذ إنه في هذه الأثناء وصلت مجموعة أخرى من الصليبيين للقسطنطينية ، وكانت هذه المجموعة مكونة من خمسة عشر ألفًا من الفرسان والمشاة الفرنسيين ، على رأسهم وليم الثاني كونت نيفرز Nevers ، وكان وصول هذه المجموعة في أثناء القتال الدائر في مرسيفان ، وانطلق وليم الثاني في أراضي آسيا الصغرى، ووصل إلى أنقرة ودخلها بسهولة ، غير أنه لم يدرك أي الطرق سلك الجيش الصليبي الأول ، وحيث إن الجيش الصليبي الأول قد هلك بكامله تقريبًا، ومن فرَّ منه فرَّ في اتجاه الشمال ؛ فإن الكونت وليم لم يعرف إلى أي الاتجاهات يسير ، ثم إنه في النهاية توجه بجيشه جنوبًا إلى هرقلة ، وهناك كانت الأنباء قد وصلت إلى القوات الإسلامية المتحالفة بوصول هذا الجيش الصليبي الجديد، فنزلوا مسرعين في اتجاه هرقلة ، وهم في حالة معنوية مرتفعة جدًّا لإنتصارهم الباهر في المعركة السابقة ، وكان اللقاء حاميًا في هرقلة في أواخر أغسطس سنة 1101م، وكان بالنسبة للمسلمين نزهة عسكرية بالقياس إلى اللقاء السابق ! وما هي إلا ساعات قليلة وفَنِي الجيش الصليبي بكامله، ولم ينجُ منه إلا زعيمه الكونت وليم الثاني كونت نيفرز، ومعه ستة من خاصَّته وأتباعه ! وتُعرف هذه المعركة في التاريخ بمعركة هرقلة الأولى؛ تمييزًا لها عن معركة هرقلة الثانية التي دارت بعدها بأقل من أسبوعين .

أما قصة معركة هرقلة الثانية فتبدأ بوصول المجموعة الثانية من هذه النجدة الصليبية التعيسة، حيث وصل إلى القسطنطينية ستون ألف مقاتل من فرنسا وألمانيا ، على رأسهم وليم التاسع دوق أكوتيين وولف الرابع دوق بافاريا ، وإتجهت هذه المجموعة مباشرة إلى هرقلة عبر قونية ، ومارس معها المسلمون نفس الأسلوب الذي مارسوه مع الحملة الأولى، حيث استدرجوهم إلى هرقلة بعد إتلاف المزروعات وطَمْر الآبار، فوصل الجيش الصليبي إلى هرقلة في أوائل سبتمبر من سنة 1101م في حالة مأساوية من الجوع والعطش والإنهاك ، وما لبثت المعركة أن بدأت لتصل في خلال ساعات إلى نفس النتيجة حيث أُبيد الجيش الصليبي بكامله ، ولم ينجُ إلا الأمراء الذي هربوا إلى أنطاكية !!

ولعله من الملاحظ في المعارك الثلاثة أن أمراء الجيش الصليبي كانوا يفتحون لأنفسهم طريقًا للهرب تاركين الجموع المسكينة لمصيرهم المشئوم !

وهكذا دائمًا طبيعة الجيوش التي تفتقر إلى قضية ، ولا يحرك القائد فيها إلا شهوته للتملُّك ورغبته في التوسع ! لقد كان ثلاث معارك هائلة في أقل من شهرين فَقَد فيها الصليبيون قرابة ربع مليون مقاتل ، إضافةً إلى الغنائم والسبي ، ولا شك أن حدثًا كبيرًا كهذا كان له من الآثار ما لا يحصى ، ولعله من المناسب أن نقف وقفة لنتدبر في نتائج هذه المعارك المهمة، وأثرها على سير الأحداث :

أولاً : إرتفعت معنويات المسلمين في كل مكان، ليس في آسيا الصغرى فقط ولكن في كل العالم الإسلامي، فالمسلمون كانوا يفتقرون إلى نصر يعيد لهم ثقتهم في أنفسهم، ويُهوِّن عندهم قوة الصليبيين، وهذه المعنويات المرتفعة - وإن لم يكن لها مردود سريع - رسَّختْ في الأذهان فشل الادِّعاء القائل بأن الصليبيين قوة لا تقهر ، وهذه خطوة مهمة في بداية التغيير .

ثانيًا : من المفترض أن المسلمين فهموا بعد هذه المعارك الثلاث بعض أسباب النصر ، ولعل من أبرز هذه الأسباب وضوحًا الجهاد والوحدة .

فالحقوق لا تعود إلى أصحابها عن طريق إقناع المعتدين بالعدول عن إعتدائهم ، ولا عن طريق طاولة مفاوضات، ولا عن طريق وساطة غربية ولا شرقية، إنما تعود الحقوق بالدفاع الجريء عنها، وبالصمود الطويل ، وبالصبر الجميل، وبالإعداد والتجهيز، وبذل الوسع والطاقة؛ وهو ما وَضَح لنا جميعًا في خطوات سير المعارك الثلاث .

كما أن الوَحْدة بين قلج أرسلان وكمشتكين ضاعفت القوة ، وسددت الرمية ، وأزعجت الأعداء، وأرهبت صدورهم؛ مما قاد إلى النصر بشكل طبيعي مفهوم .

ثالثًا : للأسف الشديد، وللمرة الثانية في حروب السلاجقة والدانشمنديين، لم نر التوجه الإسلامي واضحًا في الحرب التي خاضوها ، ولم تنقل المصادر إلينا إشتياقًا إلى الشهادة ، أو رغبة في دخول الجنة ، إنما أخذت المعارك الطابع القومي والوطني ، وطابع الحفاظ على الأراضي والديار والأملاك ، وهذا وإن كان من الممكن أن يحقق نصرًا كما رأينا ، إلا أن هذا النصر يكون مرحليًّا غير ممتد؛ لأن الله لا يتم نصره إلا لمن قاتل في سبيله ، ووحَّد وجهته كلها لله , ومما يؤكد قومية التوجه عند الأتراك في هذه المعارك أنهم لم يسعوا إلى إستغلال هذا النصر والتفوق في تحرير المدن الإسلامية المحتلة ، مع قربها الشديد من أرضهم ، وخاصةً أنطاكية والرها .

رابعًا : مع حلاوة هذا النصر وبريقه فإنَّ قادة المسلمين في الشام كانت على أعينهم غشاوة سميكة جدًّا، فلم يفهموا هذا النصر ، ولم يعلموا أسبابه ، بل لم يفكروا في إستغلال أزمة الصليبيين بفقدان هذا العدد الهائل من الجنود ، ومن ثَمَّ لم يسعوا إلى تحرير أوطانهم وديارهم .

خامسًا : تفرغ الأتراك في آسيا الصغرى بعد هذه المعارك إلى بسط سيطرتهم على المدن هناك، فسيطر قلج أرسلان على وسط آسيا الصغرى ، واتخذ قونية عاصمة له ، بينما ركَّز كمشتكين بن الدانشمند جهوده في الشرق، وأسقط ملطية تحت سيطرته .

سادسًا : أغلقت هذه المعارك الطريق البري من القسطنطينية إلى أرض الشام أمام القوات الصليبية ، وظل هذا الطريق مغلقًا قرابة قرن كامل من الزمان حتى زمان الإمبراطور الألماني فردريك باربروسا في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي ؛ مما يشير إلى مدى الرهبة التي تُلقى في قلوب أعداء الأمة إذا رُفعت راية الجهاد والمقاومة .

سابعًا : أدى انغلاق الطريق البري لأرض الشام أن نشطت جدًّا حركة السفن في البحر الأبيض المتوسط للوصول بالإمدادات والمؤن والجيوش إلى الموانئ الشامية والقسطنطينية، ولما كانت معظم هذه السفن مملوكة للجمهوريات الإيطالية فإنَّ دور هذه الجمهوريات أصبح مؤثرًا جدًّا في أحداث الحروب الصليبية، ولعشرات السنوات المقبلة .
ثامنًا: أدت هذه الانتصارات الإسلامية إلى قلق الصليبيين في الشام ، وهذا أدى بدوره إلى توقف حركاتهم التوسعية ، وقناعتهم بالاكتفاء بالحفاظ على ما بأيديهم ، خاصةً أن هزيمة الصليبيين كان لها وقع سيِّئ جدًّا على الغرب الأوربي مما عوَّق جهود الكنيسة في جمع المقاتلين .

تاسعًا : أدت هذه الانتصارات إلى اقتناع الدولة البيزنطية أن قوتها أضعف من أن تخوض قتالاً مباشرًا مع الأتراك في داخل آسيا الصغرى ، ومن ثَمَّ لم تحاول أن تدخل جيوشها إلى هذه المناطق إلا بعد وفاة قلج أرسلان بعد ذلك بست سنوات .

عاشرًا : نتيجة سلبية خطيرة لهذا النصر ، وهي أن البيتين التركيين الكبيرين : البيت السلجوقي ، والبيت الدانشمندي دخلا في صراع محتدم بعد هذا الإنتصار، فقد تفرَّغ كل منهما للآخر ، ولم يفهما قيمة الوحدة التي أنعم الله بها عليهما في وقت من الأوقات ، ومن ثَمَّ نظر كل طرف إلى مصالحه الخاصة، وإلى أطماعه التوسعية ؛ ولما كانت مساحة آسيا الصغرى محدودة ، فكان لا بد من التوسع على حساب الطرف الآخر ! كما أن وفرة الغنائم وكثرة الأموال كانت من العوامل التي أغرت الطائفتين بنسيان الأصول الإسلامية ، والتفرُّغ لجمع الدنيا !!

لكن على العموم فإن هذه المعارك التي حدثت أدت إلى خروج آسيا الصغرى تقريبًا من موازنات الحروب الصليبية ، حيث أخرجها الصليبيون من حساباتهم لفترة طويلة ، كما أخرج سكانها المسلمون بقيَّة القضايا الإسلامية - وعلى رأسها احتلال الشام وفلسطين - من حساباتهم ، وصارت قضية احتلال القدس وغيرها من المدن الإسلامية وكأنها من قضايا الشأن الداخلي التي تخص الفلسطينيين والشاميين ، ولا دخل لبقية المسلمين فيها، وهذا - لا شك - قصور كبير في الفَهْم، وبُعد هائل عن حقيقة الشرع وطبيعة الدين !

عودة إلى الإمارات الصليبية في الشام وفلسطين !

قبل أن تصل أخبار الهزيمة الصليبية الفادحة إلى بيت المقدس كان بلدوين الأول يرتب أمور مملكته الجديدة ، وبينما هو منهمك في هذا الترتيب إذ بالجيوش العبيدية (الفاطمية) تظهر في الصورة !

لقد رغبت الدولة العبيدية - كما شرحنا قبل ذلك - في التفاهم مع الصليبيين لتقسيم البلاد معهم، فتكون الشام للصليبيين وتكون فلسطين للدولة العبيدية، غير أن هذا لم يعجب الصليبيون، وإستمروا كما رأينا في احتلال الأراضي حتى أخذوا فلسطين بكاملها، وأسقطوا بيت المقدس في قبضتهم في (492هـ) يوليو 1099م، ولا شك أن هذا لم يأتِ موافقًا لأطماع ورغبات الدولة العبيدية ، ولم يكن هذا بالطبع لأي نخوة إسلامية، ولا لتقديس مدينة القدس ومسجدها الأقصى، إنما كان لرغبات التوسع والتملك والسيطرة، ولتأمين الحدود الشرقية المتاخمة مباشرة لفلسطين .. وبعد ما يقرب من سنتين، وتحديدًا في (494هـ) مارس 1101م فكر العبيديون في استرداد بيت المقدس وقتال بلدوين الأول، وجاءوا بجيش كبير يقوده سعد الدولة القواسي الذي كان حاكمًا لبيروت من قبلُ ، وعسكر هذا الجيش في عسقلان، وهي - كما نعلم - ما زالت تحت السيطرة العبيدية، وبدأ الجيش في الاستعداد لخوض معركة مهمة مع الصليبيين، ولكن من الواضح أن خطوات الجيش العبيدي كانت متثاقلة جدًّا، فقد أخذوا أكثر من ستة أشهر في الاستعداد، وأخيرًا خرجوا في (494هـ) أوائل سبتمبر سنة 1101م لقتال الصليبيين، مضيعين بذلك فرصة الصيف الحار الذي لا يألفه الأوربيون، إضافةً إلى إعطاء الصليبيين فرصة التجهز والاستعداد للمعركة المقبلة .

وفي منطقة الرملة ، وفي يوم 7 من سبتمبر سنة 1101م، حدث الصدام الذي يعرف في التاريخ بموقعة الرملة الأولى بين الجيش العبيدي في عدد كبير، والجيش الصليبي بقيادة بلدوين الأول في أعداد قليلة لكن حسنة التنظيم ، ومع أن أعداد العبيديين كانت تفوق كثيرًا أعداد الصليبيين فإنهم هُزموا سريعًا ، وسقط قائدهم سعد الدولة القواسي صريعًا في أرض المعركة ، وقُتل منهم عدد كبير، وفر الباقون إلى عسقلان الحصينة ، وغنم الصليبيون كل ما كان مع الجيش العبيدي من سلاح ومؤن وآلات .

لقد كانت ضربة موجعة للدولة العبيدية في مصر!

وإهتز الوزير الأفضل بن بدر الجمالي المسيطر على الأمور في مصر، وقرَّر أن يرسل حملة أخرى لرد الاعتبار ، لكن تجهيز هذه الحملة أخذ أكثر من ثمانية أشهر، جعلت الأمور تستقر إلى حد كبير في منطقة بيت المقدس ! وهكذا وصلت أنباء الهزيمة القاسية للجيوش الصليبية في آسيا الصغرى مع أنباء هزيمة الدولة العبيدية في الرملة ، مما أعاد الثقة نسبيًّا إلى الصليبيين .

ورأى ريمون الرابع كونت تولوز - الذي فشل حتى هذه اللحظة في تحقيق أي طموح - أنَّ عليه أن يسعى حثيثًا لتكوين إمارة له في منطقة لبنان ، وقد رأينا رغبته السابقة في منطقة طرابلس الحصينة، ورأينا فشله في تحقيق مطامع بالمنطقة؛ نتيجة تنافسه مع زعماء الحملة الصليبية جميعًا، ورأينا فشله في تحقيق طموح مع القوات الصليبية الجديدة التي إنتهى أمرها - كما رأينا - إلى السحق التام تحت أقدام المسلمين ، ووجد ريمون الرابع أن علاقته بالإمبراطور البيزنطي لم تساعده في شيء، بل أعطت انطباعًا عند زعماء الحملة الصليبية أن ريمون خائن لهم وللمشروع الصليبي، لدرجة أن ريمون الرابع عندما غادر القسطنطينية في (495هـ) يناير 1102م متجهًا إلى ميناء السويدية جنوب أنطاكية ليمارس نشاطه من جديد في محاولة إنشاء إمارة خاصة به، قبض عليه أحد رجال تانكرد أمير أنطاكية بتهمة الخيانة للصليبيين ، واعتقله تانكرد بالفعل في سجن أنطاكية ، وإتهمه بالتواطؤ مع الدولة البيزنطية ، بل وبتعمد إهلاك الجيوش الصليبية لصالح البيزنطيين، وكادت أن تحدث مشكلة ضخمة بين الصليبيين؛ لأن ريمون الرابع وراءه جيش كامل من البروفينساليين ؛ ولذا تدخل زعماء الصليبيين عند تانكرد لإطلاق ريمون، فلم يطلقه إلا عندما اشترط على ريمون أن يكفَّ عن المطالبة بأية حقوق في أنطاكية أو اللاذقية، ووافق ريمون وأطلق سراحه، وخرج من أنطاكية مسرعًا في اتجاه لبنان، وفي طريقه إلى هناك حاصر طرطوس (في سوريا الآن) ، وسانده في هذا الحصار أسطول جنويّ ، وبالفعل سقطت طرطوس في (495هـ) فبراير 1012م، واتخذها ريمون قاعدة لأعماله، ومركزًا للانطلاق نحو طرابلس بعد ذلك .

ومع أن جيش ريمون كان قليلاً جدًّا يقدر بالمئات فقط، فإنَّه لم يتردد في حصار طرابلس بهذا العدد القليل من الجند ! إنها معركة البقاء والوجود! إن خسائره أصبحت كثيرة، ولا بد من العمل الجاد قبل أن يفقد كل شيء .

وفي داخل طرابلس وجد ابن عمار - الذي كان شيعيًّا منفصلاً عن الدولة العبيدية - نفسَه وحيدًا في حصاره ، ولم يفكر في الاستنجاد بالدولة العبيدية لأنه يعلم مطامعها في إمارته، فأرسل رغمًا عن أنفه إلى اثنين من ألدِّ أعدائه وهما : دقاق ملك دمشق ، وجناح الدولة ملك حمص ؛ فهما أقرب المدن إليه، ولكنهما من السُّنَّة، والخلاف بينهما عميق، ولم يكن ابن عمار يتردد في إرشاد الجيوش الصليبية إلى الطرق التي تنجِّيهم من جيوش دقاق، أما الآن فالوضع مختلف، والقضية - لا شك - ليست قضية إسلامية، لا عند ابن عمار، ولا عند دقاق أو جناح الدولة، ولكنها المصالح الذاتية فقط !

ولم يتردد الزعيمان المسلمان في قبول المساعدة، فهي فرصة قد تعطيهم إمارة طرابلس، وجيوش ريمون قليلة يسيرة، وهزيمته كانت قريبة في آسيا الصغرى على يد قلج أرسلان وكمشتكين بن الدانشمند، وهكذا انطلق الزعيمان لنجدة ابن عمار !

ومع كون الجيوش الإسلامية الثلاثة لدقاق وجناح الدولة وابن عمار كانت أكثر بكثير من جيش ريمون، فإنَّ ريمون استطاع أن ينتصر عليهم، وأن يشتِّت شملهم، بل يروي ابن الأثير أن ريمون قتل من المسلمين سبعة آلاف، مع أن جيشه كان بضع مئات! وفر جيش ابن عمار إلى داخل طرابلس، وهربت جيوش دقاق وجناح الدولة إلى مدنهما، وعاد ريمون إلى حصار طرابلس. وإزاء هذا الوضع عرض ابن عمار دفع الجزية لريمون، فقَبِل ريمون نظرًا لعلمه أن إسقاط طرابلس بهذا العدد القليل يكاد يكون أمرًا مستحيلاً، وبهذا عاد ريمون إلى طرطوس في مارس أو إبريل من سنة 1102م .

لكن ريمون ما عاد إلى طرطوس ليستريح ، إنما عاد ليُعِدَّ العدة لهجوم جديد، ومن ثَمَّ فقد خرج بعد أيام من عودته في (495هـ) إبريل 1102م إلى بعض الحصون التابعة لمدينة حمص، مثل حصن طوبان وحصن الأكراد وغيرهما ، وأخذ في حصارها ومهاجمتها مستغلاًّ فرار جيوش جناح الدولة منه قبل ذلك، وبينما هو في حصاره هكذا حدثت كارثة في مدينة حمص توضح مدى الانحدار الذي وصلت إليه الأمة في ذلك الوقت؛ إذ كان هناك خلاف قديم بين رضوان ملك حلب وجناح الدولة حسين بن ملاعب ملك حمص، ومع أن حسين بن ملاعب ملك حمص كان متزوجًا من أم رضوان بن تتش، إلا أن رضوان أقدم على جريمة بشعة في توقيت خطير، وهي جريمة قتل جناح الدولة ملك حمص وزوج أمه، وقام بتنفيذ هذه المهمة عن طريقة ثلاثة من الباطنية الإسماعيلية الذين اشتهروا بمثل هذه الجرائم، حيث قُتل جناح الدولة في مسجد حمص الكبير أثناء تأديته للصلاة، وكان ذلك 495هـ\ في مايو سنة 1102م !

إنها لجريمة كبرى حقًّا !

ليست فقط لإزهاق روح مسلمة بغير وجه حق، وليست فقط لارتكابها غِيلَةً أثناء الصلاة وفي داخل المسجد، وليست فقط لأنها في حق زوج أمه، ولكن لأنها تمت في مثل هذه الظروف القاسية التي تتعرض لها الأمة !

لم ينظر رضوان مطلقًا إلى وجود حمص في مواجهة جيش ريمون الرابع، ولم ينظر إلى الأزمة التي تتعرض لها البلاد، ولم ينظر إلى حالة الاضطراب التي ستئُول إليها الأحداث بعد مقتل زعيم المدينة، وإنما نظر فقط إلى إشفاء غليله، وإرضاء نفسه، والانتقام لكبريائه !

وهكذا فقدت حمص زعيمها في وقت حرج، وعلم ريمون الرابع بهذه الأحداث، فأخذ بقية جيشه بسرعة وتوجه مباشرة إلى مدينة حمص ذاتها ليضرب عليها حصارًا بغية إسقاطها ، إلا أنهم استنجدوا بدقاق ملك دمشق ، فوجدها دقاق فرصة لتوسيع ملكه ، ومن ثَمَّ جاء بجيشه لضمها إلى دمشق ، ورأى ريمون أنه سينحصر هكذا بين جيشي حمص ودمشق؛ فرفع الحصار وعاد إلى طرطوس، ووضع دقاق يده على مدينة حمص ليضمها في (495هـ) مايو 1102م إلى مملكته، وأناب عنه في حكمها أحد قوَّاده وهو طغتكين .

واستقرت الأوضاع نسبيًّا في هذه المنطقة، حيث هدأ ريمون بعض الوقت لكي يزيد من قوته وإمكانياته استعدادًا لحصار طرابلس، ورضي منه دقاق بهذا الهدوء، فلم يسعَ مطلقًا إلى الهجوم عليه أو استفزازه، وكأنَّ البلاد التي وضع ريمون يده عليها أصبحت من حقِّه كأمر واقعي لا بد من الاعتراف به !

ونعود إلى بيت المقدس، وقد مرت الأيام والشهور ، وعاد العبيديون بجيش كبير للانتقام لهزيمتهم في معركة الرملة الأولى في سبتمبر 1101م، وكان عودتهم إلى عسقلان في شهر مايو 1102م، أي بعد مرور أكثر من ثمانية أشهر على الكارثة الأولى ، وكان جيشهم بقيادة شرف المعالي وهو ابن الوزير الأفضل بن بدر الجمالي، مما يعطينا فكرة عن أهمية هذه الحملة .

وحشد بلدوين بضعة آلاف من جنوده في منطقة يافا، وخرج في مهمة استطلاعية بين يافا والرملة، ولم يكن معه سوى مائتين من الفرسان، وباغته العبيديون هناك، حيث اضطربت صفوفه، واضطر إلى قتالٍ مفاجئ، وقُتل من رجاله عدد كبير وفر الباقون، فمنهم من فر إلى يافا، ومنهم من فر إلى الرملة، وكان بلدوين ممن فر إلى الرملة، وكان هذا في (495هـ) 17 من مايو 1102م .

حاصر العبيديون الرملة ليفتكوا ببلدوين الأول غير أنه هرب منها ليلاً متجهًا إلى يافا، وسقطت الرملة في أيدي العبيديين ، وأرسلوا فرقة سريعة لحصار يافا ، فغيَّر بلدوين الأول من مساره وذهب إلى أرسوف في شمال يافا ، وجمع من كان بها من الصليبيين، وأخذهم عن طريق البحر إلى يافا لنجدة الجيش الصليبي هناك، وإستعان بأسطول إنجليزي مكون من مائتي سفينة كان يحمل كثيرًا من الجنود والحجاج، ودخل بلدوين الأول فعلاً إلى يافا من الميناء البحري على الرغم من وجود السفن العبيدية ، وأخذ في تنظيم جيوشه في داخل المدينة ، ثم في (495هـ) يوم 27 من مايو 1102م خرج بلدوين الأول على رأس جيوشه لمقابلة الجيش العبيدي خارج أسوار يافا ، وللأسف فإنه في خلال بضع ساعات هُزم الجيش العبيدي هزيمة ساحقة ، ولم يفقد الجيش الصليبي عددًا يذكر من رجاله، وفرَّ العبيديون إلى عسقلان للمرة الثانية في خلال ثمانية أشهر لتتفاقم الأزمة العسكرية للدولة العبيدية، بينما يزداد الصليبيون ترسيخًا لأقدامهم في المنطقة!
وعاد بلدوين الأول إلى بيت المقدس ليرتب أوضاعه فيها، وكان من أهم الأعمال التي قام بها استقبال مندوب البابا باسكال الثاني الذي جاء للتحقيق في أمر دايمبرت أسقف بيت المقدس، وكان بلدوين الأول قد أرسل إلى البابا يشكو له سوء سلوك دايمبرت، وأن هناك الكثير من الشبهات في تصرفاته، وجاء مندوب البابا - وهو الأسقف إبرمار - وحقق في الأمر، وسرعان ما أثبت - بمعونة بلدوين الأول بالطبع - أن دايمبرت مُدان في تصرفاته، وتم عزله عن الأسقفية المهمة، وتولى إبرمار مكانه، وبذلك تخلص بلدوين الأول من أشد منافسيه على الكرسي ، ولم يعبأ بلدوين الأول بعد ذلك باعتراضات تانكرد النورماني أمير أنطاكية، فقد صار بلدوين أقوى زعماء الصليبيين بلا منازع .

ولا ينبغي أن يجعلنا هذا التصرف من بلدوين أن نفهم أن سلطان الكنيسة ذهب بالكلية عند قيام حكومة علمانية ملكية في بيت المقدس، بل ظل للكنيسة نفوذ كبير، وإن كان في معظمه نفوذ بعيد عن سلطة أخذ القرار السياسي، وإنما هو نفوذ اقتصادي واسع؛ فقد تميزت الأديرة والكنائس في الإمارات الصليبية بوفرة الثروة واتِّساع الأملاك، ويكفي أن نعرف أن دير جبل صهيون في بيت المقدس - على سبيل المثال - امتلك في سنة (583هـ) 1178م حيًّا بأكمله في مدينة القدس ذاتها، وكذلك كان لنفس الدير ممتلكات وأراضٍ وبساتين وأسواق في عسقلان ويافا ونابلس وقيسارية وعكا وصور وأنطاكية وقليقية، بل إن الدير نفسه كان يملك ضياعًا وأملاكًا في أوربا: في صقلية، وإيطاليا، وفرنسا! ولا شك أن هذه الأملاك الواسعة أثارت حقد النبلاء والأمراء، خاصةً أن أملاك الكنيسة كانت مُعفاة من الضرائب ، وكان رجال الكنيسة معفيين من الخدمة العسكرية كذلك، فهذا رفع تساؤلات ضخمة في أذهان الأمراء الذين ما شعروا أن للدين أثرًا في حياتهم يوازي هذه المكانة الضخمة التي تتمتع بها الكنيسة، ومع ذلك فهذا واقع كان لا بد من قبوله، ولم يثر عليه عامة الأوربيين إلا بعد عدة قرون !

وهكذا بينما نحن نتحدث عن استقرار الأوضاع الداخلية في الإمارات الصليبية كانت الأحوال تزداد سوءًا في الإمارات الإسلامية! ولم يقف الحد عند النزاع بين الإمارات بعضها وبعض، وإنما وصل إلى النزاع الداخلي في كل إمارة، وليس أدل على ذلك مما حدث في الموصل في (495هـ) أواخر سنة 1102م عندما مات كربوغا أمير الموصل، فتنازع الملك في الموصل بعده اثنان هم سنقرجة وموسى التركماني، فقُتل سنقرجة في النزاع وتولى موسى التركماني، ليُقتَل بعد قليل على يد جكرمش الذي تولى إمارة الموصل، ولن يدوم الأمر له طويلاً بل سيظهر من ينافسه وهكذا !!

إنه في ظل هذه الأوضاع المتردية ، من غياب الشرع في حياة الناس ، وحب السلطة والتملك، وذهاب الوحدة، وانفصام العروة، كان لا بد للكيان الصليبي أن يُزرع في داخل قلب الأمة الإسلامية! ولا عجب إن قلنا إنه في أثناء هذا الصراع في الموصل، وفي (495هـ) أواخر سنة 1102م سقطت مدينة اللاذقية - وهي ميناء شامي في غاية الأهمية - في يد تانكرد أمير أنطاكية بعد حصار سنة ونصف تقريبًا، دون أن يتحرك لها أحد من المدن القريبة: حلب أو حماة أو حمص، وهكذا صار لإمارة أنطاكية واجهة عريضة على البحر سهَّلت لها بعد ذلك - ولمدة عشرات السنين - وصول الإمدادات البحرية من أوربا؛ مما أسهم في طول بقائها وإستقرارها .

ولعل من الأحداث التي رأيناها في سنة (496هـ) 1103م ما يدلنا أيضًا على تردِّي الأخلاق بدرجة كبيرة عند زعماء المسلمين، فلم تكن القضية - كما كانت في الموصل - نزاعًا على كرسي الحكم فقط، بل وصل الأمر عند البعض إلى المخاطرة بكل مصالح المسلمين من أجل حفنة من دنانير، أو اتفاقية تعاون مشترك مع الصليبيين !

من هذا ما حدث في سنة (496هـ) أوائل 1103م من تفاوض بشأن الأمير الأسير بوهيموند النورماني ، والذي ظل كما نعرف في قبضة الملك غازي كمشتكين ثلاث سنوات كاملة حتى الآن ، وكان حبيسًا في قلعة نكسار الحصينة على ساحل البحر الأسود في شمال آسيا الصغرى .

لقد أراد بلدوين دي بورج أمير الرها بالاشتراك مع برنارد بطرك أنطاكية أن يسعى لتحرير بوهيموند من الأسر، وذلك لخشية بلدوين دي بورج من أحلام تانكرد التوسعية ؛ ولما كان بلدوين دي بورج يعلم أن الحل العسكري لن يجدي في هذه القضية، خاصةً أن أخبار الحملة الصليبية الفاشلة في سنة (494هـ) 1101م لا يمكن أن تُمحى من الذاكرة، أراد بلدوين دي بورج أن يحل الموقف سياسيًّا، فدعا إلى مباحثات مشتركة مع الملك غازي كمشتكين أمير الدانشمند لينظر فيما يطلب لإطلاق سراح بوهيموند النورماني، وتمَّ اللقاء فعلاً، ودُرس الموقف، لكن لم يتوصل الفريقان إلى نتيجة حاسمة . في ذلك الوقت علم الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين بهذه المفاوضات ، وكان الإمبراطور البيزنطي يكره بوهيموند كراهية شديدة، ويشعر أنه لعب به ، وأغراه بالصداقة والولاء والتبعية، ثم تنكَّر لكل ذلك وامتلك أنطاكية، بل تجرأ تابعه وإبن أخته تانكرد على أخذ مدن أذنة والمصيصة وطرسوس في أقليم قليقية شمال أنطاكية ، ثم أخيرًا أسقط تانكرد اللاذقية المتنازع عليها بين الصليبيين والبيزنطيين ، وبذلك ضربت كرامة الدولة البيزنطية في الأعماق، وخاصةً أن تاريخ بوهيموند في عدائه للبيزنطيين طويل، ويسبق الحروب الصليبية بسنوات عديدة؛ ولذلك لما علم الإمبراطور البيزنطي بهذه المفاوضات قرر أن يدخل في اللعبة السياسية ويتفاوض مع الملك غازي على بوهيموند، وبالفعل تقدم بعرضٍ في غاية السخاء قيمته مائتان وستون ألف دينار في مقابل تسلُّم بوهيموند النورماني ! وكان الإمبراطور البيزنطي لا يريد فقط الانتقام من بوهيموند، بل كان ينوي أن يفعل ما لم يفكر المسلمون أن يفعلوه طيلة السنوات الثلاثة التي امتلكوا فيها أمر بوهيموند، فقد كان يريد أن يساوم النورمان في أنطاكية على بوهيموند، ومن ثَمَّ يستطيع امتلاك مدينة أو عدة مدن نظير إطلاق بوهيموند، ولا شك أن الإمبراطور البيزنطي كان يعلم قيمة بوهيموند عند النورمان، وليس أدل على ذلك من توجه الحملة الصليبية التي أتت في سنة (494هـ) 1101م بكاملها لنجدة بوهيموند، لولا أنها هلكت كما تبيَّن لنا.
وجاء العرض مغريًا جدًّا للملك غازي كمشتكين بن الدانشمند ! إنه لا يقاتل إلا من أجل التملك والتوسع وتكثير الأموال والثروات، وها هو مبلغ هائل سيدخل جيبه دون جهد يذكر !

إن الأمر يستحق فعلاً أن يُعطى جانبًا كبيرًا من التفكير!!
ومن علم أيضًا بأمر هذه المفاوضات؟!!
لقد علم بها القائد السلجوقي الشهير قلج أرسلان، وهو الذي يقود البيت التركي الثاني في أرض آسيا الصغرى، وهو الذي ورث هو وإخوانه العداء مع بيت بني الدانشمند، فسال لعابه لهذه الثروة الطائلة التي ستدخل عما قريب لخزينة الدانشمنديين، فأرسل من فوره رسالة إلى الملك غازي يطالب فيها بنصف المبلغ عند تسلُّمه، وذلك نظير المساعدة التي قدمها قلج أرسلان في سنة (494هـ) 1101م للملك غازي في حربه ضد الحملة الصليبية .

إنها لم تكن حربًا لله إذن !

إن الحرب كانت دفاعًا عن الوجود والسلطة، وهي أيضًا طلبًا للمال والثروة، أما المعاني الإسلامية الرفيعة من إخلاص وتجرد ونصرة للدين وحب للجنة وجهاد في سبيل الله، فهذه ليست لها مكانة في قلوب زعماء ذلك الزمن !

وفكر الملك غازي في طلب قلج أرسلان، إنه بذلك لن يحصل إلا على مائة وثلاثين ألف دينار، وهذا وإن كان مبلغًا كبيرًا جدًّا، إلا أنه يطمع في الأكثر والأكثر، ثم إنه لا يقبل أن يرضخ لطلب من طلبات قلج أرسلان .

إنه في حيرة حقيقية من أمره !! وفي هذه الأثناء تدخل طرف آخر في المفاوضات؛ لقد تدخل بوهيموند نفسه! ولا شك أنه في ظل هذا الفساد سيكون هناك من يتطوع في نقل الأخبار إلى بوهيموند في سجنه نظير وعد بمال أو إقطاع أو غير ذلك، وإزاء هذه العروض من الإمبراطور البيزنطي والسلطان قلج أرسلان ومحاولات بلدوين دي بروج تقدَّم بوهيموند للملك غازي بعرضه !!

لقد قال له بوهيموند : إن الأمبراطور البيزنطي عدو مشترك لنا جميعًا ، فهو يتنازع مع الجميع من أجل الحصول على مدن آسيا الصغرى ، وكذلك قلج أرسلان هو عدو لنا جميعًا ! هكذا ! فأطماع قلج أرسلان في آسيا الصغرى تتعارض - ولا شك - مع أطماع بوهيموند ، وأيضًا مع أطماع الملك غازي ، وعليه فإن تسليم بوهيموند إلى الإمبراطور البيزنطي أو إعطاء المال لقلج أرسلان سوف يضر بمصالح غازي قبل أن يضر بالأمير بوهيموند، وعلى هذا فالعرض الذي يتقدم به بوهيموند هو جمع مبلغ مائة ألف دينار من إمارة أنطاكية وأصدقائها، وإعطاء هذا المبلغ للملك غازي كفدية ، إضافةً إلى تعاهدٍ بين الفريقين : الملك غازي والأمير بوهيموند على التعاون المشترك بعد ذلك في القضايا السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتصبح إمارة أنطاكية الصليبية دولة صديقة لإمارة بني الدانشمند المسلمة !

إنه عرض في غاية الإغراء للملك الطموح غازي بن الدانشمند !! ,, إنه أولاً سيأخذ مبلغًا من المال في غاية الضخامة؛ نعم هو أقل من عرض الإمبراطور البيزنطي، لكنه في النهاية مبلغ كبير جدًّا ، ويكفي لنعرف حجمه أن ندرك أن إمارة أنطاكية بمفردها لم تستطع أن تجمع المبلغ ، بل إستعانت بإمارة الرها وبعائلة بوهيموند في صقلية ، ويكفي أن نعرف أيضًا أنه عندما يتم أسر بلدوين دي بورج لاحقًا ستكون الفدية خمسة ألف دينار فقط !

وثانيًا هو لن يساهم في تقوية شأن الإمبراطور البيزنطي الذي ينافسه على أرض آسيا الصغرى .

وثالثًا ستكون هذه طعنة مباشرة لقلج أرسلان عدوه اللدود .

ورابعًا سيفوز الملك غازي بصداقة الأمير الأسير بوهيموند، وستقوم علاقات دبلوماسية مهمة مع الإمارة الصليبية أنطاكية .

وإزاء هذا العرض المغري وجد الملك غازي نفسه لا يستطيع الرفض، ومن ثَمَّ قرر أن تتم الصفقة في ملطية، وكانت تحت سيطرة الملك غازي في ذلك الوقت .

ووصلت الأخبار إلى أنطاكية، وأسرع رجال بوهيموند بالاشتراك مع بلدوين دي بورج أمير الرها، وكذلك مع بعض الأثرياء من الصليبيين، إضافةً إلى عائلة بوهيموند في صقلية إلى جمع المبلغ المطلوب، وفي سنة (496هـ) أوائل مايو 1103م تمت الصفقة، وأطلق سراح بوهيموند، وتسلم الملك غازي المبلغ بعد أن تبادل مع بوهيموند الأيمان بحفظ الصداقة والمودة، والتعاون المشترك المخلص في المستقبل !

وجنَّ جنون قلج أرسلان ! لقد ضاعت منه ثروة طائلة! إنه لم يكن يمانع أن يطلق سراح بوهيموند إلى ألكسيوس كومنين، وكأن ألكسيوس كومنين هذا صديق للمسلمين، لا مانع من إعطائه أسباب قوة، ولكنه الآن يمانع من إطلاق بوهيموند دون أن يقبض هو جزءًا من الثمن !
وماذا فعل قلج أرسلان؟! لقد أعلن الحرب على غازي كمشتكين؛ لتشتعل بذلك النار بين المسلمين في آسيا الصغرى، بل إنه أرسل إلى الخليفة العباسي وإلى السلطان بركياروق يستعديهما على الملك غازي، مع أنه لم يكن يعتبر مطلقًا بوجودهما، ولكنه الآن يستخدم كل الأوراق السياسية !

لكن الأخطر من الصراع الذي دار بين قلج أرسلان والملك الغازي هو أن إطلاق سراح بوهيموند كان كارثة ضخمة حلَّت على المسلمين؛ لأنه عاد إلى أنطاكية فاستقبل استقبالاً حافلاً ، وقويت به - كما يقول ابن الأثير - نفوس أهلها به ، ومن ثَمَّ خرج بوهيموند بحماسة لينتقم من المسلمين بعد أن أُسر لديهم أكثر من ثلاث سنوات .

وبدأ بمهاجمة البلاد التابعة لحلب، وفرض الجزية على مدينة قنسرين ، وهاجم المسلمين الذين يعيشون على نهر قويق شمال حلب فمزقهم تمزيقًا، وفرض على من بقي منهم الأموال الباهظة، بل إنه فرض على حلب نفسها الجزية من المال والخيل، وأجبرها على إطلاق سراح أي أسير صليبي .

لقد كانت كارثة حقيقية حلت على المسلمين! لقد كانت كارثة اقتصادية وسياسية وعسكرية، وقبل كل ذلك كارثة أخلاقية شرعية، وكارثة فُرقة مقيتة عانت منها الأمة عدة سنوات مقبلة .
والثمن ؟!! مائة ألف دينار، وحلف مع إمارة أنطاكية الصليبية !! ولعل التدبُّر في مثل هذه القصص، ورؤية تفاصيل مثل هذه المواقف والأحداث يعطينا تفسيرًا واضحًا لسيطرة الصليبيين على بقاع إسلامية كثيرة ، على الرغم من كثرة أعداد المسلمين ووفرة أموالهم وقوة حصونهم ؛ فإننا أبدًا لا نُهزم لقوة أعدائنا ، ولكن لضعفنا وبُعدنا عن شرع الله، وسُنة الله لا خلف لها !

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 04-03-14, 04:37 AM

  رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 


نور من شمال العراق !!


لقد مرت بنا كما رأينا لحظات عصيبة سواء في الشام أو آسيا الصغرى، ورأينا الاحتلال البغيض يضرب جذوره هنا وهناك ، ورأينا تخاذلاً كبيرًا من المسلمين ، وتهاونًا شنيعًا في الحقوق والمقدسات ، وحتى عندما رأينا نصرًا على الصليبيين ، كذلك الذي حدث في سنة (494هـ) 1101م رأينا خلفه صراعًا على الأرض بل حربًا معلنة بين الزعيمين المسلمين قلج أرسلان وغازي بن الدانشمند !

ولقد كان الوضع في الشام أكثر ترديًا من الوضع في آسيا الصغرى، فلم نألف مقاومة ولا دفاعًا، بل رأينا التسليم والإذعان وطلب المودة والصداقة مع زعماء الصليبيين ، مع كل ما ارتكبوه من مجازر ومذابح راح ضحيتها عشرات الآلاف من المسلمين ، بل يزيد , لكن هل يأتي زمانٌ على الأمة الإسلامية ينقطع فيه الخير، فلا يبقى مصلح ، ولا يظهر تقي ؟! إنَّ هذا أبدًا لا يكون !!

والذين يدعون إلى هذا اليقين ليس مجرد استنباط من حقائق التاريخ ، أو مجرد أمل ينقصه الدليل ، إنما هو وعدُ حقٍّ بشرنا به رسولنا حين قال : " لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ" .

فالخير لا ينقطع من الأمة أبدًا ، ولا بد له من ظهور وسيادة ، وسيظل هناك دومًا من يحمل الراية ، ويحض على الفضيلة ، ويتمسك بالشرع ، ويحب الجهاد ، وسيظل هناك دومًا من يسعى إلى تحرير الأرض ، وحفظ العرض ، وردِّ الحق ، ولن يأتي زمان أبدًا تموت الهمة فيه أو تختفي , نعم وقد تضعف وتخبو ، ولكنها تظل دومًا باقية .

والذي ينظر إلى الأحداث أيام الحروب الصليبية يرى أمرًا لا يخفى على دارس ، وإن كان لم يأخذ نصيبه من التحليل والفقه .

وهذا الأمر هو كل حركة جهادية ، أو دعوة إصلاحية في هذه الفترة كانت تخرج من منطقة شمال العراق ! هذا في الوقت الذي خفتت فيه إلى حد كبير دعوات الجهاد في الشام ومصر وآسيا الصغرى، فهل هذه حقيقة ؟ وإن كانت كذلك فما السر وراءها ؟ إننا رأينا في ثنايا القصة خروج كربوغا أمير الموصل في جيش كبير لنجدة أنطاكية عند حصارها سنة (490هـ) 1097م ، ورأينا حصاره لإمارة الرها وهو في طريقه لأنطاكية ، ورأينا سعيه إلى جمع أمراء الشام في حرب مشتركة ضد الصليبيين ، ورأينا كيف خذلوه وتخلوا عنه، كلٌّ منهم بسبب أو عذر ، ولهذا لم يكتب لحملته النجاح كما رأينا ، لكنه على العموم كان الوحيد الذي قطع المسافات لحرب الصليبيين .

وسنرى بعد قليل غيره وغيره ممن سيحمل راية الجهاد ضد الصليبيين، بل سيخرج من نفس المكان عماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي، وهم جميعًا أغنياء عن التعريف أو الوصف .

لماذا حدث كل هذا في هذا المنطقة، ولم نره في بلاد الإسلام الأخرى ؟!إننا لكي نفقه هذه الملاحظة لا بد لنا من العودة إلى التاريخ القريب لهذه المناطق ، وندرس الفارق بينه وبين تاريخ المناطق الأخرى ، ومن ثَمَّ نستطيع أن نفهم جذور هذه الحركات الجهادية والإصلاحية .

إننا إذا عدنا إلى منتصف القرن الخامس الهجري - أي قبل الحروب الصليبية بخمسين سنة تقريبًا - سنجد طغرل بك زعيم السلاجقة السني يدخل بغداد مخلِّصًا إياها من الحكم الشيعي المستبد والمتمثل في بني بويه ، وذلك بالتحديد في سنة (447هـ) 1055م , وكان طغرل بك - كما يصفه ابن الأثير - حليمًا عاقلاً من أشد الناس احتمالاً ، وكان يقول عنه أيضًا : "وكان رحمه الله يحافظ على الصلوات ، ويصوم الاثنين والخميس" .

ثم ملك من بعده ابن أخيه البطل الإسلامي الفذ ألب أرسلان الذي ملأ الدنيا عدلاً ورحمة وجهادًا وعلمًا ، ويصفه ابن الأثير بكلام جليل فيقول : " وكان كريمًا عادلاً عاقلاً ، لا يسمع السعايات (أي الوشايات)، وإتسع ملكه جدًّا ، ودان له العالم ، وبحقٍّ قيل له سلطان العالم ، وكان رحيم القلب ، رفيقًا بالفقراء ، كثير الدعاء ، وكان شديد العناية بكفِّ الجند عن أموال الرعية " .

رجل كهذا كان يحكم بلاد المسلمين ، وكان مركز حكمه وسلطانه في منطقة فارس والعراق ، وشمل عدله كل هذه الديار ، وحقَّق نصرًا غاليًا على الدولة البيزنطية في موقعة ملاذكرد سنة (463هـ) 1070م ، ما زالت الدنيا تتحدث عنه إلى يومنا هذا ، ولا شك أن هذا ترك أثرًا لا ينسى في شعبه ، وعلَّمه قيمة الجهاد في سبيل الله وأثره .

ولم يكن ألب أرسلان وحده هو الذي يربِّي هذا الشعب ، بل أنعم الله عليه بوزير من أعظم الوزراء في تاريخ الإسلام ، وهو من بطانة الخير التي تحض دائمًا على الخير ؛ قال رسول الله : "مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلاَّ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ" .

هذا الوزير العظيم هو نظام الملك الطوسي الذي كان من العلماء الأجلاء ، ومن المدافعين عن الشريعة والسنة ، ومن المحفِّزين على الجهاد والبذل، ومن الأشداء في الحق ، الرحماء مع الرعية ، وكان مثالاً يُحتذى في كل مكارم الأخلاق ، وكان اهتمامه بالعلم جليلاً وعميقًا ، وظل وزيرًا لألب أرسلان حتى وفاة ألب أرسلان في (465هـ) 1072م، ثم صار وزيرًا لابنه ملكشاه الذي إتسع ملكه حتى وصل إلى الصين والهند شرقًا ، وإلى الدولة البيزنطية والشام غربًا ، وكان ملكشاه على نهج أبيه ألب أرسلان محبًّا للعلم ، موقِّرًا للعلماء ، مقدِّرًا لقيمة الوزير الجليل نظام الملك ، حتى إنه قال له عند بداية حكمه : " قد رددت الأمور كلها كبيرها وصغيرها إليك ، فأنت الوالد " .

ثم إن نظام الملك أسدى للأمة الإسلامية فائدة عظيمة هي من أجلِّ أعماله ، إذ قام بإنشاء عدد كبير من المدارس في كل أنحاء الدولة نسبت إليه ، فعرفت بالمدارس النظامية (نسبةٌ إلى نظام الملك) ، وهي نوع من المؤسسات العلمية التي هُيِّئ فيها للطلاب أسباب العيش والتعليم، حيث كان يجري فيها على طلبة العلم الرواتب الشهرية ، وكان يهتم بجلب أكابر العلماء للتدريس فيها، فدرَّس فيها مشاهير الفقه والحديث وسائر العلوم ، وكان من أهمِّ أدوارها مقاومة المد الشيعي ، والفكر الباطني الذي كان منتشرًا في كثير من البلاد آنذاك ، وعلى قمة البلاد التي كانت تحت الحكم الشيعي آنذاك مصر والشام .

وظل الوضع على هذه الصورة حتى قُتل نظام الملك سنة (485هـ) 1092م على يد الشيعة الإسماعيلية الباطنية، أي قبل الحروب الصليبية بست سنوات فقط .

ومن الجدير بالذكر أن السلطان العظيم ملكشاه تُوفِّي بعد وزيره نظام الملك بأكثر من شهر بقليل ! ولا أشك أنهما لو كانا في زمان الحروب الصليبية ما تركا بلاد المسلمين تنهب على هذه الصورة ، ولكن قدَّر الله وما شاء فعل ، ورحمهما الله رحمة واسعة .

ولكن إن ذهب هؤلاء العظماء فإن أثرهما لم يذهب، فإنهما أورثا البلاد التي كانت تحت حكمهم حب الشريعة والدين ، ولعل من أبرز المعاني التي ارتفعت في زمانهما معنيين : العلم والجهاد ، ولا ترفع أمة إلا بهما ، ولا تذل أمة إلا بتركهما ، وهي معاني لا تزول بسرعة ، بل تظل محفورة في الأذهان حتى بعد موت الداعي لها بزمان وزمان .

كان هذا هو الحال في منطقة فارس والعراق وما حولها ، وهو ما عرف في التاريخ بدولة السلاجقة العظام ، والتي ورثها بعد موت ملكشاه ابنه بركياروق الذي كان حليمًا كريمًا صبورًا عاقلاً إلا أنه لم يكن على مستوى أبيه وجَدِّه ، وكثرت في عهده الفتن والصراعات ، وفي عهده دخل الصليبيون أرض الإسلام ، ومع كثرة انشغاله في الصراعات الداخلية فإنه لم يتردد في إرسال كربوغا أمير الموصل لنجدة أنطاكية كما مر بنا .

وإذا كنا نذكر أن هذا هو حال البلاد التي كانت تحت حكم السلاجقة العظام بصفة عامة، فإننا نذكر أن معظم الحركات الجهادية والإصلاحية كانت تخرج من شمال العراق ؛ وذلك لأنها أقرب الإمارات للشام وآسيا الصغرى ، فإمارة الرها تقع في غرب إمارة الموصل وفي جنوبها ، وعلى هذا فقد تحمَّل شمال العراق عبء إخراج المجاهدين والعلماء إلى هذه البلاد المنكوبة، بينما كانت جهود بقية بلاد السلاجقة العظام التي تتمثل في فارس وما حولها ، موجهةً إلى شرق العالم الإسلامي لمواجهة الاضطرابات الناجمة عن الوثنيين من الأتراك أو الهنود .

ومما يلفت الأنظار أيضًا في هذه البلاد في شمال العراق أن الشعب نفسه كان مقدِّرًا لقيمة العلماء، وكان قادرًا على تقييم الحاكم في ضوء الشريعة ، فيقف إلى جوار من ينصر الشرع والدين ، ويقف في وجه من يظلم ويتجاوز حدود الشريعة .

ولنا أن نضرب مثلاً من حياة العلماء في منطقة شمال العراق لنرى قيمتهم وأثرهم ، وليكن هذا المثل هو العالم الجليل (عديّ بن مسافر) .

ولعل الكثير من المسلمين لم يسمع عنه أصلاً، ولكنه كان من العلماء الأفذاذ الذين عاصروا بدايات الحروب الصليبية ، وكان يعيش في منطقة شمال العراق عند جبال هكار بين قبائل الأكراد الهكارية ، وكان هذا العالم كما يقول ابن تيمية : " كان رجلاً صالحًا ، وله أتباع صالحون " , بل يقول عبد القادر الجيلاني في حقه كلمة عجيبة حيث قال: "لو كانت النبوة تنال بالمجاهدة ، لنالها الشيخ عدي بن مسافر !" .

وكان الشيخ عدي قد بنى له مدرسة يُعلِّم الناس فيها ، وكما يقول ابن كثير : "فأقبل عليه سكان تلك النواحي إقبالاً هائلاً ؛ لما رأوا من زهده وصلاحه وإخلاصه في إرشاد الناس". ويقول ابن خلكان: "وسار ذكره في الآفاق، وتبعه خلق كثير" , بل يذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء أن دعوة الشيخ عدي أدت إلى إنتشار الأمن في تلك المنطقة ، وإرتدع مفسدو الأكراد وتابوا .

وهذا مجرد مثال لتقدير الشعب لقيمة العلماء، ولفقههم لأهمية الشريعة ، وهذا انعكس بدوره على تفاعلهم مع القادة العسكريين والسياسيين ، فمن كان منهم معظِّمًا للشريعة مطبِّقًا لها، كان مطاعًا عندهم ، محبوبًا إلى قلوبهم ، ومن كان غير ذلك كان مكروهًا مذمومًا يتحين الجميع فرصة لعزله وإقصائه , إنها طبيعة شعب يُرجى من ورائه خيرٌ كثير .

وإذا كان بروز السلاجقة واضحًا جدًّا في هذه المنطقة ، وأثرهم لا يغفل أبدًا، فإن هناك من ظهر إلى جوار السلاجقة ، وأسهم معهم إسهامًا واضحًا في الحفاظ على روح الجهاد في سبيل الله ، ومن أهم هذه الطوائف الأراتقة والأكراد .

أما الأراتقة فهم من نسل أرتق التركماني ، وهو من قبائل الأتراك أيضًا ، وكان من القواد السياسيين البارزين لملكشاه السلطان السلجوقي العظيم ، وتقلد كثيرًا من المناصب كان آخرها ولاية بيت المقدس حيث تُوفِّي بها سنة (484هـ) 1091م ، تاركًا ولدين من بعده هما : سُقمان وإيلغازي، اللذان حكما بيت المقدس لفترة وجيزة حتى سقط تحت الاحتلال العبيدي (الفاطمي)، وذلك أثناء الغزو الصليبي ، وتحديدًا في سنة (491هـ)\ 1097م ، مما جعلهما يرحلان إلى الشمال ، حيث ذهب إيلغازي إلى بغداد ليكون في خدمة السلطان السلجوقي بركياروق ، بينما إتجه سقمان إلى منطقة ديار بكر في شمال العراق ليؤسس هناك إمارة إسلامية تابعة للسلاجقة ، وأهم مدنها ماردين وحصن كيفا (في جنوب تركيا الآن) .

وكان لهذين الزعيمين نخوة إسلامية واضحة، وكذلك لابن أخيهم بَلْك بن بهرام ، وكان لهم جميعًا أثرٌ في حروب الصليبيين ، سنراه مع تتابع الأحداث .

أما الأكراد فهم شعب عظيم من شعوب الإسلام ، ينتمي - غالبًا - في جذوره إلى مجموعة القبائل الهندوأوربية ، والتي هاجرت إلى مناطق شمال العراق وجنوب تركيا وشرق إيران قبل الميلاد بألفي سنة .

وقد دخلت هذه القبائل الكبيرة في الإسلام منذ أيامه الأولى ، بحيث إنه لم تأتِ سنة 21 من الهجرة حتى دخل غالب الأكراد في الإسلام ، ومنذ الدخول الأول لهم في الإسلام فإنهم ظلوا على عهدهم من الحميَّة والنصرة لدين الله مهما تقلبت الأحوال أو تغيرت الظروف، وكانوا في كل تاريخهم ملتزمين بالمنهج السُّني ، وغالبهم على المذهب الشافعي، وحتى عندما سيطر بنو بويه الشيعية على الخلافة العباسية في القرنين الرابع والخامس الهجريين ، ظل الأكراد على منهجهم السني الأصيل ، وعاطفتهم الإسلامية القوية ؛ لذلك لم يكن مستغربًا أبدًا أن تأتي النصرة من بلادهم، وأن يخرج نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه وصلاح الدين الأيوبي والملك الصالح نجم الدين وغيرهم من أصلاب هذه الأسرة الكريمة .

كان هذا الوضع في منطقة شمال العراق ، وهو ما يفسر ظهور الحركات الجهادية والإصلاحية من هذه البقاع ، ولا شك أننا نلاحظ أن كل ما ذكرناه من أسماء وقبائل كان من أصول غير عربية ، بل إن المغيِّرين في قصتنا بكاملها من العرب سيكونون قلة قليلة جدًّا ؛ وهذا ليس تقليلاً من شأن العرب، ولكنه ذكر لتاريخ وواقع ، وهو في نفس الوقت تعظيم للإسلام الذي صهر كل هذه الأنواع البشرية والأجناس المتباعدة في بوتقة واحدة، فجاء السلاجقة والأراتقة والأكراد ليرفعوا راية هذا الدين ، ويعزوا أمره متناسيين تمامًا أن نبي هذه الأمة عربي ، وأن الخلافة كانت في العرب !! بل إن غالب المسلمين في ذلك الوقت كانوا من غير العرب، بل إن غالبهم في زماننا نحن الآن من غير العرب أيضًا ، فالعرب لا يمثلون في المسلمين الآن إلا نسبة 25% فقط ، وكذلك كانوا في التاريخ بعد زمان أبي بكر الصديق ، وبدءًا من زمان عمر بن الخطاب حيث إنتشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، ولهذا لا عجب أن نجد أن معظم المغيِّرين والمجددين في تاريخ الإسلام ليسوا عربًا ، وليس على سبيل الحصر أن نذكر أسماء طارق بن زياد ، وألب أرسلان ، ويوسف بن تاشفين ، وعماد الدين زنكي ، ونور الدين محمود ، وصلاح الدين الأيوبي ، وقطز ، ومحمد الفاتح ، وكلهم كما هو معلوم ليسوا من العرب ، وكذلك في مجال العلوم ، بل في مجال العلوم الشرعية، وليس أدل على ذلك من ذكر أصحاب كتب الحديث المشهورين ، فأعظمهم ستة ، هم أصحاب ما يعرف بأمهات الحديث، وليس مستغربًا أن نجد أن خمسة من هؤلاء الستة ليسوا عربًا ، وهم البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه ، ويبقى أبو داود وحده ممثِّلاً للعرب !

إن هذا دليل واضح على عظمة هذا الدين وقدرته على التأثير في عقول الناس وقلوبهم، وطبيعته التجميعية لشتات الشعوب ، ويا لخسارة المسلمين لو جاء عليهم زمان يعلون شأن القومية فوق الإسلام ، ويتجمعون على أواصر النسب والدم لا على أواصر العقيدة والدين !

هذا هو حال شمال العراق أيام الحروب الصليبية !! فكيف كان حال الشام التي إبتليت بالاحتلال الصليبي ؟!

إن بلاد الشام ، وأيضًا مصر ، قد نكبت بالاحتلال العبيدي البشع بداية من سنة (359هـ) 969م ، ولم يرفع عنها إلا عندما جاء السلاجقة وأخرجوا العبيديين في (477هـ) 1084م ، أي بعد أكثر من مائة سنة كاملة , أما في مصر فقد استمر حكمهم لها مائة سنة أخرى، ولم ينتهِ إلا في سنة (567هـ) 1171م ؛ وفي هذه السنوات الطويلة فرَّغ العبيديون البلاد المحتلة من علماء السنة ، ونشروا البدع ، ومنعوا التعليم الإسلامي الصحيح ، ولم تكن لهم أبدًا قضايا جهادية ، بل كانوا يحاربون المجاهدين ويؤذونهم ، ويحالفون أعداء الأمة ويصادقونهم ، وقد رأينا طرفًا من أعمالهم ومفاوضاتهم مع الصليبيين ؛ وفي وسط هذا الجو الكئيب كان لا بد للشعب أن يخرج رخوًا مائعًا لا قضية له ! إنه حُرِم من العَالِم الذي يدله على الطريق ، وحُرِم من المجاهد الذي يكون له قدوة ، ولم يكن هذا لعام أو عامين ولكن لقرن كامل في الشام ، وقرنين كاملين في مصر ؛ ولذلك لم يكن متوقعًا من هذه البلاد أن تحمل على أكتافها قضايا المسلمين ، حتى لو كانت هذه القضايا هي قضاياهم شخصيًّا !! فالأموال المنهوبة أموالهم ، والديار المهدَّمة ديارهم ، والأرواح التي أزهقت هي أرواح أبنائهم وإخوانهم وعشيرتهم ! ثم إن الذي حرر الشام من العبيديين كان ظالمًا مثلهم ، وإن كان سنيًّا !

فالذي تولى أمر الشام من السلاجقة هو تُتش بن ألب أرسلان ، وكان على النقيض تمامًا من أبيه ألب أرسلان أو أخيه ملكشاه بن ألب أرسلان ، والله ضرب لنا ابن نوح مثلاً لنفهم هذا التضارب في الشخصيات والأخلاق .

لقد كان تتش ظالمًا مستبدًا ، لا يهتم إلا بكرسيه ، ولا ينظر إلا لمصالحه ، ولا يسمع لرأي إلى جوار رأيه ، ولا يعتبر بأرواح شعبه ولا أموالهم ، ولا يحترم روابط دين أو عقيدة ، ولا روابط دم أو نسب ، فقطَّع علاقاته مع الناس أجمعين ، وحارب هذا وذاك ، حتى وصل به الأمر أن حارب بركياروق ابن أخيه ملكشاه بعد وفاة ملكشاه ! وكل ذلك طمعًا في توسيع رقعة ملكه ؛ أملاً في زيادة ثروته .

وكان من الطبيعي لشعب رُبِّي في هذا الجو الملبد بالظلم والقهر أن يخرج خانعًا خاضعًا ذليلاً ، يُقاد بالسياط ، ويقبل بإنتهاك الحرمات ، ويألف ضياع الحقوق , ولذلك لم يكن الصليبيون يختلفون كثيرًا في حسابات الشعب عن تتش بن ألب أرسلان أو عن العبيديين ، بل إن بعض أفراد الشعب كانوا يتعاونون مع الصليبيين بغية طعام أو شراب أو مال أو إقطاع .

ولم يختلف الحال كثيرًا بعد وفاة تتش مقتولاً في سنة (488هـ) 1095م؛ إذ قسمت الشام إلى نصفين بين ولديه رضوان ودقاق ، فأخذ رضوان حلب ، وأخذ دقاق الشام ، وهما لم يختلفا في كثير أو قليل عن أبيهما ، فقد ورثا عنه الظلم وسوء الأخلاق ، فكانا وبالاً على شعوبهما ، بل وعلى عامة المسلمين ، بل إن رضوان بن تتش جمع إلى جوار ظلمه ظلمَ العبيديين ، فتشيَّع وقرَّب الباطنية الإسماعيلية المجرمة ، وحرضهم على جرائمهم المنكرة بغية إرهاب الناس وتثبيت ملكه , ولقد مرَّ بنا في هذه القصة - حتى الآن - جريمتان من ارتكابهما؛ الأولى كانت مقتل الوزير العظيم نظام الملك سنة (485هـ)، والثانية كانت مقتل جناح الدولة حسين بن ملاعب زوج أم رضوان بن تتش بتحريض من رضوان بن تتش نفسه ، وذلك في سنة (495هـ) .

وهكذا - بالتحليل السابق - فإنه ينبغي أن نتوقع في غضون الأيام والسنوات القادمة أن تهب حركة جهادية إصلاحية من شمال العراق ، وأن يكون تفاعل الشعب معها في الشام ضعيفًا في البداية إلى أن تتغير الأجيال التي تربَّت على الذل والقهر، والبُعد عن الدين والشرع ، وعندها سيكون لهم شأنٌ كبير في تغيير الواقع الأليم !

هذا ما ينبغي أن نتوقعه ، وهذا ما حدث بالفعل ! وكان من أوائل بذور الخير ما رأيناه في سنة (496هـ) 1104م من تباشير حركة جهادية تهدف إلى مقاومة الصليبيين !

كيف كان ذلك ؟ !

كان على رأس إمارة الموصل في ذلك الوقت جكرمش ، وقد صعد إلى كرسيِّ الحكم - كما ذكرنا - بعد فتنة حدثت بعد موت كربوغا أمير الموصل السابق ، وكان جكرمش شخصية ذات نزعة إسلامية واضحة، ورغبة في العدل والرحمة ، وقدرة على التعامل مع الناس ؛ ولذلك أحبَّه أهل الموصل وأطاعوه، غير أنه كانت له ميول استقلالية، خاصةً أن الصراع كان دائرًا بين السلطان بركياروق وأخيه السلطان محمد ؛ مما جعل أفكار الاستقلال بالموصل تراود خيال جكرمش ، وإن كان في الظاهر يدين بالولاء للسلطان بركياروق .

وفي نفس الوقت الذي رأينا فيه الاضطرابات في الموصل حدثت اضطرابات مماثلة في مدينة حرَّان، وهي مدينة تقع إلى الجنوب الشرقي من إمارة الرها الصليبية وعلى بُعد 200 كم تقريبًا شمال شرق حلب، وعلى نفس المسافة أو أكثر قليلاً شمال غرب الموصل ، فهي مدينة في موقع مهمٍّ جدًّا ؛ حيث إنها تسيطر على الطريق الذي يربط العراق بسوريا ، أو الذي يربط الموصل تحديدًا بحلب، وقد حدثت فيها فتنة مماثلة لفتنة الموصل، وقُتل فيها عدة ولاة في وقت قصير ، وتولى الأمر أخيرًا غلام تركي اسمه جاولي .

رأى الصليبيون هذه الأوضاع المتقلبة في حران والموصل ، فقرروا أن يستغلوا هذه الفرصة لتحقيق ضربة موجعة تحقق أغراضًا عدة للإمارات الصليبية الشمالية ، أعني الرها وأنطاكية .

لقد إتفق بلدوين دي بورج زعيم الرها بصحبة جوسلين دي كورتناي تابعه على مدينة تل باشر (وهي من أعمال إمارة الرها) مع بوهيموند أمير أنطاكية ، ومعه تانكرد ابن أخته ونائبه على أن يقوم الجميع بعمل عسكري مشترك في غاية الخطورة ، وهو الإستيلاء على مدينة حرَّان (في جنوب تركيا الآن) في خطوة مرحلية للاستيلاء بعد ذلك على مدينة الموصل ذاتها !

إنهم بذلك سيحققون أهدافًا في غاية الخطورة !

إنهم سيسقطون أولاً :
مدينة حران الشهيرة بثرواتها الطبيعية ومزارعها الخصبة .

وثانيًا :
سيقطعون الطريق بين العراق والشام، ومن ثَمَّ سيتعذر على المعونات العسكرية السلجوقية أن تأتي من العراق إلى مدينة الموصل التي تظهر فيها دعوات الجهاد، والتي تتميز بصحوة إسلامية واضحة ، فلو سقطت الموصل ضُرب المسلمون بذلك في عمقهم .

ثالثًا :
ستفتح حران بعد ذلك الطريق إلى الموصل، والتي تظهر فيها دعوات الجهاد، والتي تتميز بصحوة إسلامية واضحة، فلو سقطت الموصل ضرب المسلمون في عمقهم .

ورابعًا :
قد يفتح الطريق باحتلال الموصل إلى بغداد قلب العالم الإسلامي وعاصمة الخلافة ، ولا شكَّ أن سقوط بغداد سيزلزل العالم الإسلامي كله، وقد يقع الجميع حينئذٍ تحت سيطرة الصليبيين .

وخامسًا
: بالنسبة لبوهيموند، فإنَّ السيطرة على حرَّان ستؤدي إلى حصر حلب بين أنطاكية من الشرق وحران من الغرب مما يسهِّل إسقاط حلب ، ومن ثَمَّ إنشاء دولة صليبية كبرى في شمال الشام بدلاً من إمارة أنطاكية الصغيرة .

إنها أهداف كبرى تجعل إسقاط حران حلمًا غاليًا عند الصليبيين ؛ ولذلك تكوَّن جيش صليبي كبير يضم كل قادة الصليبيين في المنطقة، حيث كان فيه بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي وبوهيموند وتانكرد ، إضافةً إلى عدد كبير من رجال الكنيسة في الرها وأنطاكية ، هذا إضافةً - طبعًا - إلى جيش كبير يقارب العشرين ألف مقاتل .

لقد كانت هجمة في غاية الخطورة ، خاصةً أن المدن الإسلامية المهمة في المنطقة - وهي الموصل وحران - خارجةٌ من فتنة كبيرة كما وصفنا، إضافةً إلى أن العلاقات كانت مضطربة جدًّا بين جكرمش أمير الموصل وسقمان بن أرتق أمير حصن كيفا (إلى الشرق من حران) ؛ حيث كان سقمان مؤيدًا للأمير موسى التركماني الذي كان يتولى أمر الموصل قبل ثورة جكرمش عليه .

لقد تخير الصليبيون وقتًا حرجًا جدًّا ، وإنتصارهم في هذه الظروف قريب ! غير أن هناك أمرًا - ما حسب له الصليبيون حسابًا في ظل هذه الاضطرابات - حدث ؛ وغيَّر هذا الأمر جدًّا من موازين القوى في المنطقة ؛ لقد تبادل الزعيمان المسلمان جكرمش وسقمان بن أرتق الرسائل في وقت متزامن تقريبًا ، يدعو فيه كل زعيم أخاه إلى نسيان الخلافات القديمة والتعاون المشترك ضد الصليبيين ، وهذا رائع جدًّا أن تتم الوحدة بين المسلمين في ظروف الأزمات والنكبات ، ولكن الأروع في قصتنا هذه أن كلا الزعيمين أعلن هذه الوحدة ليست لتحقيق نصرٍ ، أو لتوسيع ملك ، أو لتكثير ثروة ، إنما هي لله !!

لقد جاء في رسالة كل واحد منهما للآخر ما رواه ابن الأثير حيث قالا: "إنني ما بذلت نفسي في هذا الأمر إلا لله تعالى وثوابه " .

وهذه هي المرة الأولى في قصة الحروب الصليبية التي نرى فيها راية الجهاد مرفوعة في سبيل الله ، وبتجرد واضح ؛ نعم الزمن زمن فتنة ، والقلوب متقلبة ، والأهواء مضطربة ، والنفوس قلقة ، ونوزاع الملك والسيطرة كثيرة، والأحلام الشخصية موجودة ، ولكن - بحمد الله – ما زال في النفوس خير ، وما زال هناك من يعمل العمل ابتغاء مرضات الله .. وإنَّ من أروع ما في القصة أن تتزامن رسائل الزعيمين ، دلالةً على أن الله أراد بهما وبالمسلمين خيرًا .

إقترب الجيش الصليبي الكبير من حران، وفرض عليها الحصار المحكم، وهو لا يعلم باتحاد الجيشين المسلمين للموصل وحصن كيفا ؛ ولذلك كانت مفاجأة كبيرة جدًّا للصليبيين أن ظهر في الأفق الجيش الإسلامي المتحد، والمكوَّن من عشرة آلاف مقاتل ، منهم ثلاثة آلاف من العرب والسلاجقة والأكراد تحت قيادة جكرمش ، وسبعة آلاف تركماني تحت قيادة سقمان بن أرتق .

وفي سنة (497هـ) 7 من مايو 1104م دارت موقعة شرسة بين المسلمين والصليبيين ، وذلك على ضفاف نهر البليخ ..

وقاتل في هذه المعركة بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي بكل قوتهما؛ لأن المعركة تدور تقريبًا في حدود إمارتهما ، أما بوهيموند فقد استفاد من درس أسره قبل ذلك ؛ ولذلك وقف في مؤخرة الجيش مع ابن أخته تانكرد ليؤمِّن ظهر الجيش الصليبي، وفي نفس الوقت ليؤمِّن لنفسه طريقًا للهرب !

وما هي إلا ساعات وإنتصر الجيش المسلم انتصارًا مهيبًا قُتل فيه من الصليبيين أكثر من اثني عشر ألف مقاتل ! كما تمَّ أسر بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي !! هذا فوق عدد كبير آخر من الأسرى ، إضافةً إلى كميات ضخمة من الغنائم والأموال والسلاح ، وولَّى بوهيموند وتانكرد الأدبار مسرعين إلى أنطاكية !

لقد كان نصرًا مجيدًا حقًّا !

ولم يتعرض المسلمون أثناء القتال إلى أزمة حقيقية، فقد كانت السيطرة لهم من بادئ الأمر، إلا أنهم تعرضوا لأزمة كبيرة بعد الموقعة، لكن - بفضل الله - كتب الله لهم منها النجاة؛ ذلك أن معظم الغنائم والأموال - وكذلك الأسيرين الثمينين - وقعوا في يد سقمان بن أرتق وجيشه، وخرج جكرمش خالي الوفاض من المعركة ، وغضب جيش جكرمش وهم يشاهدون الثروات تقع في يد الجيش التركماني ، وأغروا جكرمش بأخذ نصيبه منها، وإقتنع جكرمش بذلك ، وذهبوا للمعسكر التركماني ، وقد وجدوا أن سقمان كان في مطاردة الصليبيين مع جزء من جيشه ، فدخلوا خيمة الأسرى، وإستطاعوا أن يأخذوا بلدوين دي بورج أمير الرها ، والأسير الأعظم وعادوا به إلى معسكرهم !

إنها فتنة الدنيا !! وليس مستغربًا على هذا الزمن الذي إختلطت فيه المفاهيم جدًّا أن توجد هذه النوازع في نفوس الأمراء والمقاتلين .

وعاد سقمان من مطاردته ، وعرف بما حدث ، وحضَّه جيشه على قتال جكرمش لأخذ الأسير الثمين ، إلا أن سقمان رحمه الله وقف موقفًا لله هو من أعظم المواقف في حياته ، ويدل دلالة واضحة على طيب معدنه ، وصدق نيته؛ لقد قال سقمان لجيشه : "لا يقوم فرح المسلمين في هذه الغزاة بغمِّهم بإختلافنا ، ولا أوثر شفاء غيظي بشماتة الأعداء بالمسلمين " .

الله أكبر !!

إنه لا يريد أن يضيع سعادة المسلمين بالنصر باختلافهم على الغنيمة ، ولا يريد أن يشفي صدره من جكرمش ويسبِّب شماتة الأعداء في المسلمين , هذا هو التجرد الذي يُرجى من ورائه النصر !

ثم إنه لم يكتفِ بذلك رحمه الله ، بل إستغل النصر الإسلامي المهيب ، وأخذ ملابس الصليبيين وأسلحتهم ، وألبسها لجنوده المسلمين كنوع من التمويه على الصليبيين ، ثم مرَّ على عدة قلاع كان الصليبيون قد إستولوا عليها ، فيحسبهم الصليبيون إخوانهم وجيشهم فيفتحون القلعة ، فيدخل المسلمون ويسيطرون على القلعة، وهكذا حتى تمَّ له السيطرة على عدة قلاع وحصون مهمة في المنطقة .

أما جكرمش فقد سار إلى حران ، فتسلمها وضمها إلى الموصل ، ولم يكتفِ بذلك بل قرر أن يأخذ جيشه - على قلته - ويحاصر إمارة الرها، وهو وإن كان يعلم أن هذه القوة القليلة ما تستطيع أن تفتح إمارة الرها الحصينة ، إلا أنها كانت نوعًا من الحرب النفسية سيكون لها أشد الأثر على الصليبيين ، خاصةً بعد هذه الهزيمة الثقيلة في حرَّان ، أو في موقعة البليخ (نسبة إلى النهر الذي دارت حوله الموقعة) .

لقد حققت هذه الموقعة آثارًا جلية، ولهذا كانت نقطة مضيئة جدًّا في الصراع الإسلامي - الصليبي ، على الرغم من كونها على النطاق العسكري والإقليمي لم تكن من المواقع الكبرى , ولعلنا في هذه العجالة نقف على عشر نتائج مهمة لهذه الموقعة المهمة :

أولاً :
إرتفعت الروح المعنوية للمسلمين بشكل لافت للنظر ، وظلت هذه الموقعة محفورة في أذهانهم ولفترة طويلة، وليس ذلك لقتل عدد من الصليبيين أو أسر آخرين فحسب ، ولكن لوضوح الرؤية عند المسلمين في هذه المعركة ، ومعرفة المسلمين لأسباب النصر الحقيقية، ولرفع الكلمة الغالية: (الجهاد في سبيل الله) ، ولرؤية ثمرة التأييد الرباني لمن سار في طريق الله ، وتمسك به .

ثانيًا :
لا شك أنه إن كان الأثر إيجابيًّا على المسلمين إلى هذه الدرجة، فإنه حتمًا سيكون سلبيًّا على الصليبيين وبدرجة أشد، ولقد شعر الصليبيون بالهزيمة النفسية، وبالإحباط الشديد الذي ظل متوارثًا فيهم ولأجيال متلاحقة، بل إننا لا نبالغ إن قلنا أن هذه المعركة كانت سببًا في تغيير طريقة التفكير للصليبيين في العراق وفارس ، فهذه هي المرة الأولى - وكذلك الأخيرة - التي يفكر فيها الصليبيون في غزو هذه المناطق ، وبذلك تكون هذه الموقعة - على بساطتها - قد وضعت حدًّا لأحلام الصليبيين وطموحاتهم .

ثالثًا :
فَقَد الصليبيون في هذه الموقعة أكثر من اثني عشر ألف مقاتل ، لا شك أنهم أثروا تأثيرًا سلبيًا في قوة الصليبيين ، خاصةً أن الأوربيين فقدوا حماستهم في القدوم إلى أرض الإسلام بعد كارثة الحملة الصليبية التي جاءت سنة (494هـ) 1101م ، أي من ثلاث سنوات فقط ، ومن ثَمَّ تناقص عدد الجنود في إمارتي الرها وأنطاكية تناقصًا مزعجًا، كان له أكبر الأثر في خطط الإمارتين .

رابعًا :
لم تفقد إمارة الرها جنودًا فقط ، بل فقدت أميرها ونائبه ! فقد وقع بلدوين دي بورج ونائبه جوسلين دي كورتناي في الأسر ، ولا يعلم أحد متى يكون إطلاقهما ، وخاصةً أن كل واحد منهما مأسور في إمارة مختلفة ؛ فبلدوين في يد جكرمش أمير الموصل ، وجوسلين في يد سقمان أمير حصن كيفا وماردين ، وعلى هذا فلم يجد جيش الرها الصليبي من يتولى زعامة الإمارة في غياب الأميرين الكبيرين ، فعرضوا على تانكرد النورماني أن يتولى الإمارة لحين إطلاق سراح أحد الأميرين ، وبالطبع وجدها تانكرد فرصة سانحة لتحقيق طموحه , وهكذا كان تانكرد يعمل في أرض الشام كالجوكر الذي يستعان به عند الأزمات ، فهو تارة أمير للجليل في إمارة بيت المقدس ، وتارة أخرى أمير على أنطاكية في غياب بوهيموند ، وتارة ثالثة أمير على الرها في غياب بلدوين دي بورج .

خامسًا :
فقدت الإمارات الصليبية بعد هذه الهزيمة عدة قلاع وحصون ، بل وعدة قرى ومدن وأملاك ، وتغيرت جغرافية المنطقة تغيرًا ملموسًا، ولم يكن الأمر واقفًا فقط عند القلاع التي حررها سقمان في أعقاب المعركة مباشرة، وكانت كل هذه القلاع تابعة لإمارة الرها ، بل تجاوز الأمر كذلك إلى إمارة أنطاكية حيث فقدت هي الأخرى عددًا ضخمًا من القرى والحصون التابعة لها؛ وقصة ذلك أن رضوان بن تتش ملك حلب لم يفكر في الاشتراك في هذه الحرب الإسلامية، وإنما وقف بجيشه عند نهر الفرات يترقب الأحداث ، ويشاهد تطورات المعركة ، وعندما رأى هزيمة الجيش الصليبي، وقتل عدد كبير من جنوده، وفرار بوهيموند وتانكرد ، وأسر بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي، واتجاه تانكرد إلى الرها ليحكمها بدلاً من بلدوين دي بورج ، عندما رأى رضوان كل ذلك تجرأ على مهاجمة أملاك إمارة أنطاكية، والتي كانت تابعة قبل ذلك لإمارة حلب ، فاسترد في أيام معدودات عددًا من القلاع والمدن القريبة من حلب مثل معرَّة مصرين وسرمين، كما قام أحد الأمراء المسلمين في المنطقة - وهو شمس الخواص أمير رفينة - باسترداد مدينة صوران شرقي شيزر، كما لم تلبث الحاميات الصليبية في معرَّة النعمان والبارة وكفرطاب ولطمين أن تنسحب من جَرَّاء نفسها إلى أنطاكية، وبذلك تقلصت حدود أنطاكية الشرقية جدًّا حتى وصلت إلى بحيرة العمق بعد أن كانت قد وصلت إلى مشارف حلب .
سادسًا: حافظ المسلمون بهذه الموقعة على الطريق بين الشام والعراق مفتوحًا وآمنًا، ولمدة طويلة جدًّا من الزمان، مما سهل بعد ذلك خروج الحملات المتتالية من الموصل وما حولها إلى حرب الصليبيين في الرها وأنطاكية وغير ذلك .

سابعًا :
أحدثت هذه الموقعة تغيرًا استراتيجيًّا خطيرًا في المنطقة ؛ إذ بدأ الأرمن يتجرءون - وهذه أول مرةٍ في تاريخهم مع الصليبيين - على الصليبيين بطريقة جِدِّية ؛ لقد عانى الأرمن كثيرًا من جور الصليبيين، لكن لم يكن لهم طاقة بهم ، أما الآن - ومع هزيمة الصليبيين - فقد قرر الأرمن في بعض القلاع والمدن التي يغلب الأرمن على سكانها أن يتراسلوا مع الأتراك ليسلموهم قلاعهم ومدنهم، ويخرجوا بذلك عن حكم الصليبيين، مفضلِّين بذلك حكم المسلمين على حكم النصارى الصليبيين ؛ ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك ما حدث في قلعة أرتاح - وهي من القلاع فائقة الأهمية - حيث تشرف على مدينة أنطاكية ، ولقد ثار أهلها من الأرمن ضد حكم الصليبيين النورمان، وسلموا قلعتهم دون جهد إلى رضوان ملك حلب ، ولم يكن هذا هو المثال الوحيد، بل تكرَّر ذلك مع أكثر من قلعة وحصن .

ثامنًا :
ألقيت بذور الضعف في إمارة الرها، فسكانها الأرمن فكروا فيما فكر فيه الأرمن في الأماكن الأخرى، وبدءوا يثورون على حكم الصليبيين ، بل وتراسلوا في فترة من فتراتهم مع السلاجقة، وهذا أدى إلى صراع ضخم بينهم وبين حكامهم من الصليبيين ، وسوف يؤدي مستقبلاً إلى صدامات خطيرة ، ولا شك أن هذه التداعيات سيكون لها أكبر الأثر في مستقبل هذه الإمارة القريبة من شمال العراق الغني - آنذاك - بالمتحمسين من أبناء الأمة الإسلامية .

تاسعًا :
لم يقف الحد عند نشاط المسلمين وسعيهم لتحرير بعض أراضيهم بل وصلت أنباء هذه الهزيمة للدولة البيزنطية، وسرعان ما تحرك الإمبراطور المحنك ألكسيوس كومنين لاستغلال الفرصة، وعمل في محورين خطيرين؛ فكان المحور الأول محورًا بريًّا حيث وجَّه جيشًا إلى منطقة قليقية، وإستطاع بسهولة ضم مدن قليقية الشهيرة، وعلى رأسها طرسوس وأذنة والمصيصة إلى الدولة البيزنطية , أما المحور الثاني فكان محورًا بحريًّا حيث إستطاع الأسطول البيزنطي أن يسترد ميناء اللاذقية المهم ، بل وتمركز في عدة مواقع أخرى على ساحل البحر الأبيض المتوسط فيما بين اللاذقية وطرطوس، فضلاً عن قلعة المرقب .

عاشرًا :
تلقي بوهيموند أمير أنطاكية في هذه الموقعة وبعدها عدة طعنات نافذة أفقدته توازنه تمامًا؛ مما أدى إلى قرار خطير جدًّا أخذه عن اضطرار ! لقد فَقَد بوهيموند في المعركة جزءًا لا بأس به من جيشه، ثم فقد عددًا من القلاع والحصون والمدن والقرى في شرق أنطاكية، وتعرض لهجوم رضوان بن تتش - مع ضعفه الشديد - على أملاكه وضياعه ، وتلقى ضربات قاصمة من الدولة البيزنطية فَقَد فيها إقليم قليقية بكامله، إضافةً إلى فَقْد اللاذقية وغيرها من مراكز ساحلية ؛ كل هذه الخسائر العسكرية والسياسية أفقدته الكثير من هيبته وقيمته في المنطقة، وهذا دفعه إلى الوقوع في جريمة أخلاقية أفقدته الكثير من سمعته عند الصليبيين! وهذه الجريمة هي أنه كان محتفظًا بأسير مهمٍّ من أسرى جيش الموصل ، وهو من أمراء السلاجقة ، وقد عرض جكرمش أمير الموصل على بوهيموند أن يطلق هذا الأمير في مقابل أحد أمرين : إما أن يبادله ببلدوين دي بورج شخصيًّا ، وإما أن يدفع مبلغ 15 ألف دينار ! ولم يكن متوقعًا من بوهيموند أبدًا أن يقبل بالمال ويترك بلدوين دي بورج، خاصةً أنه تلقى رسالة من بلدوين الأول ملك بيت المقدس وإبن عم بلدوين دي بورج تحضه على إطلاق سراح بلدوين دي بورج ، وأيضًا لا ننسى أن بوهيموند كان أسيرًا عند الملك غازي بن الدانشمند ، وقد حاول بلدوين دي بورج بكل وسيلة أن يطلق سراحه، بل إن بلدوين دي بورج ساهم بمبلغ كبير في الفدية الضخمة التي دُفعت لفك أسر بوهيموند وهي مبلغ مائة ألف دينار، وهو يمثِّل أضعاف ما سيأخذه بوهيموند نظير إطلاق الأمير السلجوقي؛ كل هذه العوامل كانت تحتِّم على بوهيموند أن يرفض المال ، وأن يبادل الأمير السلجوقي ببلدوين دي بورج أمير الرها ، إلا أن بوهيموند فاجأ الجميع - وفي نذالة بالغة، وخسة متناهية - وضحَّى ببلدوين دي بورج ، وأخذ المال وأطلق الأمير السلجوقي !! وكان هذا سببًا في بقاء بلدوين دي بورج عدة سنوات في الأسر .

وأدى هذا الفعل المشين إلى ردة فعل واسعة النطاق في الإمارات الصليبية حيث صار بوهيموند منتقدًا من الجميع، وإزاء هذه الأزمات المتتالية ، وإزاء هذا الانعزال الصليبي عنه، ونتيجة تكاثر الأعداء عليه، ونتيجة رؤية إمارة أنطاكية تتقلص تقلصًا سريعًا قرَّر بوهيموند قرارًا خطيرًا، وهو أن يترك الساحة بكاملها وينطلق إلى أوربا !! وهو في هذا الانطلاق لا ينوي ترك أملاكه في الشرق، فليس بوهيموند الذي يستسلم بسهولة، ولكنه ينوي الذهاب إلى فرنسا وإيطاليا ليستعدي الجميع هناك على الدولة البيزنطية ، وقد كان بوهيموند يرى - وهو محق في ذلك - أن رضوان بن تتش ليس الزعيم الذي يُرهب ، وأنه من السهل أن يتخلص منه عند الحاجة ، ولكن الخطر الحقيقي على إمارته يكمن في الدولة البيزنطية ، وعلى هذا فقد رحل فعلاً بوهيموند إلى أوربا في أعقاب موقعة البليخ تاركًا تانكرد زعيمًا على إمارتي أنطاكية والرها .

وهكذا أُقصي بوهيموند الشرس من ساحة الصراع !

ولعله من المناسب هنا أن نعرض لقصته في أوربا حتى لا تضيع منا في خضم الأحداث الساخنة، فإن بوهيموند قد نجح فعلاً في تجميع الجيوش والأموال من فرنسا وإيطاليا لحرب الدولة البيزنطية ، وأقنع الجميع بضرورة الوقوف أمام أطماعها ، وصوَّر لهم أنها تتعاون مع السلاجقة المسلمين ضد الصليبيين ، وأنها كانت سببًا مباشرًا في هلاك حملة سنة (494هـ) 1101م ، وعلى هذا فقد تجهزت أوربا الغربية في جيش كبير من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وإنجلترا وألمانيا بقيادة بوهيموند لحرب الدولة البيزنطية ، وتمت فعلاً موقعة فاصلة في ميناء دورازو ، وهو يحوي أقوى قلعة بيزنطية عند مدخل الأدرياثيك ، وتمت هذه الموقعة سنة (500هـ) 1107م بعد ثلاث سنوات من رحيل بوهيموند من أنطاكية ، وفي هذه الموقعة إنتصر الإمبراطور ألكسيوس كومنين - وقد حضر الموقعة بنفسه - إنتصارًا ساحقًا على بوهيموند وجيوشه ، وأرغم بوهيموند على توقيع اتفاقية إستسلام مخزية في مدينة دفول Devol سنة (501هـ) 1108م ، وفيها أقر بتسليم إقليم قليقية بمدنه الثلاث ، وكذلك ميناء اللاذقية إلى الدولة البيزنطية ، والإعتراف أن هذه ليست من أملاك أنطاكية ، كما اشترط الإمبراطور البيزنطي أن يعزل البطرك الكاثوليكي عن كنيسة أنطاكية ذاتها ، ويعيِّن بطركًا أرثوذكسيًّا ، وأن يتعهد بوهيموند بحرب إبن أخته تانكرد إذا رفض بنود هذه الاتفاقية !!

وأمام هذا الخزي الذي وصل إليه بوهيموند لم يستطع أن يعود إلى أنطاكية ، ولا أن يلتقي برفقاء الحملة الصليبية، وعليه فقد عاد إلى صقلية بعد معاهدة دفول ليبقى هناك ثلاث سنوات في عزلة ومهانة حتى مات في سنة (504هـ) 1111م ، وقد خسر كل شيء !! وهكذا رأينا بوهيموند يفقد مستقبله السياسي تمامًا بعد هذه المعركة العجيبة : (معركة البليخ) ..

ولعل المحلل للأحداث قد يتعجب أن هذه النتائج الهائلة قد حدثت من جَرَّاء هذه المعركة البسيطة التي تمت في يوم واحد، ولم يكن لها إعداد طويل ، وقُتل فيها من الصليبيين اثنا عشر ألفًا من المقاتلين ، بينما لم تكن نتائج معارك سنة (494هـ) 1101م ، والتي قُتل فيها أكثر من مائتي ألف مقاتل صليبي على نفس المستوى .

إن الفارق بين الموقعتين أن موقعة حران أو البليخ موقعةٌ رفعت فيها راية لا إله إلا الله ، وخلصت فيها النوايا لله ، وكانت موقعة ممثِّلة للإسلام ، فبارك الله في نتائجها وعظَّم من آثارها، بينما كانت مواقع مرسفان وهرقلة الأولى والثانية - على عظمها وضخامتها - مواقع لم تتم إلا للدفاع عن الأملاك والأرض والثروة والملك فقط ، ولم تكن فيها النفوس موجهة إلى الله ، وكان المشاركون فيها حريصين على قبض الثمن الدنيوي ، ودار القتال الحقيقي من أجل الحرص على تقسيم ثمرة المعركة، وهو القتال الذي لم نره في معركة البليخ، بل رأينا ورعًا من سقمان بن أرتق، وبُعدًا عن النزاع والشقاق، وحتى جكرمش - الذي حرص على أخذ شيء من الغنائم، وهذا في حدِّ ذاته ليس خطأً فاحشًا؛ لأنه وجنوده شاركوا بقوة في القتال - وجدناه على استعداد لبذل الأسير الثمين في مقابل إطلاق سراح أمير سلجوقي مسلم ؛ مما يدل على قيمة الأسير المسلم ، وروح المودة في الجيشين ، ولم يفعل مثلما فعل بوهيموند الذي آثر المال على تحرير بلدوين دي بورج، مع أهمية مركزه ووضعه .

إن الذي علينا هو توجيه النية لله وبذل الجهد قدر المستطاع ، والتوحيد بين صفوفنا أما النتيجة فالله كفيلٌ أن يبارك فيها ، ويضاعف من ثمارها ، فهو سبحانه القوي العزيز .

وإن كانت موقعة البليخ من الأخبار المفرحة في سنة (496هـ) 1104م ، فإنَّ هناك خبرًا مفرحًا آخر تمَّ في نفس السنة ، وإن كانت آثاره غير ذلك؛ فقد شهدت هذه السنة صلحًا بين الأخوين المتخاصمين والمتنازعين سلطاني السلاجقة بركياروق ومحمد ! وكان النزاع بينهما مستحكمًا وصل إلى حد الحرب والنزال ، مع حسن أخلاق كليهما ! ولكن بفضل الله إجتمع الأخوان في هذه السنة ، وتم بينهما الصلح عن تراضٍ من الطرفين ، لكن - للأسف - كانت نتيجة هذا الصلح هو تقسيم البلاد بينهما !! وهذا - لا شك - فكر معوج، ومنهج منحرف، والله يقول: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
) .

لقد قبل الأخوان بتقسيم المملكة التي تركها أبوهم ملكشاه بن ألب أرسلان إلى ثلاثة أقسام : الأول يحكمه بركياروق ويضم أصبهان وفارس ومعظم العراق دون شمالها ، ويتبعه في ذلك قسم بغداد ، بمعنى أن الخطبة في بغداد ستكون للخليفة المستظهر بالله والسلطان بركياروق , أما القسم الثاني فيحكمه محمد ، وهذا يضم أذربيجان وأرمينية وديار بكر والموصل، مع أن الموصل كانت تحت حكم بركياروق قبل الصلح، وهذا سيؤدي إلى بعض المشاكل التي سنتعرض لها , وأما القسم الثالث والأخير فلأخيهما الثالث سنجر، وهذا يحكم خراسان (شرق إيران) وبلاد ما وراء النهر .

لقد كان هذا هو الحل الذي لجأ إليه الأخوان، وهو خطأ شرعي سياسي لا ريب، ولا ندري كيف وصل بهما الحال إلى الوقوع في هذا الخطأ، مع ما يوصف به كل منهما من حسن الخلق، وجمال السيرة، والعدل في الملك، وما إلى ذلك من صفات جليلة !

لكن الشاهد من الأحداث أن النفوس سكنت لهذا الصلح، وعمَّ الأمن في البلاد، واختفت سحب الحرب التي كانت تظلل هذه المنطقة من العالم الإسلامي .

كانت هذه هي الأخبار في القسم الشرقي من العالم الإسلامي ، وهي مفرحة إلى حد كبير حيث تم انتصار البليخ كما ذكرنا ، وكذلك الصلح بين الأخوين .

لكن الحال في بلاد الشام لم يكن مفرحًا قَطُّ في هذه السنة، ولا في التي بعدها! وهذا حال متوقع لما ذكرناه قبل ذلك من أسباب كذهاب العلم، وضياع قيمة الجهاد، وسلبية الشعب، وتسلط الحكام، وما إلى ذلك من أمراض ,
ولعل أبرز الأحداث التي رأيناها في أرض الشام في هاتين السنتين تشمل الآتي :

أولاً :
إستولى الصليبيون على ميناء جبيل في لبنان جنوب طرابلس ، وذلك بمعونة أسطول بحري جنوي ، وغدر الصليبيون بأهل جبيل بعد إعطائهم الأمان ، وكافأ ريمونُ الرابع الأسطولَ الجنويّ الذي أسقط جبيل بإعطائه ثلث مدينة جبيل، لتصبح جبيل فيما بعد مستوطنة جنوية ، وبسقوط جبيل يكون ريمون الرابع قد وضع الحدود المتوقعة لإمارة طرابلس، حيث يحدها من الشمال مدينة طرطوس ، ومن الجنوب مدينة جبيل ، ويبقى فقط أن يُسقِط المدينة الكبرى (طرابلس) .

ثانيًا :
أتم ريمون الرابع بناء قلعة كبيرة في مواجهة طرابلس مباشرة سماها سانت جيل ، Saint Gilles، والمعروفة في المصادر العربية بقلعة الصنجيل ، وقد بناها ريمون الرابع ليستخدمها في إسقاط طرابلس ، ولقد نُقِلت الأخشاب اللازمة لبنائها من قبرص بواسطة الأسطول البيزنطي المساعد لريمون ، ولم يتحرك أحد من المسلمين في المنطقة لهدم القلعة أو منع بنائها ، مع أن طرابلس محاطة من شمالها الشرقي وشرقها وجنوبها الشرقي بإمارتي دمشق وحمص التابعتين لدقاق بن تتش ، وحيث توجد حمص على مسافة أقل من 90 كيلو مترًا ، ودمشق على مسافة أقل من 120 كيلو مترًا .

ثالثًا :
حادث آخر مفجع هزَّ العالم هو سقوط مدينة عكا الحصينة في سنة (497هـ) مايو 1104م ، وكان سقوطها مفجعًا لأنها أحصن مدن الشام مطلقًا ، وسقوطها يعني سقوط بقية المدن تقريبًا ، كما أنه سيمنع وصول الإمدادات البحرية للمسلمين بعد ذلك ، هذا إضافةً إلى المجزرة التي تمت في المدينة بعد سقوطها ، على الرغم من الأمان الذي أعطاه الصليبيون للسكان ، وقد تم سقوط المدينة بمساعدة الأسطول الجنويّ الذي أسقط جبيل قبل ذلك ! ولهذا أعطى بلدوين الأول ثلث مدينة عكا للأسطول الجنويّ ، وصارت عكا مدينة تابعة لمملكة بيت المقدس .

رابعًا :
بعد رحيل بوهيموند إلى إيطاليا بدأ تانكرد يرتب أوراقه وينظم جيشه ، ودخل في سنة (498هـ) ربيع 1105م في معركة كبيرة مع رضوان ملك حلب ، وإنتصر في هذه المعركة ليسترد بها حصن أرتاح، وليقتل من المسلمين ثلاثة آلاف رجل !

خامسًا :
تلقى المسلمون هزيمة أخرى في منطقة الرملة في 498هـ\ 27 من أغسطس سنة 1105م ، وهو ما يعرف في التاريخ بموقعة الرملة الثالثة، حيث هُزم الجيش العبيدي وتشتت شمله في محاولة فاشلة لاسترداد بيت المقدس ، ولعلَّ هذه هي آخر المحاولات الجادة التي بذلها العبيديون لإسترداد القدس .

سادسًا :
تُوفِّي دقاق بن تتش في رمضان (496هـ) 1103م ، وتولى من بعده أتابكه طغتكين ، وهو أحد مماليك تتش بن ألب أرسلان والد دقاق ، وكان قائدًا عسكريًّا قويًّا صاحب خبرة مما جعل تتش يوكل إليه مهمة تربية دقاق ، ومن ثَمَّ أعطاه لقب أتابك (أي مربي الأمير) ، ولكن عندما ضعف الأمراء السلاجقة صار للأتابكة العسكريين دور كبير في تسيير الأمور ، بل وأحيانًا صار لهم الحكم صراحة، كما هو في حالتنا هذه، فقد أصبح طغتكين هو حاكم دمشق وحمص ، وبذلك انتهى حكم السلاجقة تمامًا لهاتين المدينتين ، ولكن على العموم فإن طغتكين كان أفضل كثيرًا من دقاق حيث آثر العدل مع الرعية ، وحرص في فترات كثيرة من حياته على حرب الصليبيين، وإن كانت قوته وقوة جيشه لم تمكِّنه من تحقيق نصر حاسم في حياته ، وولاية طغتكين تُعَد بداية فترة حكم للتركمان استمرت مدة 52 سنة، حيث انتهت سنة (549هـ)\ 1154م .

سابعًا :
تُوفِّي أيضًا في 2 من ربيع الآخر سنة (498هـ) ديسمبر 1104م السلطان بركياروق سلطان السلاجقة في منطقة فارس والعراق ، وهذا بعد إتمام الصلح مع أخيه محمد كما مرَّ بنا - وكان يبلغ من العمر عند وفاته خمسًا وعشرين سنة فقط ! - وبعد عدة فتن ، ونتيجة لموته استقام الأمر لأخيه السلطان محمد ، فصار يحكم أملاكه وأملاك أخيه بركياروق، وهذا وحَّد الأمة في هذه المنطقة لفترة 12 سنة متصلة .

ثامنًا :
من الشخصيات المهمة التي تُوفِّيت أيضًا في سنة (498هـ) فبراير 1105م الأمير الفرنسي الشهير ريمون الرابع ! وقد تُوفِّي في القلعة التي بناها في مواجهة طرابلس لحصارها ، وكانت النار قد اشتعلت في القلعة نتيجة مقاومة أهل طرابلس للحصار ، فسقطت بعض الأخشاب المحترقة على ريمون ، فمات متأثرًا بجراحه , وهكذا فقد الصليبيون زعيمًا شرسًا من زعمائهم دون أن يرى لنفسه إمارة كأقرانه ، وقد ترك حكم جيشه بعد ذلك لابن خالته وليم جوردان الذي إستأنف سياسة ريمون بكاملها حيث صمم على إسقاط طرابلس، ومن ثَمَّ استمر في حصارها ، وكذلك تعاون مع الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين كما كان يفعل ريمون .

تاسعًا :
حدثت أزمة في إمارة الموصل نتيجة محاولة السلطان محمد السيطرة على مدينة الموصل ورفض جكرمش لهذه السيطرة لولائه لبركياروق ، مع أن الموصل كانت في الصلح الذي تمَّ بين بركياروق ومحمد من حق السلطان محمد ، إلا أن جكرمش كانت له ميول استقلالية جعلته يرفض تسليم المدينة ، غير أن أخبار وفاة بركياروق ما لبثت أن أتت ، ومن ثَمَّ اضطر جكرمش إلى التسليم للسلطان محمد ، وإن كان هذا التسليم مؤقتًا كما سيتبين لنا .

عاشرًا :
فَقَد المسلمون في سنة (498هـ)1105م شخصية مهمة كان لها دور بارز في جهاد الصليبيين ، وهو سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا ، والذي حقق الانتصار في موقعة البليخ بالاشتراك مع جكرمش كما فصلنا ، ولقد كان موته مؤثرًا جدًّا ، حيث كان في سرية عسكرية هبت لنجدة طرابلس عندما إستغاثه حاكمها ابن عمار لحصار ريمون ثم وليم جوردان لها ، وعلى الرغم من كون ابن عمار شيعيًّا وجيشه كذلك ، إلا أن سقمان بن أرتق رحمه الله لم ينظر إلى ذلك ، إنما نظر إلى العدو المشترك للسنة والشيعة وهو العدو الصليبي ، ومن ثَمَّ تقدم في بسالة ، قاطعًا المسافات من حصن كيفا إلى طرابلس (ما يقرب من ستمائة كيلو متر) ، وكان سقمان مريضًا بداء الخوانيق - وهو مرض يعني حدوث اختناق في التنفس - وكان يأتيه في نوبات ، فجاءته هذه النوبة وهو عند القريتين (على بعد 120 كم من طرابلس) ، وعرض عليه أصحابه أن يعودوا به إلى حصن كيفا ؛ حيث لن يقدر على القتال في هذه الحالة، فقال كلمته الخالدة : "بل أسير، فإن عوفيت تممت ما عزمت عليه ، ولا يراني الله تثاقلت عن قتال الكفار خوفًا من الموت ، وإن أدركني أجلي كنت شهيدًا سائرًا في جهاد" ، فساروا به صوب طرابلس ، ولكنه مات بعد يومين !!

إنه صورة مشرقة في وسط هذا الركام أبتْ إلا أن تلقى الله مقبلة غير مدبرة ، فرحمه الله رحمة واسعة ، وجعل مسيره هذا طريقًا له إلى الجنة .

واستكمالاً لبعض الأحداث المؤسفة نخوض قليلاً في تطورات الأحداث في الموصل، وما كنت أود أن أخوض في تفاصيل دقيقة لصراعات وأزمات ، لولا أن أثر هذه الصراعات سيكون كبيرًا ، فالموصل بالذات - كما ذكرنا - لها وضع خاص، ومنها خرجت وستخرج حركات جهاد كثيرة، وشعبها في ذلك الوقت على وعيٍ كبير ، وعلم واسع ، كما أن هذه التطورات ستؤدي إلى اختفاء شخصيات مهمة مرت معنا في قصتنا في أكثر من موضع .

كنا قد ذكرنا أن جكرمش أبدى الموالاة للسلطان محمد بعد وفاة السلطان بركياروق ، ولكن مع مرور الوقت تثاقل جكرمش في إرسال الخراج إلى السلطان محمد ؛ مما جعله يشكك في ولائه ، وراسله في ذلك، فتعلَّل جكرمش ، وهكذا تيقن السلطان محمد أن جكرمش يريد الانفراد بالموصل مستغِّلاً حب الناس له، فاضطر السلطان محمد أن يرسل أحد العسكريين الأشداء لإسترداد الموصل لصالح السلطان، ولكن - للأسف - هذا العسكري كان سيئ الخلق، وحشيًّا في تعاملاته، مكروهًا من العامة، وكان إسمه (جاولي سقاوو) وهو من الأتراك، فسار جاولي إلى الموصل، والتقى معه جكرمش في موقعة على ضفاف دجلة في سنة (500هـ) 1106م ، وهُزم جكرمش بل أسر أيضًا، ولكن شعب الموصل رفض فتح الأسوار لجاولي سقاوو ، وأقاموا عليهم زنكي بن جكرمش، وهو ابن زعيمهم المحبوب جكرمش ، وهذا يدل على إيجابية عالية عند هذا الشعب الواعي، وإن كان الأَوْلَى أن تدخل الموصل تحت حكم السلطان محمد ، لكن السيرة السيئة لجاولي سقاوو جعلت الشعب يأخذ هذا الموقف ، وراسل الشعب شخصية قوية تأتي لتسانده في هذه الأزمة ، وهذه الشخصية هي قلج أرسلان سلطان سلاجقة الروم !

رأى قلج أرسلان أن هذه فرصته لامتلاك الموصل، ولفتح الطريق لتوسيع مملكته ، وجاء بجيشه إلى الموصل ففتح له السكان الأبواب وسط ترحيب، فدخل المدينة وملكها ، ثم خرج لقتال جاولي سقاوو ، ودارت موقعة كبيرة بينهما هُزم فيها قلج أرسلان ، ثم اضطر إلى الهرب فسقط في نهر الخابور ، ولم يستطع النجاة فغرق ، ولم تظهر جثته إلا بعد عدة أيام !

وهكذا جاء قلج أرسلان من آسيا الصغرى يدفعه طموحه لتوسيع ملكه ، وتقوية سلطته ، فإذا به جاء ليلقى حتفه في بلاد غريبة عن بلاده، وفي أرض يطؤها لأول مرة في حياته !! قال تعالى : (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ). وشتَّان بين ميتة قلج أرسلان الذي ملك بلادًا واسعة ، وجاء ليزيدها اتساعًا ، وميتة سقمان بن أرتق الذي لم يملك إلا إمارة صغيرة ، ولكنه مات وهو في طريقه لجهاد الصليبيين !

وعلى العموم فقد دخل جاولي سقاوو مدينة الموصل بعد غياب المدافعين عنها ، وعامل أهلها في منتهى الغلظة ، وأسرف جنوده في اضطهاد السكان ثم لم يلبث جاولي سقاوو أن استقل بالمدينة سنة (502هـ) 1108م، وكان هذا متوقعًا من رجل شرس مثله، فإضطر السلطان محمد أن يرسل له أحد أتباعه لردِّ الموصل إلى سيطرة السلطان ، ولكن في هذه المرة كان مبعوث السلطان رجلاً فاضلاً عالمًا مجاهدًا هو القائد الفذُّ مودود بن التونتكين ، وهو من التركمان الأخيار ، وحاصر مودود مدينة الموصل ، وقاومه جاولي وجنوده ، وحذر جاولي العامة من الإقتراب من الأسوار لعلمه بتعاطف العامة مع الصالحين وكراهيتهم له ، وشدَّد عليهم في ذلك، لكن الشعب لم تمُتْ فيه النخوة، فاجتمعت طائفة من الشعب، وتعاهدوا على فتح الأبواب ، وإتفقوا على استغلال وقت صلاة الجمعة والجميع بالمساجد ، فخرجوا بالفعل في ذلك الوقت إلى أحد الأبراج ، وقاتلوا حرَّاسه وقتلوهم ، وفتحوا الأبواب وهم ينادون باسم السلطان محمد، فأسرع إليهم جند السلطان بقيادة مودود، ودخلوا المدينة وقاتلوا جنود جاولي، وما لبثوا أن سيطروا على المدينة ، غير أن جاولي هرب آخذًا معه صيدًا ثمينًا هو الأمير بلدوين دي بورج الذي كان أسيرًا في مدينة الموصل من أربع سنوات ، وقد أخذه - لا شك - لأنه يعلم أن قيمته كبيرة ، ويستطيع أن يفاوض عليه أو يبيعه !

في ذلك الوقت كان جوسلين دي كورتناي - وهو أمير تل باشر ، والقائد التالي مباشرة بعد بلدوين دي بورج - قد أطلق سراحه في مقابل عشرين ألف دينار ، ومن ثَمَّ سعى بجدية لإطلاق سراح بلدوين دي بورج الذي أصبح الآن في قبضة جاولي الهارب من الموصل .

لقد صار الموقف في غاية التعقيد !!

مودود الآن يحكم الموصل ، وجاولي يهرب ببلدوين دي بورج ، وجوسلين دي كورتناي يحاول فك أسر بلدوين دي بورج ، وإمارة الرها تحت حكم تانكرد منذ 4 سنوات ، وكان تانكرد متسلطًا على شعب الرها وغالبه من الأرمن ، وكان تانكرد مستقرًّا في أنطاكية بعد رحيل بوهيموند عنها، ولكنه كان ينيب عنه في الرها ابن عمه ريتشارد سالرنو .

في ظل هذه الأجواء وصل جوسلين دي كورتناي إلى جاولي ، وسرعان ما بدأ التفاوض المادي حول الأسير الأمير ، ووصل الطرفان إلى إطلاق سراح بلدوين دي بورج في مقابل سبعين ألف دينار، إضافةً إلى وقوف بلدوين دي بورج إلى جوار جاولي والعكس أيضًا عند الأزمات العسكرية ! أي أنها معاهدة دفاع مشترك .

وأطلق سراح بلدوين دي بورج بالفعل وأسرع إلى إمارته ، غير أنه فوجئ أن تانكرد يرفض تسليمه الإمارة بعد أن أعجبته لثرواتها وموقعها ! وهنا لم يجد بلدوين دي بورج حلاًّ بديلاً للحرب لاسترداد إمارته من الصليبي تانكرد !

في هذا الوقت كان جاولي يحاول أن يكون لنفسه إمارة في المنطقة مستخدمًا جيشه الإجرامي ، والمال الوفير الذي توفر في يده ، وكان يسعى لتكوين هذه الإمارة على حساب بعض الأملاك لمملكة حلب المملوكة لرضوان بن تتش .

وعلى هذا أدت هذه الظروف المعقدة إلى حرب عجيبة ، قامت فيها أحلاف أعجب ! فقد تحالف الصليبي بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي وجيشه مع المسلم جاولي وفرقته ، ليحاربوا تانكرد الصليبي الذي تحالف مع رضوان بن تتش عدوه القديم، والذي يعاني الآن من هجمات جاولي !!

أيُّ غيابٍ للفهم هذا ! وأي ضياع للعقل !

ودارت معركة بين الفريقين عند بلدة منبج غربي الفرات ، وذلك في (502هـ) أكتوبر سنة 1108م وهُزم فريق بلدوين وجاولي، وكان النصر حليفًا لتانكرد ورضوان ، غير أن بطرك أنطاكية تدخل في الأمر ، وأمر بأن يعود بلدوين دي بورج لحكم الرها ، ويبقى تانكرد في أنطاكية، وذلك حتى لا يستمر النزاع بين الصليبيين !

في هذا الوقت كان الأرمن من سكان الرها يعتقدون أن هزيمة بلدوين دي بورج وجوسلين دي كورتناي ستمنعهما من العودة إلى الرها ، فقاموا باجتماع كبير أظهروا فيه رغبتهم في الخروج كلية من سيطرة الصليبيين، وقد ضاقوا ذرعًا بحكم تانكرد لهم ، ولن يختلف حكم غيره من الصليبيين عن حكمه ، ولكن ما لبث بلدوين دي بورج أن ظهر في الصورة، ودخل المدينة حاكمًا، وعلم بهذا الاجتماع ، ومن ثَمَّ انقلب على أهل المدينة ، وعزل كل الكبار من الأرمن ، بل هدد أسقف الكنيسة الأرمينية بسَمْلِ عينيه ، ولم يفتدِ نفسه إلا بمبلغ كبير من المال ، وكل هذا أدى إلى حالة كبيرة من السخط داخل المدينة ، واضطراب عام في الأوضاع ، وهذا - لا شك - سيكون له أثر في عدم استقرار تلك الإمارة .

وهكذا عاد تانكرد لحكم إمارة أنطاكية، بل إنه أفلح في استرداد اللاذقية من الدولة البيزنطية في نفس السنة ، أي في سنة (502هـ) 1108م ، وأصبح بلدوين دي بورج أميرًا من جديد على الرها، ولعله من المناسب أن ننظر نظرة إلى منطقة طرابلس ؛ لأن الأحداث فيها في ذلك الوقت كانت في منتهى السخونة .

لقد كان الحصار مستحكمًا حول طرابلس بقيادة وليم جوردان خليفة ريمون الرابع وابن خالته، وهذا الحصار كان ريمون قد بدأه في سنة (495هـ) 1102م، أي منذ 6 سنوات كاملة، وفي غضون هذه السنوات الست لم تتلقَّ طرابلس أي مساعدة إسلامية خارجية، لا من الإمارات السنية المحيطة بها ، ولا من الدولة العبيدية الشيعية المتمركزة في مصر ، وكما هو معلوم فطرابلس كانت محكومة ببني عمار الشيعة ، وكان أميرها هو فخر الملك ابن عمار .

لم يجد ابن عمار بُدًّا من ترك طرابلس تحت الحصار ، وذلك في سنة (502هـ) 1108م ليذهب إلى بغداد لمقابلة الخليفة العباسي المستظهر بالله ، والسلطان السلجوقي محمد للاستنجاد بهما وبجيوشهما ، لكن للإختلاف المذهبي بين الفريقين لم يُقدِّم الخليفة والسلطان لابن عمار سوى بعض الكلمات التشجيعية والعبارات التأيدية ، تاركين بذلك طرابلس تسقط تحت أقدام الصليبيين ! ولا شك أن هذا نقص في الفهم ، وغياب في الرؤية ، فتقوية ابن عمار إضعاف للصليبيين ، وطرابلس في النهاية مدينة مسلمة ، ولم نطلب من الخليفة والسلطان هنا أن يغيرا من عقائدهما ، أو يبدلا من مبادئهما ، ولكننا نطلب النخوة للدماء التي تُسال ، والنجدة للأرواح التي تزهق ، والشجاعة في وجه الصليبيين ! ولكن كل ذلك لم يحدث ، وعاد ابن عمار ليجد أن طرابلس قد طارت من يده ، لا إلى الصليبيين ولكن إلى العبيديين ! فقد إستنجد أهلها بهم في غياب ابن عمار، فجاءوا بأساطيل من مصر ، وأخذوها لحسابهم ! كل هذا والجيش الصليبي يحاصر المدينة من خارجها !

وفي هذه الأثناء وصل إلى أرض الشام برترام بن ريمون الرابع يبحث عن ملك أبيه ! وبعد صراع وصدام مع وليم جوردان تدخل بلدوين الأول ليقسم بلاد المسلمين بين الأميرين الصليبيين، فأعطى وليم جوردان عرقة وطرطوس، في حين أخذ برترام بن ريمون قلعة صنجيل التي بناها أبوه ومدينة جبيل، على أن يأخذ برترام مدينة طرابلس حال سقوطها .

ثم سعى بلدوين الأول ملك بيت المقدس في تجميع الجهود الصليبية لإسقاط طرابلس، وبالفعل - وهذه أول مرةٍ منذ زمن - تجتمع جيوش برترام ووليم جوردان مع جيوش بلدوين الأول ملك بيت المقدس وجيوش تانكرد أمير أنطاكية ، إضافةً إلى أسطول جنويّ كبير؛ وذلك لإسقاط المدينة العنيدة طرابلس !

ووجدت المدينة المسلمة نفسها وحيدة أمام الطوفان ، وأحيط بالشعب المسكين، وسرعان ما دارت المفاوضات بين الحامية العبيدية (الفاطمية) وزعماء الجيش الصليبي على تأمين الحامية وإخراجها في سلام، وفتح أبواب المدينة للصليبيين ، مع الوعد بصيانة دماء وأعراض المسلمين ، ويتكرر بذلك سيناريو الأحداث في بيت المقدس، وكأنَّ الحامية العبيدية ليس لها دور إلا تسليم المدن الإسلامية إلى جيوش الصليبيين !

وخرجت بالفعل الحامية العبيدية في أمان، ودخل الصليبيون إلى مدينة طرابلس في أواخر سنة 503هـ، وتحديدًا في الحادي عشر من ذي الحجة ثاني أيام عيد الأضحى المبارك (1109م) !

غير أن الجيش الصليبي - كما هو متوقع - غدر بالمسلمين فقتل الكثير من أهل المدينة ، وأسر بقية الرجال، وتم سبي كل النساء والأطفال ، ونهبت الأموال الغزيرة؛ فقد كانت طرابلس من أغنى المدن الإسلامية ، وغنم الصليبيون ما لا يحصى من كتب العلم الموقوفة ، بل حرق الصليبيون في ميادين طرابلس أعدادًا لا يمكن إحصاؤها من الكتب والمخطوطات !

وبسقوط طرابلس تكون الإمارة الصليبية الرابعة قد تكوَّنت بعد حصار سبع سنوات متصلة ، ويكون حلم ريمون الرابع قد تحقق بعد موته ، وإمتلك المدينة ابنه برترام بن ريمون ، لتدخل المدينة فترة عصيبة من تاريخها لم تنتهِ إلا بعد مائة وثمانين سنة كاملة !!

ولم تلبث القلاع الإسلامية المتبقية في ساحل الشام أن تساقطت بعد حالة الإحباط المزرية التي أصابت المسلمين ، فسقطت مدينتا بانياس وجبلة في يد تانكرد وضمهما إلى إمارة أنطاكية ، ثم تبعتها بيروت حيث سقطت - بعد حصار 4 أشهر - في يد بلدوين الأول ملك بيت المقدس بمساعدة برترام بن ريمون في سنة (503هـ) مايو 1110م ، وذلك بعد حدوث مذبحة رهيبة في أهل بيروت المسلمين ، وأخيرًا سقطت مدينة صيدا اللبنانية ، وذلك لحساب بلدوين الأول ملك بيت المقدس ، وبمساعدة أسطول بحري بقيادة ملك النرويج شخصيًّا ، وأسطول آخر بندقي بقيادة دوق البندقية نفسه !

وعلى ذلك سقطت كل مدن الساحل الشامي من أنطاكية شمالاً إلى يافا جنوبًا ، ولم يبق من كل هذه المدن العديدة إلا صور وعسقلان اللتان تأخر سقوطهما نسبيًّا ، وظلتا فترة تحت الحكم العبيدي المصري !

أما المدن الداخلية فقد ذاقت هي الأخرى ألوان الذل ، وإن لم تقبع تحت الاحتلال المباشر ؛ فتانكرد على سبيل المثال حاصر حصن الأثارب غرب حلب - وهو حصن خطير في الطريق بين حلب وأنطاكية ، وهو تابع لإمارة حلب - وعرض تانكرد فك الحصار في مقابل دفع رضوان مبلغ ثلاثين ألف دينار ، ولكن رضوان لم يكن يريد دفع هذا المبلغ الكبير، ولم يكن يريد قتال تانكرد، فترك حصن الأثارب يسقط وكان ذلك في سنة (504هـ) ، وقتل الصليبيون ألفين من رجال المسلمين في داخل الحصن ، وأسروا الباقي ! لكن المشكلة الكُبْرَى أن السيطرة على هذا الحصن جعل حلب مهددة طوال الوقت، وتكرر حصارها إلى الدرجة التي آذت أهلها جدًّا، ولم يستطيعوا أن يخرجوا بسهولة إلى مزارعهم وتجارتهم ؛ مما دفع الكثير من سكانها إلى الهجرة إلى بغداد وغيرها ، وهذا بدوره دفع رضوان إلى عقد صلح مجحف مع تانكرد يتكفل فيه بدفع ثلاثين ألف دينار دون أن يتخلى تانكرد عن حصن الأثارب ، بل إن تانكرد احتل حصنًا آخر هو حصن زردنا، إضافةً إلى إطلاق كل أسرى الصليبيين والأرمن الموجودين في سجون حلب ، ومن هنا تدهور الحال جدًّا في حلب .

ومثلما حدث في حلب حدث في شيزر حيث دفع أميرها سلطان بن منقذ الجزية لتانكرد ، وكذلك تكرر الأمر في حماة حيث تكفل أميرها علي الكردي بدفع الجزية هو الآخر لتانكرد نظير مسالمته !

وهكذا أصبح تانكرد هو سيد المنطقة الشمالية من الشام، كما أصبح بلدوين الأول هو سيد المنطقة الجنوبية من الشام وكذلك فلسطين .

وعند هذا الحد تكون قد مرت ثلاث عشرة سنة على الاحتلال الصليبي للأراضي الإسلامية ، ونحتاج إلى وقفة لتدبر الوضع بعد أن تبلورت صورته إلى حد كبير، ولنأخذ بعض العِبَر من الموقف، ونستقرأ المستقبل الذي ستئول إليه الأحداث .

أولاً :
أخذت الإمارات الصليبية بعد هذه السنوات الثلاث عشرة شكلها النهائي ولن يكون التغيير بعد ذلك ولمدة عشرات السنوات كبيرًا، ونستطيع أن نجعل الصورة النهائية للوضع كما يلي :

وهكذا استقرت هذه الكيانات الأربع في عمق العالم الإسلامي ، ودام هذا الاستقرار عشرات السنين كما سيتبين لنا من سياق القصة .

ثانيًا : الوضع الذي وصفناه الآن لا شك أنه أشد وطأة من الوضع الذي نعاني منه الآن في فلسطين ؛

1- تكونت في أرض فلسطين وأجزاء من لبنان مملكة بيت المقدس الصليبية ، وهي الوحيدة التي أطلق عليها لقب مملكة، وهذا يدل على أنها غير تابعة لغيرها بينما يتبعها الآخرون ؛ وهذا هو الواقع الفعلي الذي رأيناه بعد ذلك، فإنه وإن تمتعت كل إمارة صليبية باستقلال ذاتي إلا أن الكلمة الأولى في شئون الصليبيين كانت لمملكة بيت المقدس، وكانت هذه المملكة تحت حكم بلدوين الأول الفرنسي ، وأخذت طابعًا فرنسيًّا بحتًا ، مما جعل المسلمين يطلقون على كل الصليبيين لفظ الفرنجة أو الفرنج أو الإفرنج، وكلها تعني الفرنسيين ، وهذا لمكانة مملكة بيت المقدس بالنسبة لغيرها من الإمارات، وكانت حدود مملكة بيت المقدس في سنة (504هـ) 1110م تمتد من بيروت شمالاً إلى يافا جنوبًا ، وتصل في العمق إلى مدينة القدس في فلسطين، وهي بذلك تضم عدة مدن في غاية الأهمية مثل : بيروت وصيدا وعكا وحيفا ويافا واللد والرملة ، وأهم من كل ذلك القدس الشريف، وسوف تتوسع هذه المملكة مستقبلاً حتى تضم أيضًا صور وعسقلان ، إضافةً إلى صحراء النقب كما سنرى في الصفحات القادمة .

2- الإمارة الثانية للصليبيين هي إمارة طرابلس التي تكونت حديثًا سنة (503هـ) 1109م ، وكان على رأسها الأمير برترام بن ريمون، وكانت هذه الإمارة في بادئ الأمر منقسمة على نفسها كما بينا، حيث كانت طرابلس والجبيل في يد برترام بن ريمون، وعرقة وطرطوس في يد وليم جوردان، غير أن وليم جوردان قُتل - كما يقولون - في ظروف غامضة ! ولا يستبعد أن الذي أوعز بقتله هو برترام بن ريمون ليخلو له الجو في الإمارة، وبالفعل تكونت إمارة طرابلس الموحدة، وكانت حدودها الشمالية تصل إلى طرطوس (في سوريا الآن) ، بينما تصل حدودها الجنوبية إلى مدينة جبيل في لبنان ، أما قاعدة الإمارة فهي مدينة طرابلس بالطبع .

3- الإمارة الثالثة هي أنطاكية، وأميرها هو تانكرد النورماني، وقد توسعت جنوبًا حتى وصلت إلى بانياس، وشمالاً إلى إقليم قليقية، وتوسعت أيضًا شرقًا حتى وصلت إلى مشارف حلب، وكان غالب الجيش في هذه الإمارة من النورمان الإيطاليين . 4- الإمارة الرابعة هي إمارة الرها ، وهي أول الإمارات تأسيسًا، ويقودها بلدوين دي بورج، وتضم عدة مدن في جنوب تركيا وشمال سوريا حول نهر الفرات، وأهم هذه المدن إلى جوار الرها مدينة سميساط وسروج والبيرة، إضافةً إلى مدينة تل باشر التي يقودها جوسلين دي كورتناي الشخصية الثانية في إمارة الرها .

ومع كون الوضع مترديًا على هذه الصورة فإنَّ المسلمين - كما سيتبين لنا - استطاعوا الخروج من الأزمة ولو بعد حين، وعلى هذا فإذا كانت أزمتنا الآن أهون فخروجنا منها أسهل بإذن الله، وحتمًا - كما يثبت لنا التاريخ - يظهر بعد الليل الطويل فجرٌ سعيد .

1- فالوضع أيام الحروب الصليبية لم يكن مقتصرًا على دولة واحدة، بل تأسست أربع دول . 2- ولم يكن الاحتلال مقصورًا على فلسطين وحدها ، بل شمل فلسطين ولبنان وسوريا وتركيا . 3- ولم يقبع الاحتلال هناك فترة قصيرة من الزمن إنما دام مائتي سنة . 4- كما أن المذابح التي رأيناها في احتلال المدن الإسلامية أكثر بكثير من كل ما نشاهده الآن في المدن الفلسطينية . 5- كما أن حالة الفُرقة بين المسلمين أشد وأعتى مما نعانيه الآن؛ فلو نظرت إلى سوريا فقط فإننا سنجدها في زمان الحروب الصليبية مقسمة إلى عدة إمارات منفصلة، منها حلب وحمص ودمشق وحماة وشيزر وبانياس وغيرها . ثالثًا :
رأينا الأخطاء المتتالية التي ارتكبها الجيل الذي عاصر الحروب الصليبية، وهذه الأخطاء المركبَّة لم يقوموا هم وحدهم بدفع ثمنها بعد ذلك، بل دفعتها أجيال متعاقبة، ولسنوات طويلة ؛ فقد شاهدوا على سبيل المثال تقاعسًا من المسلمين عن نصرة طرابلس المحاصرة ، وظل الحصار كما رأينا سبع سنوات متصلة ثم سقطت طرابلس ، واستمر هذا السقوط مائة وخمسًا وثمانين سنة !! أي دفع الثمن ستة أو سبعة أجيال متلاحقة ، مما يبين أن حجم الخطأ الذي يرتكبه المرء قد يكون له ذيول وعواقب تضاعف من أثره ونتائجه، وعليه فلا ينبغي أبدًا أن يستهين الإنسان بالذنب أو الخطأ ، ولعل المسلمين تخيلوا عند سقوط طرابلس أن هذا شيء عارض لن يستمر سوى عام أو عامين، ثم كانت العواقب كما رأينا .

وقد حذَّر رسولنا الكريم أن هذا قد يحدث مع الكلمة الواحدة ، فكيف بالفعل والأفعال ! يقول رسول الله : "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ
" .

رابعًا :
رأينا في المواقف السابقة تعاونًا مشينًا بين بعض القواد المسلمين كرضوان من ناحية أو جاولي من ناحية أخرى مع جيوش الصليبيين ، وفي لحظة من اللحظات ظنَّ هؤلاء أن عزتهم ستكون بالارتباط بالقوة العسكرية الأولى في المنطقة ، ثم رأينا سريعًا أن الصليبيين يتنكرون لهذا التعاون ، وينقلبون على الزعماء المسلمين عند أول فرصة ، ويبيعونهم بأبخس ثمن ، فقد أدَّوا دورهم في مرحلة، ثم لم يعد لهم قيمة ولا نفع ! لقد رأينا تانكرد لا يكتفي بالتنكر لعهده وحلفه مع رضوان ، بل رأيناه يقف بجيشه على أبواب حلب يقصفها ويحاصرها ويمنعها الطعام والشراب ، ويُمعِن في إذلال رضوان فيفرض عليه الجزية، ويسخر منه ويفضحه بين الناس !

إن هؤلاء الزعماء المساكين لم يمروا بقلوبهم أو حتى بعيونهم على قول الله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا
) , وأقول لهم : إن لم يكن لكم اعتبارٌ بكتاب الله ولا سنة رسوله فليكن لكم اعتبارٌ بالتاريخ ، وليست هذه صورًا نادرة نحكيها ، إنما هي السنة المطردة، والواقع المتكرر !

خامسًا :
إذا كنا رأينا هذه الصورة المتخاذلة من حكام الشام في هذه الفترة العصيبة، فلا بد أن نتساءل: أين علماء الشام ؟! لقد اختفى إلى حد كبير، وأحيانًا إلى حد مطلق مَن يأمر بالجهاد أو المقاومة أو التحرير، سواء في دمشق أو في حلب أو في غيرهم ا!
أين العلماء ؟!

واقع الأمر أنه كما ذكرنا قبل ذلك فقد فُرِّغت الشام من علمائها في أثناء الاحتلال العبيدي السابق لفترة حكم سلاجقة الشام، ولكن - للأسف الشديد - عند ولاية سلاجقة الشام بداية من تتش بن ألب أرسلان أو ولديه رضوان ودقاق كان التغيير في الوضع سياسيًّا فقط، لكن بقي للإسماعيلية الباطنية وجود كبير في داخل المدن الشامية، وعلى رأسها حلب ودمشق، ولكن مر بنا الظهور الإسماعيلي الشيعي الفج في حلب ودورهم في التأثير في رضوان حاكمها، ولكن هذا لم يكن في حلب وحدها ، إنما رأيناه في دمشق أيضً ا!! نعم لم نجد التعاطف الذي أبداه رضوان تجاه الإسماعيلية ، ولكن رأينا بدلاً من التعاطف خوفًا وجبنًا من الباطنية الإسماعيلية أفضى إلى نفس النتيجة، فقد اشتهر الباطنية بحوادث الاغتيال والمؤامرات؛ ولذلك آثر الحكام المسلمون السلامة ، ولم يتقدموا بأي جهد لتغيير الواقع الأليم، حتى رأينا تسلطًا من زعماء الإسماعيلية على مجريات الأمور في دمشق إلى الدرجة التي جعلت حاكمًا مثل طغتكين - على حُبِّه للجهاد ورغبته في نصرة السنة - لا يستطيع الوقوف في وجه الشيعة الإسماعيلية ، فأعطاهم قلعة بانياس بناءً على طلبهم ليتحصنوا بها !

ولكن المؤلم حقًّا أن من بقي من العلماء السنة في داخل دمشق لم تكن له القدرة على الكلام أو التعليم، ولم تكن عندهم الجرأة على النصح والإرشاد، ولما إستفحل أمر بهرام داعي الباطنية في دمشق، وانتشر فساده ماذا فعل العلماء؟! يقول ابن القلانسي في وصفه حال العلماء آنذاك : "وضاقت صدور العلماء وأرباب الدين وأهل السنة، ولم يتجاسروا على الكلام خوفًا من أسرهم وقتلهم
" .

آهِ لو خاف العَالِم وسكت ! آه لو تعلل العالِم بعذر فاعتزل! آه لو تمسك العالِم بدنياه فأضاع دينه ودين الناس !

لعل هذه الملاحظة - أعني سكوت العلماء وخوفهم على حياتهم - من أهم أسباب الأزمة التي رأيناها أيام الحروب الصليبية، ومن أهم أسباب الضعف في أي فترة من فترات سقوط الأمة الإسلامية؛ فالعلماء ورثة الأنبياء، وهم قادة الأمة الحقيقيون، فلو ضلُّوا وضاعوا فكيف يُرجى للأمة هداية ؟!

سادسًا :
وإذا كنا رصدنا في هذا التحليل القصور الشديد الذي كان عليه الحكام والعلماء، فإن هذا لا يعني أن نعفي الشعوب من المسئولية !
أين الشعب في الشام؟!
أين شعب حلب ودمشق وحماة وحمص؟!
أين شعب بيروت وصيدا وحيفا وعكا؟!
أين أولئك الذين لم يصابوا في دينهم ومقدساتهم فقط، بل أصيبوا في أموالهم وأملاكهم وأعراضهم؟!

إن الشعب الذي يسكت على مثل هذا الذل شعبٌ لا يستحق الحياة !
إن الحاكم لا شيء بغير شعبه ، وإلا فكيف كان يقاتل رضوان إلى جوار الصليبيين؟! هل كان يقاتل بمفرده، أم إنه يقاتل بجيش كبير، ومن وراء الجيش وزراء وأمراء، ومعهم علماء وقضاة وفقهاء ومدرسون، ومن ورائهم موظفون وتجار وفلاحون؟! ألم يكن في بيت كل واحد من هؤلاء زوجة وأم وأخت وبنت؟! ألم يسمع أيُّ واحد من هؤلاء كلمة نصح، أو على الأقل كلمة تعجب: لماذا تفعلون هذه الأفعال ؟!
إن المصيبة كانت عامة! والخطأ مركب، ولا تحدث مثل هذه الكوارث العامة، والنكبات الهائلة إلا بتقصير عام من شتى طوائف الشعب من أعلى سلطة فيه إلى أقل عامل من عمال المسلمين، إلا من رحمه الله، وقليل ما هم !!

سابعًا :
رأينا في هذه المواقف أيضًا أن الدولة العبيدية قد باعت القضية تمامًا، فبعد المحاولات الثلاث التي قامت بها عند مدينة الرملة توقفت جهودهم تمامًا لاسترداد فلسطين، أو على الأقل لتأمين الحدود الشرقية للدولة المصرية ، وهذا كان أمرًا متوقعًا منهم بعد أن شاهدنا تخاذلهم في القدس ، وشاهدنا تخاذلهم في عكا ، وشاهدنا استغلالهم للموقف في طرابلس لحسابهم وليس للمصلحة العامة للمسلمين، وشاهدنا أيضًا تخاذل علمائهم في حلب ودمشق، بل وشاهدنا الفظائع التي ارتكبها الباطنيون الإسماعيلية هنا وهناك !

إن هذا كله يثبت أن هذا الدين لا ينصره مختل العقيدة أو مضطرب الفكر، إن هذا الدين عزيز ثمين، ولن يحمل رايته إلا المخلصون الفاهمون !

ثامنًا :
مع كل هذا الظلام الذي رأيناه في قصة بداية الاحتلال إلا أن النور لا ينعدم! فقد شاهدنا أمثلة تدل على أن الخير في الأمة لا ينقطع، والهمة لا تموت، نعم قد تضعف، ولكنها أبدًا لا تموت ؛ ولعل رؤيتنا لسقمان بن أرتق وهو يذهب إلى الجهاد في حالته المرضية الشديدة دليلٌ على هذا الكلام، كما رأينا في موقعة البليخ وما ظهر فيها من جهاد وتجرد لله، إضافةً إلى حملات عسكرية متكررة من طغتكين أمير دمشق الذي كان - على سلبياته - محبًّا للجهاد، محببًا عند الرعية، راغبًا في الخير، نادمًا على أخطائه التي لعل من أبرزها سكوته على الإسماعيلية بل إعطاءهم قلعة بانياس، ومع ذلك فإنه عند موته أوصى ابنه بوري بن طغتكين الذي تولى الأمر من بعده بأن يُعلِي من شأن العلماء السُّنَّة، وأن يتمسك بالجهاد في سبيل الله .

إن الأمثلة التي رأيناها في هذه الفترة لم تكن هي الأمثلة الخالصة التي يتحقق التغيير على يدها، ولكنها كانت أمثلة طيبة حملت الراية لمن بعدها، تمهيدًا لظهور شخصية تامة التجرد لله؛ ليُنزِل الله عليها نصره .

تاسعًا : مع شدة الألم الذي إعتصر قلوبنا لسقوط المدن الإسلامية الواحدة تلو الأخرى، ولذبح الآلاف من المسلمين، فإنَّ هذه الغمة كانت سببًا في توضيح الرؤية للشعوب ولنا، فبعض الحكام يُدلِّس على شعبه ؛ مستغلاً إعلامه وجنوده ومقربيه ، وموهمًا الجميع أنه يتحلى بالحكمة ، ويتصف بالكياسة ، ويتميز بحسن الرأي والقرار ، بل لعله يتظاهر بحب الشريعة ، وبذل النفس من أجل الدين ! لكن تأتي مثل هذه الأحداث المحزنة فتكشف الأوراق، وتبدي الحقائق ، ويعرف الناس الغَثَّ من السمين ، والصالح من الطالح ، ولعل هذا من أبرز فوائد هذه الكوارث ، ومن أعظم نتائجها، وصدق الله إذ يقول : (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ
) .

عاشرًا :
برز لنا بوضوح في هذه الأحداث أن الخير سيأتي - غالبًا - من جهة شمال العراق ، وتحديدًا من مدينة الموصل، وإذا كنا قد رأينا حملات كربوغا وجكرمش ، فإننا سنرى ما هو أعظم منها على يد مودود بن التونتكين ، ثم سيكون الظهور الأجلُّ لعماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي ، وكلهم سيأتي من هذه المناطق، وقد ذكرنا قبل ذلك مبررات هذه الخيرية في هذه المنطقة في هذا التوقيت ، ولكن الوقفة المهمة التي نريد أن نلفت الأنظار إليها هي أن التغيير قد يأتي من مكان بعيد جدًّا عن الأحداث ، فقد رأيناه هنا يأتي من شمال العراق بدلاً من الشام أو فلسطين أو آسيا الصغرى ، وهي الأماكن المنكوبة في القصة ، ورأيناه في قصة التتار يأتي من مصر، مع أن التتار لم يدخلوا مصر أصلاً، ورأينا إصلاح أوضاع الأندلس بعد أن كاد الإسلام ينتهي فيها، يأتي على يد عبد الرحمن الداخل صقر قريش القادم من دمشق ، وهكذا ؛ وعلى ذلك فعند وقوع مثل هذه النكبات لا ينبغي لنا عند التحليل والتقييم أن نقصر النظرة على البلد المنكوب ، بل نوسع النظر لنشمل العالم الإسلامي بكامله ، وحتمًا عندها سنرى النور هنا أو هناك، وهذه هي عظمة هذا الدين .


 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 04-03-14, 04:39 AM

  رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 


قصة مودود

مودود بن التونتكين هو أول شخصية متوازنة تظهر في قصتنا ، تجعل الجهاد في سبيل الله منهجًا واضحًا لحياتها ، وتجعل قتال الصليبيين هدفًا إستراتيجيًّا لا يغيب عن الذهن ، ولا يبعد عن الخاطر , وقد رأينا من سبقه من المجاهدين في القصة يجاهد مرة أو مرتين بسبب ظرف من الظروف ، أو لتكليف من السلطة الأعلى ، أو لردِّ عدوان صليبي على بلاده فقط ، أما أن تكون قضية قتال الصليبيين هي الشغل الشاغل بصرف النظر عن الظروف ، فهذا لم نره إلا في عهد مودود بن التونتكين رحمه الله ، هذا مع كونه يرأس الموصل البعيدة نسبيًّا عن إمارات الصليبيين ؛ مما يثبت أنه لم يكن يفعل ذلك لتأمين إمارته فقط ، ولكن إرضاءً لله ، وحبًّا للجهاد في سبيله .

بدأ مودود رحمه الله بترتيب بيته الداخلي في الموصل ، وإقرار الأوضاع بعد الفتن التي مرت بها الإمارة في السنوات السابقة ، وسار في إمارته بالعدل والرحمة ؛ فأحبه الناس حبًّا شديدًا ، ودانوا له جميعًا بالطاعة ، وأعلن مودود أن جهاده سيكون في سبيل الله ، وهذا جعل جنوده في حالة معنوية عالية ؛ إذ أصبح الجهاد قضية شخصية لكل واحد حيث إنهم جميعًا يعملون لله عزوجل ، أما عندما كان الجهاد في عهود سابقة من أجل أمير معين أو طاعة لأمر قادم من هنا أو هناك ، فإنَّ الجنود حينها كانوا يقاتلون بفتور ويدافعون بغير اكتراث ، ولا يسعدون بنصر ، ولا يحزنون لهزيمة ، وهذه طبيعة الجيوش العلمانية التي تقاتل دون قضية ، لكن مودود رحمه الله جعل القضية واضحة تمامًا في عين شعبه وجنده ؛ مما ترك أثرًا إيجابيًّا رائعًا على إمارته ، ظل ممتدًا لعهود طويلة .

ثم إن الخطوة التالية لمودود كانت رائعة ، وتعبر عن فقه عميق لطريق النصر، وهي خطوة توحيد الجهود، وتجميع الشتات ، والالتزام بالفكر الجماعي وقد فقه التوحيد القرآني الفريد : (وَإعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا ) ، ومن ثَمَّ بدأ مودود في مراسلة من حوله من الأمراء لتجميع جيوشهم تحت راية واحدة ، ولهدف واحد وهو طرد الصليبيين من بلاد الإسلام .

لقد كانت خطوة رائعة ، لكن لم ينقصها إلا شيء واحد ! وهو أن مودود بن التونتكين رحمه الله كان عملاقًا في زمان الأقزام !! فهذه الأهداف السامية وهذه الغايات النبيلة لم تكن تشغل أمراء ذلك الزمن ، ومن ثَمَّ لم تكن استجابتهم عالية ، ومن إستجاب منهم لم يكن سلوكه يدل على فهمه لقضية الجهاد في سبيل الله ، بل كانت المسألة عندهم واحدة من اثنتين : إما رغبًا في نفع أو غنيمة ، وإما رهبًا من سلطة مودود بن التونتكين أو سلطانه الأكبر السلطان محمد السلجوقي ؛ ومع ذلك فقد استطاع مودود رحمه الله أن يكوِّن حلفًا من الأمراء لَفَت أنظار المسلمين إلى ضرورة التوحُّد ، وأعاد إلى الجميع مبدأ تجميع الجهود .

تكوَّن حلف إسلامي منظم لأول مرة في حروب المسلمين ضد الصليبيين ، وكان على رأسه مودود رحمه الله ، ويساعده فيه إيلغازي بن أرتق أمير ماردين وحصن كيفا ، وهو أخو الزعيم السابق سقمان بن أرتق الذي مات وهو في طريقه لنجدة طرابلس كما بينا قبل ذلك ، وكان في حلف مودود أيضًا سقمان القطبي (وهو غير سقمان بن أرتق بالطبع) ، وهو أمير خلاط وتبريز ، كما تراسل معهم طغتكين أمير دمشق ، الذي كان له - كما ذكرنا - بعض الميول الجهادية ضد الصليبيين .

كانت وجهة هذه الحملة واضحة إذ قرروا التوجه صوب الرها ، والغرض تحرير هذه الإمارة الإسلامية من الاحتلال الصليبي ، وتحركت الجيوش الإسلامية من الموصل في شوال سنة (503هـ) إبريل 1110م ، وفي غضون أيام قليلة وصلت الحملة العسكرية إلى حصون مدينة الرها ، وهي تقع شرق نهر الفرات ، وهي من أحصن القلاع في ذلك الوقت ، وضرب مودود الحصار حول المدينة !

شعر بلدوين دي بورج أمير الرها بالخطر الشديد ، ومن ثَمَّ أرسل رسالة استغاثة عاجلة إلى بلدوين الأول ملك بيت المقدس ، وكان الذي يحمل الرسالة هو جوسلين دي كورتناي شخصيًّا أمير تل باشر ، دلالةً على اهتمام بلدوين دي بورج بالأمر، ووصلت الرسالة إلى الملك بلدوين الأول وهو في بيروت حيث كان محاصِرًا لها آنذاك .

ظل الأمير مودود محاصِرًا لمدينة الرها مدة شهرين كاملين، وقد حاول بكل طريقة أن ينفذ من خلال استحكاماتها العسكرية لكنه لم يفلح لشدة حصانة المدينة، وفي هذه الأثناء كان بلدوين الأول يجمع الجيوش الصليبية للدفاع عن إمارة الرها ، وبالفعل جاء بلدوين الأول بنفسه على رأس فرقة من جيشه ، وجاء معه برترام أمير طرابلس ، بينما رفض تانكرد أن يأتي للخصومة التي كانت بينه وبين بلدوين دي بورج أمير الرها .

رأى مودود رحمه الله أن جيوشه ستحصر بين جيوش الصليبيين، حيث ستخرج له جيوش بلدوين دي بورج ، ويغلق عليه بلدوين الأول وبرترام طريق العودة ، ومن هنا آثر مودود في ذكاء حربي واضح أن ينسحب بجيشه إلى حرَّان جنوب شرق الرها ؛ تمهيدًا للانسحاب أكثر وأكثر لإستدراج الجيش الصليبي ، كما حدث قبل ذلك بست سنوات في موقعة البليخ ، وهناك في حران وافته جيوش طغتكين أمير دمشق لتزداد بذلك القوة الإسلامية .

نظر بلدوين الأول الملك المحنك إلى هذه الترتيبات العسكرية ففهمها وأدرك صعوبة التوغل إلى حران بجيوشهم القليلة نسبيًّا ، فأرسل رسالة عاجلة إلى تانكرد يستحثه على القدوم بجيشه لمقابلة المسلمين في موقعة فاصلة ، وإزاء ضغط بلدوين الأول ، اضطر تانكرد إلى الموافقة ، فجاء على رأس ألف وخمسمائة فارس ، وعند وصوله عقد بلدوين الأول مجلس مصالحة صفَّى فيه الخلافات القديمة بين الزعيمين بلدوين دي بورج وتانكرد !
إضافةً إلى هذه التحركات الواعية من بلدوين الأول تفاوض هذا الملك الخبير مع كوغ باسيل الأمير الأرمني لمدينة كيسوم ، وبالفعل إنضم إليه كوغ باسيل بفرقة من جيشه .

زادت قدرات الجيش الصليبي ، ولكن ذلك لم يكن خافيًا على إستخبارات مودود رحمه الله ، فقرر أن يُمعِن في الانسحاب حتى يستدرج الصليبيين بعيدًا تمامًا عن حصون الرها أو تل باشر ليفتقروا إلى ملجأ في حال هزيمتهم ، غير أن بلدوين الأول كان يلعب هو الآخر مباراة ذكاء مع مودود ، فقرأ الخطة ولم يندفع وراء الجيش الإسلامي ، خاصةً أنه كان الحاكم السابق لإمارة الرها؛ ومن ثَمَّ فإنه يدرك جغرافية المكان ، وخطورة التوغل جنوبًا .

في هذا الوقت ترامت أخبار للملك بلدوين الأول باحتمال هجوم عبيدي على مملكة بيت المقدس، وكذلك وردت أخبار عن تحركات لرضوان ملك حلب صوب بعض القلاع المملوكة لتانكرد حول أنطاكية ، وقد جعلت هذه الأخبار المزعجة الصليبيين في قلق على إماراتهم ، ومن ثَمَّ قرروا الرجوع دون القتال ومع ذلك فقد رأى بلدوين الأول أن ترك هذه المساحات الكبيرة من القرى والضياع والمزارع - وكلها داخلة في حدود إمارة الرها - سيمثل خطورة كبيرة على سكانها الصليبيين والأرمن ، ومن ثَمَّ أصدر قراره بترحيل كل السكان من هذه المناطق الواقعة شرق الفرات إلى غربه؛ وذلك لتفادي هجوم المسلمين عليهم، وعليه فلن يبقى شرق الفرات إلا المدينتان الكبيرتان الرها وسروج .

وبالفعل بدأ الترحيل السريع للسكان تمهيدًا لعودة الجيوش الصليبية إلى أماكنها ، وأدرك ذلك مودود فتقدم بجيوشه شمالاً ، والصليبيون يتراجعون في سرعة ، ومع ذلك استطاع مودود أن يلحق بمؤخرة الجيش الصليبية ، وبكثير من السكان الذين فشلوا في عملية الترحيل المفاجئة ، وهذا أدي إلي إنتصار إسلامي سريع على مؤخرة الصليبيين ، مع إمتلاك عدد كبير من الأسرى والغنائم والسلاح .

لم تكن الموقعة فاصلة بالطبع ؛ لأن معظم الجيوش الصليبية كانت قد عبرت نهر الفرات إلى الغرب ، أو دخلت حصون الرها وسروج ، ومع ذلك فإنَّ الموقعة تركت عدة آثار إيجابية لا يمكن إغفالها :

أولاً : وضعت الموقعة المسلمين على الطريق الصحيح ، حيث كانت الراية المرفوعة هي راية الجهاد في سبيل الله .

ثانيًا : كانت هذه هي الموقعة الأولى التي تجمع فيها جيوش عدة إمارات في جيش واحد ، وخاصةً أن طغتكين شارك فيها بجيش دمشقي مع الجيوش العراقية والفارسية .

ثالثًا : أدرك النصارى في هذه الموقعة أن العزيمة الإسلامية لم تمت ، وأن الأمة الإسلامية لم تنس قضية الإمارات المحتلة ، ولا شك أن هذا ترك أثرًا نفسيًّا سلبيًّا على الصليبيين .

رابعًا : فَقَد الصليبيون عددًا من الأسرى والغنائم أضافت إلى قوة المسلمين .

خامسًا : إستطاع المسلمون السيطرة على بعض الحصون والقلاع والأراضي شرق الفرات ، ولم يبق في شرق الفرات سوى مدينتي الرها وسروج ، وهما - وإن كانتا في غاية الحصانة – إلا أنهما صارتا معزولتين فقيرتين بعد سيطرة المسلمين على المزارع حولهما ، ولا شك أن هذا سيضعف من إمارة الرها .

وهكذا تركت هذه الحملة إنطباعًا إيجابيًّا مع أنها لم تكن فاصلة ، وعاد مودود إلى الموصل ، بينما رجع كل أمير إلى إمارته .

بدأ المسلمون يشعرون هنا وهناك بأن الأمل ما زال موجودًا ، وأن الواقع الأليم من الممكن أن يُغير ، وشعروا في نفس الوقت أن مودود يقاتل بمفرده وأن الجيوش المتعاونة معه ليست على نفس مستواه ، فأراد المخلصون من أبناء الأمة للحركة أن تتسارع ، وللحميَّة أن تلتهب في صدور الرجال، فقام وفد من أهل حلب، من تجارها وفقهائها وعامتها ، وتوجهوا إلى بغداد ، فقد يئسوا من زعيمهم المتثاقل رضوان ، وهناك إلتقوا مع خليفة المسلمين المستظهر بالله ، ولكنه - كما نعلم - ليس خليفة بالمعنى الحقيقي ، إنما هو صورة خليفة ؛ ولذلك لم يكن لقدوم وفد حلب إليه أثر في قلبه أو عقله ، إنما اكتفى كعادته بسؤالهم عن أحوالهم وظروفهم ، وإبداء الألم والتأسي لما مر بهم ، ووعدهم بالتأييد الكامل لهم قلبيًّا لا فعليًّا !! ووعد أيضًا أن يرفع يده بالدعاء لله أن يرفع الكربة ويزيل الغمة !!

إن الصورة طبيعية ، وردَّ الفعل متوقعٌ من رجل مسكين لا حيلة له لكنَّ أهل حلب لم يقتنعوا بهذه السخافات ، إنما إنطلقوا إلى أهل بغداد؛ يشرحون لهذا ، ويفسرون لذاك ويعرضون الحالة المأساوية التي وصلت لها أمة الإسلام ، وينبهون الغافل أن الدور - وإن كانت الشام هي التي تعاني الآن - سيأتي مستقبلاً لا محالة على الجميع !

والحمد لله أن هذه الكلمات وجدت آذانًا مصغية من أهل بغداد ، ووجدت أيضًا عقولاً فاهمة ، وقلوبًا واعية ، وكان من الواضح أن أثر المدارس النظامية التي أسسها نظام الملك رحمه الله ، وأثر العلماء الذين ملئوا بغداد علمًا ونورًا ، كان من الواضح أن هذا الأثر ما زال باقيًا ، ومن ثَمَّ كانت ردة الفعل عند الشعب كبيرة ، بل غير مألوفة في هذا الزمن ! لقد نظَّم الشعب في بغداد - وهو شعب كبير - مظاهرةً ضخمة خرجت في أحد أيام الجمعة من النصف الثاني من عام (504هـ)1111م ، وكانت هذه المظاهرة تطالب صراحة بالجهاد في سبيل الله لإخراج الصليبيين من ديار الإسلام وتوجهت المظاهرة إلى مسجد السلطان قبيل الجمعة ، وإقتحمت الجموع المسجد ، بل وذهبوا إلى المنبر في غضب بالغ ، وقاموا بكسره ، والتجمهر في المنطقة ، وتكهرب الجو جدًّا حتى إن صلاة الجمعة لم تقم في هذا المسجد ووصلت الأنباء إلى السلطان محمد فوعد الجموع بالجهاد لتسكين ثائرتهم ، والسيطرة على الموقف ، لكن مرَّ أسبوع ولم يحدث شيء ، فتحركت الجموع من جديد في يوم الجمعة التالي ، وذهبوا هذه المرة إلى جامع القصر بدار الخلافة ، فمنعهم حراس الباب ، فاصطدموا معهم وغلبوهم ، ودخلوا الجامع ، وكسروا شباك المقصورة التي يجلس فيها الخليفة ، وكسروا أيضًا المنبر ، وهكذا لم تقم صلاة الجمعة في هذا المسجد كما حدث في مسجد السلطان في الجمعة الماضية، وصار واضحًا أن الأمر خطيرٌ ، وأن التهاون في ذلك الأمر قد يؤدي إلى كوارث ضخمة ، وهنا كان لا بد للخليفة والسلطان أن يتخذا قرارًا حاسمًا يُنهي المشكلة ؛ ولم يكن أمامهما إلا أحد أمرين : إما موافقة العامة ، وتجهيز جيوش حقيقية لمقابلة الصليبيين في موقعة فاصلة ، وإما إستخدام سلاح القمع مع الشعب ، والتهديد بالحبس والجلد والقتل، وما إلى ذلك من وسائل معروفة !

لكن من الواضح أن الثورة كانت كبيرة ، وأن الشعب كان متحدًا في هدف واحد ، وأن الخطوات كانت منظمة ومرتبة ؛ وكل هذا جعل الخليفة والسلطان يعيدان حساباتهما ، ومن ثَمَّ رضخا لقرار الشعب ، وبدأ بالفعل في تجهيز جيش كبير لقتال الصليبيين ، بل إن السلطان محمد جعل القيادة الاسمية لهذا الجيش لإبنه مسعود ، بينما أوكل القيادة الفعلية للمجاهد الحقيقي مودود بن التونتكين !

لقد كان موقف الشعب في بغداد من المواقف المؤثرة في التاريخ ، وإذا سألنا لماذا لم يقم الشعب في حلب أو دمشق أو حماة أو حمص بمثل هذه المظاهرات والثورات ، لقلنا أن الإجابة بوضوح هي أن الشعب في بغداد رُبِّي على مدار سنوات عديدة على المعاني الفاضلة من العلم والجهاد والنخوة ، وشارك في هذا علماء كُثُر ، لعل كثيرًا منهم قد قضى نحبه الآن، ولم يشاهد هذه الآثار ، ومما يثبت هذا السبب ما ذكره ابن الأثير في كتابه الرائع الكامل في التاريخ أن هذه الثورات في بغداد كانت بصحبة "خلق كثير" من الفقهاء !

إن المسألة واضحة بينة ! إنهم العلماء !! لو صلح علماء الأمة صلح أمرها ، ولو فسدوا فكيف نرجو صلاحًا ؟! ولهذا ليس من فراغٍ أن يقول رسول الله : "إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ" ، وليس من فراغٍ أن يقول : "إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها ، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير" .
وهكذا في أوائل سنة (505هـ)\1111م بدأت تجميع الجيوش الإسلامية على نطاق أوسع ، وكان مركز التجمع هو مدينة الموصل ، حيث الزعيم المجاهد مودود بن التونتكين ، وحيث الشعب الفاهم الذي يمثِّل عماد الجيوش ومركز ثقله ..

وجاءت الجيوش من هنا وهناك ، فخرج الأمير مسعود من بغداد ، وخرج أيضًا سقمان القطبي من خلاط وتبريز (جنوب تركيا وغرب إيران) ، وإياز بن إيلغازي بن أرتق من ماردين ، والأمير الكردي أحمديل أمير مراغة (في أذربيجان) ، والأمير برسق أمير همذان وأولاده الأميران إيلبكي وزنكي ، وأبو الهيجاء أمير إربل ..

لقد كان تجمعًا كبيرًا حقًّا ! ولكننا تعلمنا أن العبرة ليست بالأعداد ، ولكن بالنوعيَّة ، وفي كل هؤلاء لم نكن نرى فيهم من فهم القضية بعمق، وبذل فيها بصدق ، إلا مودود ومن معه من أهل الموصل ، أما غيرهم من الأمراء فإنهم جاءوا طائعين لأمر السلطان محمد لا طائعين لأمر الله، وشتَّان !

وخرج الجيش الكبير في شهر محرم (505) تموز 1111م , وبدأ فورًا في عدة عمليات شرق الفرات تستهدف إسقاط القلاع الصليبية في هذه المنطقة تمهيدًا لحصار مدينة الرها ذاتها ، وبالفعل سقط عدد من المواقع الصليبية ووصل الجيش في سهولة إلى مدينة الرها، وبدأ الحصار !

كانت مدينة الرها على حصانتها المعهودة ، بل إن الصليبيين عندما علموا بقدوم الجيش الإسلامي أمدوها بكثير من المؤن والغذاء لتصبر على الحصار الطويل ، ولم يعزم الصليبيون أبدًا على الخروج لحرب المسلمين ، وكانت النتيجة أن شعر مودود أن الوقت يضيع بلا فائدة ، فحصون المدينة أشد من أن تسقط !

ماذا يفعل مودود ؟!

لقد قرَّر أن يكون واقعيًّا، وأن يفك الحصار عن الرها المنيعة، ويتجه إلى غيرها من حصون الصليبيين، وعليه فقد غادر الجيش الرها إلى المدينة الثانية في إمارة الرها وهي مدينة تل باشر غرب الفرات، والتي كان على رأسها جوسلين دي كورتناي القائد الصليبي المشهور .

وحاصر الجيش الإسلامي مدينة تل باشر حصارًا محكمًا، وحاول بكل طاقته أن يفتح أبوابها ، أو أن يهدم أسوارها ، لكنها كانت منيعة كالرها !

ومرت الأيام صعبة على المسلمين دون بادرة تغيُّر في الموقف، وفي هذه الأثناء جاءت رسالتان من الشام تحملان إستغاثة إلى الأمير مودود .

أما الرسالة الأولى فكانت من أمير شيزر سلطان بن منقذ يخبر فيها أن جيوش تانكرد أمير أنطاكية تهاجم مدينته، وأما الرسالة الثانية فكانت من الخبيث رضوان الذي أبدى رغبته في التعاون مع الجيوش الإسلامية ضد تانكرد أمير أنطاكية الذي يهاجم حلب كما يهاجم شيزر ، ولا شك أن هذه كانت رسائل مفزعة للجيش الإسلامي لأنَّ سقوط مدن إسلامية جديدة ، وخاصةً إن كانت كبيرة مهمة كحلب ، سوف يؤدي إلى تعقيد الموقف أكثر ، وتقوية الصليبيين بدرجةٍ أكبر .

وتردَّد الأمير مودود في رفع الحصار عن تل باشر ، خاصةً أن رضوان غير مأمون ، غير أنَّ الشر والخبث لم يكن عند رضوان فقط ! فقد وصل جوسلين دي كورتناي أمير تل باشر إلى أحمديل أمير مراغة وأجرى معه مباحثات سرية وَعَده فيها بوعودٍ نظير إقناع الجيش المسلم بفك الحصار عن تل باشر ! إنها الخيانة في أرض الجهاد ، والطعن في الظهر للجيش الذي يُعلِّق المسلمون عليه آمالهم !

وإستطاع أحمديل أن يقنع القادة المزعومين بضرورة التوجُّه لنصرة رضوان ، واجتمع الأمراء على ذلك ، وإضطر مودود إلى الموافقة ، ورفع الحصار عن تل باشر بعد مرور خمسة وأربعين يومًا كاملة .

وتوجَّه مودود بالجيش المسلم إلى حلب ؛ أملاً في ضمِّ قوته إلى قوة جيش رضوان لمواجهة تانكرد الصليبي ، فليس المهم الآن هو إسقاط الرها ذاتها ، ولكن المهم هو تحرير أيّ أرض إسلامية ، ولو كانت بعيدة عن الموصل .

ولكن عند حلب حدث ما كان متوقعًا من رضوان ! لقد أغلق المدينة في وجه جيوش الموصل والعراق وفارس ، وأعلن أنه يخشى من هذه الجيوش أشد من خشيته من جيوش الصليبيين !

وحدثت أزمة كبيرة ؛ فالجيوش الإسلامية الآن توغلت جدًّا في البلاد ، وبَعُدت عن مددها الأصلي في شمال العراق ، ورضوان يُغلِق الحصون الحلبية في وجهها ، ولو جاءت الجيوش الصليبية الآن فسيصبح الموقف صعبًا ، خاصةً أن حصون الصليبيين قريبة في كل مكان ، والمصيبة أن يخرج بلدوين دي بورج من حصونه في الرها لغلق باب العودة على الجيش الإسلامي، ولمنع المدد من الوصول إليهم ! لقد وضع رضوان الخائن جيش المسلمين في مأزق حقيقي !

وإزاء هذا الوضع المتردي أفاق شعب حلب فجأةً، وقرَّر الخروج في مظاهرات عارمة لردع رضوان عن هذا التصرف المشين ، إلا أنَّ رضوان قام باعتقال عدد كبير من أعيان المدينة ورؤساء القوم، واتخذهم رهائن لتهديد الشعب إذا إستمر في رفضه !!

إنها صورة مكرورة في التاريخ والواقع للقائد الذي يُبدِي كل التخاذل أمام أعداء الأمة ، بينما يبرز سطوته وقهره على شعبه وأهله وأبناء دينه ووطنه !

ووجد مودود نفسه في خطر شديد ، خاصةً أنَّ الأخبار ترامت أن رضوان عقد تحالفًا مع تانكرد نفسه لضرب الجيش الإسلامي ! فقرَّر مودود أن يتجه جنوبًا ليبعد عن حلب ، وليقترب من دمشق حيث إن الأمير طغتكين - وإن لم يكن مجاهدًا من الطراز الأول - أفضلُ من رضوان! وفي حوض نهر العاصي ، وبالقرب من معرَّة النعمان حضر طغتكين أمير دمشق ، والتقى مع مودود الأمير المَكْلُوم من الأمراء المسلمين ، كما هو الحال من الأمراء الصليبيين !

ودارت مباحثات بين زعماء الجيش الإسلامي العراقي والفارسي وبين الأمير طغتكين ، وبدا واضحًا في المباحثات أن طغتكين - مع رغبته في قتال الصليبيين - كان يخشى هذا الجيش الإسلامي الكبير ، ومع هذا الشعور المتوجس فإنَّ طغتكين إستطاع أن يفرِّق بسهولة بين الأمير مودود وبقية أمراء الجيش ؛ فالأول رجل يريد حرب الصليبيين لله ولا يريد ملكًا ولا ثروة ، أمَّا الآخرون فهم كعامة الأمراء في هذا الزمن لا يريدون إلا الدنيا ، وليس لهم في الجهاد نصيب !! ومن هنا نشأت علاقة مودة بين طغتكين ومودود إلا أنه كان يخشى من تأثير بقية الزعماء عليه ، ومن ثَمَّ أصر طغتكين في المباحثات أن تجتمع الجيوش لمهاجمة مدينة طرابلس ليضمن بذلك أن يبعدهم عن دمشق ، وفي ذات الوقت يضربون أخطر الزعماء الصليبيين بالنسبة له وهو برترام بن ريمون أمير طرابلس لقربه من أملاك طغتكين .

لقد كانت تتنازع طغتكين عوامل الدنيا والدين ، ورغبات النفس وأوامر الشرع، فخرجت أعماله مضطربة، لا هي بالجهاد الصريح كمودود، ولا هي بالعمالة الصريحة كرضوان ! وأمثال هذا كثير، وهؤلاء - وإن كان فيهم صلاحٌ - لا يقدرون على التغيير !

وإذا كنا نرى هذه الأزمات الأخلاقية في الجيش الإسلامي ، فإننا رأينا على الناحية الأخرى تماسكًا ملحوظًا في الكيان الصليبي ؛ فقد أرسل تانكرد رسالة إستغاثة إلى بلدوين الأول ملك بيت المقدس فورًا، يدعو أمراء طرابلس والرُّها وتل باشر للالتقاء جميعًا للتوحُّد في مواجهة المسلمين !

إن الله له سُنَّة لا تتبدل ولا تتغير ؛ فالجيش الذي يسعى للوحدة بهذه الصورة لا بد أن تكون له رهبة وأثر ، والجيش الذي لا يَقْوَى على التجمع والاتحاد - حتى في أحلك الظروف - جيشٌ لا يُتوقع له نصر !

وتأزَّم الموقف جدًّا في المعسكر الإسلامي ، ودبَّ الرعب في أوصال معظم القادة ، ومات سقمان القطبي فجأةً - لعله من الخوف - فقرَّر جيشه الانسحاب ! وكانت علة مناسبة لهم لتجنُّب القتال ، ومرض برسق أمير همذان ، وقرر أن يعود هو الآخر لبلاده كي يُطبَّب هناك !! فإنسحب جيشه أيضًا أما أحمديل الزعيم الذي تفاوض سرًّا مع جوسلين فقد تعلَّل بوجود بعض المشاكل الداخلية في مراغة فقرر الانسحاب من المعركة ، وهو بذلك يضرب عصفورين بحجر ؛ فهو سيهرب من الصدام مع الصليبيين وكذلك سيسعى لتحصيل جزء من إرث سقمان القطبي الزعيم الذي مات منذ قليل ، كذلك عاد جيش إياز بن إيلغازي إلى بلاده لهدف عجيب وهو الهجوم على جيش سقمان القطبي بعد وفاة قائده ؛ ليغنم ما معهم !! غير أنَّ جيش سقمان إنتصر عليه وغنموا ما معه ، وساروا به إلى بلادهم !

هل يُصدِّق ذلك أحد ؟! هل يمكن للأمراء والزعماء أن يتفقوا جميعًا على الجبن والهروب والخيانة ؟!

إنَّ هذا هو ما حدث بالفعل ! وهو يفسر المصيبة الكبيرة التي ألمت بالمسلمين أيام الحروب الصليبية ، وهو يفسر أيضًا النكبات التي تمر بالأمة في أيِّ فترة من فترات ضعفها ، وليست أحداث 1948 أو 1967 منا ببعيد !!

وجد الأمير مودود رحمه الله نفسه وحيدًا في أرض القتال ، ولم يثبت معه إلا جيشه ، إضافةً إلى طغتكين أمير دمشق ؛ وأقبلت الجيوش الصليبية من كل مكان ، وبلغ عددها ستة عشر ألف مقاتل ، وهو أكبر بكثيرٍ من القوة الإسلامية المتبقية .

في هذا الوضع الخطير جاءت رسالة من أمير شيزر سلطان بن منقذ يدعو فيها الجيش الإسلامي للقدوم إلى شيزر للتحصن بها ، فتتحقق منفعة مزدوجة ؛ فهذا حماية لشيزر من ناحية، وحماية للجيش المسلم من ناحية أخرى ، وبالفعل توجه الجيش الإسلامي إلى شيزر ، وتحصن وراء أسوارها ، وجاء الجيش الصليبي وقد طمع في الجيش المسلم بعد هروب معظمه !

كان موقع الجيش الإسلامي خطيرًا وهو في هذه العزلة عن بلاده ؛ ولذلك لم يرغب الأمير مودود أن يبقى محصورًا في هذه المنطقة، ولم يكن أمامه إلا تخويف الجيش الصليبي لعلَّه يفتح له الطريق للعودة إلى بلاده ؛ ومن هنا قرر الأمير مودود أن يخرج من الحصون ليناوش الصليبيين ثم يعود ، وهكذا حتى يؤثِّر في الصليبيين فيتركوه يعود ، ويرضوا منه بعدم القتال .

وللصدق الذي يراه الله في قلب مودود ألقى سبحانه وتعالى الرهبة في قلوب الأعداد الكبيرة من الصليبيين ، وبدءوا بالفعل يخشون الهجمات الجريئة للجيش المسلم، بل إستطاع الأمير مودود أن يغنم بعض الغنائم من مؤخرة الجيش الصليبي !.

رأى الصليبيون أنه من الأسلم لهم أن يتركوا هذا المجاهد العنيد ليعود إلى بلاده ؛ ليتفرَّغوا هم للملوك الضعفاء في الشام ، أما مودود فكان واقعيًّا ، ورأى أن الإصرار على الحرب نوعٌ من التدمير غير المقبول لجيشه ، ومن ثَمَّ انطلق إلى الموصل ، بينما عاد طغتكين إلى دمشق !

لقد فشلت هذه الحملة في تحقيق مقاصدها ، ولكنها حققت نفعًا واحدًا وهو كشف أوراق هؤلاء الزعماء ، ليس أمام مودود فقط ، ولكن أمام شعوبهم أيضًا ، وعرف الناس على وجه اليقين مَن هو المخلص المجاهد ، ومَن هو المنافق المتثاقل ، ووضوح الرؤية هذا في غاية الأهمية لإكمال المسيرة ، وحتى لا يبني الناس قصورًا من الرمال ، ويُعلِّقون الأحلام الكبيرة على شخصية قد تُحسن الكلام ولكنها لا تعرف عن العمل شيئًا !!

ومع هذه الآلام المركَّبة التي عانى منها مودود رحمه الله فإنَّه لم ينسَ القضية ، مع أنَّ إمارته آمنة ، وبعيدة نسبيًّا عن الخطر، ومع أن ظروفه في بلده مستقرة ، ويتمتع بحبِّ شعبه له ، لكنه كان متجردًا لله ، فاهمًا للدَّور الذي عليه تجاه دينه وأمته ، وهذا الذي دفعه لإستمرار المسيرة مع كل الخيانات التي تعرَّض لها ؛ ولهذا نجده يُعِدُّ جيشه في ذي القعدة من نفس السنة ، أي في سنة (505هـ) أيار 1112م ، ويهاجم فجأة مدينة الرها مرة أخرى! إنه مع صلابة الاستحكامات، وقلة جيشه لا ييأس من تكرار المحاولة، ولكنَّ حصون المدينة كانت أشد من جيوش مودود ، ففكر مودود في مهاجمة مدينة سروج ، وهي مدينة كبيرة تقع في شرق الفرات بالقرب من الرها، وتعتبر المعقل الثاني للصليبيين شرق الفرات، ولكن مودود خشي أن يخرج بلدوين دي بورج من المدينة فيهاجم مؤخرة الجيش الإسلامي ؛ ولذلك ترك قسمًا من الجيش يحاصر المدينة، وذهب بالقسم الثاني لحصار سروج، ولكن - للأسف - وصلت حركة هذه الجيوش إلى جوسلين دي كورتناي أمير تل باشر، وعرف أن مودود تحرك بقسم صغير من جيشه إلى سروج، فانتهز الفرصة، وأخذ جيشه وانطلق صوب سروج، وهناك إستطاع أن يُلحِق هزيمة بجيش مودود ، وقتل عددًا كبيرًا من رجاله، ويبدو أن مودود كان قد أخطأ التقدير لعدد جيشه ، فتحرك بعدد قليل وسط جموع كبيرة من الصليبيين !

وعلى الرغم من ثقل وَقْع الهزيمة على نفس مودود فإنَّه عاد مسرعًا إلى الرها لينضم ببقية جيشه إلى المسلمين المحاصِرين هناك للحصون .

في هذه الأثناء ، وبينما تدور المعركة حول سروج كان الجيش الإسلامي في الرها قد نجح في عقد معاهدة سرية مع الأرمن في داخل حصون الرها ! ، يتم بموجب هذه المعاهدة تسليم المسلمين إحدى القلاع المهمة التي تسيطر على القطاع الشرقي من المدينة ، وبالفعل تسلَّم المسلمون القلعة ، وبدءوا يتسربون منها إلى داخل حصون الرها ، وجاء مودود في هذه اللحظات، وأسرع مع جنوده لإكمال إسقاط الرها، غير أنَّ جوسلين دي كورتناي كان قد قرأ هذه الأحداث، ومن ثَمَّ أتى قادمًا بجيشه من سروج إلى الرها، وإزاء هذا الوضع الجديد وجد مودود أن قوَّته المتبقية لن تفلح في هزيمة الجيوش الصليبية المجتمعة، ومن هنا قرَّر مودود رحمه الله الانسحاب مرة أخرى إلى الموصل !

إنها المحاولات المتكررة دون يأسٍ، ولكنَّ الله لم يُقدِّر بعدُ أن تُفتح الرها !

إنه الطريق الصعب للجهاد الذي ينتهي بالجنة دون إعتبار بالنتائج المتحققة ، ما دام الجهد كله قد بذل ، وما أروع أن يكون شهداء أُحُد في أعلى علِّيِّين ، وأن يكون حمزة بن عبد المطلب هو سيد الشهداء في الجنة ، مع أن الجميع قد استشهد في مصيبة كبيرة حلَّت بالمسلمين ، لكن أدَّوا ما عليهم ، ولم يتهاونوا أو يفرِّطوا !!

لكن قبل أن نستكمل قصة مودود لا بد من الوقوف مع ما حدث في إمارة الرها حين تراسل الأرمن - وهم مسيحيون - مع جيش المسلمين لتمكينهم من السيطرة على المدينة ! إن هذا يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الأرمن كانوا يرون الحكم الإسلامي للمدينة أرحم وأعدل ألف مرة من الحكم الصليبي الكاثوليكي ؛ مما جعلهم يضحون بأبناء دينهم ، ويتعاونون مع المسلمين ، ولم يكن هذا من رجلٍ دُفع له مال أو وُعِد بشيء ، إنما كان من الشعب في معظمه ، وهذا دليلٌ على صحة تقييم الحكم الإسلامي .

ولم يكن مستغربًا - طبعًا - بعد رحيل مودود أن تُقام المحاكم العسكرية الغاشمة من الصليبيين للأرمن في مدينة الرها ، وكان متوقعًا أن تصدر الأحكام التعسفية ضد الشعب ، وقتل عدد كبير منهم ، ورُحِّل آخرون إلى خارج المدينة ، وصار التعايش بين الأرمن والصليبيين صعبًا للغاية ، خاصةً أن علاقة الأرمن ببلدوين دي بورج كانت مضطربة بعد عودته من الأسر سنة (501هـ)\ 1108م ، أي منذ أربع سنوات سابقة .

وكان من الواضح أن الوضع أصبح خطرًا في داخل إمارة الرها؛ فقد أصبح بلدوين دي بورج يتشكك في كل من حوله مخافة الخيانة والتحالف مع المسلمين ، بل إن بلدوين فَقَد صوابه تمامًا وتشكَّك في جوسلين دي كورتناي، وهو يعتبر الرجل الثاني في الإمارة ، وذلك أنه رأى أن الأرمن يميلون له ويحبونه ؛ فقام بعزله وطرده من الإمارة ، مع أنه قدَّم له خدماتٍ جليلة من أيام أسر بلدوين دي بورج ومرورًا بالمعارك المختلفة مع المسلمين ، وحفظ الأمن في إمارة الرها ، وإنتهاءً بالانتصار على حملة مودود الأخيرة ، لكنَّ هذا هو الذي حدث بالفعل ، وتمَّ إقصاء جوسلين عن منصبه ، فتوجه إلى مملكة بيت المقدس حيث رحَّب به وإستقبله إستقبالاً حافلاً بلدوين الأول ، وقرَّر الإستفادة من قدراته العسكرية الهائلة فأقطعه إمارة طبرية والجليل .

إذن مع فشل حملة مودود العسكرية في سنة (505هـ)\ 1112م إلا أنها أحدثت اضطرابًا كبيرًا في داخل إمارة الرها ، أدَّى إلى قلاقل داخلية وعدم استقرار ، إضافةً إلى إبعاد الخطير جوسلين دي كورتناي عن ساحة الرها .

ومرة أخرى قبل أن نعود لقصة مودود نُعلِّق على حدث آخر محوريّ حدث في هذه السنة ، وهو وفاة تانكرد النورماني أمير أنطاكية في (506هـ)\ 12 من ديسمبر 1112م ، وكانت وفاته خسارة كبيرة للصليبيين حيث تميَّز بالدهاء والشراسة في حربه ضد المسلمين ، ويعتبر هو المؤسس الحقيقي لإمارة أنطاكية ، حيث أدار أمورها ثلاث سنوات حين أُسِر خاله بوهيموند ، ثم أدارها ثماني سنوات أخرى بعد رحيل خاله إلى إيطاليا ، وكان نشيطًا نشاطًا بالغًا ليس ضد المسلمين فقط ، ولكن كذلك ضد البيزنطيين ؛ مما أعطى إمارة أنطاكية شكلاً قويًّا مستقرًّا .

ولمَّا لم يكن لتانكرد وريث شرعي للحكم ، فإنه استخلف - وهو على فراش الموت - شيطانًا مريدًا من شياطين الصليبيين ، وهو روجر دي سالرنو وهو من القادة النورمان الأشدَّاء الذين لم يكونوا أقل دهاءً ، ولا أقل شراسةً من تانكرد نفسه ، وكان زوج أخت بلدوين دي بورج أمير الرها ، فكان في ولايته على أنطاكية توثيقٌ للروابط بين إمارتي الرها وأنطاكية .

ولقد شَرَط تانكرد على روجر دي سالرنو أن يُسلِّم الحكم لابن بوهيموند الطفل ، وهو الذي يُعرف ببوهيموند الثاني ، وكان يبلغ من العمر سنتين فقط ، ويعيش في إيطاليا ، وذلك بعد أن يبلغ هذا الطفل سنَّ الرشد ليتسلم بذلك تركة أبيه ، وقد عُرف روجر دي سالرنو أثناء فترة حكمه بروجر الأنطاكي نسبة إلى أنطاكية ، أو روجر الصقلي نسبة إلى موطنه الأصلي صقلية .

ومن الجدير بالذكر أيضًا أنه بعد وفاة تانكرد بقليل ، وفي سنة 506هـ\ أوائل 1113م تُوُفِّي أيضًا برترام بن ريمون الرابع أمير طرابلس ، تاركًا حكم إمارة طرابلس لابنه بونز Pons ؛ لينشأ بذلك الجيل الثاني من الأمراء والحكام للإمارات الصليبية في بلاد الشام .

ونعود من جديد لقصة مودود رحمه الله ؛ إستمر مودود رحمه الله في الإعداد لحملة جديدة يهاجم فيها الصليبيين منتهزًا أيَّ فرصة مناسبة للخروج ، ولم يكن مهتمًّا كثيرًا بالاتجاه إلى إمارة صليبية معينة ، بل كان غرضه هو تحرير البلاد الإسلامية كلها ، وليس مكانًا معينًا بذاته ، فكان أن أرسل إليه طغتكين أمير دمشق يستغيث به في أواخر سنة (506هـ)\ مايو 1113م ، حيث توقَّع صدامًا مرتقبًا مع بلدوين الأول ملك بيت المقدس .

والواقع أن طغتكين كان قد دخل عدة مناوشات مع ملك بيت المقدس ، وخاصةً حول مدينة صور اللبنانية ، وكانت مدينة صور هي المدينة الوحيدة في قطاع لبنان التي لم تسقط في يد الصليبيين ، ولم ينسها بلدوين الأول بل وجَّه إليها قوة عسكرية لإسقاطها ، فإستغاث أهلها بطغتكين، فتوجه إليها بقوة من جيشه ، وإستطاع الدفاع عنها ببسالة ، بل إنه قال لأهلها : "أنا ما فعلت هذا إلا لله تعالى ، لا لرغبة في حصنٍ أو مال ، ومتى دهمكم عدوٌّ جئتكم بنفسي ورجالي" .

والواقع أن مستقبل الأحداث صدَّق هذا الكلام ، حيث لم يطالب طغتكين أهل صور بدفع مال له نظير الحماية ، ولا شك أن هذا التطوع منه أغضب بلدوين جدًّا ، فكانت النتيجة أنه بدأ يهاجم الضِّياع والأملاك الواقعة جنوب دمشق ، مستخدمًا في ذلك الحامية القوية الموجودة في منطقة الجليل وطبرية بقيادة القائد المتحمِّس الجديد جوسلين دي كورتناي ، بل لم يكتفِ بلدوين الأول بذلك ، بل أخذ في مهاجمة القوافل الدمشقية المتجهة إلى القاهرة ، والتي كانت تسلك طريقًا بعيدًا في الداخل لتهرب من مملكة بيت المقدس ، إلا أنَّ بلدوين الأول كان يترصدها في وادي موسى جنوب البحر الميت ، فينهب ما بها من ثروات وبضائع ، ويعتدي على التجار فيها ؛ ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل شعر طغتكين أن هناك من التحركات الصليبية والإعدادات ما يشير إلى إحتمال هجوم كبير على جنوب دمشق أو دمشق ذاتها ؛ مما دفعه إلى الإستنجاد بالزعيم الحقيقي الموجود في المنطقة وهو مودود بن التونتكين رحمه الله .

وجد مودود رحمه الله أن هذه فرصة مناسبة مع خطورتها ، ووجهُ الخطورة أنه سيقاتل بهذه الصورة في عمق دمشق بعيدًا جدًّا عن إمارة الموصل ، حيث ستكون الموقعة غالبًا جنوب دمشق (أكثر من ألف كيلو من الموصل) ، ثم إنه سيقاتل أقوى جيوش الصليبيين ، وهو جيش مملكة بيت المقدس، إضافةً إلى احتمالية أن يُغلِق عليه الصليبيون في الرها وأنطاكية طريقَ العودة إلى الموصل مما قد يوقعه في خطر شديد ، ومع ذلك فقد قَبِل مودود أن يلبي نداء طغتكين دون تردد، وخرج بالفعل على رأس جيشه صوب دمشق في أواخر (506هـ) مايو 1113م ، أي في نفس الشهر الذي وصلت فيه الاستغاثة من طغتكين .

وكان من الأمور المهمة التي تشغل ذهن مودود ، وهو في طريقه إلى دمشق، أنه سيمرُّ جنوب إمارة الرها أو قد يخترق بعض أملاكها، وهذا - لا شك - قد يعرِّض جيشه لهجوم صليبي، خاصةً أن العلاقات بينه وبين إمارة الرها في غاية التوتر لتكرار هجومه عليها وحصاره لها ، إلا أنَّ الله مهَّد له الطريق ببعض الأحداث التي مهدت له الطريق، وشغلت الصليبيين في داخل إمارة الرها بأنفسهم ؛ ذلك أنه قد سَرَتْ إشاعة في داخل الإمارة في أواخر (506هـ) مايو 1113م ، أي في نفس الشهر الذي خرج فيه مودود من الموصل، أنَّ الأرمن يُراسِلون من جديدٍ المسلمين للخلاص من الصليبيين ، وسواء كانت هذه الإشاعة صحيحة أم باطلة فإنَّ ردَّ فعل بلدوين دي بورج كان عنيفًا للغاية ؛ إذ أمر جنوده أن يقوموا بحملة تطهير عرقي بشعة في داخل المدينة لكل الأرمن بلا إستثناء ، ومن ثَمَّ إنطلق الجنود الصليبيون على تجمعات الأرمن العُزَّل يقتلون ويذبحون ، ثم فتحوا أبواب المدينة ليهرب منهم من يريد إلى خارج المدينة التي عاشوا فيها عمرهم ، وفيها كل ممتلكاتهم وأموالهم ، فمنهم من خرج لا يلوي على شيء، ومنهم من بقي في داره ، فكان من يبقى يدخل عليه الجنود الصليبيون فينهبون داره ، ثم يحرقونها بسكانها من الأرمن! وكان من أبشع أيام هذه المجزرة - كما يروي المؤرخ الأرمني متَّى الرهاوي - يوم 13 من مايو 1113م، حيث انتشرت المذابح بالجملة، وكان أسود يوم في تاريخ الأرمن مطلقًا، حتى كان الأب - كما يصور متَّى الرهاوي - لا يعرف أبناءه، ولا الأبناء يعرفون آباءهم ، بل كان كل واحد ليس له من همٍّ إلا الهرب، وإنتهى الأمر بقتل أو طرد كل الأرمن من المدينة بلا استثناء ! ولا شك أن هذا الموقف جعل الأوضاع الأمنية والاقتصادية في إمارة الرها في غاية الاضطراب ، مما جعل بلدوين دي بورج لا يفكر مطلقًا في مهاجمة جيش مودود ، ولا التجرُّؤ على قطع طريق عودته ، فكان هذا تدبير ربِّ العالمين للمجاهد المؤمن مودود بن التونتكين !

ومع كل ما حدث من خيانات سابقة من الأمراء المسلمين الذين صحبوا مودود في معاركه مع الصليبيين ، فإنَّ مودود دعا إلى التجمُّع من جديد لحرب الصليبيين مرسِّخًا بذلك مبدأ الوحدة والتجمع حول راية واحدة، وقد إستجاب له في هذا النداء قميرك أمير إمارة سِنْجَار ، وهي من إمارات ديار بكر في شمال العراق ، وكذلك إياز بن إيلغازي أمير ماردين، إضافةً - طبعًا - إلى طغتكين أمير دمشق الذي وجَّه الدعوة إلى مودود .

تجمعت الجيوش السلجوقية عند مدينة سَلَمْيَة ، وهي إلى الجنوب الشرقي من حماة ، ثم اتجهت مباشرةً إلى مدينة طبرية الحصينة ، وهي تطل على بحيرة طبرية المعروفة في فلسطين ، وهناك إلتقى جيش مودود مع جيش طغتكين ، وبدآ حصارًا سريعًا لمدينة طبرية إلا أنها إستعصت عليهم ، فتركها الجيش الإسلامي وأخذ في غزو المناطق المحيطة مستوليًا على قدر كبير من الغنائم والممتلكات الصليبية حتى وصلوا إلى جبل الطور .

ووصلت الأخبار سريعًا إلى بلدوين الأول ملك بيت المقدس ، فأرسل رسالة استغاثة عاجلة لكل الإمارات الصليبية ، فردَّ عليه بالإيجاب أمير أنطاكية الجديد روجر الأنطاكي ، وكذلك أمير طرابلس الجديد بونز بن برترام ، وتحركا بجيوشهما فعلاً في اتجاه طبرية ، أما بلدوين دي بورج فقد إعتذر للظروف التي تمر بها إمارته كما وضحنا .

ومع كون بلدوين الأول قد أرسل طلبًا للمعونة إلا أنه لم يستطع أن ينتظر الجيوش الصليبية القادمة من الشمال ؛ لأنه خشي أن تتوغل الجيوش الإسلامية في مملكته ، مما قد يهدِّد مدينة القدس ذاتها ، خاصةً أن مدينة عسقلان لم تزل في يد العبيديين ، وقد تحصر القدس بين الجيوش السلجوقية والجيوش العبيدية ؛ ولذلك خرج بلدوين الأول بسرعة شمالاً في اتجاه طبرية .

عَلِم مودود بتحرك الجيش الصليبي من الجنوب فأسرع باختيار مكان مناسب للقتال ، وإختار شبه الجزيرة المعروفة بالأقحوانة ، والموجودة بين نهر الأردن ونهر اليرموك جنوب بحيرة طبرية، ولم يكتفِ بذلك ، بل نصب كمينًا خطيرًا لبلدوين الأول عند جسر الصنبرة على نهر الأردن جنوب غرب بحيرة طبرية .

وفي يوم 13 من محرم 507هـ\ 20 من يونيو 1113م , شاء الله أن يدخل بلدوين الأول في الكمين الذي نصبه مودود له عند جسر الصنبرة ، بل إنه في رعونة بالغة - لا تُفسَّر إلا بأن الله أعمى بصره - لم يترك حامية صليبية تحمي ظهره ، وكأنه نسي كل القواعد العسكرية التي تعلمها طوال حياته !

دارت موقعة شرسة عند جسر الصنبرة - وهي ما عرفت في التاريخ بموقعة الصنبرة وكان للمفاجأة عاملٌ كبير في تحويل دَفَّة المعركة لصالح المسلمين، وما هي إلا ساعات حتى سُحِق الجيش الصليبي ، وقتل ما يزيد على ألفي فارس ، وهرب بلدوين الأول بمشقة بالغة بعد أن دمرت فرقة من أهمِّ فرق جيشه ! وغنم المسلمون غنائم هائلة في هذه المعركة من الخيول والسلاح والممتلكات ، وكان يومًا ردَّ فيه مودود رحمه الله الاعتبارَ من هزيمة السنة الماضية عند حصون الرها ، ومما هو جدير بالذكر أن هذه المعركة شهدت بزوغًا رائعًا لنجم إسلامي جديد كان في جيش مودود ، وهو القائد العسكري الفذُّ عماد الدين زنكي ، الذي أبلى بلاءً حسنًا في هذه الموقعة حتى وصف ذلك ابن الأثير بقوله : "وقد وصل في المهارة العسكرية إلى الغاية !" .

ثم ما لبثت الأخبار أن أتت بقرب وصول جيش روجر وبونز ، مع إحتمال وصول إمدادات جديدة من بيت المقدس والمدن الساحلية ؛ مما جعل مودود يفكر في سحب جيوشه بسرعة قبل أن تُحصر في طبرية .

خرج مودود فعلاً من منطقة المعركة ليتجنب الوقوع في كمائن الصليبيين ، ثم ما لبثت الجيوش الصليبية أن تجمعت من جديد ، لكنها لاحظت قوة الجيش الإسلامي وارتفاع معنوياته فقرَّرت عدم الدخول في مواجهة فاصلة ؛ ولذلك إحتمت بأحد المرتفعات غربي بحيرة طبرية ، وتوجه إليهم المسلمون وحاصروهم ، لكنَّ الصليبيين رفضوا النزول من أماكنهم ، وإكتفوا برمي المسلمين بالسهام والرماح من بُعد .

في هذه الأثناء كانت الجيوش الإسلامية - إضافةً إلى حصار الصليبيين في أماكنهم - تجوب المنطقة لتدمير الحصون الصليبية فيما بين عكا والقدس ، كما حصلوا على كثيرٍ من الممتلكات الصليبية .

ثم إنه في هذه الأثناء أيضًا تحرك جيش عبيديّ من عسقلان صوب بيت المقدس ، وكان جيشًا صغيرًا لم يفكر إلا في إحداث بعض الهجمات الاستنزافية في المنطقة ، ولم تكن له القدرة على قتال الحامية الصليبية القوية في بيت المقدس ، ومع ذلك فقد أرعب هذا الجيش بلدوين الأول الذي خشي من تواصل هذا الجيش مع الجيش السلجوقي ، ومن ثَمَّ يتأزم الموقف أكثر، إلا أنه - للأسف - لم تكن نية التعاون مع المسلمين السُّنَّة واردة مطلقًا عند الجيش العبيديّ ؛ لذلك ما لبث أن عاد إلى عسقلان محمَّلاً ببعض الغنائم دون التواصل مطلقًا مع جيش مودود !
استمر حصار المسلمين لجيش الصليبيين مدة ستة وعشرين يومًا كاملة دون أن يجرُؤَ الصليبيون على الخروج لمواجهة شاملة ، إلا أنه في (507هـ) أغسطس 1113م وصل أسطول أوربِّي يحمل ستة عشر ألف حاج صليبي مسلح إلى ميناء عكا القريب ، ولا شك أن هذا العدد الضخم قَلَب الموازين لصالح الصليبيين .

شعر مودود رحمه الله بالخطر نتيجة تجمع هذه الأعداد الكبيرة من الصليبيين ؛ ولذلك فكَّر في الانسحاب من طريقه مكتفيًا بالنصر الذي حققه ، ومحافظًا على جيشه الذي لم يفقد في هذه المعارك إلا القليل جدًّا من رجاله، وبالفعل تحركت الجيوش الإسلامية صوب الشمال في إتجاه دمشق ، ولم تفكر الجيوش الصليبية في متابعتها لإرهاقها الشديد ، وهزيمتها النفسية نتيجة الخسائر الكبيرة ، فضلاً عن خوفهم من هجوم عبيديّ أكبر على مدينة القدس .

وهكذا رضي الطرفان بهذه النتيجة ، وإتجهت الجيوش الإسلامية إلى دمشق حيث دخلتها في ربيع الآخر (507هـ) سبتمبر 1113م .

ولا بد لنا من وقفة سريعة مع موقعة الصنبرة التي كان لها الكثير من الآثار الجليلة في قصتنا :

أولاً : أعادت هذه الموقعة الثقة للجيش الإسلامي وللمسلمين بصفة عامة ، خاصةً بعد النتائج السلبية للحملات السابقة، وهي بذلك تعتبر من معارك ردِّ الاعتبار ؛ ولذا فقد رَفَعت الروحَ المعنوية جدًّا للمسلمين ، بينما أحبطت الصليبيين ، وخاصةً أنهم لم يجرءوا على المواجهة برغم اجتماع جيوشهم .

ثانيًا : خسر الصليبيون في هذه المعركة أكثر من ألفي فارس ، إضافةً إلى الغنائم والأسلاب ، فضلاً عن خسارة عددٍ كبير من القلاع والحصون التي دُمِّرت في منطقة طبرية ، بل وجنوبًا حتى مدينة القدس .

ثالثًا : ترسَّخ لدى المسلمين بعد هذه الموقعة مبدأ الهجوم على القوات الصليبية بدلاً من الدفاع ، وهذا - لا شك - مبدأ عسكريّ إستراتيجي مهم ، ويحتاج إلى روح قتالية عالية ، وثقة بالنفس ، وهو ما تحقق في هذه الموقعة .

رابعًا : وضحت أهمية الوحدة في الجيش الإسلامي ، حيث تمت الموقعة باتحاد الموصل مع دمشق في الأساس ، إضافةً إلى المساعدات الرمزية التي قدمها قميرك أمير سنجار ، وإياز بن إيلغازي أمير ماردين .

خامسًا : ولعل من أهم ثمرات موقعة الصنبرة هو علو نجم البطل الإسلامي العظيم عماد الدين زنكي بن آق سنقر الحاجب ، وقد أظهر في هذه المعركة من فنون القتال وبسالة الهجوم ما لفت إليه أنظار الجميع ، وطارت أخباره في الآفاق ، مما سيؤثر مستقبلاً في مسيرة الجهاد بصفة عامة ، ولا شك أننا سيكون لنا وقفات مع هذا المجاهد الفذِّ ، نستعرض فيها قصته بشيء من التفصيل .

دخل مودود بن التونتكين رحمه الله مدينة دمشق في 507هـ\ سبتمبر 1113م ، عازمًا أن يبقى فيها فصل الشتاء ؛ ليستغل هذه الفترة في تجميع جيوش جديدة والاستعداد لمواجهة جديدة مع الصليبيين .

هذا ما كان يريده ، لكنَّ أعداء الأمة ما كانوا يريدون ذلك ، بل أضمروا صورة مقيتة من الغدر قلَّ أن نجدها في صفحات التاريخ !!

وما يحزن القلب حقًّا أن أعداء الأمة الذين نعنيهم في هذا الموقف ليسوا من الصليبيين، لكنهم كانوا من أبناء الإسلام!! أو من الذين يدعون ظاهريًّا أنهم من أبناء الإسلام!!
لقد دخل مودود رحمه الله إلى مسجد دمشق الكبير لأداء الجمعة الأخيرة في شهر ربيع الآخر سنة (507هـ) تشرين الأول 1113م، وفور انتهاء الصلاة ، وبينما هو يتجول في صحن المسجد واضعًا يده في يد طغتكين ، قفز عليه رجل من الباطنية ، وطعنه بخنجر ؛ فلقي مصرعه على الفور ، ليختم بذلك حياة حافلة بالجهاد والبذل والعطاء ، ونحسبه شهيدًا ، ولا نزكيه على الله ، والله حسيبه !

وبادر طغتكين فورًا بقتل الباطنيّ قصاصًا ، بل وأحرق جثته ، وأسدل الستار على أبشع جريمة ارتكبها الباطنية منذ حادث إغتيال نظام الملك الوزير السلجوقيّ العظيم .

ولكن لا بد من التساؤل : مَن وراء هذه الجريمة البشعة ؟ ومن المستفيد من قتل عَلَمٍ من أعلام المسلمين كانت الآمال معقودة عليه ليحرِّر البلاد المسلمة من دنس الصليبيين ؟

لقد روَّج رضوان زعيم حلب أن طغتكين أمير دمشق هو الذي حرَّض على قتل مودود رحمه الله ، وإلتقط هذا الترويج المؤرخون الأقدمون مثل ابن الأثير وابن القلانسيّ وأثبتوه في كتبهم ، ولكنهم ذكروه بصيغة الشك والتضعيف، حيث قالوا : "فقيل إن الباطنية بالشام خافوه فقتلوه، وقيل بل خافه طغتكين فوضع عليه من قتله " .

ثم تلقف المؤرخون المعاصرون من المسلمين والنصارى هذا الاتهام وأثبتوه ، وكان من الأسباب التي دعتهم إلى هذا الاعتقاد سرعة قتل الباطني وإحراق جثته ، وقالوا : إن هذا نوع من إخفاء الأدلة ، والتخلص من سرِّ الجريمة .

وأنا في اعتقادي أن المحرِّض على الجريمة لم يكن طغتكين؛ فالذين يعتقدون أنه طغتكين يرون أن أمير دمشق عندما رأى قوة مودود وجيشه خاف أن يكون كل غرضه من حرب الصليبيين هو امتلاك دمشق والشام ؛ ولذلك تخلص منه قبل أن يضيع ملكه !

وهذا الكلام مردود من أكثر من وجه :

أولاً : لم تظهر من مودود رحمه الله أيُّ نوايا غدر بطغتكين أو غيره ، بل كان في غاية التسامح حتى مع مَن خانوه في أرض المعركة ، وكان لا يريد أن يشغل نفسه بمعارك جانبيَّة مع المسلمين، وخَبُر ذلك طغتكين بنفسه - وهو سياسي محنك - وذلك على مدار ثلاث سنوات كاملة من جهاد مودود ضد الصليبيين .

ثانيًا : أعاد مودود رحمه الله جيشه إلى الموصل بعد انتهاء موقعة الصنبرة ، ولم يدخل دمشق إلا في وفد صغير من خاصَّته ، ولو كان ينوي الغدر لأبقى جيشه معه، وهذا - لا شك - طمأن طغتكين .

ثالثًا : أثبت ابن الأثير نفسه في كتاب الكامل قبل الحديث عن موقعة الصنبرة أن هناك علاقة "مودة وصداقة" نشأت بين طغتكين ومودود .

رابعًا : ليس من المعقول أن يتخلص طغتكين من مودود ، وهو يعلم أنه القوة الوحيدة التي يستطيع أن يحتمي بها إذا دهمه الصليبيون ، ولا شك أن طغتكين كان يتوقع انتقامًا من الصليبيين بعد موقعة الصنبرة ، فليس من المعقول أبدًا أن يختار هذا التوقيت فيشجع الصليبيين على سرعة الانتقام .

خامسًا : شاهدنا من طغتكين مواقف جهادية ضد الصليبيين أكثر من مرة ، واطَّلعنا منه على بعض المواقف الإيمانية، مما يوحي أنه ليس رجلاً غادرًا إلى الدرجة التي يُقدِم معها على قتل أمل المسلمين وإغتيال الرجل الصالح مودود ، وهذا لا يعني أن طغتكين ليست له أخطاء ، بل إرتكب وسيرتكب أخطاء قد تكون كبيرة إلا أنَّ جريمة بشعة مثل اغتيال مودود لا بد أن تستند إلى دليلٍ قوي ، إن كان المتهم فيها هو طغتكين .

سادسًا : ليس بالضرورة أن تكون سرعة التخلص من القاتل دليلاً على أن طغتكين هو الآمر بالقتل ؛ فإن طغتكين فعل ذلك لكي لا يُتهم بالتواطؤ مع القاتل ، والرضا بفعله ، ونحن نرى في مثل هذه الحوادث أنه يتم القبض على القاتل ثم يُسهَّل له الهرب بعد أن يقبض الثمن ، وليس من المقبول أيضًا أن طغتكين غدر بالقاتل لأنه من الباطنية ، وقد مرَّ بنا أن طغتكين كان يخاف من الباطنية، فليس متوقعًا أنه يغدر بهم مخافة أن يُقتل هو شخصيًّا.
سابعًا: إن لم يكن هناك دليل قوي على أن طغتكين هو الذي قتل مودود، ألا يجب أن نسأل مَن أكثر المستفيدين من قتل مودود ، ثم نُوزِّع الاتهامات على المشتبه فيهم بدلاً من إلقائها بالكلية على طغتكين ؟!

الواقع أن المستفيدين من قتل مودود كُثُر ؛ هناك في مقدمة هؤلاء المستفيدين رضوان ملك حلب، الذي قد يكون أسرع باتهام طغتكين لينفي التهمة عن نفسه، ورضوان يكره مودود كراهية كبيرة جدًّا، ويخافه أيضًا خوفًا شديدًا جدًّا، ولا ينسى رضوان أنه أغلق أبواب مدينته في وجه مودود وجيشه سنة 505هـ، أي قبل سنتين فقط ، ووضع بذلك مودود وجيشه في مأزق خطير، بل إن رضوان تحالف ساعتها مع تانكرد أمير أنطاكية ضد مودود ! وأكثر من ذلك فإنَّ رضوان رأى من شعبه مظاهراتٍ تطالب بفتح الأبواب لمودود، فلا يستبعد أن يطالب الشعب الآن بضم حلب تحت إمرة مودود، وخاصةً بعد الانتصار المهيب الذي تحقق في معركة الصنبرة، والذي - لا شك - رفع أسهم مودود عند أهل حلب والمسلمين بصفة عامة ، ثم إنَّ حلب هي الإمارة الملاصقة للموصل، وكثيرًا ما رأينا أن الذي يحكم الموصل يحكم حلب أيضًا؛ ولذا فتوسُّع مودود فيها يُعتبر توسعًا طبيعيًّا، إضافةً إلى أن علاقة رضوان بالباطنية قوية، بل إنه صار من دُعاتها والمؤيدين لها، وذلك على خلاف طبيعة شعبه ومعتقداته ؛ كل هذه الأدلة تشير إلى أن رضوان هو المستفيد الأكبر من قتل مودود ، فإذا زدنا على ذلك أن رضوان يبغض طغتكين جدًّا ، ويخشى من توسُّعه على حسابه في إمارة حلب، بل كان يبغض أخاه دقاق زعيم دمشق السابق، وكان يقاتله في أحيانٍ كثيرة طمعًا في زيادة ملكه ، وكذلك هناك في تاريخ رضوان جريمة اغتيال مشابهة عندما أوعزإلى الباطنية أن يقتلوا جناح الدولة حسين بن ملاعب أمير حمص بعد أن خاف على ملكه، مع أنَّ جناح الدولة كان متزوجًا من أمِّ رضوان شخصيًّا، لكنَّ هذه العلاقات لم يكن رضوان يضع لها أيَّ اعتبار ، ومن ثَمَّ فيتوقع منه أن يُقدِم على أيّ جريمة في سبيل تثبيت أقدامه في الحكم؛ إذا وضعنا هذه النقاط إلى جوار بعضها البعض فإنني أرجح أن يكون رضوان هو الذي دفع لهذه الجريمة الشَّنعاء .

ومع ذلك فليس رضوان هو المستفيد الوحيد من قتل مودود، فهناك أيضًا الباطنية أنفسهم، ودون تحريض من أحد، وقد كانوا قوةً لا يُستهان بها في الشام حتى كان يخافهم أكبر زعماء الشام : رضوان وطغتكين ، ولا شك أن ظهور شخصية مستقيمة مجاهدة سُنِّية كمودود ، قد يُغلِق على الباطنية أبواب الفساد، ويمنعهم من حياة المجون والجريمة، وقد اشتهروا بحوادث الاغتيال المأجورة، ولا يستبعد أنهم قاموا بالجريمة من جَرَّاء أنفسهم .

كما أن من المستفيدين أيضًا الصليبيين ، وليس من المستبعد أن يتعاون الصليبيون مع زعماء الباطنية ، ويغرونهم بالمال أو بالسلاح أو بالقلاع في نظير التخلص من هذا القائد الفذِّ الذي أوشك على قلب أوضاع الصليبيين تمامًا في أرض الشام ؛ وليس من المستبعد أيضًا أن تكون الجريمة قد تمت بالاتفاق بين الأطراف الثلاثة : رضوان والباطنية والصليبيين ، أو باتفاق طرفين منهم ، وكلهم عندي أقرب إلى هذه الجريمة من طغتكين أمير دمشق .

ولعلَّ سائلاً يسأل : كيف يُقدِم باطنيٌّ على هذه الجريمة وهو يعلم أنه سيُقتل لا محالة؟ وأيُّ معتقدٍ هذا الذي يدفع إلى هذه العمليات الانتحارية مع كون الباطنية منحرفي الفكر ، مذبذبي العقيدة ، بل هم خارجون بلا جدالٍ عن ملة الإسلام ؟

إن طائفة الباطنية الإسماعيلية كانت قد انقسمت إلى فرقتين - كما مرَّ بنا في مقدمات هذا الكتاب - هما المستعلية والنزارية، وهما أولاد الخليفة العبيديّ المستنصر بالله ، وذلك بعد موت المستنصر في سنة (487هـ) ، وتنازع الولدان الحكم، ولكن وزير مصر آنذاك وهو بدر الجماليّ وضع المستعلي - وهو الأصغر - في الحكم ، وكان هناك أحد الوزراء الكبار في مصر وهو الحسن بن الصباح، وكان مؤيِّدًا لإمامة نزار ؛ ولذلك فبعد تولية المستعلي انسحب الحسن بن الصباح من مصر إلى الشام آخذًا معه نزار، ومؤسِّسًا فرقة شنيعة من فرق الشيعة اسمها النزارية الإسماعيلية، وهي التي عُرفت في التاريخ باسم الباطنية؛ لأنهم كانوا يدَّعون أن كل آية في القرآن لها معنًى ظاهري يفهمه عوام الناس، ومعنى باطني لا يفهمه إلا هم، وعليه فقد فسروا القرآن على هواهم ، ومن ثَمَّ خرجوا بتفسيراتهم ومعتقداتهم من الإسلام تمامًا ؛ ثم إن الحسن بن الصباح - الذي تولى الزعامة الحقيقية في هذه الفرقة الضالة - كان يُسقِي أتباعه الحشيش (وهو النبات المخدِّر المعروف) فيخرج التابع عن الوعي، ومن هنا يبدأ في الطاعة المطلقة للشيخ، وهو الحسن بن الصباح .

ثم إنَّ الحسن فعل ما هو أشد من ذلك، إذ أنشأ لهم حدائق واسعة سمَّاها الجنةَ ، وأتى فيها بكل أنواع الثمار، وغرس فيها الأشجار، بل وأجرى فيها عدة أنهار صناعية صغيرة، وملأها كذلك بالفتيات رائعات الجمال ، ثم كان يُعطِي الحشيش لأصحابه حتى يغيَّبوا تمامًا عن الإدراك، فيأتي بهم إلى هذه الجنة ، وينتظر أن يصبحوا بين المنام واليقظة، فيأتي لهم بألوان الطعام والشراب ، ويرتكب الأتباع الفواحش مع النساء، ثم يُعطى الحشيش حتى يغيب عن الوعي ثانية، ويُخرج من هذه الجنة، وعند يقظته يُقال له : لكي تعود لا بد من طاعة الشيخ (الحسن بن الصباح) ؛ وهكذا يتكرر معه الأمر، حتى يصبح مدمنًا للحشيش، ويصبح أيضًا مدمنًا للجنة وملذاتها، ثم يطلب منه في يوم من الأيام أن يقوم بعملية اغتيال انتحارية على أن ينتقل بعدها للإقامة الدائمة في الجنة !!

ولا شك أن الباطنية كانوا يختارون أتباعهم من بسطاء الفكر والدين، ومن الفقراء المقهورين ، ومن الأعراب الجاهلين، فيصبحون بذلك طوع إرادة قادتهم يفعلون بهم ما يشاءون .
وكانت الباطنية بصفة عامة يحترفون القتل بكل فنونه، ويجيدون تدبير المؤامرات، وحوادث الاغتيال، وكانوا عصابات مسلحة يصعب السيطرة عليهم، ومن ثَمَّ كان اسمهم يوقع الرهبة في قلوب عموم الناس، حُكَّامًا كانوا أو محكومين !

ولكونهم كانوا يدمنون الحشيش فإنهم عُرفوا في التاريخ بالحشَّاشين، وجرائمهم في تاريخ الأمة لا تحصى، نجحوا في كثير منها، وأخفقوا في أخرى، لكنهم كانوا دومًا مصدر رعب وهلع، ووسيلة عرقلة مستمرة لمسيرة الصالحين!
لذا لم يكن يستغرب أبدًا بعد هذا العرض أن يُقدِم باطنيٌّ على عملية انتحارية لقتل رجل من الرجال بتحفيز زعيمهم؛ لكي يدخل الجنة المزعومة ، أو على الأقل ليحصل على الحشيش الذي تعوَّد إدمانه !!

وفي النهاية ، فإن الحقيقة الكاملة في هذه الجريمة الشنيعة لا يعلمها إلا الله ، والمهم في القضية أن الأمة فَقَدت زعيمًا عظيمًا من زعمائها، حمل راية الجهاد ضد الصليبيين في وقتٍ تقاعس الجميع عن حمل هذه الراية الشريفة، ولا شك أن الأيام التي أعقبت إستشهاده كانت صعبة على المسلمين ، غير أني - وقبل الدخول في تحليل الوضع بعد استشهاد مودود - أودُّ أن أقف على حدثين عجيبين ، ووجه العجب ليس في حدوثهما ، ولكن في (توقيت) هذا الحدوث !

أما الحدث الأول فهو ظهور نجم عماد الدين زنكي في موقعة الصنبرة ، وقبل استشهاد مودود بثلاثة أشهر فقط ! والتوقيت عجيب جدًّا ، فلماذا لم يظهر منذ فترة طويلة؟ ولماذا لم يظهر بعد وفاة مودود بفترة طويلة أخرى؟ نعم إن هذا بتدبير الله وقدره ، ولكننا نبحث عن الحكمة في ذلك، وعن الإشارات المهمة في هذا التدبير المحكم .

إن هذا الظهور في هذا التوقيت لهو إشارة واضحة من الله عزوجل أن هذه الأمة لن تموت، فإذا فقدنا زعيمًا ظهر آخر، وإن إستشهد مجاهد قام غيره ، وهكذا إلى أن يرث الله الأرض وما عليها ، وهذا - لا شك - يحفظ الأمل في قلوب المسلمين ، وراجعوا التاريخ ، فلن تجدوا استشهاد أمل من آمال الأمة إلا متبوعًا بظهور أمل جديد ، وهذا من أخصِّ خصائص هذه الأمة الفريدة !

أما الحدث العجيب الثاني فهو موت رضوان ملك حلب بعد إستشهاد مودود بثلاثة أشهر فقط ، في شهر جمادى الآخرة سنة (507هـ) ديسمبر 1113م !!

وعجيب جدًّا أن يموت في نفس الفترة التي مات فيها مودود، سواء كان رضوان مُدبِّرًا لحادث اغتيال مودود أو كان بريئًا منه؛ لأن سيرة رضوان القبيحة كانت معروفة ، وليست جريمة إغتيال مودود هي الجريمة الوحيدة من جرائمه ، أو الكبيرة الوحيدة من كبائره !! لقد كانت الإشارة واضحة جدًّا أن الإنسان لا يؤجِّل ميعاد موته ولا يقدِّمه، فالكل يموت ؛ الصالح يموت والطالح يموت ، المخلص يموت والمنافق يموت ، المجاهد المقبل الطالب للشهادة يموت ، والمتثاقل المدبر الهارب من الموت يموت (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) ، ولكن الإنسان هو الذي يختار طريقة موته ! إما أن تموت رافعًا رأسك طائعًا لربك مصحوبًا بدعوات الصالحين ، وإما أن تموت ذليلاً مهينًا عاصيًا لله عزوجل مصحوبًا بلعنات المؤمنين ، والعبد في النهاية هو الذي يختار !! وأسأل الله أن يفقهنا في سننه !

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 04-03-14, 04:41 AM

  رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

وقفة وتحليل بعد إستشهاد مودود

لا شك أن حادث مقتل مودود كان من اللحظات الفارقة التي أدت إلى كثير من التغييرات على الساحة السياسية والعسكرية ، كما أدى إلى تغيير في أيدلوجيات كثير من القادة والدول، وهكذا دومًا يكون موت الشخصيات المؤثرة ، وخاصةً إن كانت هذه الشخصية في عظمة وقيمة مودود رحمه الله ، ويا لَحسرة الأجيال التي لا تعاصر شخصية من هذا الطراز ، فإنه يمر عليها سنوات وسنوات دون أن تشعر بقيمة الزمن ، ولعلنا في هذه الوقفة نتحدث عن خمس أو ست سنوات كاملة ، بينما كنا أيام مودود نتحدث عن الشهور وليس السنوات لأهمية الأحداث التي نراها في زمان المجاهدين ، وسيأتي علينا زمانٌ نتحدث فيه عن الأيام والساعات عندما نتكلم عن نور الدين محمود أو صلاح الدين الأيوبيّ ، وهكذا تؤثر الشخصيات القوية على كل مجريات الأمور في زمانها .

وهذه بعض النقاط والوقفات التي تهمنا في السنوات التي تلت مقتل مودود رحمه الله :

الوقفة الأولى : مع حركة الجهاد في العالم الإسلامي بصفة عامة


للأسف الشديد فإن الأمة في هذه المرحلة لم تبلغ درجة من النضج تسمح بإستمرار الجهاد بنفس الدرجة عند غياب الشخصية القائدة المجاهدة ، والأصل أن الأمة الناضجة لا تعتمد على شخص أو شخصين ، ولكن تكون الطاقات البديلة فيها متوافرة ، ومن ثَمَّ فهي تسير قدمًا دومًا برغم العقبات والأزمات ، ولهذا فإن مقتل مودود عطَّل حركة الجهاد الحقيقية ست سنوات كاملة ، بل لعله أكثر من ذلك ، وليس معنى هذا أنه لم تحدث حروب في هذه الفترة بين المسلمين والصليبيين ، ولكنها لم تكن حروبًا كحروب مودود ، إنما كانت نوعًا من أداء الواجب دون روح ، أو نوعًا من طاعة الأوامر العليا بالجهاد ، أو نوعًا من ذَرِّ الرماد في العيون ، أو حتى نوعًا من العادة التي تحتم أن يقاوم الشعبُ المنكوب عدوَّه الذي إحتل بلاده ، وأحيانًا كانت بروح جهادية، ولكنها تفتقر إلى الكفاءة التي تنجحها، ولهذا فإننا سنرى بعض الحملات في هذه السنوات الست ، وإلى سنة (513هـ)\1119م ، ولكنها - للأسف - ستكون حملات بلا روح حقيقية، ولعل أفضل توصيف لها أنها كانت مجرد زوابع في فنجان !

الوقفة الثانية : مع إمارة الموصل

كان شعب الموصل - كما ذكرنا - محبًّا للجهاد مقدِّرًا للعلم والعلماء ؛ ولذلك كان من الطبيعي أن يولَّى أمره رجلٌ من أهل الصلاح ، حتى يكون هناك نوع من التناسق والتناغم بين الحاكم والمحكوم ، وهذا وإن كان اختيار السلطان محمد إلا أنه سُنَّة من السنن ، ذكرها رسول الله حين قال : "كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ" .

وقد وَلِي على الموصل بعد مقتل مودود أحد الأتراك الأخيار وهو آق سنقر البرسقي ، وكان هذا الرجل كما يصفه ابن الأثير : "كان خيِّرًا يحب أهل العلم ، والصالحين ، ويرى العدل ويفعله ، وكان من خير الولاة ، يحافظ على الصلوات في أوقاتها ، ويصلي من الليل متهجدًا" .

ومع القوة الإيمانية والأخلاقية العالية لآق سنقر البرسقي رحمه الله إلا أن كفاءته السياسية والعسكرية لم يكونا على نفس القدر والمستوى ؛ فضعف كفاءته السياسية أدخله في حروب جانبية مع الإمارات الإسلامية المجاورة ، وخاصةً إمارة ماردين مما أدخله في صراع ليس له معنى في هذا التوقيت مع إيلغازي بن أرتق حاكم الإمارة ، وبذلك خسر آق سنقر البرسقي الأراتقة جميعًا ، وهم منتشرون في شمال العراق وديار بكر ، وهذا - لا شك - أضعف موقفه ، وشتَّت جهده .

كما أن ضعفه العسكري أدى إلى فشله في تحقيق نصر يذكر على الصليبيين الذين واجههم في إمارة الرها في الحملة التي خرج على رأسها في ذي الحجة (508هـ) مايو 1115م ، إضافةً إلى أنه بعد فشل حملته مع الصليبيين ، وفي أثناء عودته دخل في صدام مع الأراتقة بسبب عدم تعاونهم معه في الحملة، وتعرض في هذا الصدام لهزيمة كبيرة تفتَّت فيها جيشه الكبير المكوَّن من خمسة عشر ألف فارس ، وهذا دفع السلطان محمد إلى عزله عن الموصل في سنة (509هـ)\ 1115م ، وإعطاء الولاية لجيوش بك .


وفي نفس السنة التي عُزل فيها آق سنقر البرسقي أَوْكَلَ السلطان محمد السلجوقي لبرسق بن برسق أمير همذان قيادة جيش كبير يهدف إلى حرب الصليبيين ، إضافةً إلى إخضاع الإمارات الإسلامية المنشقَّة عن السلطان محمد ، وكذلك الإمارات الشامية التي أصبحت تدار بأفراد خارج الدولة السلجوقية ، مثل دمشق التي تدار بطغتكين ، وحلب التي تدار ببدر الدين لؤلؤ ؛ وفي هذه الحملة خرج أمير الموصل الجديد جيوش بك تحت زعامة الأمير العام للحملة برسق بن برسق .

ودون الدخول في تفصيلات كثيرة مؤلمة فإنَّ هذه الحملة إنتهت بمواجهة سافرة عجيبة بين الجيش السلجوقي من ناحية ، وجيوش الصليبيين المتحدة مع جيوش الإمارات الإسلامية في ديار بكر ، وأيضًا حلب ودمشق من ناحية أخرى !!

لقد رأى هؤلاء الأمراء أن خطر السلاجقة عليهم أكبر من خطر الصليبيين ، فعرضوا التحالف مع روجر الأنطاكي والصليبيين ضد الجيش السلجوقي المسلم ! وهكذا وقف المسلمون وفوق رءوسهم الصُّلبان ، يقاتلون مع أعدائهم تحت راية واحدة !!

إنه ضعف الرؤية، أو قُلْ انعدامها ! فليس هناك من مبرر - مهما كانت الظروف - لنرى مثل هذا المفارقات التي يستعجب منها كل السامعين ، سواء كانوا من المسلمين أو غير المسلمين !

وللأسف الشديد انتهت الموقعة - التي عرفت في التاريخ باسم موقعة دانيث ، وهو المكان الذي وقعت فيه - بهزيمة برسق بن برسق وجيشه المسلم السلجوقي ، وغنم المعسكر الصليبي المسلم ما لا يُقدَّر من الغنائم والسلاح .

ومن الجدير بالذكر أن روجر الأنطاكي استأثر بالغنائم لنفسه وجيشه ، ولقد كانت المفاجأة لأهل أنطاكية أكثر من سارَّة ، حيث عاد روجر بثروات طائلة ، كما عاد بأخبار تفكُّك الصفّ الإسلامي وتشتُّته .. وإستمر جيوش بك في حكم الموصل ، ولم تكن له محاولات تذكر لإعادة الكَرَّة ضد الصليبيين .

وهكذا أُحْبِط أهل الموصل نتيجة وجود هذه الأمراض القاتلة التي دعت الأمة في وقت من الأوقات أن تقاتل أخاها، وتصافح ألدَّ أعدائها ! , كان هذا هو حال الموصل بعد مقتل مودود رحمه الله ..

الوقفة الثالثة : مع عماد الدين زنكي


بَهَر هذا الفتى القدير الأنظار في المعارك التي إشترك فيها ، وأدرك الجميع قدراته العسكرية الفذة ، كما أدركوا أيضًا عمق ولائه للسلاطين السلاجقة ، وعدم تردده في سماع الأوامر وتنفيذها ، فأوكلت إليه في الحروب المهامُّ الجسام ، وعلى الرغم من عدم تحقق النصر في المواقع الحربية في تلك الفترة ، إلا أنَّ الجميع كان منشغلاً بذكر هذا القادم الجديد: عماد الدين زنكي .

الوقفة الرابعة : مع طغتكين أمير دمشق


بعد مقتل مودود رحمه الله روَّج رضوان - كما ذكرنا - لإشاعة أن طغتكين هو الذي قتله ؛ وذلك ليدفع التهمة عن نفسه أولاً ، وليتخلص من طغتكين ثانيًا .. ولقد أحدثت كلمته أثرًا في كثيرٍ من الناس ، بل تأثر بذلك السلطان محمد الذي حمَّل طغتكين مسئولية مقتل مودود ، وخاصةً أن مسئولية الحماية الأمنية لمودود داخل دمشق تقع على عاتق أمير البلد طغتكين، ومن ثَمَّ شعر طغتكين أن الأرض تناقصت من حوله ، وأن الأنصار له يقلُّون ، ومن ثَمَّ إرتكب ذنبًا قبيحًا غير مقبول ، وهو التحالف مع الصليبيين لكي يأمن شر الجميع !!

لقد كان مفهومًا أن يعقد مع الصليبيين هدنة ليتجاوز فترة ضعفه ، لكن أن يتحالف معهم ، ويقف معهم في خندق واحد ضد إخوانه المسلمين من السلاجقة ، فهذا ما لا يقبل لا شرعًا ولا عقلاً .

ولكن من ناحية أخرى فإن هذا يثبت أن طغتكين لم يكن مدبِّرًا لحادث مقتل مودود ؛ لأنه قرَّر بعده مباشرة أن يتحالف مع الصليبيين ليحموه بعد فَقْد حماية مودود ، فهذا يؤكد أنه ما كان ليقدم على قَتْل حمايته بنفسه ، خاصةً أنه إستفزَّ الصليبيين قبل قدوم مودود ، وذلك بالهجوم على بعض المناطق التي يحكمونها وبنصرة مدينة صور ضدهم .

وهكذا فبموقف طغتكين الخاطئ خرجت مدينة دمشق العظيمة من معادلة الصراع ، وحُيِّد جانبها إلى حدٍّ كبير ، خاصةً أن أمورها الداخلية لم تكن مستقرة أبدًا لسيطرة الشيعة الباطنية الإسماعيلية على كثير من الأمور فيها .

الوقفة الخامسة : مع إمارة حلب


مات رضوان الخبيث في سنة (507هـ)\ 1113م ، وتولى من بعده إبنه الشاب ألب أرسلان - المسمَّى على اسم جَدِّه العظيم ألب أرسلان - لكنه لم يكن يُشبِه جَدَّه لا من قريب ولا من بعيد ، بل كان متهوِّرًا كأبيه ، قليل العقل والدين ، فبدأ حكمه بقتل أخويه ملكشاه ومباركشاه لكي يستقر له الأمر ! ثم إنه كان ضعيفًا جبانًا فبدأ عهده بالتأكيد على دفع الجزية لروجر الأنطاكي ليضمن حمايته ، ويأمن شرَّه .

لكن حدث في بداية عهده أمر يثبت أن الخير ما زال موجودًا في أهل حلب، حيث قام الحلبيون بثورة على الباطنيَّة الذين كانوا قد بلغوا شأوًا عظيمًا في عهد رضوان ، فقتل الشعبُ قائدَ الباطنية أبا طاهر الصائغ ، ثم انطلقوا على عموم الباطنية بالقتل والحبس ، ومن ثَمَّ أسرع بقية الباطنية بالفرار من حلب ، وعلى الرغم من تمرسهم على الجريمة إلا أنهم خشوا من هذا الشعب العجيب الذي لم تمُتْ فيه النخوة ، ولم يهجر السُّنَّة ، حتى بعد حكمه عشرين سنة حكمًا يغلب عليه تمامًا التوجُّه الشيعي الإسماعيلي ، ولعل هذا الحدث كان من الأمور التي مهَّدت إلى تحسين طبيعة الشعب في حلب في السنوات القادمة ، مما سيكون له أثر في حركة الجهاد .

ولكن من الجدير بالذكر أيضًا أن ألب أرسلان هذا لم يستمتع كثيرًا بحكمه؛ فقد قتله أتابكه بدر الدين لؤلؤ ، ووضع على كرسيِّ الحكم أخاه الصغير سلطان شاه ، وكان يبلغ من العمر ست سنوات فقط، ومن ثَمَّ أصبح بدر الدين لؤلؤ الحاكم الفعليّ لإمارة حلب ، وهذا - لا شك - أضعف موقفها أكثر وأكثر ، وكل هذا سيكون له أثرٌ في الأحداث القادمة .

الوقفة السادسة : مع إيلغازي


إيلغازي بن أرتق رجل عجيب ! وما أكثر الرجال العجيبين في هذا الزمن ! إنه إيلغازي أمير ماردين ، وأخو سقمان بن أرتق - رحمه الله - الذي مرَّ بنا موته وهو في سبيل الله , ووجهُ العجب في حياته أننا رأيناه في حالات متناقضة كثيرة ، جعلت تحليل شخصيته أمرًا صعبًا ، ولقد وقفت كثيرًا أمام شخصيته متحيِّرًا ، فلا أدري أهو من أهل الصلاح فيُمدح ، أم من أهل الفساد فيُذم !

إننا قد رأيناه يتعاون في فترة من حياته مع مودود رحمه الله في قتال الصليبيين ، ثم رأيناه يُغِير على إخوانه بغية أخذ ما معهم من غنائم ! ورأيناه في فترة من فترات حياته يتحالف مع الصليبيين ليقاتل برسق بن برسق أمير همذان كما مرَّ بنا ، ثم سنراه بعد ذلك يجاهد الصليبيين جهادًا عظيمًا ، بل وينتصر حتى يلفت الأنظار إليه .

إننا ذكرناه هنا لأنه سيكون من القلائل الذين يحملون راية الجهاد ضد الصليبيين بعد مودود رحمه الله ، إلى أن يتسلمها لاحقًا أحد عمالقة الجهاد في التاريخ الإسلامي، كما سنعرف لاحقًا .

الوقفة السابعة : مع مملكة بيت المقدس


لقد كان مقتل مودود بالنسبة لهذه الإمارة إشارة بدءٍ لتوسع كبير في الأراضي الإسلامية ، فكما رأينا أن موت مودود لم يُزِحْ عملاقًا من عمالقة الجهاد من أمام بلدوين الأول فقط ، إنما أخضع كذلك طغتكين أمير دمشق ، ومن ثَمَّ زال خطره إلى حدٍّ كبير ؛ مما دفع بلدوين إلى التفكير في تثبيت ملكه بصورة أكبر ، بل وتوسيعه كما سنرى .

ولننظر نظرة أكثر قربًا من بلدوين الأول لنعرف طبيعة شخصيته ، وصفة أخلاقه ؛ فبلدوين الأول كان متزوجًا من الأرمينية أردا ، وكان زواجه منها كما مر بنا أيام حكمه لإمارة الرها لغرض السيطرة على المدينة التي يسكنها كثير من الأرمن ، أما الآن فليس في بيت المقدس أرمن ؛ ولذا لم يَعُدْ هناك فائدة لأردا الأرمينية ! ومن ثَمَّ سعى بلدوين لطلاقها ليتزوج من زوجة أخرى تحقق له مصالح أخرى !

ولما كان الطلاق في المذهب الكاثوليكي محرمًا تمامًا إتَّهم الملك بلدوين الأول زوجته بالخيانة ، وتواطأ مع أسقف كنيسة بيت المقدس في ذلك الوقت ، وهو صديقه أرنولف مالكورن ليتم الطلاق ، وبالفعل تمَّ الطلاق ، وتم أيضًا ترحيل الزوجة المطلقة أردا إلى القسطنطينية ، وخلا الجو لبلدوين الأول ليعقد زيجة سياسية أخرى ، حيث تزوج في السنة التي مات فيها مودود من أرملة روجر الأول أمير صقلية ، وهذا سيحقق له فائدتين كبيرتين ؛ أما الأولى فهي تقوية علاقته بالنورمان الإيطاليين الأشدَّاء ، وثانيًا سيستفيد من الثروة الطائلة التي تملكها الأرملة الثرية أدلياد ، والتي ستنعش الخزانة الخاوية لبيت المقدس بعد المعارك المتتالية هنا وهناك .

وهكذا تزامن غياب مودود ثم طغتكين مع إزدياد قوة بلدوين العسكرية والمالية مما دفعه إلى توسيع الطموحات ؛ وقد ظهر ذلك في إحتلال منطقة وادي عربة جنوب البحر الميت ، وشيَّد هناك حصن الشوبك ليسيطر بذلك على القوافل المتجهة من الشام إلى مصر أو الحجاز ، وكان ذلك في سنة (509هـ) 1115م ، ثم في العام التالي (510هـ) 1116م إخترق بلدوين الأول صحراء النقب بكاملها ، وإحتل (أيلة) على مضيق العقبة ، حيث بَنَى هناك قلعة مهمة جدًّا للسيطرة على القوافل في هذه المنطقة ، وخاصةً المتجهة من الشام إلى الحجاز ، أو من مصر إلى الحجاز ، كما بنى قلعة أخرى في جزيرة فرعون في داخل خليج العقبة نفسه ، ولا شك أن هذه السيطرة أعطت له إشرافًا مباشرًا على الحدود بين فلسطين ومصر ، كما أعطت له منفذًا في غاية الأهمية على البحر الأحمر .

وهكذا إستطاع بلدوين الأول في غياب الجهاد الإسلامي أن يسيطر على كل فلسطين باستثناء مدينة عسقلان ، كما سيطر على النصف الجنوبي من لبنان بإستثناء مدينة صور ، وهذه هي حدود مملكة بيت المقدس بعد ذلك .

بل إن بلدوين الأول في وجود حالة الصمت الإسلامي تجرَّأ على ما هو أكثر من ذلك ؛ حيث قرر غزو مصر بفرقة صغيرة جدًّا من جيشه ! فاقتحم سيناء ، وأسقط العريش بسهولة بالغة ، بل واصل السير حتى إحتل الفرما (بالقرب من بورسعيد الآن) ، وأحرق ديارها ومساجدها ، ولولا أنه أصيب بمرض خطير في هذا التوقيت لكان قد أكمل طريقه ، غير أنه عاد بسبب مرضه ، وكانت هذه الأحداث في سنة (512هـ) 1118م .

الوقفة الثامنة : مع إمارة الرها


تنفَّست هذه الإمارة الصُّعداء بعد وفاة مودود ، خاصةً بعد تولِّي أمراء ليسوا على نفس الدرجة من الكفاءة العسكرية والسياسية ، وأدى هذا إلى توسع إمارة الرها في المدن المحيطة ، فأسقط بلدوين دي بورج في سنة (510هـ) 1116م مدينتي كيسوم ورعبان ، ثم مدينة البيرة في سنة (511هـ) 1117م ، ثم أخيرًا وفي نفس العام، أسقط قلعة قورس الخطيرة في شمال حلب ؛ ليكون بذلك مهدِّدًا لإمارة حلب ، ومترقِّبًا لأيِّ فرصة تسمح بإسقاطها ، وهكذا صارت حلب واقعة تحت تهديد إمارتي الرها وأنطاكية معًا .

الوقفة التاسعة : مع إمارتي أنطاكية وطرابلس


لم يطرأ عليهما تغيير يذكر في هذه الفترة إلا أنهما أخذا وقتًا كافيًا لتدعيم قوتهما، وتجديد قلاعهما وأسوارهما ، وكذلك تكثير جيوشهما استعدادًا لتوسُّع مرتقب ، وإستمر روجر الأنطاكي على زعامة أنطاكية ، بينما إستمر بونز بن برترام على حكم طرابلس .

الوقفة العاشرة : مع الأرمن في المنطقة الشمالية


بعد وفاة مودود شعر بلدوين دي بورج أمير الرها بكثير من الأمان ، ورأى أن أحوال الرها قد ساءت جدًّا نتيجة قتل وطرد الأرمن الذين كانوا يمثِّلون صُلْب المدينة وعمودها الفقري ، ومن ثَمَّ لم يخش بلدوين دي بورج من إعادة استقدام الأرمن ليعيشوا مرة أخرى في بلاد الرها بعد زوال خطر مودود ، ولم يتردد الأرمن في قبول الدعوة من بلدوين دي بورج حيث حانت لهم الفرصة للعودة إلى ديارهم ومزارعهم ، ولكن ليس هناك من شك أنهم عادوا وهم يضمرون كل الكراهية للصليبيين ، كما كانوا يتوجسون منهم خيفة أن يعيدوا الكَرَّة مرة أخرى ، فتتكرَّر المأساة الأليمة .

وإذا كان هذا هو وضع الأرمن الذين كانوا يعيشون في الرها ، فإن الأرمن خارج حدود الرها كانوا على خلاف ذلك يرفضون التعاون مع الصليبيين ، بل إن أرملة كوغ باسيل (الذي مات في سنة (506هـ) 1112م لم تتردد أن تطلب صراحة من آق سنقر حاكم الموصل في سنة (508هـ) 1114م أن تنضم إليه بشعبها في مقابل جزية تدفعها له كدلالةٍ على التبعية !!

وهذه أدلة متكررة تثبت أن الأرمن النصارى كانوا يطمئنون إلى المسلمين وإلى رحمتهم وعدلهم أكثر ألف مرة من إطمئنانهم لإخوانهم النصارى من الصليبيين !
إذن في الخمس أو ست سنوات التي أعقبت وفاة المجاهد العظيم مودود حدثت عدة تغيرات جذرية في المنطقة ، كانت في معظمها تصبُّ في خدمة وتدعيم موقف الصليبيين، وحدثت عدة تغييرات سياسية في الإمارات الإسلامية لم تكن في معظمها إيجابية ، اللهم إلا موت رضوان بن تتش زعيم حلب ، والذي خلَّص المسلمين من طاغيةٍ متكبر .

ثم حدثت في الساحتين الإسلامية والصليبية في أواخر سنة (511هـ) وخلال سنة 512هـ، وكذلك في أوائل سنة (513هـ) عدة وفَيَات أدت إلى تغييرات محورية في الصراع الإسلامي - الصليبي (خلال سنتي 1117- 1118م) :

أولاً : وفاة السلطان محمد السلجوقي عن عمر يناهز سبعة وثلاثين عامًا فقط ، وكان قد وحَّد السلاجقة في مملكة واحدة كبيرة صار لها هيبة عند الناس وعند الخلافة العباسية، وسيَّر عدة حملات إلى الصليبيين منها ما نجح على أيام مودود رحمه الله ، ومنها ما لم يحقِّق النجاح كما في عهد آق سنقر البرسقي أو برسق بن برسق ، وكان كما يقول ابن الأثير : "عادلاً ، حسنَ السيرة ، شجاعًا" ، ولكن من أعظم أخطائه هو توليته ابنه السلطان محمود الحكم من بعده ، مع أنه كان يبلغ من العمر أربعة عشر عامًا فقط !!
وكانت هذه - للأسف - عادة في ذلك الزمن، وهو ولاية الوريث ولو كان طفلاً صغيرًا جدًّا، ثم يتولى الحكم الوصيُّ عليه، فيأخذ الدولة يمينًا أو شمالاً حسب ما يتراءى له، وكان من نتائج وفاة السلطان محمد وولاية السلطان محمود أن حدثت فتن وصراعات في داخل الدولة التي فقدت هيبتها ، بل وصل الصراع إلى التقاتل بالسيوف بين السلطان محمود وأخيه الملك مسعود ، وكذلك بين السلطان محمود وأخيه الملك طغرل ، وأخيرًا بين السلطان محمود وعمِّه السلطان سنجر ، وكل هذه الصراعات كان لها أسوأ الأثر على الصراع الإسلامي - الصليبي ؛ إذ شغلت المسلمين بأنفسهم، وأنستهم قصة الصليبيين !

ثانيًا : وفاة بدر الدين لؤلؤ المتصرف الفعليّ في أحوال حلب مقتولاً ، إذ قتله بعض أعوانه، ولما كان أمر حلب قد اضطرب كثيرًا في السنوات الأخيرة بعد موت رضوان وقتل ابنه ألب أرسلان ، ثم قتل بدر الدين لؤلؤ سعى أعيان المدينة إلى تحسين الأوضاع ، فذهبوا إلى أفضل العناصر الموجودة حولهم، وهو إيلغازي بن أرتق فسلموه البلد ، وهكذا وجد إيلغازي نفسه فجأةً حاكمًا على ماردين وحلب معًا ، ولم يكن ذلك هدية خالصة ؛ لأنه وجد في حلب همومًا كثيرة ؛ إذ وجد خزانتها خاوية بعد أن أنفق بدر الدين لؤلؤ الثروة الحرام التي جمعها رضوان ، وهكذا وصلت حلب إلى وضعٍ يُرثى له مع كونها واحدة من أهم الإمارات الإسلامية في المنطقة .

ثالثًا : وفاة المستظهر بالله الخليفة العباسي ، وكان قد تولى الحكم من (487 إلى 512هـ\ 1094 إلى 1118م) ، وتولى من بعده ابنه المسترشد بالله ، ولم يكن الخليفة الجديد كغيره من الخلفاء السابقين ، إنما كان رجلاً طموحًا ذا همة عالية ، وكان شجاعًا مقدامًا ذا هيبة شديدة ، وكان عالمًا فقيهًا حتى ذكره ابن الصلاح في طبقات الشافعية ، وهذا في حدِّ ذاته من أهم فضائله ، فهي شهادة من عالم متمكن خبير ؛ وهذه الولاية للخليفة المسترشد ستترك آثارًا مهمة على الساحة الإسلامية ؛ إذ إنه لم يقبل بالوضع الذي اعتاد الخلفاء العباسيون عليه في القرنين السابقين من كونهم مجرد صورة للحكم ، بل سيسعى ليكون له كيان ورأي ، ولا شك أن هذا سيولد صراعات كثيرة في المنطقة ، وسيكون لهذه الصراعات آثار كثيرة على مجريات الأحداث .

رابعًا : وفاة بلدوين الأول ملك مملكة بيت المقدس ، والمؤسِّس الحقيقي لها ، وكان قد وصل بمملكة بيت المقدس إلى حدودها التي استقرت بعد ذلك عشرات السنين ، وأسقط كل المدن الفلسطينية باستثناء عسقلان ، وكذلك النصف الجنوبي من لبنان باستثناء صور، وكانت وفاته بمدينة العريش سنة (511هـ) 1118م أثناء عودته من الفرما المصرية بعد احتلالها ، وقد اجتمع الصليبيون على تولية ابن عمه بلدوين دي بورج أمير الرها مكانه في بيت المقدس ، وهذا - لا شك - ترقية لوضع بلدوين دي بورج حيث إن مَلِكَ بيت المقدس له القيادة على كل الممالك الصليبية ؛ لوضع القدس ، ولحجم المملكة ، ولكونها مملكة وليست إمارة ، وقد اختار بلدوين دي بورج - الذي لُقِّب بعد ذلك ببلدوين الثاني - ابنَ عمِّه جوسلين دي كورتناي - الذي كان قد عزله قبل ذلك عن تل باشر - أميرًا لإمارة الرها من بعده ، وذلك بعد أن زالت الخلافات التي كانت بينه وبين جوسلين ، خاصةً أن جوسلين خبير بهذه المناطق الشمالية .

خامسًا : وفاة أدلياد زوجة بلدوين الأول الثانية ومما هو جدير بالذكر أن خصوم بلدوين الأول من الصليبيين طعنوا في زواجه من أدلياد الصقلية، وذكروا أن أسباب طلاق الزوجة الأولى أردا ليست صحيحة، ومن ثَمَّ فأدلياد هي الزوجة الثانية في نفس الوقت، وهذا حرامٌ في النصرانية ، وقام البابا باسكال الثاني بإرسال من يحقِّق في الأمر، وثبت تلاعب الملك بلدوين الأول في الأمر ، ومن ثَمَّ اعتُبِر الزواج الثاني باطلاً ، واضطرت هنا أدلياد أن تعود إلى صقلية بعد أن عاشت مع بلدوين الأول أكثر من أربع سنوات ! وهكذا خسرت إمارة بيت المقدس قوة النورمان وثروة أدلياد، ثم ما لبثت أدلياد أن توفِّيت في صقلية ، وكذلك بلدوين الأول في العريش على نحو ما ذكرنا .

سادسًا : وفاة أرنولف مالكورن بطرك بيت المقدس ، الذي اشتهر بسوء خلقه ، وتواطئه مع بلدوين الأول على أمورٍ كثيرة مخالفة لدينهم ، ومن ذلك ما ذكرناه من أمور تسهيل طلاق بلدوين الأول من أردا الأرمينية ، وزواجه من أدلياد الصقلية ، وقد تولى من بعده البطرك جرموند Germond .

سابعًا : وفاة البابا باسكال الثاني في روما ، وتولى من بعده جيلاسيوس الثاني ، ولم يكن هذا تغيرًا محوريًّا ؛ لأن الإمارات الصليبية كانت شبه مستقلة ، ولم تكن هناك حاجة إلى إستنفار جنود جدد في أوربا في ذلك الوقت ، ومن ثَمَّ لم يظهر كثيرًا اسم البابا في مجريات الأحداث .

ثامنًا : وفاة الإمبراطور البيزنطي الداهية ألكسيوس كومنين ، الذي سهَّل دخول الصليبيين إلى أرض المسلمين بدايةً من دعوتهم ، ثم إمدادهم بالمؤن والسلاح والأخبار والأدِلَّة وبعض الفرق ، وإن كان الصليبيون بعد ذلك غدروا به ، ولم يعطوه ما اتفق معهم عليه من بلاد ، غير أنه إستطاع أن يسيطر على النواحي الغربية من آسيا الصغرى ، ويضمها إلى الإمبراطورية البيزنطية ، وقد تولى الإمبراطورية من بعده ابنه يوحنا كومنين .

تاسعًا : وفاة روجر الأنطاكي أمير أنطاكية ، أو الوصيّ على إمارة أنطاكية بعد وفاة تانكرد النورماني ، وانتظارًا لقدوم بوهيموند الثاني ابن بوهيموند الأول مؤسِّس إمارة أنطاكية .

وقد آثرتُ أن أختم بهذا الرجل لأن وفاته جاءت في معركة مهمَّة مع المسلمين ، لعلها أول معركة ذات قيمة بعد وفاة مودود رحمه الله
.
لقد ذكرنا أنه بمقتل بدر الدين لؤلؤ المتصرِّف في أمور حلب خلت الساحة السياسية في هذه الإمارة المهمة ، ومن ثَمَّ توجَّه أعيان البلد وفقهاؤها إلى إيلغازي بن أرتق أمير ماردين وسلموه المدينة ، ولاحظ أمير أنطاكية روجر أن المدينة تمر بفترة ضعف شديدة ، ومن ثَمَّ قرر أن يغزو المدينة ويضمها لحسابه ، ووصلت الأخبار بهذا التحرك الصليبي إلى إيلغازي ، فقرَّر أن يجمع المجاهدين من هنا وهناك ليدافع عن مدينة حلب ، ولقد استطاع إيلغازي أن يكوَّن حلفًا قويًّا مع أمير دمشق طغتكين الذي وافق على جهاد الصليبيين ، وهذا يثبت أنه لم يكن مواليًا لهم حبًّا فيهم، ولكن ضعفًا وقلة حيلة بعد مقتل مودود رحمه الله، وانضم كذلك إلى الحلف أمير شيزر سلطان بن منقذ الذي طالما شارك في الحملات الجهادية منذ أيام مودود رحمه الله .

كوَّن إيلغازي بن أرتق جيشًا قويًّا وسار به في اتجاه أنطاكية، وعند سهلٍ قريب من أرتاح باغت الجيش الإسلامي جيش أنطاكية وطوَّقه من كل جانب !

كان الجيش الإسلامي مكوَّنًا من عشرين ألف مقاتل، بينما كان جيش أنطاكية يقترب من خمسة آلاف جندي بين فرسان ومشاة ، وكان روجر قد أرسل رسالة استنجاد إلى بلدوين الثاني ملك بيت المقدس الجديد الذي وعد بالقدوم ومعه بونز أمير طرابلس ، إلا أنَّ المباغتة الإسلامية كانت بفضل الله قبل وصول الإمدادات الصليبية .
تمت في هذا المكان الموقعة الشهيرة في تاريخ الحروب الصليبية، وهي موقعة البلاط (خريطة 25)، وذلك في شهر ربيع الأول سنة 513هـ الموافق 28 من يونيو 1119م، وفي هذه الموقعة أُبيد الجيش الصليبي بكامله، وقُتل الأمير روجر الأنطاكي ، وأطلق الصليبيون على مكان المعركة اسم "ساحة الدم" لكثرة قتلاهم فيها !

لقد كان انتصارًا مجيدًا بكل المقاييس، أدى إلى كثير من النتائج المهمة في هذه الفترة؛ وكان من هذه النتائج الآتي :


1- أعادت هذه الموقعة الهيبة للمسلمين ، والثقة لنفوس المحبطين، وشعر المسلمون أن الأمل ما زال باقيًا في إعادة التوازن للأمة الإسلامية .
2- هُزم الصليبيون هزيمة نفسية كبيرة أثَّرت في حركتهم لعدة سنوات .
3- دخلت حلب دخولاً رسميًّا بعد هذه الموقعة في حكم الأراتقة، ولمدة ست سنوات كاملة .
4- فَقَدت أنطاكية أميرها روجر في وقتٍ ليس فيه بديل أو وريث؛ لأن بوهيموند الصغير ما زال في إيطاليا، ومن ثَمَّ وضع بلدوين الثاني يده على الوصاية على إمارة أنطاكية، وبدأ في تنظيم أمورها بمساعدة بطرك أنطاكية برنارد دي فالنس .

5- علا نجم إيلغازي بن أرتق في ساحة الجهاد ضد الصليبيين، وجاءته التشريفات من الخليفة العباسيّ الجديد المسترشد بالله، ونَظَم الشعراء قصائدهم في مدحه، وعلَّق كثيرٌ من المسلمين الآمال عليه؛ وهذا دفعه إلى تجديد الصدام مع الصليبيين في عدة مواقع بعد ذلك، كان له النصر في بعضها والهزيمة في أخرى، وإن لم تكن هذه المواقع على مستوى موقعة البلاط المشهورة .

إذن نستطيع أن نلخص الموقف في سنة 513هـ\ 1119م في النقاط السريعة الآتية :


1- مملكة بيت المقدس تحت زعامة بلدوين دي بورج الملقَّب ببلدوين الثاني .
2- إمارة الرها تحت زعامة جوسلين دي كورتناي .
3- إمارة أنطاكية تحت وصاية بلدوين الثاني انتظارًا لوصول بوهيموند الثاني إلى سنِّ الرشد، وقدومه من إيطاليا .
4- إمارة طرابلس تحت زعامة بونز بن برترام .
5- إمارة حلب تحت زعامة إيلغازي بن أرتق الذي تزعَّم حركة الجهاد ضد الصليبيين في هذه الفترة .
6- إمارة دمشق تحت زعامة طغتكين الذي عاد من جديد يحارب الصليبيين ، ولم يكتفِ بالصدام مع إمارة أنطاكية ، بل بدأ يصطدم جنوبًا مع مملكة بيت المقدس .

7- إمارة الموصل تحت زعامة جيوش بك التابع للسلطان محمود، وإن كان الملك مسعود أخو السلطان محمود يعيش في الموصل ، وقام بصدامٍ ضد أخيه بمساندة جيوش بك بغية الانفصال بالموصل .
8- السلطان محمود هو الزعيم الرسمي للسلاجقة الآن، ولكنه مشتَّت في الصراعات الداخلية .
9- الخلافة العباسية أصبحت بيد المسترشد بالله ، وهو خليفة له طموح ملموس في الخروج من سيطرة السلاجقة .
10- الإمبراطورية البيزنطية الآن تحت حكم يوحنا بن ألكسيوس كومنين، وقد التزم بنفس سياسة أبيه؛ ولذا لم يكن للإمبراطورية تدخُّل يُذكر في أمور الصراع الإسلامي الصليبي في هذه الفترة .

وهكذا فالصورة العامة في هذه الفترة كانت إيجابية نسبيًّا ، وإن لم يكن العزم على قتال الصليبيين وتحرير البلاد أمرًا عامًّا في كل التوجهات ، ولن يكون كذلك إلا بعد 8 سنوات عندما تظهر شخصية تتبنَّى القضية، وتجعلها محورَ حياتها !

ماذا حدث في خلال هذه السنوات الثمانية ، من سنة 513هـ إلى سنة 521هـ ؟

لقد حاول إيلغازي بن أرتق تكوين إمارة كبيرة للأراتقة ، وأفلح فعلاً في السيطرة على مساحة ضخمة تشمل ديار بكر بكاملها تقريبًا، وهي تحوي في داخلها عدة مدن مهمَّة مثل ميافارقين في الشمال ، وماردين وحصن كيفا في الجنوب ، كما ضمَّ إلى ديار بكر منطقة حران في الجنوب ، هذا إضافةً إلى مملكة حلب بكاملها .

ولا شك أن هذه الإمارة الكبيرة كانت ذات خطر كبير على الصليبيين؛ مما دفعهم إلى منازلة أخرى لإيلغازي وطغتكين ، وحقق الصليبيون نصرًا غير حاسم، وذلك في 14 من أغسطس 1119 ، أي بعد أقل من شهرين من هزيمتهم في موقعة البلاط ، إلا أنَّ إيلغازي جدَّد هجومه على الصليبيين، وخاصةً في منطقة الرها القريبة من إمارة الأراتقة، واستطاع إيلغازي أن يسيطر على مدينة عزاز، وذلك في مايو سنة 1120م ، غير أن إيلغازي اضطر إلى عقد هدنة مع بلدوين الثاني في نفس السنة؛ ليُعطِي نفسه فرصة لتنظيم الأمور في إمارته الواسعة .

وبينما كان إيلغازي يكوِّن إمارته هذه كانت الأحوال مضطربة جدًّا في العراق والموصل؛ مما أعطى له الفرصة لتكوين هذه الإمارة دون تدخُّل السلاجقة أو الخلافة العباسية، وواقع الأمر أنه في هذه السنة، أي سنة (514هـ) 1120م، وَقَع صدام مؤسف بين السلطان محمود سلطان السلاجقة، وأخيه الملك مسعود الذي كان يساعده أمير الموصل جيوش بك، وانتهى الأمر بانتصار محمود، واستقرار الأوضاع له .

ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل قام رجل اسمه دبيس بن صدقة، وهو شيعيّ عربي من قبيلة بني مزيد، قام بثورة في العراق، بل واتجه إلى بغداد وحاصر الخليفة، فاضطر الخليفة إلى الاستنجاد بالسلطان محمود الذي تحرك بجيشه ففرَّ دبيس بن صدقة بعد أن أحدث فسادًا كبيرًا في بغداد، وقد لجأ دبيس إلى شمال الجزيرة بالقرب من إمارة الرها حيث بدأ يعرض خدماته العسكرية على الصليبيين في مقابل تكوين إمارة خاصة له !!
هذا الوضع المضطرب عزل الموصل كثيرًا عن ساحة الصراع الإسلامي- الصليبي، وهذا - لا شك - أراح الصليبيين كثيرًا؛ لأنه لو كانت الموصل بقوتها المعهودة مشتركة مع إيلغازي في معاركه لكانت أزمة الصليبيين كبيرة .

وفي نفس الوقت فإن الصليبيين في بيت المقدس وجدوا أنفسهم في مشكلة حقيقية؛ إذ أصبح لزامًا عليهم أن يوزِّعوا طاقاتهم للدفاع عن إمارة أنطاكية، إضافةً إلى مملكة بيت المقدس، وصار أعداء الصليبيين كُثُرًا؛ فهناك الأراتقة، وهناك طغتكين، وهناك إمارة صور الواقعة تحت سيطرة طغتكين، وهناك أيضًا عسقلان بحاميتها العبيدية، إضافةً إلى الدولة المصرية العبيدية التي - وإن كانت قد هدأت كثيرًا - ما زالت تترقب فرصة لاستعادة أملاكها في فلسطين .

هذا كله دفع مملكة بيت المقدس إلى محاولة تكوين فرقة عسكرية شرسة ثابتة تضمن الحفاظ على الأمن وسط كل هذه الأزمات، ومن ثَمَّ كان تكوين فرق الإسبتارية والداوية! وهما من أخطر الفرق العسكرية الصليبية مطلقًا !

أما الإسبتارية فهي هيئة تأسست قبل الحروب الصليبية بعدة سنوات، حيث أسَّسها بعض التجار النصارى الأوربيين كجمعية خيرية تهدف إلى علاج الحُجَّاج الفقراء مجانًا، وكانت مقامة إلى جوار كنيسة القيامة ببيت المقدس، وذلك ابتداء من سنة 1070م (أي قبل قدوم الصليبيين إلى القدس بتسعة وعشرين عامًا)، وأطلق على العاملين بهذه الهيئة فرسان المستشفى Hospitallers، الذي حُرِّف بعد ذلك في العربية إلى "الإسبتارية" .
وكان هؤلاء الإسبتارية يتبعون بابا روما مباشرة، وكانت بذلك لهم استقلالية خاصة، وقد قدموا الكثير من المعونات للصليبيين عند احتلالهم للقدس بحكم خبرة الإستبارية بالبلاد، وقد بدأ الصليبيون يشعرون بقيمتها فأغدقوا عليها العطايا ، وكان لهم جامعون للتبرعات سواء من القدس وفلسطين أو من أوربا بكاملها ، وهكذا صار لهم أملاك وضيعات وثروات هائلة .

وفي عهد بلدوين الثاني، ونتيجة للظروف الصعبة التي بدأ بها بلدوين الثاني حكمه، عمل بلدوين الثاني على تشجيع الإسبتارية وتقويتهم، ومن ثَمَّ عَظُم شأنهم جدًّا، وصار لهم أدوار عسكرية مختلفة تمام الاختلاف عن الهدف الذي من أجله أسِّست الهيئة، وإن ظلوا يحتفظون باسمهم "فرسان المستشفى" .

وإضافةً إلى الإسبتارية، فقد أسِّست هيئة أخرى خطيرة هي هيئة "الداوية"، وقد تأسست هذه الهيئة على أساس عسكريّ من البداية، ومؤسِّسها هو أحد الفرسان الفرنسيين، واسمه هوجو دي باينز Hugue de payens، وقد اختار هذا الفارس جزءًا من المسجد الأقصى، والذي يُطلِق عليه اليهود هيكل سليمان؛ ليؤسِّس فيه جمعيته العسكرية، ومن هنا ففرسان هذه الجمعية يعرفون بفرسان المعبد Templars، نسبة إلى معبد داود، ولهذا عُرفوا بالداوية نسبة إلى داود، وقد ذهب مؤسس هذه الجمعية إلى فرنسا وإنجلترا، وبدأ بجمع الأنصار من الفرسان والنبلاء الراغبين في قضاء حياة عسكرية دينية في الأرض المقدسة، وكان عملها في البداية يقتصر على حماية الحجاج النصارى، ثم ما لبثت الجمعية أن أصبحت شريكًا في العمليات العسكرية الخطيرة في الشام.
وهكذا صار إنشاء هيئة الداوية، وتحول هيئة الإستبارية إلى النشاط العسكري سببًا في توفير قوة حربية دائمة لمملكة بيت المقدس، وصار لهم من السلطات ما يجعلهم في كثير من الأحيان مستقلين تمامًا عن سلطة ملك بيت المقدس شخصيًّا أو أسقفية بيت المقدس، ومن الجدير بالذكر أن هاتين الفرقتين كانتا من أشرس الفرق الصليبية في الحروب، ولم يكن هناك أيُّ نوعٍ من الأخلاق أو الالتزام بالعهود في قتالهم، على خلاف ما يوحي به اسمهما من ارتباط بالدين أو بالرحمة !

ونعود في قصتنا إلى إيلغازي الذي لم تستقر له الأوضاع بصورة ترضيه، فكان جنوده كثيرًا ما يثورون عليه ويخالفونه، بل إن ابنه شخصيًّا أعلن الانفصال عنه والاستقلال بحلب سنة 515هـ\ 1121م، بل وعقد معاهدة مع الصليبيين أعطاهم فيها بمقتضاها حصني زردنا والأثارب ، وهذا - لا شك - أفزع إيلغازي الذي أسرع إلى حلب، واستردَّ حكم حلب منه بعد تعنيفه، ثم توجه بجيشه لاسترداد زردنا، مما دفع بلدوين الثاني أن يأتي من بيت المقدس للدفاع عن الحصن التابع لإمارة أنطاكية، والتقى الجيش المسلم بالجيش الصليبي عند حصن زردنا، ولكن لم يحدث قتال، بل حدث تجديد للهدنة، وللأسف قَبِل إيلغازي بتسليم حصن زردنا !

والواقع أن الناظر لحروب إيلغازي وسيرته سيتعجب من عدم إمكانيته دومًا من استغلال انتصاراته على الصليبيين، فهو لم يكن يصبر كثيرًا على القتال والحصار والمطاولة، ولا أعتقد أن هذا راجع إليه هو، ولكن إلى جيشه! فقد كان جيش إيلغازي مختلفًا عن جيش مودود رحمه الله؛ لأن جيش إيلغازي كان عبارة عن مرتزقة جمعهم من هنا وهناك، مغريًا إياهم بالغنائم والأسلاب؛ ولذلك فإن هؤلاء المرتزقة لم يكن عندهم صبر المجاهدين الذين يضحون بأوقاتهم وأعمارهم في سبيل الله، فضلاً عن أن إيلغازي نفسه لم يكن بيده من المال ما يفرِّقه عليهم كما يذكر ابن الأثير ؛ ولهذا فإن إيلغازي مع كونه قد حقق انتصارات بعضها كبير على الصليبيين، إلا أنه وجيشه لم يكونوا بالذين يمكن أن يحملوا الراية الحقيقية للجهاد، ويصبروا على حملها .

وبينما كان الوضع كذلك في المنطقة الشمالية حدث أمران كان لهما إسهام بعد ذلك في بعض التغييرات في الأحداث، وهو أن السلطان محمود أقطع الأمير آق سنقر البرسقي إمارة الموصل للمرة الثانية، وكان قد تولى أمرها قبل ذلك من سنة (507) إلى (509هـ)، وها هو الآن يتولى أمرها من جديد بعد مرور ست سنوات على عزله، وكان سبب ولايته أنه أظهر طوال هذه السنوات الولاء الكامل للسلطان محمود، ووقف إلى جواره في صدامه مع الملك مسعود أخيه، بل كان له دور ملموس في تهدئة الأمور والتوفيق بين الأخوين؛ مما جعل له مكانًا كبيرًا في قلب السلطان محمود، وقد مرَّ بنا أن هذا الرجل كان من الصالحين الأتقياء، مما سيكون له انعكاسٌ على أحداث الفترة القادمة .

أما الأمر الثاني الذي حدث في سنة (515هـ)\1121م فهو مقتل الأفضل بن بدر الجماليّ وزير مصر العبيدية الأول، وذلك على يد أحد الباطنية الإسماعيلية ! وقد يتعجب القارئ من مقتل الأفضل وهو إسماعيلي على يد الإسماعيلية، ولكننا نذكر أن الإسماعيلية انقسمت إلى فرقتين متعاديتين هما الإسماعيلية المستعلية التي ينتمي إليها الوزير الأفضل، والإسماعيلية النزارية المعروفة بالباطنية (الحشاشين)، ولهذا تم هذا الاغتيال للانتقام من الأفضل الذي يعتبر الرأس الأولى للحكم في مصر، حيث إن الخليفة الآمر بأحكام الله كان مجرَّد صورة.
وبمقتل الأفضل بن بدر الجماليّ دخلت الدولة العبيدية في طور ضعف متدرج، وهذا - وإن كان سيؤمِّن ظهر مملكة بيت المقدس - سيكون له أثر إيجابي مستقبلاً عند العزم على توحيد الشام في زمان نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي .

وفي أواخر سنة (515هـ) وأوائل سنة (516هـ)\ 1122م كان هناك خليط من الأحداث المفرحة والمحزنة !

فقد حاصر بَلْك بن بهرام بن أرتق - وهو ابن أخي إيلغازي - إمارة الرها، وكان بلك أميرًا على مدينة تسمى خَرتَبرت بالقرب من إمارة الرها، ولم ينجح بلك في فتح الرها فانصرف بجنوده عن المدينة، فتبعهم جوسلين دي كورتناي بفرقة من فرسانه، ثم دار قتال بين الفريقين بعيدًا عن حصون الرها، فاستطاع بلك وأربعمائة فارس من فرسانه أن يبيدوا الجيش الصليبي، بل وأفلحوا في أسر جوسلين دي كورتناي أمير الرها! وكان هذا الحدث المهيب في (516هـ)\ 13 من سبتمبر 1122م .

لقد كانت مفاجأة رائعة لم يتوقعها أحدٌ، خاصةً أن الفرقة التي كانت بصحبة بلك كانت أضعف بكثير من فرقة الصليبيين .

ومع سعادة المسلمين بهذا الخبر إلا أن الأخبار أتت بسرعة بوفاة إيلغازي بن أرتق بعد أقل من شهرين من أسر جوسلين، وكما كان متوقعًا فقد انهارت الإمارة الكبيرة التي كوَّنها إيلغازي الأرتقي! ولم يكن هذا الانهيار لحداثة إنشائها فقط، ولكن لأنها تأسست على أكتاف جيوش تبحث عن المال والثروة لا عن الجهاد والجنة! فكان طبيعيًّا أن تتقاتل هذه الجيوش بعد وفاة إيلغازي القويِّ، وذلك لتقسيم التركة الثمينة !

وهكذا أخذ شمس الدولة سليمان بن إيلغازي إمارة ميافارقين؛ أي الجزء الشمالي من ديار بكر، وأخذ ابنه الثاني حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي إمارة ماردين مع الجزء الجنوبي من ديار بكر، أمّا بلك بن بهرام بن أرتق ابن أخي إيلغازي فقد ظل مسيطرًا على خَرْتبرت ومعه صيده الثمين جوسلين، وأخيرًا حلب فإنها آلت إلى بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أرتق، وهو ابن أخٍ آخر لإيلغازي .

وعند حدوث هذه التطورات المؤسفة أسرع بلدوين الثاني ملك بيت المقدس - الذي أصبح وصيًّا على إمارة الرها، إضافةً إلى أنطاكية - لاستغلال الفرصة، وبدأ في مهاجمة إقليم حلب، واستولى فعلاً على البيرة شرق حلب، وسيطر على بعض المناطق في شمال وجنوب حلب، وبذلك صار مهدِّدًا لحلب ذاتها ، وكان بلدوين يعلم أن قوته في هذا الوقت لا تسمح بإسقاط حلب الحصينة، ولكنه كان يريد أن يضغط على أميرها الضعيف سليمان بن عبد الجبار ليعقد معه صلحًا يؤمِّن جانبه، ومن ثَمَّ ينطلق إلى الخطير بلك بن بهرام الذي أثبت كفاءته بهزيمة الصليبيين في الرها وأسر جوسلين نفسه! وبالفعل تحقق لبلدوين الخبيث ما أراد، وطلب سليمان الصلح مع بلدوين، بل وردَّ له حصن الأثارب !
وهكذا انطلق بلدوين الثاني آمنًا ليقابل بلك بن بهرام .

وفي صفر سنة 517هـ الموافق 18 من إبريل 1123م، وأثناء حصار بلك بن بهرام لقلعة صليبية جاء بلدوين الثاني بجيشه ليقابل جيش بلك عند موضع يسمى أورش، وكانت المفاجأة الكبرى أن استطاع بلك بن بهرام أن يهزم الصليبيين، بل ويأسر بلدوين الثاني ملك بيت المقدس !!
وهكذا، وفي غضون سبعة أشهر فقط، كان بلك بهرام بن أرتق يمسك في آنٍ واحد بملك بيت المقدس وأمير الرها ! ! لقد كانت صدمة هائلة للصليبيين !!

ولعل هذا الموقف من أشد المواقف صعوبة على الصليبيين منذ وطئوا الأراضي الإسلامية، ولا ننسى أن بلدوين الثاني كان وصيًّا على إمارتي أنطاكية والرها بعد مقتل روجر الأنطاكي وأسر جوسلين دي كورتناي، ومعنى هذا أن الثلاث إمارات أصبحوا الآن بلا زعامة !

وذاع صيت بلك بن بهرام فجأة، وملأت أخباره الآفاق، وكان من السهل عليه الآن أن يوسِّع إمارته، وأن يسعى من جديد إلى توحيد الأراتقة، وقد أفلح فعلاً في ضم حرَّان، ثم أتبع ذلك بضم حلب، بل وبدأ يهاجم إمارة أنطاكية من مكانه الجديد في حلب.
ووضعت مملكة بيت المقدس على قيادتها أمير صيدا وقيسارية إيستاش جارنيه Eustache Garnier، ولكنه تُوفِّي فجأة بعد ولايته بشهر أو نحو ذلك! وتولى بعده أحد قواد بيت المقدس واسمه وليم دي بور، أما إمارة أنطاكية فقد تولى قيادتها بطرك الكنيسة برنارد دي فالنس .

وكان بلك بن بهرام يحبس الأسيرين الثمينين في قلعة حصينة في معقله الأساسي خرتبرت، وانتهز فرصة الضعف الصليبي وانعدام التوازن المفاجئ وبدأ في مهاجمة المناطق المحيطة بحلب، واستطاع فعلاً السيطرة على البارة غربي معرَّة النعمان، ثم اتجه لحصار كفرطاب .

ثم جاءت المفاجأة المؤسفة أثناء حصار كفرطاب أن هناك مؤامرة نُفِّذت من قبل سكان منطقة خرتبرت النصارى، واستطاعوا بها أن يحرِّروا الأسيرين في لحظة واحدة ، وفي ظل غياب معظم الجيش المسلم للمعارك المتتالية في منطقة حلب، وعاد بلك بن بهرام بسرعة إلى خرتبرت، وفاجَأَ الفرقة التي تصاحب الأميرين الأسيرين، واستطاع أن يُعيد أسر الملك بلدوين الثاني، بينما أفلح جوسلين دي كورتناي في الفرار بعد عامٍ كامل من الأسر !
وخشي بلك بن بهرام أن يتكرر الأمر مع بلدوين الثاني فنقله إلى قلعة حصينة في مدينة حران ؛ ليكون بعيدًا عن المدن ذات الكثافة النصرانية ، وبعيدًا أيضًا عن جيوش الصليبيين ، ثم أعاد نقله بعد ذلك إلى قلعة أشد حصانة في حلب .

واستأنف بلك بن بهرام جهوده في قتال الصليبيين، وانتصر عليهم في مَنْبِج شمال شرق حلب ، إلا أنه أصابه فجأة سهمٌ غَرْبٌ لا يُعرَف مصدره ، فسقط شهيدًا رحمه الله !!
لقد حدث ذلك في ربيع الأول 518هـ الموافق 6 من مايو 1124م ليفقد المسلمون عَلَمًا مهمًّا من أعلام الجهاد في هذه المرحلة، ولتحدث نفس المشكلة التي عانى منها المسلمون بعد وفاة إيلغازي؛ إذ تقطعت إمارته بين الوارثين !

وكانت حلب من نصيب حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي، وقد ضمها إلى ماردين، إلا أنه آثر أن يبقى في ماردين لبُعدها عن أرض الشام حيث الصدامات المتكررة مع الصليبيين، بينما هو - كما يقول ابن الأثير - رجل يحب الدَّعة والرفاهية !

ولكن هناك مشكلة كبيرة جدًّا لا بد أن يُقحِم تمرتاش الوديع نفسه فيها! وهي مشكلة الأسير المهم الملك بلدوين الثاني حبيس قلعة حلب! إنه الآن المتصرِّف في أمر هذا الأسير، ولا بد أن يُبدِي رأيه في قضيته !

وتحركت الوساطة السياسية بين الفريقين، وقام أمير شيزر سلطان بن منقذ بهذا الدور، وبعد مفاوضات وصل الفريقان إلى عدة شروط يطلق على أثرها سراح بلدوين الثاني ملك بيت المقدس، وهذه الشروط هي :

1- يدفع الملك بلدوين الثاني مبلغ ثمانين ألف دينار فدية، على أن يدفع منها مبلغ عشرين ألف دينار مقدمًا، والباقي بعد ذلك .

2- يتعهد الملك بلدوين الثاني بوصفه وصيًّا على إمارة أنطاكية بإعادة حصون عزاز والأثارب وزردنا والجزر وكفرطاب إلى إمارة حلب.

3- يتعاون الملك بلدوين الثاني مع تمرتاش في إخضاع دُبَيْس بن صَدَقَة الزعيم العربي الشيعي الذي نزح إلى الجزيرة بعد فراره من الخليفة العباسي في العراق .

4- يُسلِّم بلدوين الثاني عددًا من الرهائن يحتفظ بهم عند المسلمين لحين تنفيذ بلدوين الثاني ما طلب منه من دفع المال وتسليم الحصون، وهؤلاء الرهائن هم مجموعة من الأمراء الصليبيين على رأسهم ابنة بلدوين الثاني شخصيًّا، وهي طفلة عمرها خمسة أعوام فقط، وجوسلين الثاني ابن جوسلين دي كورتناي أمير الرها، على أن تبقى هذه الرهائن في يد الوسيط، وهو أمير شيزر سلطان بن منقذ .

وتمَّ بالفعل إطلاق سراح بلدوين الثاني بعد أكثر من سنة من أسره، وتوجه بلدوين أولاً إلى أنطاكية، وهناك وبعد لقاء مع بطرك أنطاكية برنارد دي فالنس قرر الطرفان الرجوع في البند الخاص بإرجاع الحصون إلى حلب، ومن ثَمَّ أرسلا رسالة بهذا المعنى إلى تمرتاش !
وفي هذه الأثناء وفي خلال السنة الماضية بكاملها، منذ اتجاه بلدوين الثاني إلى الشمال لقتال بلك بن بهرام، وأثناء أسر بلدوين وما تعلق به من أحداث، كان الصليبيون يحاصرون مدينة صور اللبنانية، وذلك بمساعدة أسطول عسكريّ كبير من البندقية .
ومدينة صور - كما ذكرنا من قبل - هي إحدى مدينتين لم يُسقطا بعدُ في كل الساحل الإسلامي الشامي على البحر المتوسط، والمدينة الثانية هي عسقلان؛ ولذلك فهي مدينة في غاية الأهمية، ليس لحصانتها فقط ، ولكن لكونها أحد منفذين لا ثالث لهما للإمدادات البحرية الإسلامية .

وكانت صور في هذا الوقت تحت وصاية طغتكين أمير دمشق، وهذا منذ سنة 506هـ\ 1112م، ولكن الدولة العبيدية الخبيثة في مصر حاولت أن تستغل الظروف السيئة في بلاد الشام لتضم إلى حوزتها مدينة صور، فدبَّرت مؤامرة لإقصاء الأمير مسعود، وهو أميرها من طرف طغتكين، مع أنه كان يتمتع بالكفاءة العسكرية والروح الجهادية، واستطاع الحفاظ على المدينة مدة أحد عشر عامًا كاملة، مقاومًا ببسالة كل الهجمات الصليبية على المدينة، ولكن السلطة العبيديّة فشلت بعد السيطرة على صور في الحفاظ عليها، وكانت النتيجة حصارًا محكمًا حول صور من الصليبيين، وإشراف سكان صور على الهلاك لقلة الطعام والشراب، لولا تدخل طغتكين الذي مُنع من الوصول إلى صور لاعتراض جيش أمير طرابلس بونز له، ولكن طغتكين أفلح في إجراء مباحثات مع الصليبيين قضت بتسليم المدينة إلى الجيش الصليبي في مقابل تأمين أرواح السكان بكاملهم، وبالفعل تمت الاتفاقية، وقام الصليبيون بترحيل أهل المدينة إلى خارجها ، وبذلك سقطت المدينة الحصينة صور في 23 من جمادى الأولى سنة 518هـ\ أوائل يوليو 1124م، بعد أكثر من 25 سنة لدخول الصليبيين أرض الشام !

وكانت صدمة كبيرة جدًّا للمسلمين، خاصةً أن هذه الصدمة تزامنت مع مماطلة بلدوين الثاني في تنفيذ شروط إطلاق سراحه، مما ينذر بضياع الفرصة الثمينة التي كانت في أيدي المسلمين !

رَفَع سقوط صور معنويات بلدوين الثاني، ومن ثَمَّ فقد قرر أن ينكث عهده في مسألة ردِّ الحصون الإسلامية، بل قرر أن ينقض الاتفاق من أساسه، فتحالف مع خصم تمرتاش، وهو دبيس بن صدقة الشيعيّ، والذي كان من المفترض على بلدوين أن يساعد تمرتاش في السيطرة عليه وإخضاعه، ثم جمع بلدوين الثاني جيوشه وجيوش أنطاكية، إضافةً إلى جيش الرها بقيادة جوسلين دي كورتناي، وكذلك جيش دبيس بن صدقة، وتوجَّه بكل هذه الجيوش إلى حلب لحصارها، وكان تمرتاش في ذلك الوقت في ماردين بعيدًا عن المشاكل !
ومن المؤكد أن بلدوين الثاني كان مطمئنًا إلى أن الزعيم المسلم لن يقدم على قتل الرهائن لا لضعفه فقط، ولا لعلمه أن الشريعة الإسلامية تحرِّم قتل الأطفال؛ ولكن لأن الرهائن ورقة ضغط رابحة سيحبُّ تمرتاش أن يحتفظ بها إلى آخر مدى، فأراد بلدوين الثاني أن يمارس ضغطًا عنيفًا على تمرتاش، فيقبل في النهاية أن يُطلِق الرهائن نظير رفع الضغط العنيف من عليه .

وهكذا وجد أهل حلب أنفسهم محصورين بقوات بلدوين الثاني وجوسلين دي كورتناي ودبيس بن صدقة، وليس في وسطهم أميرهم ليدفع عنهم هذه الجيوش الضخمة!!
لقد كانت أزمة عنيفة !

وما أكثر الأزمات التي وقعت فيها حلب في خلال العقود الأخيرة، منذ أيام رضوان بن تتش ثم ابنه ألب أرسلان فالخادم بدر الدين لؤلؤ، وأخيرًا تحت حكم الأراتقة إيلغازي ثم بلك بن بهرام ثم حسام الدين تمرتاش.
وإن كنا نفهم الآلام التي مرت بها المدينة تحت حكم الطغاة رضوان وابنه ألب أرسلان ثم بدر الدين لؤلؤ، فلماذا تعاني المدينة تحت حكم الأراتقة، وهم كما رأينا قادتهم على قدرٍ لا بأس به من حبِّ الجهاد، وتوقير الشريعة ؟!

واقع الأمر أن الأراتقة المجاهدين الذين رأيناهم في قصة الحروب الصليبية بدءًا من سقمان بن أرتق، ومرورًا بإيلغازي بن أرتق، وانتهاءً ببلك بن بهرام كانوا جميعًا من القادة الناجحين الذين يقودون شعوبًا فاشلة !

والقائد الناجح العظيم يفشل إن كان جنوده أو شعبه من النوعية الفاشلة؛ فجيوش الأراتقة، بل وشعوبهم، كانت تتحرك في هذه المعارك بدافع الحصول على غنيمة أو مال، وبدافع تغيير مستوى المعيشة إلى أوضاع أفضل، وبهدف ترك المدن الصغيرة والقرى للسكنى في المدن العظيمة كحلب وحرَّان، وهذه الجيوش لو انتصرت مرة أو مرتين لا يكتب لها دوام النصر، ولو مُكِّنت في قطعة أرض أو مدينة، فإنه لا يكتب لها دوام التمكين والسيادة؛ إذ سرعان ما تنهار عند أول أزمة تنذر بضياع المال أو النفس.
ولذلك فلكي يحقق المسلمون نجاحًا دائمًا وتمكينًا مستمرًّا، واستقرارًا في دولتهم، وهيبة لا تهتز عند الأزمات لا بد أولاً من تربية شعبٍ على معاني الجهاد وحب الشريعة، وهذا الشعب هو الذي سيُخرِج الجيش الفاهم والقائد الواعي الذي يستطيع أن يواصل مسيرة الجهاد الصعبة .

ولو راجعت قصص انتصار وتمكين خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وطارق بن زياد وصلاح الدين الأيوبي وقطز ومحمد الفاتح، وغيرهم من الذين مُكِّنوا في الأرض ستجد أن شعوب هؤلاء كانت شعوبًا عظيمة، وتربيتهم كانت تربية راقية، ومستواهم الإيماني والأخلاقي كان متميزًا، وكفاءتهم العسكرية والسياسية والإدارية كانت عالية.
إنها منظومة متكاملة تحقق النصر في النهاية، ولا يمكن أن يتم نصر متكامل مستمر لمجرد ظهور بطل متحمِّس، أو رجل يحب الشهادة !

وواقع الأمر أننا لم نر حتى الآن في قصة الحروب الصليبية من يتناول القضية بهذه الطريقة، إنما كان يتعامل المخلصون الذين ظهروا لنا في هذه القصة مع الموضوع بطريقة إدارة الأزمات، وبطريقة حكومة الطوارئ، التي تحاول قدر استطاعتها بإخلاص الخروج من الأزمة، لكن دون تخطيط حقيقي لمستقبل البلاد، ودون وضع خطط واضحة لضمان سلامة البلاد لعشرات السنين المستقبلية .

وهذا ما يحزننا في زماننا الآن، عندما نرى المتحمِّسين لقضية فلسطين أو العراق أو غيرهما من الأقطار الإسلامية المحتلة يقصرون همَّهم ووسائل مساعدتهم على جمع المال والإمداد بالغذاء والدواء، بل والمطالبة بالذهاب إلى هناك للقتال والاستشهاد! وهذا - لا شك - أمر مطلوب، ولكنه لا يكفي بمفرده، بل لا بد إلى جواره أن ننظر إلى المدى البعيد الذي نفلح فيه في تكوين شعب، وفي تربية جيل يستطيع أن يحقق كل الآمال، فلا يكتفي بتحرير البلاد المحتلة فقط ، ولكن يسعى إلى الاستمرار في الحفاظ على المكاسب ويحرص على دوام التمكين، بل ويطمح في نشر دين رب العالمين في كل ربوع الدنيا.
وما أعمق الكلمات التي كان يحفز بها رسول الله شعبه أثناء فترة مكة، حين كان يُعلِي طموحاتهم، ويرفع من همتهم، فلا يكتفي بفتح باب الأمل "باحتمالية" النجاة من اضطهاد أهل مكة، بل يؤكد على ذلك ويتجاوز هذا إلى طموحات رائعة حيث يقول: "وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ" ، بل إنه يقول لهم في صراحة: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا" . وقال لعمِّه أبي طالب: "إني أريد منهم كلمة واحدة تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم العجم الجزية!!". قال أبو طالب: كلمة واحدة؟! قال: "كلمة واحدة". قال: "يا عم، قولوا لا إله إلا الله" ؛ يقول هذا الكلام والمسلمون محاصَرون في مكة المكرمة، وهم بعيدون عن كل أسباب التمكين المادية !

لا بُدَّ إذن من وجود قوَّاد ومربِّين ومصلحين وعلماء يرفعون سقف أحلام المؤمنين، ويعيدون تربية الشعب على أساس متين، يستخلص بوضوح من سيرة الرسول r، وكذلك من سير المجاهدين المجددين في تاريخ هذه الأمة، والذين استطاعوا أن يمكنوا للإسلام في الأرض.
ومع ذلك فإن مرحلة الأراتقة هذه كانت ضرورية، ولا بد أن نشكر جهودهم مع كونها كانت مؤقتة؛ إنهم حملوا الراية في زمان تخاذل الكثيرون عن حمل الراية، وداموا على الجهاد مع صعوبته، وألحقوا بعض الهزائم بالصليبيين منعتهم من التوسع الأكثر في بلاد المسلمين، ومهدوا لمن يأتي من بعدهم ليكمل المسيرة، وأنقذوا أرواحًا كانت من الممكن أن تزهق، وديارًا كانت من الممكن أن تهدم، ولعلهم لو ظهروا في زمانٍ اجتهد فيه من سبقهم في تربية الشعوب، وتعليم الناس، لكان لهم شأن آخر، ولكن الأمور تجري بالمقادير !

ونعود إلى أهل حلب !

لقد وجد أهل حلب أنفسهم في حيرة شديدة، وشعروا أن البلد بلا قائد ولا رابط، وأن قائدهم المفترض حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي ضعيف، وحتى لو جاء بجيشه فلن يستطيع أن يدفع عنهم، فهو لا يرغب أصلاً في مواجهة الصليبيين، والجهاد صعب، ولن يَقْوَى عليه إلا من يطلبه، بل ويشتاق إليه.
ومن هنا قرَّر أهل حلب أن يستعينوا بقائد من خارج حلب يأتي ليتسلم زمام الأمور، ومن ثَمَّ يَرُدُّ هؤلاء الغزاة عن المدينة الآمنة: حلب! فبمَن يستعينون؟!
إن معظم الزعامات التي كانت حولهم كانت في غاية الضعف، ولم يكن أمامهم إلا أحد رجلين: إما طغتكين قائد دمشق، أو آق سنقر البرسقي زعيم الموصل .

أمّا طغتكين، فهو على الرغم من قوته وحفاظه على دمشق فترة طويلة فإنَّه لم يكن القائد المنشود، وذلك أنه كان دومًا في حاجة إلى المعونة من الخارج، بل كان أحيانًا يتحالف مع الصليبيين في فترات ضعفه، وها هم الصليبيون يأتون بجيوشهم لحصار حلب غير معتبرين بقوة طغتكين القريبة من حلب، ومن ثَمَّ فإن أهل حلب شعروا أن هيبة طغتكين لن تردع الصليبيين، ولن تردهم خاسرين .

لكن القائد الآخر آق سنقر البرسقي شأنه مختلف! فهذا القائد، مع كونه لا يمتلك تاريخًا جيدًا في المنطقة؛ حيث هُزم قبل ذلك من الصليبيين أثناء فترة ولايته الأُولى على الموصل، إلا أنه يتمتع ببعض الخصال التي تجعل كفَّته أرجح من كِفَّة طغتكين.
فهو أولاً : يتمتع بدرجة عالية من الصلاح والتقوى تجعله يسير فيهم بالعدل والرحمة، وهي صفات افتقر إليها شعب حلب عدة عقود .

وهو ثانيًا : يمتلك جيشًا قويًّا هو جيش الموصل، ويكفي أن أحد أبرز قادته هو عماد الدين زنكي الذي اشتهر أمره بين المسلمين .

وهو ثالثًا : يحكم شعبًا فاهمًا محبًّا للجهاد، وهو شعب الموصل؛ ولذا فجيشه يختلف عن بقيَّة جيوش هذا الزمان، وهو يعلم كيف يكون الجهاد في سبيل الله، وليس في سبيل الكرسيِّ أو المال .

وهو رابعًا : على عَلاقة جيِّدة جدًّا وشخصيَّة بالسلطان السلجوقيّ محمود؛ ومن ثَمَّ فهو بذلك يضمن تأييدَ أكبر سلطة في العالم الإسلامي في ذلك الوقت .

وهو خامسًا : سيضيف قوة جديدة إلى المنطقة بالإضافة إلى قوة طغتكين؛ لأن هناك سابق اتحاد بين قوة الموصل وقوة دمشق أيام مودود رحمه الله، فلو أُعيدت هذه الوَحدة بالإضافة إلى حلب فلعل ذلك يردع الصليبيين ويحقق النصر .

ومن هنا رجحت كفة آق سنقر البرسقي، وأرسل أهل حلب من فورهم رسالة استغاثة إليه، تطلب منه القدوم لتسلُّم مفاتيح المدينة العظيمة : حلب !

وجد آق سنقر البرسقيّ أمير الموصل أن هذه فرصة لا تُعَوَّض لمواصلة الجهاد ضد الصليبيين ، خاصة أنَّ السلطان محمود قد أظهر رغبة في الجهاد قبل ذلك، ومن هنا تحرك بسرعة ملبِّيًا نداء أهل حلب، ووصلها بالفعل في ذي الحجة سنة 518هـ\ يناير 1125م؛ ليُوَحِّد بذلك بين الإمارتين الكبيرتين : الموصل وحلب وإذا كنا قد رأينا شرًّا كبيرًا في غياب المجاهد بلك بن بهرام عن الساحة، وإطلاق سراح بلدوين الثاني دون فائدة تذكر ، وحصار بلدوين وأعوانه لمدينة حلب، وغير ذلك من الأحداث المؤسفة؛ فإنه كان من وراء هذا الشرِّ خيرٌ كثير، وهو توحيد قوة الإمارتين المهمَّتين: الموصل وحلب. وهذه الوحدة وإن كانت لم تحقق أهدافها في أول أيامها، إلا أنها لفتت الانتباه إلى قيمة اتحاد هاتين الإمارتين، وبذلك يُعتبر هذا الحدث نواةً لما سيحدث مستقبلاً من اتحاد إستراتيجي مؤثر بينهم .

أما لماذا تعتبر هذه الوَحدة مهمة جدًّا فذلك لأسباب عدة منها :


أولاً : تواصل إمارة الموصل مع إمارة حلب دون وجود فارق بينهما يعني اتصال الجسر العسكريّ من العراق، بل من شرق العالم الإسلامي كله بما في ذلك فارس (مركز السلاجقة الرئيسي)، مع أرض الشام حيث يوجد الصليبيون .

ثانيًا : الدعوات الجهادية الحقيقية كانت تظهر في الموصل، فإذا تَوَحَّدَت الموصل مع حلب فإنه يُتَوَقَّع أن تسري هذه الدعوة في حلب ومنها إلى الشام، بعد غياب حقيقي لهذه الدعوة في أرض الشام طوال السنوات السابقة .

ثالثًا : الإمكانيات البشرية والعسكرية للإمارتين كبيرة، فاتحادهما يعني تكوين قوة صلبة تستطيع مواجهة الصليبيين .

رابعًا : وجود حلب تحت حكم الموصل التابعة أصلاً للسلاجقة والخلافة العباسية سيضع المسئولية رسميًّا على السلطنة والخلافة، ولن يصبح الأمر مجرَّد تفضُّل بالمساعدة، أو تبرُّع بالجهاد .

خامسًا : الجيوش العسكرية العراقية كانت تعاني دائمًا من عدم وجود قاعدة انطلاق متقدمة في أرض الشام، ولعلنا نذكر الأزمة التي وُضع فيها مودود رحمه الله عندما أَغْلَق رضوان حاكم حلب أمامه أبواب المدينة عندما جاء بجيوشه للجهاد ضد الصليبيين.
سادسًا: هناك فرصة كبيرة لانتقال علماء المسلمين من العراق، وخاصة من الموصل وبغداد، لإعادة بناء أهل حلب والشام عقائديًّا وفكريًّا، وخاصةً أن سيطرة الباطنية على الأمور في أعظم مدينتين بالشام وهما: حلب ودمشق، أدى إلى كثير من الاضطراب في مفاهيم الناس .

فهذه كانت بعض الفوائد من اتحاد الموصل مع حلب؛ ولذلك ظهر الاحتفال بهذه الخطوة واضحًا عند كل المسلمين المخلصين المعاصرين للحدث، كما ظهر ذلك أيضًا في كتابات المؤرخين، وما زال يظهر في تحليلاتنا إلى زماننا هذا، ولا شكَّ أن الوَحدة بصفة عامة أمر يدعو إلى الاحتفال والاهتمام .

وهكذا جاء آق سنقر البرسقيّ إلى حلب، وبمجيئه رحلت القوات الصليبية حيث شعرت بقوة الجيش السلجوقي العراقي، وتعاطف الناس في حلب معه، ومن هنا لم يحدث صدام بين المسلمين والصليبيين .

رتَّب آق سنقر الأوضاع في حلب، ثم عاد إلى الموصل بعد أن ترك فيها أميرًا يتبعه ، ثم ما لبث أن عاد إلى المنطقة في أوائل سنة (519هـ)\ مارس 1125م، وزار إمارة شيزر، وتسلم الرهائن الصليبية من سلطان بن منقذ أمير شيزر، وذلك بناء على المعاهدة التي كانت تنصُّ بتسليم هؤلاء الرهائن لزعيم حلب في حال الإخلال بأي بند من بنود الاتفاق .

ثم بدأ آق سنقر الجهاد مباشرة ضد الصليبيين، فاستطاع السيطرة على حصن كفرطاب بالقوة، وهو من الحصون التي كانت في الاتفاق مع بلدوين الثاني، ثم حاصر بعده حصن زردنا ، ونتيجة هذه الحملات استنجدت أنطاكية ببلدوين الثاني الذي جاء مسرعًا إلى المنطقة، خاصة أن ابنته الآن رهينة في يد آق سنقر البرسقي، واشترك معه في النجدة جيش طرابلس بقيادة الأمير بونز، وكذلك جيش الرها بقيادة جوسلين دي كورتناي، وترك آق سنقر حصار زردنا، واتجه إلى منطقة عَزاز شمال حلب ، حيث دارت موقعة كبيرة بين الطرفين اقتتلوا فيها قتالاً شديدًا، ثم تمكَّن الصليبيون - للأسف الشديد - من إلحاق الهزيمة بالمسلمين ، لكنها لم تكن هزيمة ساحقة كما تُصَوِّرُها بعض الكتابات بدليل أن قتلى المسلمين كما ذكر ابن الأثير كانوا ألفًا فقط ، وبدليل قَبول الطرفين للجلوس للتفاوض بعد المعركة مما يُعطِي انطباعًا بالتكافؤ النسبي بين الفريقين .

وكانت نتيجة المفاوضات كالآتي :


أولاً : يُسَلِّم آق سنقر الرهائنَ الصليبيين إلى بلدوين الثاني .

ثانيًا : يحتفظ المسلمون بكفرطاب .

ثالثًا : تُعقد هدنة بين الطرفين لمدة معينة لم تحدِّدها المصادر ، ولكن من الواضح أنها كانت هدنة لمدة قصيرة ؛ لأن آق سنقر رجع مسرعًا إلى الموصل لإعادة ترتيب الأوضاع في جيشه، وجمع المجاهدين لصدام جديد، وقد ترك على حلب ابنه عز الدي مسعود بن آق سنقر .

كانت هذه هزة لآق سنقر لكنها هزة لم تُلْغِ زعامته، ولم تزعزع مركزه، ولم تُفقده ثقة السلطان محمود فيه، ولا ثقة الشعوب الإسلامية في قدراته وإخلاصه، ومن ثَمَّ فالآمال كانت لا تزال معقودة عليه في تحرير الأراضي الإسلامية من دنس الصليبيين .

وبينما يُعِدُّ آق سنقر عُدَّته للتجهز لصدام جديد بعد انقضاء الهدنة إذ الأخبار تأتي من الشام أن بونز أمير طرابلس استطاع انتزاع قلعة رَفِنِيَّة من أيدي المسلمين، وهذه القلعة تابعة لحمص التي تتبع بدورها طغتكين أمير دمشق ، وهي قلعة في غاية الأهمية لسببين رئيسيين؛ الأول لأنها تُشرف على طرابلس، ومن ثَمَّ فهي تهدد أمن الإمارة الصليبية بكاملها، والثاني أنها تشرف على الطريق بين بيت المقدس وأنطاكية، ومن ثَمَّ فالسيطرة عليها يؤمِّن الإمدادت الصليبية من بيت المقدس إلى أنطاكية، ومن الجدير بالذكر أن بلدوين الثاني شارك بونز في إسقاط قلعة رَفِنِيَّة، وبالتالي نقض الهدنة التي كانت بينه وبين آق سنقر البرسقي .

هنا استنجد طغتكين بآق سنقر الذي جاء من فوره بجيشه في منتصف عام 520هـ\ 1126م، وأرسل آق سنقر ابنه عز الدين مسعود لقتال الصليبيين عند رَفِنِيَّة بينما توجه هو إلى حصار حصن الأثارب المهمِّ، وهو من الحصون التابعة لأنطاكية.
أقبل بلدوين الثاني مسرعًا ومعه جوسلين دي كورتناي أمير الرها، وكان واضحًا أنه خشي من القوة المتنامية لآق سنقر، ومن إصراره وعزمه على مواصلة الجهاد، ومن تعاطف المسلمين معه، ومن اتفاق زعماء الشام عليه، فعرض عليه الصلح، وعقد الهدنة من جديد، وهذه المرة سيدفع بلدوين الثاني الثمن، وهو إعادة حصن رَفِنِيَّة الخطير للمسلمين !

كانت نتيجة مُرضية جدًّا لآق سنقر، وخاصة أنها جاءت دون قتال، وسيستعيد المسلمون حصنًا مهمًّا، وسيأخذون بالهدنة الفرصة لإعادة تنظيم جيوشهم وأمورهم، ومن ثَمَّ وافق آق سنقر البرسقي وتسلَّم حصن رَفِنِيَّة، وأبقى عز الدين مسعود ابنه في حلب، وعاد أدراجه إلى الموصل .

لقد بدأ المسلمون الآن ينظرون إلى آق سنقر على أنه القائد الذي سيصمد في الحرب ضد الصليبيين، وهذا - لا شك - أسعد المسلمين كثيرًا، إلا أن هذه السعادة لم تكن في قلوب كل من يرقب الأحداث .
لقد كانت هناك عيون يملؤها الشرُّ، وقلوب يغمرها الحقد ترقب هذا النمو لشعبية هذا المجاهد، وهذه الآمال المعقودة عليه !!

إنها عيون الباطنية وقلوبهم!

إن هذه العصابات الإسماعيلية الشيعية المسلحة ما كانت لتستقر أبدًا أو تسعد وهي ترى جهودًا سُنِّيَّة مخلصة تهدف إلى توحيد الأمَّة، وإعلاء راية الجهاد، وطرد الصليبيين؛ لذلك قررت هذه القلوب الحاقدة والنفسيات المعقدة أن تتخلص من هذا الرمز الجديد، كما تخلصت قبل ذلك من سلفه المجاهد مودود، ومن قبله من الوزير العالم نظام الملك!
وفي اليوم الذي عاد فيه آق سنقر إلى الموصل، وهو يوم الجمعة الثامن من ذي القعدة سنة 520هـ الموافق 26 من نوفمبر 1126م، دخل آق سنقر رحمه الله المسجد الجامع لصلاة الجمعة، وكان يصلي رحمه الله مع العامة وَسْط الناس، وفي الصف الأول، وإذا ببضعة عشر باطنيًّا يهجمون عليه في وقت واحد، وتناوشوه بسكاكينهم وخناجرهم فسقط شهيدًا رحمه الله، في يومٍ كان من المفترض أن يحتفل فيه المسلمون باستعادة حصن رَفِنِيَّة !

إن طريق الجهاد شاقٌّ وطويل، ومشاكله لا تنتهي، وآلامه كثيرة، لكن مع ذلك يبقى الجهاد ذروة سنام الإسلام وأعلى ما فيه، وعلى الأمة التي تبغي عزة، وتهفو إلى ريادة وسيادة أن تتعوَّد على مثل هذه الصدمات، ولا تيأس لفقدان رمز من رموز الجهاد؛ لأن الله إذا اطَّلع على الصدق في قلوب الناس، والرغبة الحقيقية في الجهاد، رزقها مَن يحمل الراية، وكثيرًا ما يكون هذا البديل أعظم ألف مرة ممن فُقد، وهذا تدبير مَن لا يغفل ولا ينام .

ومع ذلك فلا يمنع أن تحدث هزة وأزمة مؤقَّتة بعد فقدان رمز مهمٍّ من رموز الجهاد والصلاح، ولقد تزامن مع استشهاد آق سنقر البرسقي رحمه الله عدة حوادث جعلت أحوال العالم الإسلامي في اضطراب أكثر وأزمة أكبر .

فمن هذا مثلاً حدوث خلاف عظيم بعد مقتل البرسقي بأقل من شهرين بين الخليفة المسترشد بالله والسلطان محمود، وقد تطور هذا الخلاف حتى وصل إلى صدام بالجيوش، وكادت مقتلة عظيمة بين الطرفين تحدث لولا أن الله سلَّم، وقُمعت الفتنة، واعتذر الخليفة المسترشد للسلطان القويِّ محمود، واستقرت الأوضاع نسبيًّا .

ومن هذه الحوادث أيضًا وصول بوهيموند الثاني ابن بوهيموند الأول، بعد أن بلغ سنَّ الرشد، وكان وصوله في شوال (521هـ) أكتوبر 1127م ، ولم يكن يَقِلُّ شراسة عن أبيه، حتى وصفه المؤرخ أسامة بن منقذ بأنه كان بليَّة على المسلمين .

وبهذا استقرت أوضاع الصليبيين إلى حدٍّ كبير، فبلدوين الثاني على رأس مملكة بيت المقدس، وجوسلين دي كورتناي على رأس الرها، وبونز على رأس طرابلس، وبوهيموند الثاني على رأس أنطاكية .

وقد سعى بلدوين الثاني إلى تقوية الأواصر بينه وبين مملكة أنطاكية، فاستقبل بوهيموند الثاني استقبالاً حافلاً، بل وعرض عليه الزواج من ابنته الثانية أليس، فقَبِل بوهيموند الثاني، وبذلك صارت الرابطة بين مملكة بيت المقدس وأنطاكية قوية ومتصلة .
ومن الحوادث العجيبة أيضًا التي أدَّت إلى اضطراب في صفوف المسلمين، أن السلطان محمود استخلف على الموصل وحلب بعد استشهاد آق سنقر البرسقيّ ابنه عز الدين مسعود بن آق سنقر، وكان رجلاً شهمًا شجاعًا ورعًا كأبيه، وكان عازمًا على استكمال مسيرة الجهاد، وقد حاول أن يضم إحدى القلاع المجاورة لحلب إليها، غير أنه مات فجأة في أثناء الحصار دون أن يتعرض إليه أحدٌ بشيء، وكان ذلك في عنفوان شبابه، وأحدث موته اضطرابًا كبيرًا؛ إذ قام أحد المماليك واسمه جاولي بمحاولة تنصيب أخي عز الدين مسعود، وكان طفلاً صغيرًا؛ من أجل أن يتولى هو الوصاية عليه، وأرسل رسولين بذلك إلى السلطان محمود، وانخلعت قلوب العامة خوفًا من أن يقبل السلطان بهذا الوضع، مما سيضع البلد على حافة هاوية، فالأمر خطير، والصليبيون يطرقون الأبواب بشدة، ويحتلون بلادًا واسعة، ويحتاج المسلمون إلى شخصيَّة مجاهدة صابرة قوية لا إلى طفل صغير يتحكم فيه ملك صاحب مطامع !!

أرسل جاولي - كما ذكرنا - رسولين إلى السلطان محمود ، وكان الرسولان هما القاضي بهاء الدين الشَّهْرُزُوري قاضي حلب ، وصلاح الدين محمد حاجب عز الدين مسعود البرسقي، وكان جاولي قد وعدهما بالولاية والتقديم إذا أفلحا في إقناع السلطان محمود بما يريد .

ومع أن الرسولين قد وُعِدَا بمال ومنصب إلا أن الله لطيفٌ بعباده، فقد اختار جاولي رسولين صالحين في قلوبهما رأفة على الأمة ، ونُصْحٌ لله ولرسوله وللمؤمنين؛ ولهذا فقد قرر هذان الرسولان أن ينصحا السلطان بما يمليه عليهما الشرع والدين، لا بما يرغب فيه جاولي أو غيره، مضحِّين بذلك بدنيا قد وُعدا بها .

التقى الرسولان بشرف الدين أنوشروان بن خالد وزير السلطان محمود، وقالا له في أمانة بالغة: "قد علمت أنت والسلطان أن ديار الجزيرة والشام قد تمَكَّنَ الفرنج منها وقويت شوكتهم بها، فاستولوا على أكثرها، وقد أصبحت ولايتهم من حدود مارِدِين إلى عريش مصر، وقد كان البرسقي (آق سنقر) مع شجاعته وتجربته وانقياد العساكر إليه يكفُّ بعض عاديتهم وشرِّهم، ومنذ قُتِل ازداد طمعهم، وهذا ولده طفل صغير، ولا بد للبلاد من رجل شهم شجاع، ذي رأي وتجربة يذبُّ عنها ويحفظها، ويحمي حوزتها، وقد أنهينا الحال لئلا يجري خلل أو وهن على الإسلام والمسلمين، فيختص اللوم بنا، ويُقال: ألا أنهيتم إلينا جليَّة الحال؟" .

رفع الوزير شرف الدين هذا الكلام المهم إلى السلطان محمود فاستحسنه جدًّا، واستدعاهما وشكرهما، ثم سألهما عمن يُرَشِّحان لمثل هذا المنصب الخطير، فعرضا له بعض الأسماء، غير أنهما حسَّنا له اسمًا معينًا ورغَّباه فيه، فقَبِل السلطان محمود ترشيحهما إذ خبر بنفسه قوة الرجل المرشَّح وخبرته وإخلاصه وورعه، ومن ثَمَّ صار هذا الرجل الجديد أميرًا على الموصل وحلب، وهذا المرشح الجديد والزعيم المرتقب هو عماد الدين زنكي رحمه الله ، وهو الزعيم الذي يحتاج منا إلى وقفات ووقفات، فهو - كما هو معروف - من علامات الجهاد البارزة في تاريخ الأمة .

فما هي قصة هذا البطل العظيم عماد الدين زنكي؟ وكيف علا نجمه واشتهر أمره؟ وما خطواته في الإصلاح؟ وما طريقته في التجديد والتغيير؟ وكيف كان تفاعل الشعب معه وموقف الأمراء منه؟ وما ردُّ فعل الصليبيين لظهور هذا النجم الجديد ؟

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 04-03-14, 04:43 AM

  رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

أصول عماد الدين زنكي

لا يمكن فهم شخصية عظيمة كشخصية عماد الدين زنكي دون العودة إلى جذوره وأصوله ، فبالنظر إلى حال أسرته وخاصة والديه ندرك الكثير من الأبعاد العميقة في حياته ، ونكشف السر وراء هذه الشخصية المتكاملة التي أجرى الله على يديها خيرًا كثيرًا للمسلمين .

والله علَّل الخير الذي أصاب الولدين في قصة موسى والخَضِرِ رحمه الله بأن الأب كان صالحًا، فقال تعالى ‎: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) .
ففي هذه القصة بُعد عجيب ، ومعنى دقيق لا بد من الإعتبار به ، وهو أن الأب ترك الولدين مبكرًا ، ولم يكن عنده من العمر ما يكفي لتربية أولاده وتنشئتهم ، ومع ذلك فإن الله حفظ الولدين وأجرى لهما خيرًا واسعًا بسبب أن أباهما كان صالحًا .

وفي نفس المعنى يقول الله : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا ) .

وهذه هي حالة بطلنا العظيم عماد الدين زنكي تمامًا؛ فقد تركه أبوه وهو يبلغ من العمر عشر سنوات فقط ! أي أن عماد الدين زنكي نشأ يتيمًا، ولكنَّ أباه كان يتقي الله ، وكان يقول الكلمة السديدة ، وكان صالحًا، فحفظ الله الابن بصلاح الأب ، وهذا متكرر كثيرًا في التاريخ الإسلامي ، وكم من المغيِّرين والمجدِّدين للأمة نشئوا يتامى، فما حرمهم ذلك من أن يكونوا قادة ومصلحين ، وليس الشافعي والبخاري ، وأحمد بن حنبل ، والحسن البصري ، وعبد الرحمن الناصر ، وقطز ، وعمر المختار إلا مجرد أمثلة ، بل إن رسولنا نشأ يتيمًا ، فكان أعظم إنسان عرفته البشرية .

إذن من هو الأب العظيم الذي بصلاحه حفظ الله له ولنا هذا الابن الجليل عماد الدين زنكي ؟!

إنه آق سنقر الحاجب التركماني ! وكما هو واضح من اسمه فهو من قبائل الأتراك ، من قبيلة تُعرف باسم ساب يو ، وهي قبيلة تمتعت بمكانة رفيعة عند السلاجقة الأتراك .

وكان آق سنقر من أصحاب السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان ، وهو السلطان العظيم الذي إمتدت حدود دولته من الصين شرقًا إلى آسيا الصغرى غربًا ، وكان عادلاً حسن السيرة ولذلك لم يكن يُقرِّب منه إلا الصالحين ، ويكفي أن وزيره الأول كان نظام الملك ، وهو من أعظم الوزراء في الإسلام ، وحاجبه كان آق سنقر والد عماد الدين زنكي ، فهذا من أدلة صلاح السلطان ملكشاه الذي يسَّر له الله البطانةَ الصالحة .

وكان آق سنقر مقرَّبًا بدرجة كبيرة إلى قلب السلطان ملكشاه لدرجة أنه أنعم عليه بلقب عجيب ، وهو قسيم الدولة ، ومعنى اللقب أن يقتسم معه إدارة الدولة وشئونها ، وهي منزلة رفيعة جدًّا .

ثم كانت هناك أحداث صعبة تمرُّ بها بلاد الشام ، حيث كانت تمزِّقها صراعات سياسية خطيرة ، خاصة منطقة حلب حيث كان يتنازع السيطرة عليها ثلاث قوى رئيسية : أما القوة الأولى فهي قوة مسلم بن قريش العقيليّ صاحب الموصل وحلب .. وأما القوة الثانية فهي قوة تتش بن ألب أرسلان أمير دمشق ، وهو أخو السلطان ملكشاه ، ولكنه كما ذكرنا قبل ذلك كان خبيثًا فاسدًا ، وكذلك صار أولاده من بعده وهم رضوان ودقاق وأما القوة الثالثة فهي قوة سليمان بن قتلمش مؤسِّس إمارة سلاجقة الروم ووالد قلج أرسلان الأول الذي مرَّ ذكره في بدايات قصة الحروب الصليبية .

وكنتيجة مأساويَّة لهذا الصراع قُتل مسلم بن قريش على يد سليمان بن قتلمش ، وأصبح الطريق إلى حلب مفتوحًا لسليمان ، ولكن أهلها رفضوا تسليم المدينة له ، وأرسلوا إلى السلطان العادل ملكشاه ليتسلم مدينة حلب ، فوافق السلطان ملكشاه ، وجاء بجيشه ، لكن في هذه الأثناء قُتل سليمان بن قتلمش على يد تتش بن ألب أرسلان ، وإنطلق تتش ليستولي على حلب ، غير أنه وصلها مع وصول جيش أخيه ملكشاه ، ووجد تتش أنه لا طاقة له بهذا الجيش العملاق ، فإنسحب وترك المدينة لملكشاه .

وكان الوضع في حلب سيِّئًا للغاية نتيجة الصراعات الدموية التي دارت في المنطقة فلم يجد السلطان ملكشاه حلاًّ لإصلاح أوضاعها إلا بتسليم إدارتها إلى الرجل الذي يثق في قدراته وأخلاقه وورعه ، وهو قسيم الدولة آق سنقر الحاجب ، وكان ذلك في شهر شوال (479هـ) يناير 1087م ، وهكذا بدأ الحكم السلجوقي لمدينة حلب ، بل وأعطاه إلى جوار حلب عدة مدن في المنطقة منها حماة ومَنْبِج واللاذقية .

تسلَّم آق سنقر الحاجب رحمه الله المدينة وهي في حالة مزرية من الفوضى والاضطراب بفعل الصراعات الكثيرة التي كانت بين حكام وأمراء المنطقة؛ مما جعل الحكام الذين تولوا حكمها لا يلتفتون أبدًا إلى أمورها الداخلية ، أو إلى حياتها الاقتصادية، فتراجعت واردات البلاد ، وفُرضت ضرائب باهظة على السكان ، ونتيجة لغلاء الأسعار , إنتشر اللصوص في المدينة، وإنعدم الأمن ، ومن ثَمَّ تعطلت الحركة التِّجارية، كما تراجعت الزراعة ، وهذا كله - لا شك - أثَّر سلبًا في كل قطاعات المجتمع .

ومع هذا التدهور الرهيب في كل مناحي الحياة إلا أن آق سنقر بدأ يمارس عمله بنشاط ، ساعيًا بكل طاقته أن يصلح الأمور كلها ، وكانت نظرته شمولية ، فلم يهتم بجانب على حساب آخر ، بل تناول الأحوال جملة واحدة .

إهتم آق سنقر بداية بالحالة الأمنية الخطيرة التي كانت تعاني منها حلب ، فأقام الحدود الشرعية ، وطارد اللصوص وقُطَّاع الطريق ، وقضى عليهم ، وتخلص من المتطرفين في الفساد .

وإضافةً إلى هذه السياسة التي تعتمد على وجود شرطة قوية عادلة تدافع عن الحقوق ، وتستخدم سلطتها في حماية الناس بدلاً من التسلط عليهم ، إضافةً لهذه الشرطة فإن آق سنقر لجأ إلى سياسة أخرى عجيبة آتت ثمارًا رائعة وفي وقتٍ محدود ؛ ذلك أنه أقر مبدأ المسئولية الجماعية لكل قرية أو قِطَاع في المدينة ، مما يعني أنه في حالة إذا هوجمت قافلة أو إنسان ، فإن أهل القرية يتحملون مسئولية الدفاع عنه ، وإذا سُرقت أمواله ، فإنهم يجتمعون معًا لتعويضه عما سُرق، ومن ثَمَّ أصبحت مهمة الحفاظ على الأمن هو مهمة الجميع ، ولا يمكن أن يشك الناس في لص أو عصابة مجرمين دون الإخبار عنها ؛ لأن المسئولية أصبحت جماعية وليست فردية ، وهذا له مرجع في الشريعة ، حيث مبدأ "العاقلة" ، بمعنى أن أفراد العائلة الواحدة أو القبلية الواحدة ، أو القرية الواحدة يتعاقلون فيما بينهم ، أي يتعاونون فيما بينهم لجمع الدِّيَة المطلوبة من أحدهم ، أو سداد الدين عنه ، وبذلك تعود الحقوق لأصحابها مهما كانت كبيرة .

ونتيجة لهذه السياسة البارعة ، ونتيجة للتطبيق الدقيق لها ، ونتيجة للإستخدام الصحيح لجهاز الشرطة في الإمارة ، عمَّ الأمن والأمان في كل الربوع وفي غضون أشهر قليلة ، وانعكس ذلك - ولا شك - على حركة التجارة والزراعة ، وانعكس على حركة الأموال والبضائع ، ومن ثَمَّ تحسَّن الاقتصاد بشكل ملموس وإنخفضت الأسعار ، وتوفَّرت المنتجات ، وصار لحلب شأن عظيم بين الإمارات المجاورة .

ولا بد أن نؤكِّد هنا على أن آق سنقر رحمه الله كان حريصًا تمامًا على إقامة الحدود الشرعية ، مع أن الكثيرين قد يعتقدون أنها ستترك مجتمعًا مشوَّهًا نتيجة قطع أيدي السارقين ، وقتل القاتلين ، ورجم الزناة المحصنين ، وجلد الزناة غير المحصنين ، وجلد شاربي الخمر ؛ قد يعتقد البعض أن المجتمع في حلب أصبح مشوَّهًا نتيجة تطبيق الحدود في وجود الكثير من المفسدين والمجرمين ! لكن واقع الأمر أن هذا لم يحدث ؛ لقد كان تطبيق الشريعة مع مجرم أو اثنين رادعًا لبقية المجرمين ، ولم تَنْقِلْ لنا المصادر أن عددًا كبيرًا قد عوقب بهذه الحدود، إنما نقلت أن الأغلب الأعم من المجرمين إرتدع عن جرائمه ، وصدق الله إذ يقول : (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ، فأصبحت حياة حلب وأمنها وعزِّها وتحسُّن اقتصادها وعلوّ شأنها في تطبيق القصاص ، وفي الإلتزام بالحدود الشرعية ، وفي التطبيق الحرفيِّ لكتاب الله وسنة رسوله .

ونتيجة هذا الأمن المتناهي نادى آق سنقر في أهل حلب بأمر عجيب جدًّا ، وهو أن لا يرفع أحد متاعه من الطريق إذا أراد أن يذهب إلى مكان بعيد ثم يعود ، بل يتركه دون حراسة، وهو ضامن له ألا يُسرق !!

لقد كان أمنًا عجيبًا تحدَّث عنه الناس هنا وهناك .

ومما يُروى في هذا الصدد قصة عجيبة ، وهي أن آق سنقر كان قد مرَّ بقرية من قرى حلب، فوجد أحد الفلاحين - وكان لا يعرف آق سنقر - قد فرغ من عمله في حقله ، ويستعد لحمل أداة من أدوات الزراعة على دابته ليحملها إلى القرية ، وكانت هذه الآلة مغلَّفة بالجلد ، فقال له آق سنقر : ألم تسمع مناداة قسيم الدولة بأن لا يرفع أحدٌ متاعًا ولا شيئًا من موضعه ؟ بمعنى أنه يضمن لك حفظه من السرقة ، فقال الفلاح : حفظ الله قسيم الدولة ، وقد أُمِّنَّا في أيامه ، وما نرفع هذه الآلة خوفًا عليها من السرقة ، لكن هنا حيوان يقال له ابن آوَى (حيوان مثل الذئب) تأتي إلى هذه الآلة فتأكل الجلد الذي عليه ، فنحن نحفظه منها ونرفعه لذلك .. فعندما عاد قسيم الدولة إلى حلب أمر الصيَّادين فتتبعوا هذه الحيوانات في كل الإمارة ، فصادوها حتى أفنوها !

لقد كان أمنًا يخرج عن حدِّ الواقع إلى الخيال !

ولم يكن إسهام آق سنقر في هذا المجال فقط ، بل نجد إسهاماته العمرانية مثلاً ما يثبت أنه كان قائدًا متوازنًا مهتمًّا بكل التفاصيل في إمارته ، وقد جدَّد رحمه الله منارة مسجد حلب الجامع ، وما زال اسمه منقوشًا عليها إلى اليوم .

وأما في المجال العسكري ، فكان قسيم الدولة رحمه الله منظمًا إلى أبعد درجة ، وكان له جيش نظاميّ معظمه من التركمان ، وكان له أيضًا جيش احتياطي مكوَّن من العرب والتركمان ، وكانت القوات الاحتياطية تبلغ عشرين ألف مقاتل .

وصار قسيم الدولة آق سنقر رحمه الله حديث الناس كلهم أجمعين ! وأحبَّه أهل حلب حبًّا جمًّا ، بل شُغِف بأخباره عامة المسلمين .

يقول المؤرخ ابن القلانسي في ذيل تاريخ دمشق عن آق سنقر: "وأحسن فيهم السيرة ، وبسط العدل في أهليها ، وحمى السابلة (الطريق المسلوك) للمترددين فيها ، وأقام الهيبة ، وأنصف الرعية ، وتتبع المفسدين فأبادهم ، وقصد أهل الشر فأبعدهم ، وحصل له بذلك من الصيت ، وحسن الذكر ، وتضاعف الثناء والشكر ، فعمرت السابلة للمترددين من السفار ، وزاد إرتفاع البلد بالواردين بالبضائع من جميع الجهات والأقطار" .

وقال ابن الأثير في حقه : "وكان قسيم الدولة أحسن الأمراء سياسةً لرعيته ، وحفظًا لهم ، وكانت بلاده بين رخص عام وعدل شامل وأمن واسع" .

وقال إبن كثير: "كان قسيم الدولة من أحسن الملوك سيرةً ، وأجودهم سريرة ، وكانت الرعية في أمن وعدل ورخص" .

كانت هذه هي حياة قسيم الدولة آق سنقر رحمه الله .

ومع هذه الروعة فإنَّ هذه الحياة لم تكن تعجب الجميع ! بل كان هناك مَن ينكر عليه خيره ، ومن يكره فضله ، ومن يحقد عليه لأجل صلاحه وورعه !!

وعلى رأس هؤلاء كان تتش بن ألب أرسلان أخو السلطان ملكشاه ، وكان تتش يطمع في بسط سيطرته على الشام بكاملها ، وفي وجود مثل هذا الحاكم العادل في حلب فإنَّ ذلك سيصعب عليه ؛ فالناس يحبونه ، وكذلك السلطان ملكشاه ، فماذا يفعل تتش ؟!

لقد كان تتش ذكيًّا في شرِّه ! فبدأ في السعي في ضم كل الإمارات الشامية بإستثناء حلب ؛ لأنه يعلم أن ملكشاه يحب آق سنقر ، فلا داعي لإستثارة السلطان عليه ، ثم إنه أثار حملة السلطان لمساعدته بأن ذكر له أن بقية الإمارات الشامية واقعة تحت تهديد النفوذ العبيديّ ، فأمر السلطان ملكشاه أمراء الشام بما فيهم آق سنقر أن يساعدوا تتش في حروبه ضد العبيديين .

لكن قسيم الدولة كان يدرك أطماع تتش الإنفصالية ، وكان في نفس الوقت عظيم الوفاء للسلطان ملكشاه ، لكنه لم يستطع أن يطعن في تتش لكونه أخَا ملكشاه ، وهذا دفعه لمساعدة تتش بغير حماسة ، مما أوغر صدر تتش عليه أكثر وأكثر ، بل وراسل أخاه السلطان ملكشاه في أمر قسيم الدولة .

أراد السلطان ملكشاه أن يحل الأزمة برفق ؛ فهو لا يريد أن يغضب كلا الطرفين ، ومن ثَمَّ فقد إستدعى كل أمراء الشام بما فيهم آق سنقر وتتش إلى مقرِّه في فارس ليتباحثوا في أمر الشام ، وهناك قام تتش بصراحة بإتهام آق سنقر بعدم الإخلاص للسلاجقة ، وهذا دفع آق سنقر لأن يدافع عن نفسه ، بل وإتهم تتش بالكذب ، ومن العجب أن السلطان ملكشاه أقرَّ آق سنقر على رأيه ، ورفض عزله ، وأوصى أخاه تتش بعدم التعرُّض له !

وكان هذا اللقاء في رمضان 484هـ ، أي بعد خمس سنوات من ولاية آق سنقر على حلب، لكن في السنة التالية حدث أمر مفجع وهو وفاة السلطان ملكشاه في شوال 458هـ\ تشرين الثاني 1092م ، وتولى بركياروق إبنه الأكبر الولاية على السلطنة السلجوقية الكبرى ، وهذا أغضب تتش الذي كان يطمع في هذا المنصب الرفيع ؛ ولذلك قرر تتش أن يتحرك بالقوة العسكرية لحرب ابن أخيه بركياروق ، والسيطرة على السلطنة بالقوة !!

ولكن تتش كان يخشى من وجود قوة آق سنقر خلف ظهره ، وفي نفس الوقت كان يريد أن يستغل قوته العسكرية الكبيرة في تحقيق مطامعه ، فأمره أن يأتي على رأس جيشه ليعاونه في حرب بركياروق بن ملكشاه !!

وقع قسيم الدولة آق سنقر في أزمة كبيرة ؛ فهو يعلم أن قوة تتش أكبر بكثير من قوته ، وهو في النهاية أخو ملكشاه السلطان المتوفَّى ، وعم السلطان الحالي بركياروق ، لكن في نفس الوقت هو على وفائه للسلطان العظيم ملكشاه ، ويريد أن يحفظه في إبنه ، كما أنه يعلم أطماع تتش ، ويعلم أنه ليس بالشخصية الجديرة بحكم المسلمين ، فماذا يفعل ؟!
لقد فكَّر قسيم الدولة في خطة خطيرة ! قد يدفع ثمنها من حياته يومًا ما، لكن لم يجد أمامه حلاًّ آخر !

لقد قرر قسيم الدولة أن يخرج بجيشه مع تتش ، ويوهمه أنه سيقاتل معه ، فإذا إلتقى الجيشان ، ترك قسيم الدولة جيش تتش وإنضمَّ إلى جيش بركياروق !

إنها خطة خطيرة ستقضي تمامًا على قسيم الدولة لو إنتصر تتش ! لكنَّ قسيم الدولة كان يرى أن الحق مع بركياروق ، ليس لأنه الوريث الشرعيّ للحكم فقط ، ولكن لكونه أصلح وأتقى ألف مرة من تتش ؛ ولذلك ضحَّى بأمنه وحياته من أجل الدفاع عن هذا الحق .

إنه نوعية فريدة حقًّا من الرجال !

ونفَّذ قسيم الدولة خطته ، وفي سنة 486هـ إلتقى جيش تتش مع جيش بركياروق في مدينة الرَّيِّ بفارس ، وفعلاً إنسحب آق سنقر بجيشه وإنضم إلي بركياروق ، وفعل نفس الشيء أمير الرها بوزان ، وكان وفيًّا كذلك للسلطان الراحل ملكشاه ، فإختلَّ توازن جيش تتش ، ومن ثَمَّ إنسحب مهزومًا من الرَّيِّ ، وعاد إلى الشام بخُفَّي حُنَيْن ، لكنه عاد بقلبٍ أشد حقدًا على قسيم الدولة آق سنقر .

أعاد بركياروق قسيم الدولة آق سنقر إلى إمارة حلب تابعًا له ، وذلك في ذي القعدة 486هـ ، وأمده بقوات إضافية لأنه كان يتوقع ضربة انتقامية وشيكة من تتش .

وسرعان ما جاءت هذه الضربة ، فقد جمع تتش عدة جيوش ، وتقدم صوب حلب لإمتلاكها ، وخرج له قسيم الدولة بعد أن استغاث ببعض الأمراء التابعين لبركياروق ، لكنَّ الأمراء تأخروا في القدوم ، مما جعل قسيم الدولة يواجه تتش بجيشه وحده، وكانت الهزيمة المفجعة ، وأُسِرَ آق سنقر ، وقام تتش بقتله على الفور !

كانت هذه المأساة في يوم السبت 9 من جمادى الأولى 487هـ\ مايو 1094م ، وهكذا انتهت فترة حكم آق سنقر - وهي ثمانية أعوام - لمدينة حلب ، ويشهد الجميع أنها كانت من أزهى عصور حلب مطلقًا .

هذه هي قصة الرجل العظيم قسيم الدولة آق سنقر الحاجب !

هذه هي قصة الرجل الذي تربَّى في بيته عماد الدين زنكي !

لقد قُتل قسيم الدولة آق سنقر ، بينما لم يتجاوز ابنه عماد الدين زنكي عشر سنوات !! لقد كان عماد الدين زنكي طفلاً صغيرًا ، ولا بد أن كثيرًا من الناس أشفقوا عليه من الضياع ، وكم من الأيتام ضاعوا ويضيعون ! لكن عماد الدين زنكي لم يضِع ، بل أعزَّه الله ونصره ، ولم يمُتْ إلا وهو على رأس إمارة واسعة ، وكان من أحبِّ خلق الله إلى قلوب العباد .

إن قسيم الدولة وإن كان لم يترك لابنه مالاً كثيرًا ، ولا منصبًا رفيعًا ؛ فإنه ترك له أشياء أخرى كثيرة أعظم كثيرًا من المال والسلطان .

لقد ترك له أولاً رعاية الله وحفظه ، وكفى بهذه الرعاية ميراثًا ! لقد كان قسيم الدولة ورعًا تقيًّا قائلاً للحق دومًا ، حتى قال ابن العديم : " وكان قسيم الدولة شديد التقوى ، عميق الإيمان" .

وهذه التقوى حفظت الابن الصغير الضعيف كما وعد الله : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ) .

وترك قسيم الدولة لإبنه ثانيًا حبًّا عظيمًا للشريعة وآدابها ، وتوقيرًا كاملاً لقوانينها وحدودها ، ورأى عماد الدين زنكي بعينيه بركات تطبيق الشريعة ، فما تركها أبدًا .

وترك قسيم الدولة لإبنه ثالثًا إعلاءً لقيمة العدل ، حتى ترسخ ذلك في قلبه وكيانه ، فكَرِه الظلم بكل صوره ، وصار من أعدل حكام المسلمين كما كان أبوه .

وترك قسيم الدولة لإبنه رابعًا رحمة فطرية على الرعية ، حتى كان يقدِّم مصالحهم على مصالحه ، ويعفو ويصفح لو كان الخطأ في حقِّه ، ويرحم الضعفاء والفقراء ، ويأخذ الحق لأهله دون تجاوزٍ أو طغيان .

وترك قسيم الدولة لإبنه خامسًا تواضعًا عظيمًا ، جعله لا ينظر إلى بهرجة السلطان ، وعظمة الكرسيّ ، بل كان دائمًا متواضعًا لله يدرك فضل الله عليه ، ومن ثَمَّ لا يتكبر على خلق الله ، ولا يُعْجَبُ بما يحقِّق من نصر أو تمكين .

وترك قسيم الدولة لإبنه سادسًا مهارة إدارية وقيادية جعلته قادرًا على تحريك الجموع وسياستهم ، وجعلته محبًّا لفكرة الوحدة والتجمع تحت راية واحدة .

وترك قسيم الدولة لإبنه سابعًا حبًّا للجهاد وتعظيمًا له ، فحياته كلها كانت جهادًا ، وكذلك حياة إبنه ؛ لقد علَّم ابنه كيف يكون مجاهدًا في سبيل الله لا في سبيل الملك والمال ، كما علَّمه ركوب الخيل وفنون الفروسية ، فقد كان قسيم الدولة من أمهر الناس قتالاً ، ومن أعظمهم جهادًا .

وترك قسيم الدولة لابنه ثامنًا حبًّا في قلوب أهل حلب ، فقد تعلَّقت قلوبهم جميعًا بهذا الحاكم العادل الرحيم ، حتى قال ابن الأثير كلمة عجيبة تصف حب الناس له ، فقال: " توارث أهل حلب الرحمة عليه إلى آخر الدهر !!" أي أن كل أبٍ يُوصِي أبناءه أن يتراحموا على قسيم الدولة ، وهكذا إلى آخر الدهر! فأيُّ درجةٍ من الحبِّ كانت هذه الدرجة ! ولا شك أن هذا سيكون له مردود كبير على حياة عماد الدين زنكي .

وترك قسيم الدولة لابنه تاسعًا حبًّا واضحًا للسلاطين العادلين الأقوياء لسلطنة السلاجقة ، فقد كان ولاء قسيم الدولة لملكشاه ، ولابنه بركياروق من بعده ، وهذا أعطى وضوح رؤية كبير لعماد الدين زنكي ، فلم ينبهر في حياته بلقبٍ أو شخص ، إنما جعل ولاءه للسلطان العادل ، ولم يتشتَّت بين القوى المختلفة ، بل ظل ثابتًا في إتجاه واحد ، وهذا حقَّق له خيرًا كثيرًا في حياته .

وترك قسيم الدولة لإبنه عاشرًا وأخيرًا مجموعة من الأصدقاء الأوفياء الذين أحبوه في الله ، لشخصه لا لسلطانه ، فحفظوا إبنه اليتيم بعد موته ، تمامًا كما فعل قسيم الدولة عندما حفظ إبن السلطان ملكشاه بعد موته ؛ لأنه كان يحبُّ السلطان لله ، وهكذا دائمًا يحدث ؛ فالجزاء من جنس العمل ، والله يقول : (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ) .

فتلك عشرة كاملة تركها قسيم الدولة لإبنه الصغير عماد الدين زنكي ! فمَن مِن المسلمين ترك لابنه مثلما ترك قسيم الدولة لابنه ؟!

إن الناس تنشغل بترك المال والثروة ، وتأمين الشقة والسيارة ، وتوصية فلان وفلان ، ولكنَّ القليل الذي يترك مثل الذي تركه قسيم الدولة رحمه الله ، لكنَّ القليل أيضًا الذي يكون مثل عماد الدين زنكي ، فإعتبروا يا أولي الأبصار !

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 04-03-14, 04:49 AM

  رقم المشاركة : 16
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

نشأة عماد الدين زنكي

لا يحسبنَّ أحدٌ أن كل ما ذكرناه من فضائل في حياة قسيم الدولة آق سنقر كانت تخفى على الطفل الصغير عماد الدين زنكي ! فعقول الأطفال أوسع بكثير مما نتخيل ، وكان رسول الله يعرض على الأطفال قضايا في منتهى الحساسية ، وفي قمة العمق ، وما أروع عرضه للإسلام على الطفل الصغير عليّ بن أبي طالب ! وما أروع شرحه للعقيدة بكل تفصيلاتها للطفل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ! وما أروع إستشارته للطفل أسامة بن زيد رضي الله عنهما في قضية أهل بيته عائشة رضي الله عنها هل يطلِّقها أم يبقيها !!

إن عقول الأطفال تستوعب تصرُّفات الآباء في سنٍّ مبكِّرة جدًّا ، خاصَّةً في هذا الزمن الأول ، حيث كان الطفل يحفظ القرآن في عمر السابعة ، ويحفظ كتب الفقه والحديث وهو لم يبلغ العاشرة ، وكان يجاهد في سبيل الله وهو لم يبلغ الخامسةَ عشْرَةَ ، وكان يقود الجيش وهو لم يبلغ الثامنةَ عشْرَةَ ، وكان يحكم البلاد وهو لم يبلغ العشرين !!

إنها حياة جادَّة تستوعب إمكانيات الطفل وتنميها ، فتضيف إلى عمره أعمارًا جديدة ، بدلاً من الحياة اللاهية التي يبلغ فيها الشابُّ الثلاثين من عمره وأكثر ، وهو لا يمتلك بعدُ الخبرة التي تمكِّنه حتى من الإعتماد على نفسه .

مات آق سنقر ، وترك عماد الدين زنكي محمَّلاً بحبِّ الشريعة والجهاد ، وراغبًا في نصرة الدين والمسلمين ، وشاعرًا تمامًا بهموم أُمَّته ومشاكلها ؛ لذلك إختار عماد الدين زنكي في هذه السنِّ الصغيرة أن يحيا حياة الجهاد والجدِّيَّة .

ترك عماد الدين زنكي حلب بعد مقتل أبيه ، فلم يكن يستطيع - على رغم حبِّ كل الناس له - أن يعيش في بلدٍ يحكمه تتش قاتل أبيه ، وخاصَّة أن تتش كان ظالمًا فاسدًا لا ينظر مطلقًا إلى مصالح أُمَّته ، بل لا يصرف وقته ولا جهده إلا لمصالحه الخاصَّة فقط ..

فإلى أين انتقل عماد الدين زنكي ؟! , لقد انتقل إلى الموصل !

ولعلَّ هذا الإنتقال في الأساس كان لولاية كربوغا على الموصل، وكربوغا هو أمير تركماني تحدَّثنا عنه أيام بدايات الحروب الصليبية ، وكان صديقًا شخصيًّا لآق سنقر ، فلما مات إستقدم إبنه عماد الدين زنكي، وضمَّه إلى جيشه ، وكان هذا في سنة 489هـ ، وعماد الدين زنكي في الثانيةَ عشْرَةَ من عمره .

وأخذ يوالي تدريبه على الفروسيَّة والقتال وإدارة الجيوش ، وهكذا قَيَّض الله لعماد الدين زنكي من يصقل شخصيته ، وينمِّي مواهبه .

وإشترك عماد الدين زنكي فعلاً في القتال مع كربوغا لأوَّل مرَّة حين كان يخضع بعض الولايات لحكم السلطان بركياروق ، وكان عماد الدين زنكي لا يتجاوز في هذه المعركة الرابعةَ عَشْرَةَ من عمره .

وفي حياة كربوغا - وتحديدًا في سنة (491هـ) 1097م - إحتلَّ الصليبيون مدينة أنطاكية ، وأرسل السلطان بركياروق جيشًا بقيادة كربوغا لحرب الصليبيين ، ولكن الجيش مُنِيَ بالهزيمة كما مرَّ بنا ، ولا ندري إن كان الطفل عماد الدين زنكي كان مشاركًا في هذا القتال أم لا ، ولكن المؤكد أنه عاش قضية الصليبيين من أوَّلها ، فلا شكَّ أن كل الأحاديث التي كان يسمعها في بلاط كربوغا كانت تدور حول الصليبيين .

لقد عاش عماد الدين زنكي القصة من أوَّلها !

ومات كربوغا سنة (495هـ) 1102م ، وكان عماد الدين زنكي في الثامنةَ عَشْرَةَ من عمره ، وكان من توفيق الله أنَّ الذي تولَّى الإمارة في الموصل بعد ذلك كان جكرمش ، وكان أيضًا من أخلص أصدقاء الأب قسيم الدولة آق سنقر ، ومن ثَمَّ إستكمل مسيرة كربوغا في تربية عماد الدين زنكي ، وفي تقديمه على غيره ، وتعليمه كل فنون القيادة والإدارة .

إننا نرى بوضوح أن الله يُسَخِّر لعماد الدين زنكي مَن يضع قدمه على الطريق ، ويوجِّه خطواته التوجيه الأصوب .

وعند عزل جكرمش سنة (500هـ) 1106م ، حكم الموصل جاولي سقاوو ، لكن جاولي كان على خلاف الأمراء السابقين ، لقد كان ظالمًا فاسدًا لا يفكِّر إلاَّ في مصالحه ، بل وصل الأمر في سنة (501هـ) 1107م ، أي بعد سنة واحدة أن قرَّر جاولي أن ينفصل بحكم الموصل عن سلطة السلطان محمد السلجوقيّ ، وهو السلطان الذي خَلَف أخاه السلطان بركياروق منذ سنة (494هـ) 1100م ، وهنا يتَّخذ عماد الدين زنكي موقفًا عجيبًا ! لقد كان آنذاك في الرابعة والعشرين من عمره فقط ، ومع ذلك فقد قرَّر أن يخرج من جيش جاولي ، وهو رئيسه المباشر ، لينضمَّ إلى السلطان محمد السلجوقي ، وكانت هذه الخطوة في منتهى الخطورة عليه ، لكنه أقدم على هذه الخطوة دون تردُّد مُكَرِّرًا ما فعله أبوه قبل ذلك بخمسةَ عَشَرَ عامًا بحذافيره ! لقد كانت الرؤية واضحة تمامًا عند عماد الدين زنكي أن ولاءَه الرئيسي للسلطان العادل محمد السلجوقي ، وليس للأمير الظالم جاولي ، ولا بُدَّ أن يعلن هذا الولاء ، ولو كان الثمن منصبه ، بل ولو كان الثمن حياته !

ولكن الله سلَّم ، وحَفِظ عماد الدين زنكي ، وباءت ثورة جاولي بالفشل ، وعَرَف السلطان محمد السلجوقي القائد الشابّ الجديد عماد الدين زنكي إبن قسيم الدولة المشهور والمحبوب إلى ملكشاه والد السلطان محمد ، وأوصى السلطان محمد بعماد الدين زنكي خيرًا ، ورفع ذلك إسمه في عيون الجميع .

ثم كانت لحظة فارقة في حياة عماد الدين زنكي ، حين تولَّى أمرَ الموصل شخصيةٌ من أعظم الشخصيات في التاريخ الإسلامي ، وهو مودود بن التونتكين رحمه الله ، وقد مرَّ بنا طرف من حياته ، وكانت هذه الولاية مدة ستِّ سنوات ، كان فيها عماد الدين زنكي من أقرب الناس إلى مودود ، ومَنْ أدراك مَنْ مودود !!

إنه - كما مرَّ بنا - من أصلح الأمراء ، وأتقاهم لله ، وأحبهم للعبادة ، وأعدلهم مع الرعيَّة ، وأخلصهم في الجهاد في سبيل الله ، وأرغبهم في وَحْدَة المسلمين ، وأكرههم للصليبيين ، لقد أدرك عماد الدين زنكي مودودًا رحمه الله ، وكان عماد الدين زنكي في ريعان شبابه ، فقد صحبه حين كان يبلغ من العمر أربعة وعشرين عامًا ، وقُتِل مودود ، وقد بلغ عماد الدين زنكي ثلاثين عامًا ..

إنها فترة النضج الحقيقية في حياة المجاهد عماد الدين زنكي ، شَرِب فيها عماد الدين زنكي كل توقير وتقدير للشريعة .

وشرب فيها كيف يمكن بذل الوقت والجهد والنفس في سبيل إعلاء كلمة الله في الأرض ..
وشرب فيها كل المهارات القيادية والفنية والقتالية التي يتمتَّع بها مودود .
وشرب فيها الشجاعة والجرأة والفكر العسكريّ الصائب .
وشرب فيها في ذات الوقت كراهية كبيرة للصليبيين الذين إستباحوا بلاد المسلمين ، وللباطنية الذين قتلوا مودودًا رحمه الله ، وللزعماء التافهين الذين تركوا مودودًا في أزمته ، بل أغروا به سفهاءهم ليقتلوه !

ومع مودود - وفي سنة 507هـ\ 1113م - شهد عماد الدين زنكي موقعة الصِّنَبَّرة ، حيث ذاق حلاوة النصر على الأعداء ، وذاق طعم العزَّة والكرامة ، وأبلى عماد الدين زنكي في هذه الموقعة بلاءً حسنًا غير مسبوق ، وأظهر شجاعة نادرة ، ومقدرة قتالية فذَّة ، حتى إكتسب شهرة واسعة في كل بلاد المسلمين ، وصار حديث الناس ، كما كان أبوه حديث الناس وأشدّ !

ثم قُتِلَ مودود رحمه الله .

وكانت صدمة كبيرة لعماد الدين زنكي ، فقد أحبَّه حبًّا شديدًا من أعماقه ، ثم إنها كانت صدمة لإكتشافه بحجم المؤامرات الدنيئة في العالم الإسلامي ، وعَلِم على وجه اليقين أن قتال الصليبيين مستحيل في وسط هذه الأجواء ، وليس هناك بُدٌّ من إصلاح الداخل قبل الصدام مع الأعداء الخارجيِّين .

ثم تولَّى آق سنقر البرسقي ولاية الموصل للمرَّة الأولى ، وذلك من سنة (507هـ) 1113م إلى سنة (509هـ)1115م ، وإشترك معه عماد الدين زنكي بقوة في معاركه ضد الصليبيين ، وحاصر معه الرها وسُمَيْساط وسروج ، مما زاد من شهرة عماد الدين زنكي لدى الجميع .

ثم بعد عزل آق سنقر البرسقي سنة (507هـ) 1115م ، وتولية جيوش بك دخل عماد الدين زنكي تحت زعامة الأمير الجديد ، وعندما حاول جيوش بك أن يقوم بمحاولة إنقلابية على السلطان محمود سنة (514هـ)\ 1121م ، رفض عماد الدين زنكي أوامر قائده الأقرب جيوش بك ، وأصرَّ على الولاء للسلطان الأعلى محمود ، وقد فشلت هذه المحاولة الانقلابية ، ورفع هذا كثيرًا من أسهم عماد الدين زنكي عند السلطان محمود .

ثم أُعِيد تولية آق سنقر البرسقي على الموصل سنة 515هـ ، فعاد عماد الدين زنكي من جديد إلى تبعيَّته آق سنقر البرسقي ، وعندما إنتُدِبَ آق سنقر لإدارة الأمن في بغداد للسيطرة على بعض الأمور الخطيرة سنة (516هـ) 1122م ، وكان دُبَيْس بن صَدَقَة قد قاد ثورة في بغداد للسيطرة على الحكم هناك ، أخذ آق سنقر عماد الدين زنكي معه لثقته في قدراته العسكرية والإدارية ، بل إن آق سنقر البرسقي ولَّى عماد الدين زنكي منطقة واسط حيث المركز الرئيسي لدبيس بن صدقة ليكون في مواجهته مباشرة ، ممَّا يدلُّ على عظيم ثقة آق سنقر في القائد العظيم عماد الدين زنكي .. وبالفعل إستطاع عماد الدين زنكي أن ينتصر على دبيس ويعيد الأمور إلى نصابها ، ولما هاجمت الأعراب مدينة البصرة هجمات متكرِّرة أعطى آق سنقر ولاية البصرة لعماد الدين زنكي للسيطرة على الأوضاع هناك ، فنجح في فترة وجيزة أن يُسَيْطِر على الأعراب ويمنع هجماتهم ، مما جعله بحقٍّ رجل المهام الصعبة في الدولة السلجوقية .

وكان ولاء عماد الدين زنكي في كل هذه الأحداث للسلطان السلجوقيّ وأمرائه ، ولم يكن للخليفة العباسي ، إنما كان يُدَافِع عن الخليفة العباسي في بغداد لأن مصالح السلطنة كانت متوافقة مع مصالح الخلافة، ولكن عند تَعَارُض مصالح السلطنة مع الخلافة ، مثل الخلاف الذي حدث سنة 519هـ بين السلطان محمود والخليفة المسترشد بالله ، كان عماد الدين زنكي يقف إلى جوار السلطان دون تردد ، وهذا في رأيي أمر طبيعي ومُتَوَقَّع ، مع أنه قد يُسَبِّب لنا حرجًا في الفهم ، عندما نجد أن عماد الدين زنكي يقف بجيشه أحيانًا في وجه الخليفة ، لكنْ تعالَوْا نفهم حقيقة الأمر بهدوء ، وهذا سيساعد في فهم كثير من الأحداث المستقبليَّة ..

لقد عاش خلفاء بني العباس منذ فترة طويلة جدًّا تجاوزت المائتي سنة تحت السيطرة العسكرية لغيرهم، فكانت السيطرة تارة للأتراك ، ثم أخرى للبويهيين الشيعة ، ثم أخيرًا للسلاجقة ، وفَقَدت كلمة الخلافة كل معنًى لها ، وصار الحكم كله في يَدِ الحاكم العسكري الذي يملك الجيوش والوزارات والأموال والقرارات والإتفاقات الدُّوَلِيَّة ، والأمور الداخلية الأمنية وغيرها ؛ وفي ظلِّ هذه الأوضاع توارث الخلفاء اللقب والثروات الشخصيَّة فقط ، وكان أقصى أحلام كلِّ خليفة أن يُسَيْطِرَ فقط على الأمور في بغداد ، ولا أقول العراق !

بمعنى أنَّ الخليفة في أفضل أحواله كان كالمحافظ على بغداد ، بينما السلطان المهيمن على الحكم يحكم دولة شاسعة من الصين إلى الشام ، وتضمُّ بين طيَّاتها العراق بما فيه بغداد ، وكان السلاطين - وخاصة السلاجقة - يحافظون على بقاء الخليفة كرمز ليجمع الأُمَّة حول معنًى واحدٍ ، ويُعِيد إلى أذهانهم دومًا أنهم أُمَّة واحدة ، وصار وضع الخليفة في الدولة الإسلامية كوضع الملك أو الملكة الآن في البلاد التي أصبحت تُدَارُ بنظام جمهوري كإنجلترا وإسبانيا وكندا وهولندا ؛ فهو مجرَّد رمز يذكِّر الناس ببعض المعاني الجميلة ، ولكن ليس له دخلٌ في الحكم أو الإدارة أو أيِّ قرار .

ولكن أحيانًا كان الخليفة - كما في حالة المسترشد بالله في قصَّتنا - يجد في نفسه قوَّة ، وتُرَاوِدُه الطموحات الكبيرة أن يُعِيَد للقب "الخليفة" هيبته الحقيقية ، فيُكَوِّن جيشًا من أهل بغداد وما حولها ، ويبدأ بمهاجمة السلطان ، ومحاولة فرض الرأي عليه ولكن هذا في الحقيقة وضع مقلوب ، فبعيدًا عن الألقاب فإنَّ تَشَتُّتَ السلطة بين خليفة وسلطان يُضعف الولاء عند الجميع ، ويُدْخِل البلاد في حالة من الاضطراب غير المقبول ؛ ولذلك كان عماد الدين زنكي يقف بصرامة مع السلطان القويِّ في مواجهة الخليفة الضعيف ، مع أنَّ قوَّة الخليفة كانت أحيانًا تقوى محلِّيًّا حتى تتغلَّب على جيوش السلطان المحلِّيَّة في بغداد أو ما حولها ، لكنها تبقى في النهاية محلِّيَّةً .

ثم إنَّ عماد الدين زنكي بدأ في الظهور أكثر وأكثر نتيجة النجاحات المتتالية التي يحقِّقُها ، ممَّا جعل السلطان محمود سلطان السلاجقة العظام في فارس يستدعيه إلى أصفهان ، ويُقَرِّبه منه ، ويُولِيه ثقته ، ويزوِّجه أرملةَ كندغدي ، وهو أحد أكبر أمراء السلطان ، ثم ولاَّه على إمارة البصرة في سنة 518هـ ، ثم عيَّنه في سنة 521هـ في منصب خطير ، وهو "شِحْنَة العراق" أي مدير أمن العراق بكاملها ، بل وزاده على ذلك أمرًا عظيمًا ، وهو أن جعله بالإضافة إلى إدارة الأمن في العراق "أتابكًا" لولديه ألب أرسلان ، وفروخ شاه ؛ والأتابك هو المربِّي ، فأصبح عماد الدين زنكي هو الأتابك عماد الدين زنكي ، وأصبح مسئولاً عن تنشئة أولاد السلطان تنشئة عسكرية سياسية شرعية متميزة ..

لقد كان طريقًا طويلاً صعبًا بدأه عماد الدين زنكي في سنٍّ صغيرة مبكرة ، وعاش حياة جدية تمامًا ، ولم يكن يلهو في حياته كما يلهو الأطفال أو الشباب ، إنما كان رجلاً بمعنى الكلمة ، يعيش هموم أُمَّته ، ولا يهتم بسفاسف الأمور ؛ فأجرى الله على يديه من الخير الكثير ، وحقَّق نجاحات عظيمة ، وكان كلُّ ذلك تأهيلاً لما هو آتٍ، فقد كان على موعد في مستقبله مع مهمة أثقل ، ووظيفة أصعب ، وهي مواجهة الكيان الصليبي الذي إستقرَّ في بلاد الإسلام منذ ثلاثين سنة ، وباءت محاولات المسلمين في كل السنوات السابقة بالفشل في إخراج الصليبيين من الأراضي التي إحتلُّوها ، فكانت هذه المهمة تحتاج إلى رجلٍ من طراز عماد الدين زنكي !

لقد كان من قدر الله أن سخَّر الرسولين اللذين أرسلهما جاولي - المملوك الذي سيطر على الأمور في حلب - ليعرضا على السلطان محمود إسم عماد الدين زنكي ليتولى أمور الموصل وحلب ، وبالتالي يواجه الصليبيين بمهارته المعروفة ، ووجد الإسم قبولاً عند السلطان محمود دون تردد ، ومن ثَمَّ عهد إلى عماد الدين زنكي في 3 من رمضان 521هـ\ 13 من سبتمبر 1127م بولاية الموصل والجزيرة (شمال العراق) وما يفتحه من بلاد الشام ، لتبدأ بذلك مرحلة مهمة في التاريخ الإسلامي تُعرف بالدولة الزنكية التي بدأ تأسيسها عماد الدين زنكي في سنة 521هـ ، وتبدأ في نفس الوقت مرحلة جديدة من مراحل الصراع الإسلامي- الصليبي في قصة الحروب الصليبية .

- عماد الدين زنكي أتابك الموصل

عماد الدين زنكي شخصية فريدة في التاريخ الإسلامي ، ورأينا كيف كانت جذوره طيبة ، وقد ترك له والده آق سنقر الحاجب رحمه الله كلَّ خير ، ورأينا كذلك تدرجه في الأعمال والمناصب حتى وصل إلى رئاسة إمارة الموصل ، وهو منصب رفيع جدًّا ، لكن كم من الأمراء وصلوا إلى هذا المنصب قبل ذلك ، ولم يغيِّروا أحداث التاريخ ! لكن عماد الدين زنكي لم يكن كعامة الأمراء بل كان متميزًا متفردًا مؤثرًا في كل من حوله ، ناقلاً للأمة الإسلامية بكاملها نقلة نوعية كان لها من الأثر ما تجاوز عشرات السنين !

وما أبلغ ما قاله عماد الدين الأصفهاني وهو يصف عماد الدين زنكي رحمه الله حين قال : " كان قطبًا يدور عليه فلك الإسلام !" .. لقد صوَّر العماد الأصفهاني عماد الدين زنكي بأنه أصبح مركزًا لكل عمل مهم في الأمة الإسلامية ، فصار كل شيء إسلامي في زمانه مرتبطًا به ، متأثرًا بأفعاله ! وهي درجة لا يصل إليها إلا أعاظم المسلمين ، وأكابر المجددين .

إنني أعتبر عماد الدين زنكي بشخصيته المتميزة "رجل المرحلة"! إنه الرجل المناسب الذي توفرت فيه الصفات التي تؤهِّله للأخذ بيد الأمة في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ الأمة ، وهذا من فضل الله عليه وعلى الناس ، وهذا من رحمة الله بالمسلمين ، فهو يرزقهم في كل مرحلة من مراحل حياتهم قائدًا يحمل من الصفات ما يصلح لعبور هذه المرحلة بكل ما فيها من أزمات .

ولقد جمع عماد الدين زنكي من الصفات ما تجعله يصلح أن يكون "نموذجًا" للحاكم المسلم ، بحيث تصبح أقواله وأفعاله وأخلاقه واختياراته معيارًا تستطيع أن تحكم به على صلاح حاكم أو فساده ، وليس هذا مبالغة ، بل هو قليل من كثير .. ولعله من المناسب أن نقترب أكثر من شخصية عماد الدين زنكي فنطَّلع على جوانبها وصفاتها وأهم مميزاتها ، وذلك قبل الخوض في تفصيلات قصته في إمارة الموصل ، وخطوات تغييره للواقع الأليم الذي كانت تعيشه الأمة ، وهذا الإقتراب من شخصيته سيضع أيدينا على المفاتيح المهمة التي ينبغي لكل مصلح أن يتحلى بها ؛ ولذلك فهي من أهم النقاط في هذا البحث الخاص بالحروب الصليبية .. وصفات الخير فيه كثيرة ، ولكن من أهمِّها ما يلي :

أولاً: الإخلاص والتجرد لله

وهذه كانت صفة غالبة على كل حياته رحمه الله، وبها كان يُنصر ويتمكن ، ولعل القارئ يتعجب من ذكر صفة الإخلاص كصفة واضحة في حياة عماد الدين زنكي ؛ لأن الإخلاص صفة قلبية ، وهي بين العبد وبين الله ، ولا يطَّلع عليها عموم الناس، ولكن الإخلاص له شواهد وعلامات ، وكل هذه العلامات والشواهد رأيناها بوضوح في حياة عماد الدين زنكي ؛ لذلك نشهد له بهذا ، ونسأل الله أن يتقبل كل أعماله الصالحة .

فمن شواهد الإخلاص في حياته مثلاً ثباته على الفكرة طيلة أيام عمره ؛ فقد جعل قضية إخراج الصليبيين من بلاد المسلمين قضية حياته ، فبذل جهده في هذه القضية عشرين سنة متصلة هي مدة حكمه للمسلمين ، هذا غير السنوات التي سبقت إمارته ، والتي كان فيها يشارك الأمراء السابقين في غزو الصليبيين وجهادهم .

إن الرجل الذي يتذبذب بين الإخلاص لله والعمل للذات وللنفس ، يغيِّر كثيرًا من قضاياه تبعًا للظروف ، أما أن تمر الأعوام تلو الأعوام وعماد الدين زنكي لا يتغير ولا يتبدل ، فهذا معناه أنه رجلٌ يعمل لله .

ومن شواهد إخلاصه أيضًا تقديمه لمصالح المسلمين على مصلحته الشخصية ، فقد خاطر كثيرًا بملكه الشخصيّ في سبيل نصر المسلمين ، وما أروع ما فعل حين وُضع في مأزق عسكري في أحد حروبه ضد الصليبيين سنة (532هـ) 1137م ، فقرر الإستعانة بجيوش السلطان السلجوقي مسعود ، فقال له أحد المستشارين : إن هذا قد يشجِّع السلطان على ضم حلب إلى أملاكه ؛ فتضيع بذلك من زنكي .. فقال عماد الدين زنكي : " إن هذا العدو (الصليبيين) قد طمع في البلاد ، وإن أخذ حلب لم يبق بالشام إسلام ، وعلى كل حال فالمسلمون أولى بها من الكفار!" .

وهذه الرؤية الرائعة تختلف كثيرًا عن رؤية عموم الأمراء الذين رأيناهم في قصة الحروب الصليبية ، حيث كان الأمير لا يخاطر بالإستنجاد بأميرٍ آخر خوفًا من أن يتملك هذا الأمير الجديد كل شيء ، بل لا يمانع بعض الأمراء من الإستعانة بالصليبيين في سبيل الحفاظ على ملكهم ، بل وأكثر من ذلك فقد دبَّر بعض الأمراء مؤامرات لقتل الزعماء المسلمين المجاهدين خوفًا من دخول إماراتهم تحت سلطة الزعيم المجاهد ، وما أحداث قصة مودود رحمه الله منا ببعيد !

ومن شواهد إخلاصه أيضًا أنه كان يخاطر بحياته في المعارك فلا يقاتل في أخريات الصفوف ، أو بمنأى عن المخاطر ، بل كان يتقدم الجميع ، وكثيرًا ما يكون أقرب الناس إلى العدو ؛ ولقد فَرَش في ليلة من الليالي بساطًا كبيرًا ، ووضع عليه الطعام ، وكان محاصِرًا لإمارة الرها ، فنادى في جيشه قائلاً : " لا يأكل معي على مائدتي هذه إلا من يطعن معي غدًا في باب الرها!" أي أنه سيصل في قتاله غدًا إلى أقرب النقاط من الحصن ، حيث سيباشر محاولات كسر الباب بنفسه ، وهذا سيجعله في مرمى سهام العدو ، وسيعرِّض حياته للهلكة ، لكنه كان يفعل ذلك دومًا رحمه الله ؛ وعندما قال كلماته هذه لم يتقدم إليه ليأكل معه غير أمير واحد ، وصبي آخر لا يعرفه ! فقد أحجم الجميع لمعرفتهم بإقدام عماد الدين زنكي ورغبته الصادقة في الشهادة ، وقد قال الأمير للصبي الصغير : ما أنت وهذا المقام؟ فكأنه يستصغر شأنه ، ويشك في ثباته ، فقال عماد الدين زنكي: " دعه ؛ فإني أرى - والله - وجهًا لا يتخلف عني !"، وقد كان وثبت الصبي معه !

ومن شواهد إخلاصه أيضًا إجتماع الناس على حبِّه ؛ فقلوب العباد بين أصابع الرحمن سبحانه وتعالى ، وقد رأينا اجتماع أهل البلاد المختلفة على حبه ، ورأينا إجتماع الوزراء والقضاة وعلماء الدين على هذا الحب أيضًا ، ومن اجتمع له حب الناس بهذه الصورة فهو دلالةٌ على حب الله له ، والله لا يحب إلا المخلصين له .

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة ، أن رسول الله قال : " إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحْبِبْهُ ؛ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ ؛ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ" .. فإذا رأيت حاكمًا قد وُضع له القبول في الأرض فأحبه الناس ، فهذا علامة على إخلاص هذا الحاكم وحب الله له .

ومن شواهد إخلاصه رحمه الله أيضًا أن الله نصره في معظم لقاءاته مع الصليبيين ، والله لا ينزل نصره إلا لأحبابه وأنصاره ومن أخلصوا له ، والآيات في هذا المعنى كثيرة؛ ومنها على سبيل المثال : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) ، ومنها : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ ) ، (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) .

ومن شواهد إخلاصه أخيرًا حسن الخواتيم ، فسوف نرى أنه سيُقتل رحمه الله في ميدان الجهاد ، فهذه الخاتمة في هذا الميدان هي من أسعد الخواتيم ، وهي أمنية الصالحين ، ولقد قال رسول الله فيما رواه أحمد عن عمر الجُمَعِيِّ : " إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا إستعمله قبل موته" .. فسأله رجل من القوم ، وما أستعمله ؟ قال : "يهديه الله إلى العمل الصالح قبل موته ، ثم يقبضه على ذلك" .

فهذه بعض الشواهد على إخلاصه رحمه الله ، وهي سر تفوقه وتميزه ، فإن الله كان معه في كل خطواته ، مع نشأته يتيمًا ووحيدًا إلا أن الله سخَّر له من يتولى شئونه ، ويرعى أموره حتى صار إلى ما صار إليه .

ثانيًا : توقيره رحمه الله للشريعة والدين

وهذا أمر واضح في حياته رحمه الله ، فقد حرص على إقامة الحدود الشرعية في كل المناطق التي يحكمها ، وكان يلتزم بحكم الشريعة ويلزم بها الناس ، وما أكثر المواقف في حياته التي كان يجمع فيها الفقهاء ليأخذ رأيهم في المسألة ! وكان يُعطِي العلماء في إمارته منزلة عظيمة ؛ قال ابن الأثير عن القاضي بهاء الدين الشهروزري : "أن عماد الدين زنكي كان لا يصدر إلا عن رأيه" .

ومثل هذا الكلام قيل في معظم العلماء الذين عاصروا عماد الدين زنكي ، وقد إستقدم عماد الدين زنكي العلماء من كل مكان ، وأوكل لهم رعاية أمور الناس ، بل أوكل لهم تربية أبنائه ، فخرج أبناؤه على نفس الصورة البهية وأكثر ، وخاصةً نور الدين محمود وسيف الدين غازي ..

ولعل مما يؤكد على حبه للدين أنه سمَّى أولاده كلهم بأسماء مرتبطة بالدين ، فأولاده هم : سيف الدين ، ونور الدين ، وقطب الدين ، ونصرة الدين ؛ وهذه - والحمد لله - كانت سمة عامة في هذا الجيل ؛ ولذلك كتب الله له النصر ، فآق سنقر سمَّى إبنه عماد الدين ، ووُلد في هذه الفترة أيضًا صلاح الدين الأيوبي ، وكان القاضي لعماد الدين هو بهاء الدين ، وكان نائبه هو نصير الدين ، وهكذا؛ وهذا على خلاف الفترة السابقة لهذا الجيل ، حيث كانت أسماء الملوك والأمراء ترتبط بالدولة والملك ؛ ولذلك كثرت حينها الأسماء مثل : شرف الدولة ، وجناح الدولة ، وعضد الدولة ، وبهاء الدولة ، وتاج الملوك ، وشمس الملوك ، وما شابه ذلك من أسماء تدل على التمسك بالحكم لا بالدين .

ومع هذا التوقير الشديد للعلماء إلا أن عماد الدين زنكي رحمه الله ما كان يبخل بالنصح والإرشاد للعلماء بقدر طاقته ، وما أروع ما قاله لهبة الله بن أبي جرادة ، وهو من العلماء الأجلاء ، عندما ولاَّه قضاء حلب حيث قال له : " هذا الأمر قد نزعته من عنقي ، وقلدتك إياه ، فينبغي أن تتقي الله "!! وهذا من شدة توقيره للشريعة والدين ، حتى أصبح آمرًا للعلماء أن يتقوا الله .

ثالثًا : الشجاعة

وهذه صفة لازمة حتمية لكل من أراد أن يتولى شئون القيادة والإمارة ، وما أتعس الأمة لو تولى شئونها من يتصف بالخوف ، أو يغلب عليه الجبن !

وليست الشجاعة في ميدان الحروب فقط ، ولكن الشجاعة تكون قبل ذلك في مرحلة القرار ، فكثير من القواد لا يملك الشجاعة لأخذ قرار الجهاد أصلا ويتعلل بأنه لا يريد لأمته أن تعيش ويلات الحروب ! مع كون البلاد محتلة ، والكرامة مهانة ، والحقوق ضائعة ! لكن عماد الدين زنكي رحمه الله كان شجاعًا في كل شيء ؛ فكان شجاعًا في قراراته ، وشجاعًا في مواقفه المختلفة ، وشجاعًا في معاركه الكثيرة ، وهذا منذ أيامه الأولى ، وإلى آخر لحظات حياته .

ولقد شاهدنا شجاعته قبل ولايته حين كان يصحب أمراء الموصل كربوغا وجكرمش ومودود وآق سنقر البرسقي ، وإستمرت هذه الشجاعة بل زادت عندما تولى الإمارة ، وما أصدق الوصف الذي ذكره أبو شامة في حق عماد الدين زنكي حين قال : " وأما شجاعته وإقدامه ، فإليه النهاية فيهما ، وبه كانت تضرب الأمثال" !

أما إبن الأثير فقد قال عن عماد الدين زنكي : " وكان له الشجاعة في الغاية "! وقال في موضع آخر : "وكان أشجع خلق الله "! وفي موضع ثالث يقول : "وقد أظهر خلال معاركه شجاعة فائقة لم يُسمع بمثلها "! وفي موضع رابع : "فأظهر من الشجاعة ما لا يوصف" !

وهكذا كانت حياته كلها ، مما يدل على أن الشجاعة كانت صفة متأصلة فيه ، وليست عابرة في ظرف من الظروف ، أو موقف من المواقف .

رابعًا : العدل

لا بد أن يكون العدل صفة لازمة لأي حاكم صالح ؛ لأن الحاكم يملك القوة لفرض ما يريد ، فلو أراد الظلم لم يستطع أحد أن يمنعه ، ولو أراد العدل سعد به شعبه ، بل سعدت به الدنيا .

والعدل كان من السمات الرئيسية المميزة لعماد الدين زنكي ، حتى قال إبن الأثير في وصف فترة حكمه رحمه الله : " لا يقدر القوي على ظلم الضعيف !" .. وكان يوصي أمراءه دائمًا بالتخفيف على الرعية ، وتجنب أعمال السخرة ، وكان صارمًا في هذا الباب تمامًا ، ولقد إعتقل وزيره أبا المحاسن العجمي ؛ لأنه صادر بعض أموال الناس ، ولم يقبل له حجته ، فكان الشعب عنده مقدَّمًا على القادة والأمراء ، وكان شديد الحرص على ممتلكات الفلاحين البسطاء ، فيأمر جنوده بأن يسيروا وسط المزارع في منتهى الحذر ؛ لئلا يدوس أحدهم زرعًا لفلاح ، ولم يكن في زمانه يجسر جندي على أن يأخذ تبنًا لفرسه من فلاح بلا ثمن ، مع أن التبن سيؤخذ علفًا لخيول الجهاد إلا أن ذلك لا بد أن يكون بالثمن !
وإذا كان عماد الدين زنكي لا يسامح جنوده في تبنٍ أخذوه بغير ثمن ، فما بالك بالأراضي والأملاك والديار ؟!

لقد كان من عادة الأمراء قبله أنهم إذا دخلوا مدينة أو قرية كانت في حوزة غيرهم أخذوها وقسموها على الأجناد ، وبذلك تضيع ملكيات المالكين الأصليين ، حتى جاء عماد الدين زنكي فأقر نظام الإقطاعيات ورفض نظام الأملاك ، بمعنى أنه كان يعطي الأمير أو الجندي إقطاعية معينة في البلد المفتوحة يتولى إدارتها وتنظيمها وحمايتها دون أن يتملكها ، بل تبقى الملكية في يد المالك الأصلي ، ويدفع المالك ضريبة معينة مخففة للحكومة نظير التأمين والرعاية ، ومن هذه الضريبة يأخذ الأمير صاحب الإقطاع شيئًا ؛ أما الأرض فتبقى في يد مالكها ويتوارثها أبناؤه .. ولما ذهب إليه بعض أمرائه وجنوده الكبار يطلبون أملاكًا ، كما يفعل الزعماء غير عماد الدين زنكي ، قال لهم عماد الدين زنكي كلامًا من نور ! حيث قال لهم : " ما دامت البلاد بأيدينا (أي نحكمها) ، فأيُّ حاجةٍ بكم إلى الأملاك ؟! فإن الإقطاعات تغني عنها ، فإن خرجت البلاد من أيدينا ، فإن الأملاك تذهب معها (أي إذا تملك الصليبيون البلد ، فلن تنفع حينئذٍ ملكيته) ، ثم يكمل ويقول : "ومتى صارت الأملاك لأصحاب السلطان ظلموا الرعية ، وتعدوا عليهم ، وغصبوهم أملاكهم" .

إنه في هذا التصرف العادل يضع مصلحة الشعب والفقراء والبسطاء والضعفاء فوق مصلحة الأمراء والقادة ورجال الحكومة ، لكنه في الوقت نفسه طمأن قلوب الأمراء بأنه جعل لهم الإقطاعيات ، بمعنى مراكز القيادة والإدارة ، وجعل لهم دخلاً يتناسب مع حجم الإقطاعية ، فتحقق لهم ربح وفير دون الإخلال بحقوق الشعب ، بل إنه أدخل نظام التوارث في الإقطاعية ، فكان كثيرًا ما يُعطِي منصب حاكم الإقطاعية لإبن الأمير حال وفاة الأمير ؛ ليطمئن الأمير على مستقبل أولاده ، فلا يسعى في حياته إلى ظلمٍ يحفظ به أولاده بعد مماته .

ومن أروع مواقف عماد الدين زنكي بخصوص قضية الأملاك والإقطاعيات ما حدث عند فتحه للمعرَّة ، وأخذها من يد الصليبيين بعد إحتلال عدة سنوات !

لقد كان عماد الدين زنكي حنفيَّ المذهب ، وفي مذهب أبي حنيفة أن الأرض إذا إحتلها الأعداء غير المسلمين صارت دار حرب ، ثم إذا ردَّها المسلمون بعد ذلك صارت من أملاك الدولة ، فيأخذها بيت المال ، ويقسِّمها بمعرفته على مَن شاء من الناس دون النظر إلى الملكية السابقة للأراضي والديار .

فعند فتح المعرة جاء أهلها السابقون من كل مكان يطلبون أملاكهم القديمة ، فجاء عماد الدين زنكي بالفقهاء ليقولوا رأيهم في المسألة ، فأفتوا جميعًا برأي أبي حنيفة ؛ حيث إنهم جميعًا كانوا من العراق حيث ينتشر المذهب الحنفي ، وقالوا : إن الأرض لم تعد ملكًا لهم ، بل لبيت مال المسلمين (أي للدولة) !

فماذا فعل عماد الدين زنكي رحمه الله ؟! , لقد قال عماد الدين زنكي في فقهٍ عميق : " إذا كان الفرنج (الصليبيون) يأخذون أملاكهم ، ونحن نأخذ أملاكهم ، فأيُّ فرقٍ بيننا وبين الفرنج ؟ كل من أتى بكتاب يدل على أنه مالك لأرض فليأخذها " .. وبذلك ردَّ عماد الدين زنكي إلى الناس جميع أملاكهم ، ولم يتعرض لشيء منها .

وكان من منهجه رحمه الله ألا يبقي على مفسد ، وأنه يهتم بالأمن ونظامه في كل مكان ، فساد الأمن في كل مكان ، وقد كان هذا الأمن مضطربًا جدًّا خلال الفترة التي سبقت حكم زنكي ، وكان الناس لا يستطيعون قطع المسافات الطويلة دون حراسة ، حتى إن أهل الموصل كانوا لا يستطيعون الذهاب إلى الجامع الكبير الذي أُنشِئ خارج البلد إلا في يوم الجمعة ؛ وذلك خوفًا من السير بمفردهم دون حراسة ، لكن بعد حكم زنكي إنتشر الأمن والأمان ، بل زاد العمران ، وعمت البركة ، وتوسع الناس في البناء .

وهكذا سخَّر عماد الدين زنكي قوته لإرساء العدل ، فتحقق مراده ، بل أنعم الله عليه وعلى شعبه بما لا يتخيلون من خير وبركة .

ولم يكن هذا العدل خاصًّا برعيته المسلمين فقط ، بل شمل اليهود والنصارى ، فقد كان في ذات يوم في جزيرة إبن عمر ، فدخل عليه يهوديٌّ يشتكي أن عز الدين أبا بكر الدبيسي - وهو من أكبر أمراء عماد الدين زنكي - أخذ داره ليسكن فيها مدة بقاء الجند في الجزيرة ، فنظر عماد الدين زنكي نظرة غضب شديدة لعز الدين ولم يكلمه كلمة واحدة ، فتأخر عز الدين القهقرَى ، وعاد إلى البلد فأخرج خيامه ونصبها خارج البلد في مطر شديد ، ولم يستطع أن يؤخِّر إعادة الحق إلى اليهودي ليلة واحدة !

خامسًا : رقة القلب والمشاعر

ولعل الكثيرين يتعجبون من وجود هذه الصفة في عماد الدين زنكي ، أو في معرض حديثنا عن صفات الحاكم المسلم متمثِّلة في عماد الدين زنكي !

ووجه العجب أن الذي يشتهر عادةً عن القادة العسكريين هو الغلظة والجفاء وقسوة القلب ، كما أن الحاكم بما يقيمه من حدود ، وبما في يده من وسائل للعقاب قد يأخذ صورة مخالفة للرقة والرأفة ، غير ما إشتهر - للأسف الشديد - في بعض الكتب عن عماد الدين زنكي شخصيًّا أنه كان قاسيًا غليظًا !

وواقع الأمر أن صفة رقة القلب والرحمة من الصفات اللازمة للحاكم المسلم، وقد كان رسول الله أرحم الناس ، مع كونه حاكمًا وقائدًا ومجاهدًا من الطراز الأول .. وكانت هذه الصفة موجودة أيضًا في عماد الدين زنكي ، ولكن لجديته الشديدة ولإنشغاله طيلة حياته بالأمور الجسيمة العظيمة ، وبتحرير بلاد المسلمين من الغاصبين أُخذ عنه الإنطباع بالقسوة والغلظة على خلاف طبيعته .

إن ما ذكرناه سابقًا عن رفقه بالفلاحين ، وخوفه على أرزاقهم وأملاكهم وزرعهم وتبنهم ، لا يمكن أن يكون إلا من قلب رقيق مفعم بالمشاعر .

ثم إنه كان لا يؤاخذ الناس بالخطأ الأول ، وكان يعفو ويصفح إلى أبعد الحدود ، ولا يعزل أحدًا من منصبه إلا بتكرار الخطأ ، أو بإرتكاب ما لا يجوز معه الغفران ؛ ولذلك فإن معظم من عيَّنهم في الإمارات المختلفة ظلوا معه إلى آخر لحظات حياتهم ، أو إلى آخر حياة عماد الدين زنكي نفسه ؛ لأنه كان دائم الصفح عنهم .

وكان من عادته رحمه الله أن يتصدق جهرةً كل جمعة بمائة دينار ، وذلك رحمة منه على الفقراء والمساكين ، وكان يفعل ذلك جهرة ليشجع الأغنياء على الإقتداء به ، فيعم الخير على الجميع ، لكنه كان له في كل يوم صدقةٌ كبيرة لا يعرفها إلا وزيره فقط وفي هذا تُروى قصة لطيفة !

كان عماد الدين زنكي في يوم يركب خيله فعثرت به ، وكاد يسقط من فوقه ، فنادى على أمير كان معه ، وقال له كلامًا وهو حزين أو غاضب ، فلم يتبين الأمير ماذا قال عماد الدين زنكي ، ولكنه شعر بغضب عماد الدين زنكي ، وظن أن هذا الغضب تجاهه هو ، ولم يتجاسر على سؤاله ، فأسرع إلى بيته ليعلن لزوجته خوفه الشديد من أن يكون قد أخطأ ، فنصحته زوجته أن يذهب إلى نصير الدين جقر نائب عماد الدين زنكي ، ويحكي له القصة ، لعله يجد حلاًّ عنده ! وبالفعل ذهب إلى نصير الدين جقر وحكى له ، فقال : لا عليك ، إنما كان يطلب منك هذه الصُّرَّة .. وأخرج صُرَّة كانت معه وأعطاها للأمير ! فحملها الأمير إلى عماد الدين زنكي فأخذها راضيًا ، فرجع الأمير إلى نصير الدين جقر وقال له : كيف علمت أنه يريد الصرة ؟ فقال : إنه يتصدق بمثل هذا القدر كل يوم ، يرسل إليَّ يأخذه من الليل ، وفي يومنا هذا لم يأخذه ، ثم بلغني أن دابته عثرت به حتى كاد يسقط إلى الأرض ، فأرسلك إليَّ ، فعلمت أنه ذكر الصدقة .

لقد ربط عماد الدين زنكي بين تأخُّره في إنفاقه للصدقة ، أو نسيانه لها وبين تعثر دابته ، وهذا من شدة حساسيته ، ورقة مشاعره ، وإلتفاته إلى الإشارات والحوادث ، ولا يأتي كل ذلك إلا من قلب رقيق .. ثم انظر إليه وهو في غاية الشغل كل يوم بقتال وخطة وإدارة دولة كاملة ، ثم هو لا ينسى أن يتصدق يوميًّا على الفقراء والمحتاجين .

إنه لا يتكلف الرحمة ، إنها مزروعة في قلبه !

ومن رقة مشاعره أنه كان لا ينسى من أسدى إليه معروفًا ، حتى لو مر زمان طويل على هذا المعروف ، وقصته مع نجم الدين أيوب معروفة ؛ إذ إن نجم الدين أيوب أسدى معروفًا إلى عماد الدين زنكي في سنة (526هـ) 1131م حيث آواه في قلعته التي يحكمها في تكريت حين هُزم زنكي في أحد معاركه ، وردَّ له زنكي الجميل بعد ذلك بثماني سنوات في سنة (534هـ)1139م ، عندما ولاه حكم مدينة بعلبك بعد فتحها ، ولا يخفى على أحد أن هذا الرجل الذي يتذكر جميلاً فُعل فيه منذ ثماني سنوات هو رجل وفيّ ، رقيق المشاعر .

بل إنه لم ينس ناصر الدين كوري بن جكرمش فأقطعه إقطاعًا ؛ إعترافًا بجميل والده ، مع العلم أن والده جكرمش قدَّم لعماد الدين خدمةً برعايته ، والإهتمام به منذ أكثر من خمسة وعشرين عامًا !

لقد كان عماد الدين زنكي رجلاً وفيًّا رحيمًا رقيقًا غير أن الإنطباع الذي أخذ عنه بالقسوة لم يكن لشيء إلا لأنه كان جادًّا جدًّا في حياته ؛ مما أوهم كثيرًا من الناس أنه غليظ الطباع ، وهو على العكس من ذلك تمامًا ، ولعل الصفة التالية التي سنتحدث عنها ستفسر لنا هذا التناقض الذي يراه بعض المؤرخين .

سادسًا : الجدِّيَّة

وُلد عماد الدين زنكي ونشأ وعاش في ظروف تفرض عليه الجدِّيَّة في كل أموره ، فقد وُلد في زمان فتن ، كان التصارع فيه بين الأمراء المسلمين مشتهرًا، وقُتل أبوه في واحد من هذه الصراعات ، ونشأ عماد الدين زنكي يتيمًا ووحيدًا ؛ إذ كان لا أخ له ، وترك موطن نشأته حلب وإتجه إلى الموصل، وعاش حياة عسكريَّة منذ نعومة أظافره ، ورأى الصليبيين يجتاحون بلاد المسلمين ، فعاش القضيَّة بكل ذرَّة في كيانه ، وكان لا ينسى أبدًا أن الأقصى أسير في يد الصليبيين ، وأن أنطاكية والرها وبيروت وعكَّا وطرابُلُس وغيرها أيضًا في يد الصليبيين ، وأن أرواح المسلمين تُزْهَق ليلَ نهارَ ، وأموالهم وأعراضهم تُستباح بشكل متكرِّر .

هذه الظروف جعلت منه شخصًا جادًّا تمامًا ، وأيُّ شخص يفقد جدِّيَّته في مثل هذه الظروف هو رجل منزوع المروءة ، ليِّن الدين والعقيدة .

وهذا الجِدُّ الذي تميَّز به عماد الدين زنكي كان يمنعه من الإستسلام للراحة ، فلا يستريح ولا يَقْبَل بالترف ، وليس معنى هذا أنه لم يكن يبتسم، فالرسول كان أكثر الناس تبسُّمًا ولكنه كذلك كان أكثر الناس جديَّة ، وأكثرهم بُعدًا عن الهزل والمزاح ، وكان في مزاحه القليل لا يكذب ولا يتجاوز ، وهكذا كان نهج عماد الدين زنكي في حياته ، لقد كان دائم الفكر، كثير الصمت ، لا يتكلَّم مع الناس إلاَّ قليلاً ؛ لأن ذهنه دائم العمل لصالح المسلمين ، ودائم التدبير للأمور العظام ، وهذا كان يعطيه هيبة عظيمة ، كتلك التي كان يلاحظها الجميع على عمر بن الخطاب ، وهي هيبة غير منكرة طالما ليس فيها ظلم أو تجاوز أو كبر .

والأشخاص العظيمة دائمًا لها هيبة ، وراجعوا بعض المواقف من حياة رسول الله حتى نعرف أن هذه الهيبة غير منكرة بضوابطها الشرعية .

روى إبن ماجه عن أبي مسعود قال : أتى النبيَّ رجلٌ فكلَّمه ، فجعل ترعد فرائصه ، فقال له: " هَوِّنْ عَلَيْكَ ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ ".

فهذا رجل يرى الرسول فترتعد فرائصه ، مع أن الرسول كان أرحم الناس ، ولكن لهيبته ولمركزه ولإحترام الناس له إرتعدت فرائص الرجل ، فهوَّن عليه رسول الله وطمأن قلبه وهكذا كان عماد الدين زنكي رحمه الله .

خرج يومًا من قلعته ، وكان الحارس نائمًا ، فأيقظه حرَّاس عماد الدين زنكي ، فلمَّا إستيقظ ورأى عماد الدين زنكي سقط على الأرض من الخوف ، فقلبوه ، فوجدوه ميتًا !!

وليس معنى هذا غلظة في عماد الدين زنكي أو قسوة ، فما عُلِمَ عنه تجاوزٌ في معاملة الناس أو الرعيَّة ، ولكنها الهيبة التي جعلت له مكانًا عظيمًا في قلوب الناس .

وقد عاش عماد الدين زنكي حياة الجدِّيَّة دون تكلُّف ، فهو لم يكن يُرغم نفسه على الجدِّيَّة ، بل كان يأْلفها ويأنس بها ، حتى قال إبن الأثير في حقِّه : " كانت أصوات السلاح ألذَّ في سمعه من غناء القينات " .. فبينما كان هناك مَنْ يستمتع بسماع الموسيقى والأغاني ، كان عماد الدين زنكي يجد متعته في سماع أصوات السلاح ، سواء في ميادين الجهاد أو في ساحات التدريب .

وقد أثَّرت هذه الجدِّيَّة في هواياته رحمه الله ، فكان إذا أراد التخفُّف قليلاً من الأعباء الثقيلة التي عليه ، وأن يُرَوِّح عن نفسه ساعة فإنه كان يقوم بواحدة من ثلاث :

إمَّا أن يخرج إلى صيد الطيور والوحوش ، ولا يخفى ما في ذلك من تدرُّبٍ على الرماية والمناورة والتخفِّي ، وهو بذلك يُساعد نفسه على مهارة أعلى تعود عليه بالنفع في ميادين الجهاد، وكانت أحبُّ الهدايا إليه ما كان صيدًا ، وكذلك كان يُهدِي هو إلى الملوك والأمراء ما اصطاده هو من فهودٍ وصقور ونحو ذلك .

وإمَّا أن يتمرَّن على الفروسيَّة ويعقد مسابقات الخيل ، وكان رحمه الله من أمهر الخيَّالين ، وأعظم الفرسان .

وإمَّا أن يأخذ قاربًا ويتنزَّه منفردًا في نهر دجلة ، سابحًا في ملكوت الله ، متفكِّرًا في السموات والأرض ، أو متدبِّرًا في الأحداث والمواقف ، وهذه الخلوات كانت كثيرًا ما تفيض عليه بفكرة جميلة ، أو حيلة ذكيَّة ، أو بخشوع في القلب ، أو سكينة في الجوارح .

هذه هي لحظات الترفيه في حياة المجاهد العظيم عماد الدين زنكي رحمه الله !

سابعًا : الحسم

وهي صفة من ألزم صفات الحاكم الواعي ، ومن ألزم صفات عماد الدين زنكي أيضًا ؛ فكم أضاع التردُّد فُرَصًا على المسلمين ، وكم أدخل المسلمين في أزمات ومشاكل ! لقد كان عماد الدين زنكي حاسمًا في كل أموره ، فكان سريعًا ما يقطع بما يفيد ، ويبدأ في التنفيذ دون تردُّد .

ففي بداية ولايته أدرك أنه لا طاقة له بحرب الصليبيين قبل أن يُعِدَّ العُدَّة ، فعقد معهم هدنة مؤقَّتة ، ثم بعد ذلك تَراه يحارب ويجاهد ، ولا يقبل بأطروحات السلام من الصليبيين ، وفي كِلا الأمرين كان حاسمًا في عرضه للهدنة وفي سعيه للجهاد ، وكثيرًا ما قرَّر الهجوم في النهاية ، وفي ظروف أخرى كان يُقَرِّر الإنسحاب ، ويرى أنَّ الظروف لا تحتمل حربًا وقتها ، فلا يُكابر أو يعاند ، إنما يفكِّر سريعًا ، وينفِّذ سريعًا ، ويُرِيح الجميع بقراره الحاسم ..

والأمثلة هنا أكثر من أن تُحْصَى ، بل هي كلُّ حياته ، والتفصيلات في الصفحات القادمة عند الحديث عن خطواته في حكمه وجهاده ستبيِّن لنا ذلك بوضوح .

ثامنًا : حسن السياسة

وَصَفَ إبنُ الأثير عماد الدين زنكي بأنه كان عظيم السياسة ، والسياسة كما عرَّفها إبن عقيل رحمه الله أنها : "ما كانت فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد ، وإنْ لم يضعه الرسول ولا نزل به وَحْيٌ " ..

وهذا هو التعريف الذي يعتمده إبن القيم رحمه الله ، ومفهوم طبعًا أنها لا تعني خروجًا عن الشرع ، ولكنها تعني إبتكار الوسائل المناسبة للعصر وللظروف لإصلاح حياة الناس وإبعادهم عن الفساد .

أمَّا السياسة في التعريفات المعاصرة فهي كما جاءت في معجم روبير : " فنُّ إدارة المجتمعات الإنسانيَّة ".. وكما جاءت في المعجم القانوني : " أصول أو فنُّ إدارة الشئون العامَّة" .
وسواء إعتمدنا التعريفات الإسلاميَّة الأصوليَّة ، أو التعريفات القانونيَّة الحديثة فإنَّ عماد الدين زنكي قد بلغ الغاية في السياسة بكل تعريفاتها .

لقد عاش عماد الدين زنكي في زمان مُلِئَ بالتقلُّبات والأحداث ، وتعامل مع شتَّى أنواع البشر ، ومختلَف الزعامات والقيادات، فكان حكيمًا في كل تصرفاته ، سياسيًّا في كل عَلاقاته ، وكان نادرًا ما يفقد إنسانًا ، أو يقطع عَلاقاته بأمير ، وكانت له من الأفكار السديدة ما يفلح به في إدارة المجتمعات الإنسانيَّة مهما كانت معقَّدة .

كان يُدرك رحمه الله مراكز القوى ، ويُقَدِّر قوَّة الخصوم بعناية ، وكان لا ينخدع بالألفاظ ولا بالألقاب ، وعَلِمَ من أوَّل أيَّامه أنَّ سلاطين السلاجقة أقوى بكثير من الخلفاء ؛ ولذلك جعل ولاءه واضحًا لهم ، لكنه لم يغفل حسن معاملة الخلفاء والتقرُّب إليهم ، لكن عند حدوث صدام حتميٍّ بين السلاطين والخلفاء ، كان يقف إلى جوار السلاطين لوضوح الرؤية عنده .

وعندما ضعف أمر السلاطين ، وصار عماد الدين زنكي هو القوة العظمى في الأُمَّة الإسلاميَّة ، لم يُعلن ذلك ليتجنَّب حدوث فتن ومكائد ، ولكنه أعلن أنه يحكم باسم ألب أرسلان السلجوقي ، مع أنه لم يكن لألب أرسلان أيُّ وزن إلى جوار عماد الدين زنكي ، ولكنه حُسْنُ السياسة الذي سكَّن جوارح ألب أرسلان والسلاجقة من ورائه ، وسكَّن جوارح العامَّة .

وكان له رحمه الله من الأساليب الذكيَّة التي يُفَرِّق بها بين الأحزاب المتحالفة ضدَّه ، وما أروع ما فعله لفكِّ تحالف الصليبيين مع البيزنطيين ، وكذلك لفكِّ التحالفات الإسلاميَّة ضدَّه ! وكلُّها أساليبُ يصلح أن تدرَّس في فنِّ السياسة .

وكانت له سياسته الخاصَّة في تحقيق النصر ، وإسقاط القلاع ، وفتح البلاد بأقلِّ خسارة ممكنة ، وكان بعضهم يتَّهمه بالغدر عند بعض المواقف ، لكنه كان يعتمد مبدأ "الحرب خدعة" ، وهو منهج نبويٌّ حكيم ، فكان يتجنَّب به الدخول في أزمات هائلة ، وسنأتي في تفاصيل قصَّته على بعض المواقف التي أخذوها عليه ، وتبرير فعله في هذه المواقف ..

وكان يُقَدِّر الشخصيات المعادية له ، ويحاول الإستفادة منها حتى لو كانت فاسدة وما أحكم ما فعله مع جاولي - وهو الأمير الذي كان يطمع في الولاية بعد مقتل آق سنقر البرسقي ، فذهبت الولاية إلى عماد الدين زنكي - إذ أقطعه عماد الدين زنكي إقليم الرحبة في حلب ! ولم يُقْصِه عن كلِّ شيء ؛ وبذلك تجنَّب أذاه، وأراح قلبه ، وإستفاد من طاقاته وقدراته .

بل فعل أكثر من ذلك مع دُبَيْس بن صدقة ، وهو زعيم قبيلة بني مزيد ، وكان شيعيًّا اثني عشريًّا ، وكان فاسدًا ، أظهر الفوضى والإضطراب في بغداد ، وحاول أن يخلع الخليفة ، وكان متعاونًا مع الصليبيين ، وكان شخصيَّة مكروهة بكل المقاييس ، ومع ذلك إستنقذه من أَسْرِهِ بدمشق ، ورفض تسليمه للخليفة ، بل إستخدمه وولاَّه بعض الإقطاعات ، وكان يهدف إلى إستخدامه في السيطرة على قبيلته الكبيرة بني مزيد ، وكان يستفيد أيضًا من عَلاقاته ومخابراته ، ولقد أرشد دبيسُ بن صدقة عماد الدين زنكي ذات مرَّة إلى مؤامرةٍ كان يحيكها له السلطان السلجوقي مسعود ، فعرف السلطان أن دبيسَ بن صدقة هو السبب في كشف المؤامرة فأمر بقتله فقُتِلَ ، فعندها قال عماد الدين زنكي : "فديناه بالمال (أي من الأسر) ، ففدانا بالرُّوح !" .

وكان يقرأُ أطماع مَن يحالفونه من القادة ، فيُريح بالهم ، ويعطيهم ما يريدون ؛ فيضمن بذلك ولاءهم وطاعتهم ، وإن كانت العَلاقات بينهم متوتِّرة وغير طبيعيَّة .

وكان يُحسن سياسة جنده ويُتْقِن سياسة الترغيب والترهيب ؛ فبينما كان يضاعِف لهم رواتبهم ، ويتعامل معهم بالرأفة والمودَّة كان عقابه صارمًا ، ولا يقبل تهاونًا أبدًا في أداء الوظيفة ، ولقد سمع مرَّة أنَّ أحد قوَّاده تعرَّض للنساء ، بينما كان عماد الدين زنكي وجنوده في سفر بعيد ، فأرسل فورًا مَنْ يعزله من منصبه ، ويجرِّده من كل ممتلكاته ، بل لمَّا عَلِمَ أنَّ الأمر تجاوز التعرُّض إلى التحرُّش الصريح أمر بقتله ، ثم قال كلمته الصارمة : " إن جنودي لا يفارقوني في أسفاري ، وقلَّما يُقيمون عند أهليهم ، فإنْ نحن لم نمنع مِن التعرُّض إلى حُرُمهم هلكْنَ وفسدْنَ " .. وبعدَ هذا العقاب الرادع لم يتجاسر أحدٌ على التعرُّض للنساء طيلة حكم عماد الدين زنكي رحمه الله .

ففي هذا الموقف نَرَاه قد جذب قلوب الجنود إليه من ناحية بعد أن أظهر حرصه الشديد على نسائهم ، وعَزَلَ قائدًا من أجلهم ، وفي نفس الوقت أظهر الردع المناسب لمن يخالف الأوامر ، ويتعدَّى على حدود الشرع ، ويأتي بالأفعال المنكرة القبيحة .

والحديث عن سياسة زنكي حديث لا ينقطع ، فقد إستطاع بتوفيق من الله أنْ يتعامل مع ظروف قاسية كأفضل ما يكون التعامل ، فصار بلا جدال من أعظم السياسيين في تاريخ الأُمَّة .

تاسعًا : كان عارفًا بالرجال

وهذه ملكة فريدة عزيزة يفتقر إليها كثير من الزعماء ، أمَّا عماد الدين زنكي رحمه الله فكان متميِّزًا فيها أشدَّ التميُّز ، فقد كان يمتلك القدرة على تقييم الناس ، فيعرف أصحاب المعادن الطيِّبة والمواهب النادرة فيقرِّبهم ، ويعرف خبثاء النفس ضِعاف القدرات فيُقصيهم ، ومن هنا فقد إلتفَّتْ حوله بطانة صالحة كان لها أشدُّ الأثر في تقوية مُلْكه ، وتثبيت حكمه .

ويكفي أنه اختار من رجاله جمال الدين الأصفهاني رحمه الله فأقطعه نصيبين ، وكان من أعظم علماء المسلمين ، وكان كريمًا واسع الكرم حتى لُقِّبَ بالجواد ، وكان إذا مرَّت بالناس ضائقة أنفق من جيبه الخاصِّ حتى يرفع الله الأزمة ، وكان من أعظم الناصحين ، وأوفى الأوفياء ؛ بل إنه لم يحفظ عماد الدين زنكي فقط ، بل حَفِظ أولاده من بعده ، وكان من أشدِّ الناس مساعدة لهم وفاءً لأبيهم .

وكان من رجاله أيضًا نصير الدين جقر ، وكان سياسيًّا عبقريًّا ، وعسكريًّا ماهرًا ، وكان نائبه على الموصل ، وكان الرجلَ المناسب حقًّا في المكان المناسب ، فقد كانت الموصل تموج بالفتن ، عند ولاية عماد الدين زنكي ، فضبط نصير الدين جقر الأمور ، ونظَّم حركة الأموال ، وحفظ الأمن ، وحصَّن المدينة ، وكان وفيًّا تمام الوفاء لعماد الدين زنكي ، وعرَّض نفسه لمخاطر كثيرة ليحفظ مُلْكَ عماد الدين ، حتى وصل الأمر إلى أنْ صَبَرَ على حصار الخليفة للمدينة ثلاثة أشهر كاملة ، فلم يُسَلِّم له ، مع أن الخليفة لو أسقط المدينة لكان مصير نصير الدين هو القتل ، بل إن نصير الدين دفع حياته ثمنًا لوفائه ، فقد دُبِّرت له مؤامرة قُتل فيها ؛ ليحاول المتمرِّدون السيطرة على الموصل ، لولا أن الله قيَّض آخرين لحفظ الحُكم لعماد الدين زنكي .

وأمَّا ما يتناوله بعض الناس عن ظلم نصير الدين جقر أو سفكه للدماء فهو تحليل لا يَنْظُر إلى الظروف التي كانت بالمدينة ، والأخطار التي أحدقت بها ، وليس إتخاذ التدابير لحفظ الأمن ظلمًا ، وليس القصاصُ من القتلة ومثيري الفتن سفكًا للدماء ، وقد ذكر إبن القلانسي في كتابه "ذيل تاريخ دمشق" في حقِّ نصير الدين جقر أنه كانت له أخبار في العدل والإنصاف ، وتجنّب الجور والإعتساف ، وذكر كلامًا كثيرًا يدور كله حول نفس المعنى ، ومن ثَمَّ فهو يستنتج في النهاية أن سلوك نصير الدين جقر محمودٌ من ولاة الأمور ، وأن قصده كان سديدًا في سياسة الجمهور .

وإستوزر عماد الدين زنكي أيضًا ضياءَ الدين أبا سعيد إبن الكَفَرْتُوثيّ ، وكان كما وصفه المؤرِّخون حَسَنَ الطريقة ، جميل العقل ، كريم النفس ، مرضيَّ السياسة ، مشهورًا بالنفاسة والرئاسة .

وكان زين الدين عليّ كجك بن بكتكين من أبرز رجال عماد الدين ، وإنظر إلى كلام إبن الأثير عنه ، إذ يقول : " كان زين الدين رجلاً صالحًا ، وكان معروفًا بالقوَّة والشجاعة والإقدام ، رءوفًا بالفقراء ، مواسيًا للمرضى ، إشتهر بالمحافظة على حسن العهد ، وأداء الأمانة ، ولم يمارس غدرًا قطُّ " .

وهذا قليل من كثير ، ولا يتَّسع المقام لذكر كلِّ نوَّاب عماد الدين زنكي وقوَّاده ووزرائه ، فهذه هي حكومته ، وهذه هي بطانته، وهؤلاء هم رجاله .

ولم يكن عماد الدين زنكي يُهْدِر الفرص ، بل كان يلتقط الرجال الأفاضل في حكمة بالغة ، ويستفيد من قدراتهم في مهارة فائقة ، ومن أمثلة ذلك أنه سمع بهرب أحد القادة من دمشق ، وكانت دمشق معادية على طول الخطِّ لعماد الدين زنكي ، وكان هذا القائد هو سوار بن أبتكين ، وقد سمع عماد الدين زنكي عن كفاءته ومهارته ، فإستقدمه وقرَّبه ولم يُقلِّل من شأنه وهو محتاج ، بل أكرمه وشرَّفه ، وأجرى له الإقطاعات الكثيرة ، بل أعطاه ولاية حلب وما يلحق بها من أعمال ، وإعتمد عليه في قتال الصليبيين ، وكانت لسوار بن أبتكين بصيرة بالحرب وتدبير الأمور ، وهكذا أسدى سوار خدمات جليلة لعماد الدين زنكي في أكثر من موقعة عسكريَّة ، وفي الدفاع عن حلب ، وقد إستمرَّ سوار في منصبه منذ قدومه من دمشق سنة 524هـ إلى مقتل عماد الدين سنة 541هـ ، أي سبعةَ عشَرَ عامًا كاملة .

وكان عماد الدين زنكي يُحْسن تقييم الرجال ، وبالتالي يُقَدِّر ما يصلح لمعاشهم ورواتبهم ، وقد كان يُعطي كمال الدين الشهْرُزُورِيّ عشَرَة آلاف دينار في السنة ، وهذا مبلغ هائل ، فقيل له : إن هذا كمال الدين يحصل له في كلِّ سنة ما يزيد على عشرة آلاف دينار ، وغيره يقنع منه بخمسمائة دينار .. فقال عماد الدين زنكي : بهذا العقل والرأي تُدَبِّرون دولتي ، إن كمال الدين يَقِلُّ له هذا القدر ، وغيره يكثر له خمسمائة دينار ، وإنَّ شغلاً واحدًا يقوم به كمال الدين خير من مائة ألف دينار .

وكان عماد الدين زنكي رحمه الله إذا تردَّد في أمر إنسان إختبره ؛ ليرى إن كان يصلح للقيادة ولحفظ الأمانة أم لا ، ومن ألطف ما يُحكى في هذا المضمار ما فعله عماد الدين زنكي مع مسئول ملابسه (طشت دار) ، إذ أراد أن يختبر أمانته وحُسن تصرُّفه ودرجة إهتمامه ، فأعطاه كعكة بالفستق واللوز فأمره أنْ يحتفظ بها حتى يطلبها منه ، وبعد سنة كاملة أرسل إلى الرجل وطلب كعكته ، فأخرجها الرجل من منديل كان معه ، وكان قد حفظها من الفساد بصورة من الصور ، فسُرَّ بذلك عماد الدين زنكي ، وعيَّن الرجل قائدًا لقلعة كَوَاشَى ، وهي إحدى قلاع الموصل .

فانظر إلى عماد الدين زنكي كيف كان يُدَبِّر شئون دولته ، واعلم أن هذه ملكات وقدرات قلَّ أن يوجد مثلها .

عاشرًا : الكفاءة الإدارية الفائقة

وهذه خاصية لا بد منها إلى جوار إختيار الرجال وحسن السياسة ، فالقائد قد يحسن إختيار أعدائه ، وقد يحسن أيضًا سياستهم فيجذب قلوبهم إليه ، ويضمن طاعتهم لأوامره ، لكنه قد يفشل في تنظيم حركة العمل بحيث يحقق أكبر نفع بأقل مجهود وأقل خسارة ، وبحيث يُنشِئ نظامًا محكمًا لا يتأثر بظروف طارئة أو أحوال عابرة .

ولقد كان عماد الدين زنكي رحمه الله إداريًّا من الطراز الأول ؛ فمع أن عماد الدين زنكي كان يؤمن بمركزية القرار والحكم ، إلا أنه كان يطبِّق هذا المبدأ في الأمور المصيرية المتعلقة بمستقبل الدولة ككل ، أما في أعمال الوزارات والإمارات والدواوين فكان يُعطِي صلاحيات كبيرة لنوَّابه ، وكان يفوضهم في أخذ القرار وتنفيذه ، وكان يوليهم ثقة كبيرة تدفعهم إلى الإبتكار والإبداع ، وكان قليل اللوم لهم ؛ مما دفعهم إلى الإحساس بالمسئولية ، وأشعرهم أن البلد بلدهم ، ومن ثَمَّ أفنوا حياتهم في سبيل الرقي بدولتهم ، وكان عماد الدين زنكي قليل التغيير لإدارته وعمَّاله ؛ فشعر الجميع بالإستقرار والأمن والإطمئنان ، ومن ثَمَّ إستقرت الأعمال وأحوال الناس .

وكان يهتم جدًّا بجمع المعلومات ، وكان له نوَّاب وعيون في كل مكان حتى في الإمارات المجاورة له ، فكانت لا تفوته صغيرة ولا كبيرة ؛ لذلك كان قليلاً ما يُفاجَأ في حياته بأمر بعد فوات الأوان ، بل كان دائمًا يعلم الأمور قبل تفاقمها ، ومن ثَمَّ كان يحسن التصرف فيها .

ولدقة عيونه وجهاز إستخباراته فإنه كان يستحيل على ملك أو أمير أن يعبر من أراضيه الواسعة دون علمه ، مع أن الحدود لم تكن واضحة كأيامنا الآن ، ولم يكن رسول يجرؤ على إجتياز مملكته دون إذنه ، وكان يرسل مع الرسول فرقة ترافقه من لحظة دخوله إلى لحظة خروجه ؛ لكي لا يُعطِي الرسول فرصة للتجول في البلاد ؛ فينقل أخبارًا قد تكون خطيرة .

وكان يوزِّع أمواله وأموال الدولة في الموصل وحلب وسنجار ، ولا يجعل خزينة الدولة في مكان مركزي واحد ، وكان يقول : " إن جرى على بعض هذه الجهات فتقٌ ، أو حيل بيني وبينه ، إستعنت على سدِّ الخرق بالمال في غيره " .

وكان يهتم إهتمامًا واسعًا بسهولة الإتصالات ، وبسلامة الطرق وأمنها ، وبجهاز البريد ، وكان يدرك تمام الإدراك أن سرعة وصول المعلومة قد تحفظ بلدًا ، أو تكسب معركة ..

وكان يهتم بالتخصص في المهنة ، فلا يضع عسكريًّا في منصب إداري ، ولا يضع عالمًا في منصب عسكري أو نحو ذلك ، وكان إذا إستقدم كفاءة من خارج البلد فإنه يرسله إلى أهل التخصص يعلمونه أحوال البلد والناس قبل أن يتولى المنصب ، فإن كان جنديًّا أو عسكريًّا قصد الأجناد فعرف النظام العسكري المتبع وأصوله ، وإن كان صاحب ديوان قصد أهل الديوان ، وإن كان عالمًا قصد القضاة ، وهكذا تقدَّم للغريب كل معونة وخدمة ، حتى يقول أبو شامة في وصف ذلك : " فيعود كأنه أهل! " ، أي يعود الغريب بعد هذا التدريب والإستضافة كأنه في أهله وليس غريبًا .. ولا يخفى علينا كيف يكون الإنتاج غزيرًا عند هذا الغريب ، سواء كان عسكريًّا أو موظفًا أو عالمًا ، خاصةً أن الرواتب في عهد عماد الدين زنكي كانت مجزية جدًّا .

وكان عماد الدين زنكي أيضًا يضع دائمًا الخطة البديلة ، ويفترض أسوأ الإحتمالات ، ويأخذ حذره منها ؛ ولقد سيطر على قرية البوازيج قرب تكريت وحصنها ، وذلك قبل أن يدخل الموصل خوفًا من عصيان الموصل عليه ، فجعل لنفسه مكانًا يأوي إليه في هذه الحالة ، مع أن إحتمالية عصيان الموصل كانت بعيدة !

ثم أخيرًا كان عماد الدين زنكي رحمه الله يحترم تمامًا السلم الإداري ، ويرفض أن يتجاوز مرءوس رئيسه المباشر إلى الرئيس الأعلى ، وهذا سيحقق فوائد كثيرة ؛ منها حفظ الهيبة للرئيس المباشر ، ومنها سلامة العمل ودقته ؛ لأن الرئيس المباشر قد يمتلك من المعلومات ما لا يمتلك الرئيس الأعلى ، ومنها حفظ وقت الرئيس الأعلى بدلاً من أن يخوض في كل القضايا ، ومنها عدم الإعتماد على شخصية واحدة ، بل نضمن سهولة سريان العمل وسلاسته حتى في غياب الرئيس الأعلى .

ومما يُروى في ذلك أن عماد الدين زنكي رأى ذات يوم مجموعة من حرسه الخاص يجتمعون ويقفون في مكان بحيث يراهم عماد الدين زنكي ، فعلم أنهم يريدون أن يشكوا إليه أمرًا ، فأرسل إليهم ، فقالوا أن رواتبهم قد تأخرت عن موعدها ، فقال : أشكوتم إلى الديوان ؟ قالوا : لا , قال : فهل ذكرتم حالكم لأمير حاجب (وهو بمنزلة قائد الحرس الملكي)؟ فقالوا : لا , قال: فلأيِّ شيء أُعطي الديوان مائة ألف دينار ، وأعطي الأمير حاجب أكثر من ذلك ، إذا كنت أنا أتولى الأمور صغيرها وكبيرها ؟! كان عليكم أن تشكوا حالكم إلى الديوان ، فإن أهملوا أمركم قلتم للأمير حاجب ، فإن أهمل أمركم شكوتم الجميع إليَّ ؛ حتي أعاقبهم علي إهمالهم ، وأما الآن فالذنب عليكم !!

وكاد عماد الدين زنكي يعاقبهم لتجاوزهم السلم الإداري ، لولا شفاعة أحد الأمراء لهم ، ولكنه في نفس الوقت ما أهمل القضية ، بل أرسل إلى الديوان وأمير حاجب وقال لهم : إذا كنتم تهملون أمر جندي الذين تحت ركابي ، ومن هو ملازمي في سفري وإقامتي ، وبهم من الحاجة إلى النفقات في أسفارهم ما تعلمونه ، فكيف يكون حال من بَعُد عنِّي ؟!

وشعر الديوان وأمير حاجب بخطورة الموقف ، وكانت رواتب الجند لم تصل بعدُ من الخزينة العامة ، فأعطى أمير حاجب الجند رواتبهم من ماله الخاص لحين قدوم الرواتب من الخزينة !

ويعلِّق إبن الأثير على هذا الموقف الإداري الفذِّ من عماد الدين زنكي فيقول : " بهذا الإجراء أصلح عماد الدين زنكي الجند لطاعة الديوان ، وأصلح الديوان للنظر في مصالح الجند ، وعظَّم نفسه عن أن يخاطَب في هذا الأمر الحقير" .

رحم الله عماد الدين زنكي ، فقد كان أمَّةً وحده ! وقد إختاره الله في هذا التوقيت ليعيد للأمة هيبتها ، ويعلي رايتها ، ويعز شأنها ، فكان بحقٍّ "رجل المرحلة".


 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 04-03-14, 04:51 AM

  رقم المشاركة : 17
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

عماد الدين زنكي وبناء الأمة

ذهب عماد الدين زنكي لتولي منصبه الخطير ، وهو إمارة الموصل ، وليس وجه أهمية المنصب في كونه يشرف على واحدة من أهم وأوسع وأثرى الإمارات الإسلامية في ذلك الوقت، وليس فقط للأهمية الإستراتيجية لهذه الإمارة الواقعة في وسط مثلث مهم جدًّا ؛ حيث إنها فاصلة بين العراق والخلافة العباسية ، وفارس ومركز السلاجقة العظام ، والشام بما فيها من أحداث ساخنة ، ليس لهذه الأمور فقط ترجع أهمية الموصل ، ولكن في الأساس لكونها أصبحت الإمارة التي يعلق عليها المسلمون آمالهم في تخليصهم من الكابوس المفزع المتمثل في الإحتلال الصليبي .

كانت المهمة إذن خطيرة جدًّا ، والمعوقات لنجاح العمل كثيرة ، ولا بد لمن يتولى هذا المنصب أن يكون على دراية تامة بأحوال الواقع الإسلامي ، وعلى علم غزير بأمور الجهاد والإدارة والسياسة ، وعلى قدرة تامة للتعامل مع كل المفاجآت والأحداث ، وقد كان عماد الدين زنكي هذا الرجل المطلوب !

بدأ عماد الدين زنكي - وقبل وصوله إلى الموصل - ينظر نظرة شمولية للأحداث وللظروف ، وكأني به قد نظر إلى المنطقة بمنظار درجته ثلاثمائة وستون درجة ، وكأنه بهذه الصورة قد رأى كل صغيرة وكبيرة في المنطقة ! فتعالوا نفكر مع عماد الدين زنكي في الوضع الجديد ، ونرى كيف يمكن أن تكون رؤيته ؟ وما هي أولوياته ؟ وكيف ستكون خطواته ؟! وما هي موازين القوى الموجودة في المنطقة في ذلك الوقت ؟ ..

أولاً : أقوى شخصيات العالم الإسلامي الآن هو السلطان السلجوقي محمود ، ومقرُّه في أصفهان ، وله الهيمنة على مناطق كثيرة أهمها إيران والعراق بما فيها بغداد والموصل ، كما أن له السيطرة كذلك على حلب ، ومن ثَمَّ فولاء عماد الدين زنكي سيكون بوضوح له ، فوق أنه هو الذي ولَّى عماد الدين زنكي أصلاً ولاية الموصل , وكان السلطان محمود عند ولاية عماد الدين زنكي يبلغ من العمر ثلاثة وعشرين عامًا ، وكان عاقلاً حليمًا كريمًا عفيفًا، وإن لم يكن على نفس الخبرة والكفاءة التي كان يتمتع بها أبوه السلطان محمد أو أجداده .

ثانيًا :
الخليفة العباسي آنذاك هو المسترشد بالله ، ولو ظهر هذا الخليفة في زمان قوة الدولة العباسية لكان له شأن ، لكنه ظهر والدولة العباسية في غاية الضعف ، وتقع تحت الهيمنة السلجوقية تمامًا ، وكانت تراود هذا الخليفة الطموحات بالإستقلال ، ومرَّ بنا كيف أنه إصطدم قبل ولاية عماد الدين زنكي بشهور قليلة مع السلطان محمود ، إلا أن السلطان محمود إنتصر ، وإعتذر الخليفة له ، فهذا - لا شك - سيؤثر في علاقة عماد الدين زنكي بالخليفة ؛ فعماد الدين زنكي وإن كان لا يريد خصامًا أو شقاقًا مع أحد إلا أن أولوياته في هذه المرحلة ستكون موجَّهة للسلطان محمود أولاً ، ثم الخليفة أو غيره من بعده ، ثم إن عليه أن يعلم أن الخليفة قد يؤذيه في يوم ما ؛ لأنه يعلم إرتباط عماد الدين زنكي بالسلطان محمود .

ثالثًا :
إمارة الموصل الآن تموج بالفتن ، والوضع الأمني فيها في غاية الإضطراب ، ومنذ عام واحد قُتل آق سنقر البرسقي أمير المدينة بسهولة ، وذلك على يد الباطنية ، فهذا الإنفلات الأمني أدى إلى نتائج خطيرة ؛ حيث إضطربت حركة التجارة ، وساد المفسدون ، وخشي الناس على حركتهم وأموالهم ، ومن ثَمَّ فقدوم عماد الدين زنكي على البلد ليس آمنًا .

رابعًا :
من موازين القوى المهمَّة التي لا ينظر إليها كثير من المحلِّلين هو الشعب في المدينة المعيَّنة أو الدولة المعيَّنة ، وشعب الموصل - كما سبق وتحدَّثنا عنه - كان شعبًا محبًّا للعلم راغبًا في الجهاد ، ومن ثَمَّ فهو يصلح أن يكون نواةً جيدة لدولة قويَّة ، كما تصلح الموصل بشعبها أن تكون عاصمة لحكم عماد الدين زنكي ، حتى لو كانت أوضاعها الأمنية منفلتة الآن ، وهذه نقطة مهمَّة ؛ لأن إختيار العاصمة نقطة محورية في ذهن عماد الدين زنكي ، خاصَّة أن حلب تُعَدُّ هي الأخرى بديلاً مطروحًا لأمورٍ كثيرة سنعرض لها في النقطة القادمة .

خامسًا : الوضع في حلب


حلب مدينة في غاية الأهميَّة ؛ فهي مدينة تتمتع بحصانة عسكرية عالية ، كما أنها تقع على خطوط المواصلات بين العراق والشام ، وهي قريبة جدًّا من معاقل الصليبيين ، وأهمها الرها في الشمال وأنطاكية في الغرب ، ولها أهمية إقتصادية عالية ، كما أن كثافتها السكانيَّة كبيرة ..

كل هذه العوامل جعلت عماد الدين زنكي يعتقد تمام الإعتقاد أن هذه المدينة مهمَّة جدًّا في المنطقة ، إضافةً إلى أن أهل حلب ما زالوا يتذكَّرون حاكمهم القديم "قسيم الدولة آق سنقر الحاجب" والد عماد الدين زنكي بكلِّ خير ، ولا شكَّ أن هذا سيجعل قاعدة شعبيَّة عريضة لعماد الدين زنكي .

لكن في ذات الوقت فطبيعة الشعب في حلب مختلفة عن الموصل ، فالشعب هناك عانى من سوء التربية وفساد الحكم عشرات السنين ، وذلك منذ أيام تتش بن ألب أرسلان وإبنه رضوان ، وهذا الشعب وإن كان فيه خيرٌ - إن شاء الله - إلاَّ أنه لا يصلح في هذه المرحلة أن يكون نواة للحركة الجهاديَّة ضد الصليبيين ، هذا إضافةً إلى أن المدينة قريبة جدًّا من معاقل الصليبيين ؛ ولذا فتَمَرْكُز الحكم فيها أمر خطير ؛ ولذا ففي ذهن عماد الدين زنكي أن أهميَّة الموصل تعلو فوق أهميَّة حلب ، ولكل منهما دور في خططه وبرامجه .

أمَّا الوضع السياسي الآن في حلب فهو مضطرب جدًّا ؛ لأنه بعد وفاة عز الدين مسعود بن آق سنقر البرسقي ظهر فيهم أحد التركمان وإسمه قتلغ أبه ، وسيطر على الحكم ، ووضع في صورة الحكم إبراهيم بن رضوان بن تتش ، وكان إبراهيم هذا فاسدًا كأبيه ، وكان قتلغ آبه أفسد منه ، فبدأت المدينة تعيش حالة من الظلم والجور ، وبدأ الذعر ينتشر هنا وهناك ، وطمع الجميع في المدينة ، وخاصَّة جوسلين دي كورتناي أمير الرها ، وريموند دي بواتييه أمير أنطاكية ..

ثم لجأ أهل المدينة إلى شخصيَّة جديدة لعلَّها تنقذهم من ظلم قتلغ أبه ، وهو سليمان بن عبد الجبار الأرتقي ، ولكنه كان ضعيفًا ، ومن ثَمَّ قامت مؤامرات وفتن ، ولم يستقرّ الوضع على حال ، والصليبيون على الأبواب ..

سادسًا : من مراكز القوى الموجودة أيضًا في ذلك الوقت الأمير جاولي ، الذي أعلن الوصاية على إبن آق سنقر البرسقي الصغير ، وكان طامعًا في الحكم ، ورأينا أنه أرسل بهاء الدين الشهرزوري وصلاح الدين الياغيسياني لكي يُقنعا السلطان محمود بإعطائه الولاية ولكن جَرَت الريح بما لا تشتهي السفن ، ووصلت الإمارة إلى عماد الدين زنكي ، فماذا سيفعل جاولي ، وهو الآن بالموصل ومعه جيش الموصل الذي كان تحت إمرة عز الدين مسعود قبل وفاته ؟

سابعًا : دمشق وبقية بلاد الشام


في كل قصتنا من أولها إلى هذه اللحظة كانت دمشق تمثِّل مشكلة عويصة للحركة الجهادية ! فدمشق هي المدينة الرئيسية في منطقة الشام بكاملها ، بل إن الأهالي في هذه المناطق لو قالوا : الشام، فإن كثيرًا ما يقصدون دمشق فقط ! لكن - للأسف - هذه المدينة بكل مقدراتها البشرية والإقتصادية والإستراتيجية والعسكرية ، وبالتاريخ الإسلامي الطويل لم تكن على المستوى المطلوب إسلاميًّا في هذه الفترة ، بل على العكس كانت حجر عثرة في المشروع الجهادي فترةً طويلة من الزمن !

وأصل المشكلة كما تعرضنا لها قبل ذلك الفترات الطويلة التي مرت على المدينة وهي محكومة بالفاسدين والظالمين وأصحاب البدع ، حتى خرج علينا بالتدريج جيلٌ لا يوقر العلم ولا يحب الجهاد ، ولا يعرف من الدين إلا بعض القشور ، بل وتتحول عنده البدع إلى أصول !!

لقد حكمت دمشق كما ذكرنا قبل ذلك من سنة 358هـ\ 968م إلى سنة 468هـ\ 1075م بالدولة العبيدية ، وفي هذه الفترة الطويلة تغيرت المناهج التربوية والتعليمية والحياتية بشكلٍ كبير ، أدى إلى حدوث خلل بيِّن في الشعب هناك ، وضاعت الكثير من المبادئ والقيم ، وفَقَد عقلاء المدينة الرؤية الصائبة ، ومن ثَمَّ هجرها علماؤها ، ودخلت فترة من الظلام الدامس !

وحتى بعد تحرير المدينة من العبيديين فإنها مرت بفترات عصيبة تحت الحكم العسكري لأحد قواد السلاجقة وهو أتسز (الأقسيس) ، ثم تتش بن ألب أرسلان ، ثم دقاق بن تتش ، وأخيرًا طغتكين التركماني ..

ومع أن الحكم الآن في يد طغتكين إلا أنه لم يكن بالشخصية الجهادية الصرفة ، ومن ثَمَّ فقد يمثل حجر عثرة أمام أحلام عماد الدين زنكي الجهادية .

أضف إلى كل ذلك تغلغل النفوذ الباطني في الشام ، وخاصةً في دمشق وما حولها من قرى وقلاع ، وكان هذا يرهب الناس إرهابًا كبيرًا ، خاصةً أن الباطنية كانوا يتربصون بأي دعوة إصلاحية في المنطقة ، مما جعل الشعب ييأس من إحتمالية الإصلاح .

كل هذه العوامل جعلت مشكلة دمشق معقدة ، فهي ليست مشكلة حكام فقط ، إنما هي مشكلة شعب كذلك ، وهذا - ولا شك - أصعب !
أما عسكريًّا وسياسيًّا فإن الوصول إلى بيت المقدس مستحيل دون التعاون مع دمشق أو السيطرة عليها ، ونفس الكلام يقال على إمارة طرابلس ، وعلى هذا فإن كان عماد الدين زنكي يريد حلاًّ لقضية الصليبيين في طرابلس وبيت المقدس ، فلا بد أن يجد حلاًّ أولاً لقضية دمشق !

أما المدن الأخرى في الشام فكانت أضعف بكثير من دمشق ، ولكنها جميعًا كانت محورية في حرب الصليبيين ؛ لتداخل المناطق بعضها مع بعض .


وكانت حماة تحت سيطرة إمارة دمشق ، وهي مدينة تتحكم في عدة محاور ، كما أنها قريبة من أنطاكية وطرابلس .

أما حمص فكانت في ذلك الوقت إمارة مستقلة على رأسها صمصام الدولة خيرخان بن قراجا ، وهو رجل تركي إشتهر بالظلم والتعسف ، ولكنه كان قويًّا ومؤثرًا في المنطقة .

وآخر هذه الإمارات هي إمارة شيزر ، وكان يسيطر عليها سلطان بن منقذ - وهو من الأمراء العرب - الذي سيطر على هذه الإمارة فترة طويلة من الزمن ، على الرغم من صغر إمارته وضعفها وخطورة موقعها ؛ حيث إنها قريبة جدًّا من أنطاكية ..

ثامنًا : منطقة الجزيرة وما حولها

وهذه المنطقة في غاية الخطورة ، وهي المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات من ناحية الشمال ، وهي تضم الآن أجزاء من العراق وسوريا وتركيا ، وهي المنطقة التي تحوي في داخلها إمارة الرها الصليبية ، وهي قريبة جدًّا من الموصل ، بل إن الموصل نفسها تُعَد إحدى مدن إقليم الجزيرة ، ومن ثَمَّ فإن هذه المنطقة من أهم المناطق التي يجب أن يفكر فيها عماد الدين زنكي .

وللأسف الشديد فإنه مع خطورة هذه المنطقة وقربها من إمارة الرها الصليبية إلا أنها كانت ممزقة بين الزعماء المختلفين ، سواء من الأراتقة أو التركمان أو العرب ، ولا نبالغ إن قلنا أن هذه المنطقة المحدودة كانت تضم عشرات الإمارات المستقلة ، وليس ذلك فقط ، بل كانت تتناحر مع بعضها البعض من أجل توسيع بقعة السيطرة !!

تاسعًا : الأكراد

وهم - كما ذكرنا - من الشعوب السُّنِّية العظيمة ، وكانوا يعيشون في الجبال الواقعة في شمال وشمال شرق الموصل ، ولكن نتيجة لوعورة المناطق هناك فقد ضعفت السيطرة الحكومية السلجوقية عليها ، وقلَّ وجود العلماء هناك ، فإنعدم الأمن وساد الجهل ، وصارت هذه المناطق مصدر إزعاج وقلق للمدن المجاورة .. وكانت الأكراد مقسَّمة إلى قبائل كثيرة ، وكل قبيلة مستقلة إستقلالاً كاملاً ، وليس هناك ما يمكن أن يسمَّى دولة كردية ، ولعل أشهر القبائل في هذه المنطقة في ذلك الوقت هي قبائل الأكراد الحميدية والهكارية والمهرانية واليشنوية ..

عاشرًا : الصليبيون

بعد كل هذه الهموم والمشاكل التي في المنطقة يبقى هناك الهم الأكبر ، والعبء الأعظم المتمثل في الكيان الصليبي المستقر في أربعة تجمعات رئيسية ، وهي الرها وأنطاكية وطرابلس وبيت المقدس .

وفي ظل الإضطرابات التي حدثت في الموصل بعد مقتل آق سنقر البرسقي سنة (520هـ) 1126م ، فإن الإمارات الصليبية إستقرت بصورة أكبر ، بل وبدأت تتعرض للقوافل المارة بجوارها ، وبدأت في فرض الإتاوات على المدن القريبة ؛ مما أحدث نوعًا من الفزع والرعب عند عامة سكان المنطقة، خاصةً أن الزعماء الضعفاء الذين كانوا يسيطرون على المدن الإسلامية كانوا لا يرغبون ، ولا يفكرون أصلاً في أي صدام مع الصليبيين ..

أما من ناحية الزعامات الصليبية فقد إستقرت أوضاعهم إلى حدٍّ كبير ، وكانت الرها تحت حكم جوسلين دي كورتناي ، وأنطاكية تحت حكم بوهيموند الثاني ، وطرابلس تحت حكم بونز بن برترام ، وبيت المقدس تحت حكم بلدوين الثاني .

ولا شك أن أخطر هذه الإمارات بالنسبة لعماد الدين زنكي هي إمارة الرها المزروعة كالإسفين بين الموصل وحلب !

إذن كانت هذه الصورة في ذهن عماد الدين زنكي ، وهي صورة معقدة ، فيها عشرات بل مئات المشاكل ، ولن يستطيع الخروج من هذه الأزمة المركبة إلا بيقين صادق في الله ، ثم رؤية واضحة ، وحسن ترتيب للأولويات ، وسياسة ماهرة في التعامل مع كل هذه التنوعات البشرية ، وحكمة بالغة في تغيير المنكر وإصلاح الفساد .

لقد كانت الرؤية في تمام الوضوح في ذهن عماد الدين زنكي من أول يومٍ تولى فيه الحكم ؛ لقد كانت قضيته بوضوح هي "تحرير العالم الإسلامي من الصليبيين" ، ولكن هذه مهمة شاقة وعسيرة ، وتحتاج إلى منهج واضح في التعامل ، ولقد كان منهج عماد الدين زنكي في ذلك يتركز في نقطتين رئيسيتين ظلتا الشغل الشاغل له طيلة حياته ؛ وهاتان النقطتان هما : توحيد المسلمين ، والجهاد في سبيل الله ضد الصليبيين !

لقد أدرك عماد الدين زنكي من اليوم الأول أن حالة الفرقة الشنيعة التي تعاني منها الأمة الإسلامية هي السبب الرئيسي في تمكن الصليبيين من السيطرة على الأوضاع في عمق العالم الإسلامي ، ولم يكن الأمر يقف عند ضعف القوة فقط ، ولكن كان الصليبيون يضربون بعض المسلمين ببعض ، فنشأت الدويلات المتناحرة التي حفظت بقاء الصليبيين مدة أطول .

كما أدرك عماد الدين زنكي أيضًا من اليوم الأول أن الحل الوحيد لطرد الصليبيين من البلاد هو الجهاد في سبيل الله ، وأن التفاوض مع الصليبيين للموافقة على الخروج هراء لا معنى له ، خاصةً أنهم مجتمعات إستيطانية جاءوا بنسائهم وأولادهم ليستقروا ويعيشوا ، ومن ثَمَّ فقد أصبح الصليبيون يعتبرون الديار الإسلامية المنهوبة ديارهم ، وهناك أجيال كاملة ولدت وعاشت في بلاد المسلمين ، ولم تر أوربا أصلاً ، فقد مر على الوجود الصليبي حتى لحظة ولاية عماد الدين زنكي ثلاثين سنة كاملة .

وعلى هذا فخطة الجهاد في سبيل الله كانت واضحة تمامًا عند عماد الدين زنكي ، ولا بد أن يكون الجهاد في سبيل الله ، وليس في سبيل مطامع شخصية ، أو أحلام توسعية .. وهذا الجهاد له أسلوب وطريقة ، ويحتاج إلى إعداد وجهد ، وإلى طاقات وإمكانيات ، وهو ليس جهد فرد ، وإنما جهد أمة ..

هكذا كان يفكر عماد الدين زنكي ...

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 04-03-14, 04:53 AM

  رقم المشاركة : 18
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

- عماد الدين زنكي .. وحدة وجهاد !

تسلَّم عماد الدين زنكي منصبه الجديد ، والذي لم يكن تشريفًا على قدر ما كان تكليفًا ، فالمهمَّة صعبة ، والعبء ثقيل ، والآمال معلَّقة على هذا القائد الجديد .. وبدأ عماد الدين زنكي في ممارسة مهامه حتى قبل أنْ يصل إلى الموصل !

لقد كان متَّجِهًا من بغداد إلى الموصل ، وهو يعلم أن جاولي الذي تولى الوصاية على إبن آق سنقر البرسقي قد يرفض تسليم الموصل ويتحصَّن بها ، وقد يستقلُّ بها كما حدث من بعض الزعماء قبل ذلك ، فأراد عماد الدين زنكي أن يضع الخطَّة البديلة لمثل هذا الوضع إن حدث ، وعرف أنه لا بُدَّ له من مركز يتحرَّك منه ، وبالتالي فقد توجَّه على رأس الفرقة التي كانت معه إلى مدينة البوازيج ، وهي مدينة قرب تَكريت إلى الجنوب من الموصل ، وسيطر عليها ، وجعلها قاعدة لجيشه ، وبهذا يستطيع أن يتابع الضغط على الموصل في حال رفض جاولي أن يُسَلِّمها ، وفي نفس الوقت ستصبح البوازيج تأمينًا لحدود الموصل الجنوبيَّة في حال تسليم جاولي للمدينة ، أو سقوطها في يَدِ عماد الدين زنكي .

وبالفعل سيطر عماد الدين زنكي على البوازيج ، ثم أتبعها بضمِّ جزيرة إبن عمر ، وهي منطقة مهمَّة جدًّا تقع على مسافة خمسة كيلو مترات تقريبًا جنوب الموصل ، ولها أهمية عسكرية وإقتصادية عالية ، وكان قد إستقلَّ بها أحد مماليك البرسقي ؛ ولهذا كان لا بُدَّ من ضمِّها لتأمين جنوب الموصل ، ثم تقدَّم بطلنا صوب الموصل .

وفكر جاولي في موقفه ، فوجد أنه ضعيف ، وليس له سند من الدولة ولا من الشعب ؛ ولذلك تردَّد في منع عماد الدين زنكي من دخول المدينة ، وكان عماد الدين زنكي يقرأ أفكار جاولي ، ومن ثَمَّ عَلِمَ أنه ليست له طاقة كاملة للإستقلال بالمدينة ، إلاَّ أنه من الممكن أن يُكَلِّف عماد الدين زنكي خسائرَ في المال والأرواح والوقت إذا قاومه لفترة ؛ لذلك فكَّر عماد الدين زنكي في إستغلال جاولي لصفِّه ، فراسله من البداية ، ووعده بإعطاء إقليم الرحبة وما حوله كإقطاعية يحكمها بإسم عماد الدين زنكي ، وإقليم الرحبة من أقاليم الشام الثريَّة والقريبة من حصون الصليبيين ، وهو بذلك سيضرب أكثر من عصفور بحجر ؛ فهو سيدخل الموصل آمنًا دون قتال ، وسيستخدم جاولي في إدارة إقليم إسلامي مهمٍّ ، ويصبح بذلك من رجاله ، ثم سيستغلُّ طاقاته العسكرية في قتال الصليبيين ، وهو الهدف الرئيسي لعماد الدين زنكي ، وفوق كلِّ ذلك فإن هذا السلوك من عماد الدين زنكي سيشجِّع كل المعارضين على التعامل معه والإخلاص له ، فهو لا يتخلَّص من المنافسين له ، ولكن يُجزل لهم العطاء ، ويُوَلِّيهم في إمارته ، ولا شكَّ أن هذا سيجذب إليه القلوب .

وجد جاولي في هذا العرض السخي من عماد الدين زنكي حلاًّ لمطامحه ، وبالتالي وافق بسهولة ، ومن ثَمَّ دخل عماد الدين زنكي الموصل دون إراقة قطرة دم واحدة ، وكان هذا منهجه كلَّما إستطاع إلى ذلك سبيلاً .

بدأ عماد الدين زنكي مباشرة في ترتيب البيت الداخلي ، فعيَّن على إمارة الموصل نصير الدين جقر ، وهو بمنزلة محافظ الموصل ، وكان نصير الدين جقر شخصية حازمة قويَّة تناسب الوضع الأمني المتدهور في الموصل آنذاك ، وأوكل إليه عدَّة مهام رئيسية كان منها إستتباب الأمن الداخلي في الموصل ، وتقوية الأسوار والقلاع والخنادق ، وتقوية العلاقات مع رءوس الناس والأعيان ورؤساء القبائل ، وتنسيق الدواوين والإدارات ، وقد جعل عماد الدين زنكي ميزانيَّة ضخمة لهذه الدواوين (الوزارات) ، حتى صار العمل فيها سلسًا وسريعًا ومنظَّمًا ، كما أكَّد عماد الدين زنكي على حسن التعامل مع الجمهور حتى وصف أبو شامة المتعاملين مع هذه الدواوين بقوله : "وكأنهم في أهلهم" ..

وأوكل عماد الدين زنكي مهمَّة الجيش إلى صلاح الدين محمد الياغيسياني ، وهو أحد الرسولَيْنِ اللذين أرسلهما جاولي قبل ذلك للسلطان محمود ، وقام مع زميله بترشيح عماد الدين زنكي خلافًا لما أراده جاولي ، وقد شعر عماد الدين زنكي بمدى تجرُّد الرجل حيث ضحَّى بمنصب متوقَّع في سبيل تزكية عماد الدين زنكي ، إضافةً إلى أنه من المتمكِّنين عسكريًّا ، ومن المتميِّزين في ساحة المعارك ..

ثم أسند عماد الدين زنكي مهمَّة القضاء إلى الرسول الثاني الذي كان مرافقًا لصلاح الدين محمد الياغيسياني ، وهو بهاء الدين الشَّهْرُزُوري وقد كانت عائلة الشهرزوري بكاملها من العائلات المشهورة بالعلم عامَّة ، وبالقضاء خاصَّة ، وقد أيقن عماد الدين زنكي أيضًا بإخلاص هذا الرجل فقدَّمه على غيره ، وإعتمد عليه في إختيار مَنْ تحته من القضاة في الولايات المختلفة .

وهكذا إستقرَّ عماد الدين زنكي رحمه الله على حكومته الرئيسيَّة ؛ حيث إطمأنَّ على أهمِّ القيادات في دولته ، وهي القيادة الإداريَّة والعسكريَّة والدينيَّة .

ثم شرع عماد الدين زنكي رحمه الله في إستقدام العلماء من الأماكن المختلفة في العالم الإسلامي ، وأفسح لهم المجال لتعليم الناس دينهم ، والحديث بإستفاضة عن قضية الجهاد ، وتعبئة الشعب لهذه المهمَّة النبيلة ، وتذكير الناس بأيام الله التي إنتصر فيها المسلمون ، وإعادة الناس إلى ربهم سبحانه وتعالى ، وتنشئة الجيل الجديد على التضحية والبذل ، وتوجيه النيَّة لله رب العالمين وهكذا بدأ الإعلام في الدولة الجديدة يهتمُّ بقضايا أُهملت في كثير من المناهج ، وبدأت أحلام الناس وأهدافهم تتغيَّر لصالح قضية عماد الدين زنكي الرئيسيَّة ، وهي قضية إخراج الصليبيين من بلاد المسلمين .

وهكذا رتَّب عماد الدين زنكي بيته الداخلي ، وأسَّس دولة على بُنيان صُلب ، وإطمأنَّ إلى الأوضاع في داخل الموصل ، ومن ثَمَّ بدأ ينظر إلى خارجها عازمًا على توحيد الأُمَّة في كيان كبير يستطيع أن يصمد أمام الصليبيين .

ولما كان عماد الدين زنكي واقعيًّا ، وكان يُحسن تقدير قوَّته وقوَّة عدوِّه فإنه أدرك أنه في هذه المرحلة لا يَقْوَى على قتال إمارة الرها القريبة ، وكان في نفس الوقت يريد أن يتفرَّغ لتوحيد الإمارات الكثيرة المتناثرة حول الموصل ، ومن هنا قرَّر أن يعقد هدنة مع إمارة الرها لمدَّة سنتين ، وقد كان واضحًا جدًّا أن الإتفاقية محدَّدة بفترة زمنيَّة معيَّنة ؛ لأنه لا يستطيع بحالٍ أن يعقد إتفاقيَّة سلام دائم مع عدوٍّ يحتلُّ أرض المسلمين ، ومن هنا دلَّل على أنه يجمع بين الفقه العسكري والفقه الديني ، وهذا ما ميَّزه عن بقيَّة زعماء عصره .

ولما عُقِدَتْ هذه الهدنة المهمَّة فكَّر عماد الدين زنكي مباشرة في ضمِّ المدينة العظيمة حلب ، وقد تحدَّثنا قبل ذلك عن أهميَّة حلب الإستراتيجيَّة والعسكريَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والبشريَّة ، إضافةً إلى أن حلب كانت متحدة قبل ذلك في زمان آق سنقر البرسقي مع الموصل تحت حكم السلطان السلجوقي محمود ، فالوَحدة بينهما منطقيَّة وقانونيَّة ، وليس من المفترض أن يكون هناك خلاف على توحيدها مع الموصل ، هذا إضافةً إلى أن القاعدة الشعبية لعماد الدين زنكي هناك قويَّة ؛ وذلك لذكريات أبيه العادل قسيم الدولة آق سنقر الحاجب ، الذي قُتل منذ أربعٍ وثلاثين سنة وهو يدافع عن حلب ضد تتش بن ألب أرسلان .

لكن عماد الدين زنكي - مع رغبته في ضمِّ حلب - لم يشأ أن يُقْدِم على هذه الخطوة قبل أن يقوم بإجراءين رئيسيين :

أما الإجراء الأول فهو تأمين الحدود الشمالية والشمالية الشرقية للموصل ، وكان قد أمَّن حدودها الجنوبية قبل ذلك بضمِّ البوازيج وجزيرة إبن عمر كما مرَّ بنا ، وهذا التأمين يضمن له الحركة الآمنة في إتجاه الغرب ناحية حلب .

وكانت هذه المناطق مستَقَرًّا لقبائل الأكراد الكثيرة ، وكانت أقرب هذه القبائل للموصل هي قبائل الأكراد الحميدية والأكراد الهكارية ، وكانوا في هذه الفترة يُكَوِّنُونَ فِرَقًا مسلَّحة تُغِيرُ على مزارع وقرى الموصل الشرقيَّة ، وبالتالي يُثيرون الذعر بين الفلاَّحين ومواطني الموصل ؛ ومن ثَمَّ توجَّه إليها عماد الدين زنكي بفرقةٍ من جيشه .

ومع كون الفارق هائلاً بين قوَّة عماد الدين زنكي وجيشه النظامي وبين هذه القبائل المتفرِّقة ، إلاَّ أن عماد الدين زنكي رحمه الله كان حريصًا طيلة حياته على الإستفادة من كل الطاقات من حوله ، وكما وظَّف جاولي لصالحه قرَّر أن يوظِّف الأكراد - إن إستطاع - لخدمة دولته الناشئة ، وقد أقدم على هذه الخطوة على الرغم من التاريخ السيِّئ لهذه التجمُّعات ، لكنه كان دائمًا - رحمه الله - يسعى إلى الإصلاح وإلى الوَحدة .

إجتمع عماد الدين زنكي رحمه الله مع زعيم الأكراد الحميديين الأمير عيسى الحميدي ، وفي هذا الاجتماع أقرَّه على ولايته على الأكراد ، وترك له كل ما في يده ، في مقابل أن يُصبح تابعًا لإمارة الموصل ، وبالتالي لا يُغِيرُ على الإمارة ، إضافةً إلى الإستعانة به ضدَّ الصليبيين إذا لزم الأمر .. ولا شكَّ أن عيسى الحميدي أدرك قوَّة عماد الدين زنكي ، وعلى الرغم من أن هذه القبائل كانت كالميليشيات العسكرية الخاصة إلاَّ أنهم أدركوا أنه من الأسلم لهم - على الأقلِّ في هذه المرحلة - أن يخضعوا لسلطان عماد الدين زنكي , وهكذا ضُمَّتْ قوَّة الأكراد الحميدية إلى قوَّة الموصل ، أو على الأقلِّ حُيِّدَتْ .

وعندما نجحت خُطَّة عماد الدين زنكي رحمه الله مع الأكراد الحميدية , إتجه مباشرة إلى الأكراد الهكارية ، وعقد نفس الإتفاقية مع أبي الهيجاء الهكاري زعيمهم ، وبذلك أمَّن الحدود الشمالية والشمالية الشرقية تمامًا وهكذا نجح عماد الدين زنكي بجهود دبلوماسية في أن يقرَّ الأوضاع في الموصل وما حولها ، وبالتالي أفرغ ذهنه لقضيَّة حلب ، وكان هذا هو الإجراء الأول - وهو تأمين الحدود الشمالية والشمالية الشرقية - قبل الإتجاه غربًا إلى حلب .

أمَّا الإجراء الثاني
فهو التمهيد الإعلامي والعسكري لفكرة قدومه إلى حلب ؛ حتى يتجنَّب حدوث صدام قد تراق فيه الكثير من الدماء المسلمة .

وكان التمهيد الإعلامي الذي قام به هو إرسال الرسل من طرفه إلى حلب فتسلَّلوا إليها ، وتحدَّثوا مع الناس في مساجدهم ومجتمعاتهم بأحقِّيَّة عماد الدين زنكي في حكم هذه المدينة المهمَّة ، فهو الذي إرتضاه لهم السلطان محمود سلطان السلاجقة والقوة الأُولى في العالم الإسلامي آنذاك ، وهو المجاهد الصُّلب الذي يستطيع أن يقف في وجه الصليبيين ، وهو الحاكم العادل الذي سيُقِرُّ السلام في داخل حلب ، ويُعيد الحقوق لأصحابها ، وهو إبن آق سنقر الحاجب الذي توارث أهلُ حلب الرحمة عليه ..

لقد كان عماد الدين زنكي يهدف من وراء هذا التمهيد أن يجعل قدومه على حلب مطلبًا شعبيًّا ، خاصَّةً أنه يعلم أن قتلغ أبه وإبراهيم بن رضوان كليهما من الفاسدين ، وأن سليمان بن عبد الجبار الأرتقي ضعيف ، وأن أهل حلب لا يريدون أحدًا منهم ، فإذا كان البديل هو عماد الدين شخصيًّا فلا شكَّ أن هذه ستكون فرصة طيِّبة للشعب هناك .

ولقد نجحت خطَّة عماد الدين زنكي تمامًا ، وإنتشر دُعاته بين الناس ، وصار الناس يترقَّبون اليوم الذي يظهر فيه عليهم .

أما التمهيد العسكري
فقد قام به عماد الدين زنكي عن طريق إرسال رأس جيشه صلاح الدين الياغيسياني ، الذي درس الأوضاع حول حلب ، وأمَّن الطرق ، وتراسل مع بعض الأفراد من جيش حلب ، ومهَّد الأوضاع لإستقبال القائد العظيم عماد الدين زنكي ..

وعندما تيقَّن عماد الدين زنكي من أن الظروف أصبحت مناسبة في حلب ، تحرَّك إليها من الموصل على رأس فرقة قويَّة من جيشه ، وفي طريقه ضمَّ مدينتي بزاغة ومَنْبِج ، وهما مدينتان في شرق حلب تمامًا ؛ وذلك لتأمين خطِّ رجعته إن فشل في دخول حلب ، ثم إقترب بعدها من حلب ، وهنا حدثت المفاجأة السارَّة !

لقد خرج شعب حلب من المدينة ؛ ليكون في إستقبال عماد الدين زنكي ، مرحِّبِينَ به أشدَّ الترحيب ، ومعلنِينَ ولاءهم الكامل له ، بعد معاناتهم الفترة السابقة تحت حكم هذه المجموعة من الفاسدين .

وإزاء هذه المظاهرة الشعبيَّة الرائعة لم يجد إبراهيم بن رضوان ولا سليمان بن عبد الجبار بُدًّا من الهرب من المدينة دون قتال ، بينما أمسك الشعب بقتلغ أبه ، وقُتل جزاءً وفاقًا للأرواح الكثيرة التي أزهقها فترة حكمه ..

وهكذا دخل عماد الدين زنكي مدينة حلب دون إراقة دماء وفي وسط ترحيب شعبي عارم ، وتتوحَّد بذلك مدينتان من أهمِّ مدن المنطقة ، وهما الموصل وحلب ، ولم تكن أهمية هذه الوحدة تعود إلى إزدياد القوة الإسلاميَّة فقط ، ولكنها تعود أيضًا إلى فصل إمارة الرها عن بقيَّة الإمارات الصليبيَّة في الشام وفلسطين , ممَّا سيُؤَثِّر حتمًا في مقدراتها وإمكانياتها ، وكان هذا الدخول المبارك لحلب في شهر جُمادى الآخرة سنة (522هـ) يونيو 1128م أي بعد حوالي تسعة أشهر فقط من تسلُّم عماد الدين زنكي مقاليد الحكم في الموصل ، وهو بذلك إنجاز رائع في زمن قياسي !

وبمجرَّد دخول عماد الدين زنكي حلب قام بخطوة سياسيَّة رائعة ، وهي الزواج من خاتون إبنة رضوان بن تتش حاكم حلب السابق ، وكان هذا الزواج سياسيًّا ؛ لأنه بذلك سيُهَدِّئ أفئدة بيت رضوان ، وأصحاب العَلاقات معه .. ولا ننسى أن رضوان حَكَمَ حلب عشرين سنة كاملة قبل ذلك ، من سنة 487هـ إلى سنة 507هـ، ولا بُدَّ أن تكون له عَلاقات ضاربة في جذور البلد ، فضلاً عن عائلته المستقرَّة هناك ، وكذلك إبراهيم بن رضوان الذي كان يحكم حلب منذ أيَّام ، وهرب إلى نصيبين عند قدوم عماد الدين زنكي .

لقد كان الملوك والأمراء في ذلك الوقت يُثَبِّتون دعائم ملكهم عن طريق الزواج من حلفائهم ، وأحيانًا من أعدائهم ؛ حتى يتوثَّق الحِلْف بشكل أقوى ، أو تزولَ العداوة بشكل طبيعي ، وهذا ما سعى إليه عماد الدين زنكي ، وأثمر نتائجَ طيِّبةً ؛ حيث لم تقم عليه ثورات مطلقًا في داخل المدينة المهمة حلب .

ثم إنه تزامن مع دخول عماد الدين زنكي إلى حلب ، أو قبل ذلك بقليل ، في نفس السنة 522هـ أن مات طغتكين أمير دمشق بعد حكم دام حوالي خمسٍ وعشرين سنة (من سنة 497هـ إلى سنة 522هـ) ، وخلفه في الحكم إبنه بوري بن طغتكين بوصية من والده ..

وهذا الموت لطغتكين سيجعلنا نفتح مع عماد الدين زنكي ملف دمشق ! فلا شك أن دمشق هي أكبر مدن الشام مطلقًا ، وقوة من القوة المؤثِّرة في مجريات الأمور ، وهي بإمكانياتها البشرية والتاريخية والسياسية والعسكرية تمثِّل محطة مهمة جدًّا من محطات الصراع مع أي عدو من أعداء المسلمين ، وعندما ينصلح حالها ويقوى تُصبِح من أثقل النقاط إيجابية في المعادلة ، ولكنها على الجانب الآخر عندما يفسد حالها وتضعف تؤثَِّر تأثيرًا سلبيًّا في المنطقة ككل ، هذا أمرٌ لا نستطيع أبدًا أن نغفله .

وإذا كان عماد الدين زنكي يمتلك مشروعًا واضحًا ضخمًا كمشروع إخراج الصليبيين من أرض المسلمين كُلِّيَّةً ، فإنه لا بد أن يضع دمشق في حساباته ، وخاصةً أنها بموقعها المتوسط في الشام تصبح مركز إنطلاق وعودة في غاية الأهمية لإمارة أنطاكية وإمارة طرابلس ، وكذلك لمملكة بيت المقدس .

ومن هنا فلا بد لمن أراد أن يتم هذا المشروع بنجاح أن يضم دمشق إلى المشروع الوحدويّ الذي يجمع طاقات هذه المنطقة بكاملها ، وهذا من المؤكد أنه في ذهن عماد الدين زنكي ، وسيكون بعد ذلك في ذهن نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي ، بل ومن يأتي بعد صلاح الدين الأيوبي من زعماء ، سواء في الدولة الأيوبية أو في المماليك ، ولعله إلى زماننا الآن ؛ فإن دمشق - لا شك - محطة لا يمكن أن تُغفل .

لكن - للأسف الشديد - مع كل الإعتبارات التي ذكرناها فإن دمشق في هذه الفترة من حياة الأمة ، حين دخل الصليبيون بلاد الشام وفلسطين كانت تمثِّل - بلا جدال - حجر عثرة أمام أي مشروع وحدة إسلامية !

ولقد ذكرنا قبل ذلك الخلفيات التي جعلت الشعب في دمشق في هذه الآونة يخرج بلا هُوِيَّة واضحة ، ولا نزعة إسلامية سويَّة ؛ وذلك نتيجة الحكم العبيديّ الذي إمتد أكثر من مائة سنة ثم حكم تتش الظالم وإبنه دقاق كذلك ، ولئن كان طغتكين على خلاف ذلك ، فإنه أيضًا لم يكن بالرجل المتكامل الذي يقدِّم مصلحة الأمة بصرف النظر عن مصالحه الشخصية ، بدليل أنه لم يمانع من التحالف مع الصليبيين في نظير الحفاظ على كرسيِّه في الحكم .

ولقد كانت مشكلة كبرى بالنسبة لدمشق أن الذي يحكمها يشعر من تلقاء نفسه بالإستقلالية ؛ لأنها مدينة كبيرة ، ولها سمعتها وقيمتها ، وبالتالي يصبح له من الوضع الإجتماعي ما يمنع ذهنه تمامًا من التفكير في كونه يصبح تابعًا لغيره ! إنه ملك دمشق أو زعيمها ، فكيف يتبع أميرًا آخر أيًّا كان هذا الأمير ؟! هذه كانت مشكلة طغتكين وأبنائه من بعده .

أضف إلى هذا أن طغتكين كان من عائلة تركية منفصلة عن بقية العائلات الكبرى التي كانت تحكم المنطقة ، فلا هو من السلاجقة ، ولا هو من العباسيين ، ولا هو من العائلات العربية التي كان لها تاريخ في الحكم في المنطقة كبني عقيل أو بني مرداس أو بني منقذ أو غيرهم ؛ ومعنى هذا الكلام أنه سيظل محدودًا في دمشق ، ولن يكون له أعوان في مدن أخرى ، وهذه كانت مشكلة طغتكين الكبرى ، إذ إنه مع قوة مدينته لم يستطع أن يضم إليها أي مدينة في المنطقة إلا بشكل عابر ومؤقت ؛ ولذلك قنع طغتكين بالإحتفاظ بدمشق ، وسيقنع أولاده من بعده بذلك ، وسيُخرِجون تمامًا مشروع الأمة من أذهانهم ليستمر لهم حكم دمشق !

كان عماد الدين زنكي يقرأ كل هذه الظروف والملابسات ، وكان في نفس الوقت يخطِّط لضم المدينة المهمة دمشق إلى الوحدة المنشودة التي تهدف إلى جهاد الصليبيين ، ولا شك أن محور الموصل - حلب لو إكتمل بدمشق ، فإنه سيصبح محورًا مستعصيًا على الإنكسار .
والآن بعد موت طغتكين الذي حكم خمسًا وعشرين سنة متصلة ، لا بد أن دمشق في حالة فقدان للتوازن ، والحاكم الجديد بوري بن طغتكين ليست له الخبرة الكافية التي تمكِّنه من السيطرة على مجريات الأمور في دمشق ؛ ولذلك فإنْ أراد عماد الدين زنكي أن يضم هذه المدينة فلا بد أن يسعى في ضمِّها الآن دون تأخير .

فإذا أضفنا أن دمشق في ذلك الوقت كانت وكرًا للباطنية ، وكان طغتكين طيلة حياته يخشاهم ويداريهم ، ويترك لهم الحبل على الغارب ؛ مما أدى إلى توحُّشهم ، وبالتالي إزدادت خطورتهم ، ليس على دمشق فقط ، بل على منطقة الشام بكاملها ؛ إذا أضفنا هذا فلا بد أن نعلم أن سرعة السيطرة على دمشق ستُعِيد الأمن إلى نصابه في الشام وستصرف جهود المسلمين إلى الإصلاح ، وستفتح المجال للعلماء والقادة أن يتحركوا في سبيل الله دون أن يخشوا من خناجر الباطنية وسيوفهم .

وكان عماد الدين زنكي كسياسي خبير يدرك أن محاولات الوحدة السلمية بين دمشق وحلب والموصل تكاد تكون مستحيلة ، فلم يكن طغتكين على هذه الصورة ، ومن المؤكد أن إبنه كذلك سيكون متمسِّكًا بحكم دمشق ؛ ولذلك فإنه لكي يضم دمشق إلى الكيان الإسلامي الجديد لا بد له من سلوك أحد طريقين : إما طريق الحيلة ، وإما طريق القوة .


ولما كان عماد الدين زنكي لا يحب أن يريق الدماء إلا عند الضرورة القصوى ، وكان يغلب عليه طيلة حياته محاولة ضم المدن والبلاد الإسلامية دون الدخول في قتال عسكري ، فإنه إختار طريق الحيلة، ومحاولة الضغط على بوري بن طغتكين بطريقة غير عسكرية ليضم في النهاية دمشق إلى حكمه ، خاصةً أن دمشق كانت تسيطر على حماة أيضًا وهي مدينة مهمة جدًّا ، وقريبة من طرابلس .

وقبل الحديث عن حيلة عماد الدين زنكي ، فإننا يجب أن نشير إلى أنَّ حمص كانت هي الأخرى إمارة مستقلة ، وكان على رأسها رجل ظالم عامل أهلها بالتعسف والجور ، وهذا الرجل هو صمصام الدولة خيرخان بن قراجا ، وليس هذا فقط ، ولكن كان الشعب كذلك في حمص فيه من الصفات كما كان الحال في دمشق تمامًا لتعرُّض المدينة لنفس الظروف ، فقد حُكمت المدينة بالعبيديين أكثر من مائة سنة ، وحكمها بعدهم تتش بن ألب أرسلان ثم دقاق ، بل كان طغتكين شخصيًّا أميرًا عليها فترة من الزمان أيام حكم دقاق .

وهكذا - وبالنظر إلى جغرافية المنطقة - نجد أن الوصول إلى دمشق يحتِّم السيطرة على حماة وحمص أولاً لوقوعهما في الطريق بين حلب ودمشق فماذا يمكن أن يفعل عماد الدين زنكي ليتمكن من حمص وحماة أولاً ، ثم دمشق بعدهما ؟

لقد فكر عماد الدين زنكي في حيلة سياسية ، وهي أن يُظهِر أنه يجهِّز جيشًا لحرب الصليبيين ، ثم يطلب التعاون من الأميرين خيرخان بن قراجا أمير حمص ، وبوري بن طغتكين أمير دمشق، فإذا جاءا إليه ألقى عليهما القبض ، فتخلو مدنهما من الحماية ، وبالتالي يستطيع دخول المدن دون قتال .

هكذا كانت حسابات عماد الدين زنكي ولقد نجحت خطة عماد الدين زنكي في شقها الأول حيث جاءه بالفعل خيرخان بن قراجا في فرقة من جيشه ، أما بوري بن طغتكين فإكتفى بإرسال إبنه سونج مع سرية رمزية من دمشق قوامها خمسمائة فارس ، وكان سونج أميرًا على حماة .

فقام عماد الدين زنكي بالقبض على سونج فورًا ، وأسرع بدخول حماة ، وقد ضعفت لعدم وجود سونج وجيشه فيها ، وهكذا دخلت حماة في دولة عماد الدين زنكي دون إراقة دماء ، وبعد أن إستقر الوضع له هناك ألقى القبض على خيرخان بن قراجا ليفعل بحمص مثلما فعل بحماة ، لكن حمص أغلقت أبوابها ، وكان بها جيش كبير ، فلم يستطع عماد الدين زنكي أن يدخلها .

حاول عماد الدين زنكي أن يضغط على بوري بن طغتكين ليسلِّم مدينة دمشق في مقابل إطلاق سراح إبنه سونج إلا أن بوري رفض ، وعليه فقد ظلت دمشق منفصلة عن الوحدة الإسلامية .

وهكذا خرج عماد الدين زنكي من هذا الموقف بمدينة حماة بينما فشل في السيطرة على حمص ودمشق ، وليس هذا فقط، ولكن كُشفت كذلك أوراق عماد الدين زنكي أمام المدينتين ، وعلم بوري بن طغتكين أمير دمشق ، وقريش بن خيرخان أمير حمص الجديد (بعد أسر أبيه) أن عماد الدين زنكي لن يتردد في المستقبل في إختيار الحل العسكري لضم المدينتين ..

ويحمل كثيرٌ من المؤرخين على عماد الدين زنكي أنه قام بهذه الحيلة ، وأوهم بوري بن طغتكين ، وخيرخان بن قراجا بالجهاد ، ثم غدر بهما وقبض على الثاني وعلى إبن الأول ، وأن الغدر ليس أبدًا من شيم المؤمنين .

والواقع أن هذا الموقف من المواقف الصعبة في التحليل ؛ لأن الغدر فعلاً ليس من شيم المؤمنين ، لكن الأمر هنا ليس بهذه البساطة ، فالذي يصدر حكمًا على عماد الدين زنكي لا بد أن ينظر إلى جميع الملابسات في آنٍ واحد ، وأن يضع النقطة بجوار النقطة ، والدليل فوق الدليل ليخرج في النهاية برؤية سليمة للحدث ، ولا يتعامل معه على أنه غدرٌ مجرَّد أو مطلق .

ولعلنا لكي نتعايش مع عماد الدين زنكي في هذه القضية لا بد أن نقف على بعض الأمور :

أولاً , لا بد أن ننظر إلى المهمة التي يحملها عماد الدين زنكي قبل إطلاق الأحكام النظرية على الموقف والأحداث ؛ إنه يحمل مهمة جهاد الصليبيين الذين إحتلوا بلاد المسلمين منذ أكثر من ثلاثين سنة ، وإرتكبوا - وما زالوا يرتكبون - المذابح الشنيعة في القرى والمدن الإسلامية ، والوقت عامل مهم جدًّا في قضية كهذه القضية .

ثانيًا ,
هؤلاء الزعماء يرفضون مشروع الوحدة تمامًا ، وأي تلميح فضلاً عن التصريح لن يحمل إلا كل رفض ، وستضيع فرصة توحيد الأمة في كيان واحد قادر على مواجهة الصليبيين ، ولن يستطيع المسلمون - كما فهم عماد الدين زنكي - أن يُقدِموا على خطوة جهاد الصليبيين دون هذه الوحدة ، فأصبحت الوحدة واجبًا لا بد منه لتحقيق الواجب الأكبر وهو الجهاد ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .

ثالثًا ,
هؤلاء الزعماء لا يكتفون برفض الوحدة ، والوقوف السلبي تجاه القضية ، ولكنهم يتعاونون تعاونًا صريحًا مع الصليبيين ، وتاريخهم يشهد بذلك، وكذلك واقعهم ، بل وسنرى في المستقبل القوات الصليبية تقف مدافعةً من حمص ودمشق ضد قوات عماد الدين زنكي !

رابعًا ,
ما هو البديل لهذه الحيلة ؟! البديل هو الضم القسري للمدينتين ! بمعنى أن يتم حصار المدينتين عسكريًّا ، وينشب القتال بين الجيشين المسلمين ، وتسقط الضحايا المسلمة ، وتدمر الحصون الإسلامية ، وتنسف الأسوار الإسلامية ، ويتعمق الحقد والبغضاء بصورة عظيمة بين الطائفتين !!

وهذا البديل وإن كان صعبًا ومُرًّا إلا أن الفقهاء أقروه ، وطبعًا هذا الإقرار لا يكون إلا في آخر المطاف ، أي بعد إستنفاد الوسائل السلميَّة الأخرى ، وقد رأينا هذه المواقف العسكرية لضم المدن الإسلامية في حياة معظم المجاهدين في تاريخ الأمة الإسلامية ، وخاصةً في الأوقات التي إبتليت فيها الأمة بضعف الخلافة ، فلم يعُدْ هناك رابط معين بين الدويلات الكثيرة المتفرقة .

فإذا نظرنا إلى هذا البديل العسكري ونتائجه ، ونظرنا في نفس الوقت إلى ضم حماة دون قطرة دم واحدة ، فإننا سندرك المنطلق الذي فكر به عماد الدين زنكي في هذه المسألة .

خامسًا ,
نحن لم نطَّلع على الصيغة التي أرسلها عماد الدين زنكي إلى بوري بن طغتكين أو خيرخان بن قراجا ، لندرك هل كان فيها أسلوب تورية أم لا ، فلعله صرَّح بألفاظ تحمل أكثر من معنى من أجل تحقيق هدفه دون غدر .

سادسًا , يقول رسول الله : "الْحَرْبُ خُدْعَةٌ
" ، وهذه حرب حقيقية بين المسلمين والصليبيين ، وبين المجاهدين المخلصين ومن يقف حجر عثرة ضد الجهاد ، وقد رأى عماد الدين زنكي أن هذه خدعة من خدع الحرب ، وهذا اجتهاد قد يكون أصاب فيه أو أخطأ ، لكن يبقى أنه في حالة حرب ، والحرب لها أحكامها التي قد تختلف كُلِّيَّةً عن أحكام الأوضاع السلمية .

سابعًا ,
عندما أراد رسول الله أن يقتل كعب بن الأشرف ، قال له محمد بن مسلمة : أتحب أن أقتله ؟ قال : "نعم" .. قال: فإذن لي أن أقول شيئًا .. قال: قل , ثم كان حوار طويل بين محمد بن مسلمة وكعب بن الأشرف ، كان فيه خداع كبير من محمد بن مسلمة ، وإنتهى الأمر بقتل كعب بن الأشرف .

وأنا أعلم أن الفعل هنا مع كافر وليس مسلمًا ، ولكن الحكم عام ، وخاصةً أن الزعماء المسلمين في هذه المدن كانوا يتعاونون مع الصليبيين تعاونًا صريحًا مشينًا .

ثامنًا , كان عماد الدين زنكي رحمه الله يستفتي الفقهاء في كل أموره ، وقد وجد فقهاء زمانه أن الضرر الواقع من هذه الحيلة أقل من الضرر الواقع عند إصطدام الجيوش الإسلامية ببعضها البعض ، مع الإعتراف أنه ضرر ولا يجب أن يُفعل في الظروف العادية ، ولا داعي لاتهام فقهاء العصر جزافًا ، فقد وصل الأمر ببعض المؤرخين أن قال في حق هؤلاء الفقهاء : " فأفتاه من لا دين له ، وجوَّز له ما لا يحل ، ولا يحسن شرعًا وعرفًا
" .

فلم يكن عماد الدين زنكي بالرجل الذي يستفتي من لا دين له ، ولم يكن فقهاء دولته من الذين يفتون للسلطان بما يريد ، إنما كانوا بشهادة كل المؤرخين من أفضل علماء عصره ، غاية ما هناك لو كانت الفتوى خاطئة ، أنهم إجتهدوا لتحقيق مصلحة فأخطئُوا .

تاسعًا ,
يؤخذ الفعل في ضوء سيرة الشخص ! فهل بمراجعة سيرة عماد الدين زنكي يمكن أن نقول أنه رجل غادر لا يهتم برأي الدين ؟! لقد وجدنا في سيرته سواء قبل هذا الحدث أو بعده سعيًا حثيثًا لجهاد الصليبيين ، وبذلاً لوقته وجهده وكل حياته من أجل هذه القضية ؛ ولذلك نستطيع أن نقول أنه ما كان يريد بهذا الفعل - حتى ولو كان خطأً لا يجب أن يُكرر - إلا المصلحة للمسلمين ، وليست المصلحة الشخصية له .

إننا نقول هذا الكلام لكي لا يتخذ أحد الجشعين من عشاق السلطة هذا الفعل ذريعة أن يتقدم بجيشه ناحية كذا أو كذا من بلاد المسلمين بحجة توحيد الأمة لمصلحة ما ! فلا بد أن ننظر إلى سيرة هذا الذي يجمع البلاد تحت حكمه ، هل هو من نوعية المجاهد العظيم عماد الدين زنكي ؟ أم من نوعية الحاكم الظالم تتش بن ألب أرسلان أو أولاده ؟!

عاشرًا وأخيرًا ,
لقد حكم عماد الدين زنكي المسلمين عشرين سنة كاملة ، من سنة 521هـ إلى سنة 541هـ ، فكم كانت أخطاؤه؟! إننا إذا سلمنا أن هذا خطأ محض ، وأنه موقف ما كان له أن يحدث ، فإننا سنجد هذه المواقف نادرة تمامًا في حياته ، ومَن هذا الذي لا يُخطِئ من البشر إلا المعصومين من الأنبياء ؟!

وكفى بالمرء نبلاً أن تُعَدَّ معايبه ! ولا ننسى أن الزمن كان زمن فتنة ، والخلافة ضعيفة ولا رأي لها ، وبالتالي فجهود المخلصين لتوحيد الأمة لا بد أن يشوبها لبسٌ كبير ؛ لأنه ليس هناك تكليف من شخصية معينة لها الأمر على كل المسلمين ، مما كان يستدعي بعض الرؤى الخاصة التي قد تتعارض أحيانًا مع الرأي الحكيم .

إننا بعد هذا التحليل لا نريد أن نخرج عماد الدين زنكي من دائرة البشرية فنعتبر أنه لا يخطئ ، ولا نريد أن نبرِّر له خطأً بينًا أو فعلاً فاحشًا ، وإنما نريد أن نقول أن الظروف المضطربة ، والأمور المتشابكة المعقدة جعلت من إختيار الرأي الصائب في قضية من القضايا أمرًا صعبًا لا يتحقق في كل الأحوال ، وشتَّان بين من يأخذ هذا الرأي وهو يعيش وسط الأحداث ، ويرى الصليبيين يجوسون خلال الديار ، ويري المعاملات الدنيئة من بعض الزعماء المسلمين مع قواد الصليبيين ، وبين من يجلس في غرفته آمنًا مطمئنًا ، وبعد الحدث بمائة سنة أو مئات السنين ، يحلِّل ويُنظِّر ، ويصوِّب ويخطِّئ ، ويقول في بساطة : هذا حلال ، وهذا حرام !

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 04-03-14, 04:55 AM

  رقم المشاركة : 19
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

نعود إلى قصتنا ..

فإن عماد الدين زنكي - وبعد مرور سنة واحدة على حكمه - أصبح أميرًا على الموصل وحلب وحماة ، وهذه قوة لا يستهان بها ، وبالتالي سعى عماد الدين زنكي لتأمين الطريق الواصل بين هذه المدن لتصبح إمارته آمنة ، وجيدة المواصلات ، وضم لذلك سنجار الواقعة في منتصف الطريق بين الموصل وحلب ، وذلك في أواخر سنة 522هـ\ أواخر 1128م ، كما شاء الله أن يستدعيه أهل حرَّان لضم مدينتهم لدولته ، حيث أصبحت بعد وفاة عز الدين مسعود بن البرسقي معرضةً لهجمات الصليبيين ، وبالفعل ضمها عماد الدين زنكي في سنة 523هـ\ 1129م ، وبذلك صارت الأوضاع مستقرة إلى حد كبير في هذه الدولة الجديدة ..

ومع أن هذه الجهود التي كان يبذلها عماد الدين زنكي رحمه الله كانت تشير إلى ظهور قوة جديدة قد يكون لها شأن في تخليص المسلمين من كابوس الصليبيين ، إلا أن تنامي هذه القوة لم يكن مريحًا لكل القوى المعاصرة !

لقد وجد السلطان سنجر - وهو سلطان السلاجقة في منطقة خراسان وبلاد ما وراء النهر - أن هذه القوة المتنامية قد تؤثِّر سلبًا في ممتلكات السلاجقة أنفسهم ، فأشار على السلطان محمود إبن أخيه - وهو السلطان على منطقة فارس والعراق ، والذي عيَّن عماد الدين زنكي في منصبه - أن يعزل عماد الدين زنكي ويولِّي مكانه دبيس بن صدقة ! ودبيس بن صدقة هو أمير قبيلة بني مزيد ، وكان متشيعًا هو وقبيلته ، وكان قد أفسد قبل ذلك في بغداد ، وقام بمحاولة إنقلابية على الخليفة المسترشد بالله سنة 514هـ ، أي منذ تسع سنوات ، ولكنه كان قد لجأ إلى السطان سنجر ، وأصبح من خاصَّته ؛ ولذلك أراد السلطان سنجر أن يضعه في إمارة الموصل وحلب ليكون رجله في المنطقة ، خاصةً أنه يضمن أن الخليفة لن يستقطبه لحسابه للخلاف القديم الذي بينهما !

إنها حرب المصالح والأهواء ، حيث لم ينظر السلطان سنجر إلى مصلحة المسلمين ، ولا إلى قضية جهاد الصليبيين ، فطلب هذا الطلب من السلطان محمود ، الذي لم يعارض تقديرًا لمكانة عمِّه ، ومن ثَمَّ إستدعى عماد الدين زنكي ليخبره بهذا التطور الجديد !

هكذا وبهذه البساطة ! .. وكادت هذه الفكرة تُنهِي على آمال المسلمين في الوحدة ، وعلى قضية الجهاد في سبيل الله ضد الصليبيين ، وأسرع عماد الدين زنكي إلى بغداد ، حيث إلتقى مع السلطان محمود في مباحثات طويلة ، وإستعمل فيها كل ما أوتي من فكر ودبلوماسية لإقناع السلطان محمود بضرورة بقائه في هذا المنصب ، وعدَّد له الأسباب التي من أجلها لا بد أن يستمر في مهمته ، فكان منها :

أولاً : أنه لم يخطئ في منصبه ، بل على العكس، لقد حقق نجاحًا غير مسبوق ، وأفلح في ضم الموصل وحلب وحماة وسنجار وحرَّان ، ومناطق الأكراد تحت راية واحدة .

ثانيًا :
كل هذا النجاح يصبُّ في صالح السلطان محمود ، حيث يحكم عماد الدين بإسمه .

ثالثًا :
السلطان سنجر وإن كان عم السلطان محمود إلا أنه يحاول السيطرة على هذه المناطق لحسابه هو ، وليس لحساب السلطان محمود ؛ ولهذا يضع رجله هو في المكان وذلك تمهيدًا لإقصاء محمود عن مكانته .

رابعًا :
من هو البديل؟ إنه دبيس بن صدقة الشخص المنحرف الذي أفسد قبل ذلك في بغداد ، كما أنه متشيِّع بينما دولة السلاجقة بكاملها سُنِّيَّة .

خامسًا :
دبيس بن صدقة شخصية إستقلالية ، ولا يستبعد أبدًا أن يستقل بحكم الموصل وحلب لنفسه ، خاصةً وقد حاول أن يفعل ذلك مع مدينة بغداد نفسها .

سادسًا :
دبيس بن صدقة سيحبط أهم مشروع عند المسلمين الآن ، وهو مشروع جهاد الصليبيين ؛ لأنه لم يقف قبل ذلك موقفًا سلبيًّا فقط ، إنما تعاون معهم في حروبهم ضد المسلمين .

لهذه الأسباب مجتمعة فإن من مصلحة المسلمين ، ومصلحة السلطان محمود نفسه ، أن يستمر عماد الدين زنكي في منصبه .


وكان السلطان محمود كما يصوِّره إبن الأثير حليمًا عاقلاً ، فلما إستمع إلى هذه الكلمات والحجج وافق على إقرار عماد الدين زنكي في منصبه ، بل وكتب له منشورًا جديدًا يؤكِّد فيه على منشوره السابق ، وفيه يُقطِعه حكم الموصل والجزيرة وما إستطاع أن يضمه من بلاد الشام .

وهكذا مرت أزمة خطيرة كادت تعصف بالأمة دون أن يكون لها أثر في المسيرة التي بدأها عماد الدين زنكي .

ولعل هذا الموقف يطمئننا أن الله يريد الخير لهذا الجيل ؛ لأنه إطَّلع على الصدق في قلوبهم ، فلو عُزِل عماد الدين زنكي وولي دبيس بن صدقة لكان في ذلك تعطيل واحد لحركة الجهاد ولنهضة الأمة ، ولكن الله سلَّم .

عاد عماد الدين زنكي إلى الموصل وهو أكثر قوة ، بعد أن نال تأييد السلطان محمود ، كما أن الخليفة المسترشد بالله كان سعيدًا به ؛ لأنه أقصى دبيس بن صدقة عن إحتمالية حكم الموصل وحلب ، مما كان سيشكِّل أزمة للخليفة لعداوته السابقة معه .

نظر عماد الدين زنكي إلى الوضع الآن ، فوجد أنه أصبح قريبًا جدًّا من حدود إمارتي الرها في الشمال وأنطاكية في الغرب ، فأيهما يبدأ ؟

إن إمارة الرها - لا شك - أضعف من إمارة أنطاكية ، ليس لمناعة حصون أنطاكية فقط ، ولكن أيضًا لقوة المقاتلين النورمان في أنطاكية ، ولكون التركيبة السكانية في الرها عبارة عن مزيج من الأرمن والصليبيين بكل المشاكل التي بينهما ، والتاريخ الأسود الذي لا ينساه الأرمن ، أما إمارة أنطاكية ففيها تجانس واضح ، حيث يغلب عليها الطابع النورماني الكاثوليكي .

هذا الفارق بين الإمارتين جعل تفكير عماد الدين زنكي يتجه إلى الجهاد ضد إمارة الرها قبل إمارة أنطاكية .

لكن هناك مشكلة كبيرة تعوِّق مسيرة الجهاد إلى الرها ! :

إن إمارة الرها تقع في شمال منطقة الجزيرة ، وعلى ضفاف نهر الفرات ، وبقية شمال الجزيرة يقع الآن تحت حكم الأراتقة ، والجيل الموجود الآن يختلف تمامًا عن الجيل السابق ، فليس فيهم من يشبه سقمان بن أرتق أو إيلغازي بن أرتق أو بلك بن بهرام ، إنما هناك شخصيات هشَّة في غاية الضعف ، وقد قسمت بينها البلاد والعباد ، وأضعفت المسلمين وشتتهم ، ولا نبالغ إذا قلنا أن المنطقة أصبحت تضم عشرات الإمارات المستقلة ، وكلها يجاور إمارة الرها ، ويفصل بين عماد الدين زنكي وبين الإمارة الصليبية .

إن عماد الدين زنكي لو خاطر باجتياز أرضهم لقتال الصليبيين في الرها ، فإنه سيعرِّض نفسه لعدة مخاطر :

أولاً : قد يُضرب في ظهره من هؤلاء الزعماء المسلمين أنفسهم ؛ لأنهم سيعتبرونه خطرًا عليهم كما هو خطر على الصليبيين .

ثانيًا :
قد يتعاون هؤلاء تعاونًا صريحًا مع الصليبيين ، فتكون كارثة على جيش عماد الدين زنكي .

ثالثًا :
إذا هُزِم جيش عماد الدين زنكي من إمارة الرها ، فإلى أي الحصون سيلجأ ؟ إن العودة إلى الموصل أو حران أو حلب تحمل مخاطر جمَّة لطول المسافة ، فلا بد من وجود قاعدة قريبة ينطلق منها ويعود إليها .

رابعًا :
هذه المناطق ذات كثافة سكانية عالية ، وكل السكان من المسلمين ، فلو توحدت قوتهم مع جيش عماد الدين زنكي كانوا إضافةً قوية ، ولو قاوموه وعطَّلوا مسيرته ، كانت مشكلة صعبة الحل .

لهذه الأسباب وجد عماد الدين زنكي أن ضم هذه المنطقة إلى حكمه خطوة لازمة قبل محاربة إمارة الرها ؛ وعلى هذا بدأ عماد الدين زنكي يدرس الوضع هناك ، ويقيِّم موازين القوى الرئيسية في المنطقة .


لقد كان هناك عشرات الزعماء في هذه المنطقة إلا أن القوة الرئيسية تعود إلى ثلاثة :

أما الأول فهو حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي الأرتقي ، وهو - كما ذكرنا قبل ذلك - شخصيَّة تميل إلى الدَّعَة والرفاهية ، ولا يضع قضية الصليبيين في حساباته ، وكان يستقر في ماردين ، ويمتلك عدة مدن بالإضافة إلى ماردين ، لعل من أهمها مدينة نصيبين (على الحدود بين تركيا وسوريا الآن) .

أما الثاني فهو ركن الدولة داود بن سقمان الأرتقي ، وهو أمير حصن كيفا ، وكان رجلاً متصلبًا وفظًّا صعب المِرَاس .

وأما الثالث فهو سعد الدولة أبو منصور إيكلدي أمير آمد ، وكان أضعفهم عسكريًّا .

وجد عماد الدين زنكي أن أقرب المدن إلى مناطق حكمه هي مدينة نصيبين التابعة لحسام الدين تمرتاش ، ولم يرد أن يكرِّر مشكلة دمشق ، وقد علم أن المفاوضات السلمية لن تؤدِّي غالبًا إلى نتيجة ، فذهب بسرعة في أوائل سنة 524هـ ، وبعد عودته من بغداد ، وحاصر مدينة نصيبين بجيشه ، بينما كان حسام الدين تمرتاش في ماردين .

وجدت الحامية الأرتقية نفسها في أزمة كبيرة نتيجة قوة جيش عماد الدين زنكي بالقياس إلى قوة الحامية ، ومن ثَمَّ أرسلت رسالة إستغاثة عاجلة إلى حسام الدين تمرتاش في ماردين ، فردَّ عليهم حسام الدين بأنه سيوفِّر لهم فرقة عسكرية في غضون ثلاثة أيام ، مع أن المسافة بين المدينتين أقل من خمسين كيلو مترًا ! مما يدل على عدم الجاهزية وقلة الحيلة ! ثم أراد الله أن تقع الرسالة التي أرسلها حسام الدين تمرتاش ، وكان قد أرسلها على جناح طائر من الحمام الزاجل ، في يد عماد الدين زنكي ، فحوَّر ألفاظ الرسالة وجعل المدة التي ستأتي فيها النجدة عشرين يومًا بدلاً من ثلاثة ! ثم أعاد إطلاق الطائر إلى داخل مدينة نصيبين ، وقد أراد بذلك أن ييأس الجنود من المقاومة فيفتحوا الأبواب سلميًّا ، وهو ما حدث بالفعل ، وفتحت المدينة أبوابها ليضمها عماد الدين زنكي في سهولة ، ودون إراقة دماء !

وصلت الأخبار إلى حسام الدين تمرتاش ، وشعر بالقلق الشديد ، وتكلم مع بقية زعماء الأراتقة ، وجمع الأعوان والأنصار منهم بقيادة ركن الدولة داود بن سقمان ، وأبو منصور إيكلدي ، وغيرهم من زعماء التركمان الموالين لداود بن سقمان ، وتجمعت قواتهم في بلدة إسمها دارا ، وبلغ تعدادهم عشرين ألفًا ، وعلم عماد الدين زنكي بتجمعهم ، فتحرك لهم على رأس فرقة من جيشه قوامها أربعة آلاف مقاتل فقط ، ومع أن قوته صغيرة إلا أنه إنتصر عليهم في فترة قصيرة جدًّا ، وأتبع هذا الانتصار بالسيطرة على عدة حصون في المنطقة مثل : حصن دارا ، وحصن سرجي .

لقد كان هذا دليلاً على أنهم لا يملكون مقومات الإستقلال ، إنما عاش كل منهم على بقعة صغيرة من الأرض ، وإعتبر نفسه زعيمًا وقائدًا وعطَّل بذلك مسيرة الأمة ، وشتَّت أمرها .


كانت هذه هي أول الصدامات مع الأراتقة ، وكُلِّلت بنجاح سريع ، وكان من الممكن أن تكون بداية جيدة لمسيرة واضحة تنتهي بضم إقليم الجزيرة بكامله إلى دولة عماد الدين زنكي ، وذلك بكل ما في الإقليم من إمارات ودويلات لا وزن لها ؛ كان من الممكن أن يحدث ذلك لولا الأنباء المفاجئة التي جاءت من إمارة أنطاكية !

والقصة أن أحد التجمعات الأرمينية في جبال طوروس القريبة من شمال أنطاكية تعرضت لهجوم بوهيموند الثاني أمير أنطاكية ، فما كان من ليون الأول زعيم الإمارة الأرمينية إلا أن يستغيث بإيلغازي الدانشمندي زعيم ملطية ، وحدث صدام بين الجيش الدانشمندي بقيادة إيلغازي ، والجيش النورماني بقيادة بوهيموند الثاني ، وكانت المفاجأة الكبرى أن سُحِق الجيش النورماني ، بل وقُتِل بوهيموند الثاني في المعركة !

وهكذا خلت أنطاكية من الزعماء !

لقد كان بوهيموند الثاني شابًّا صغيرًا ، وكان متزوجًا من أليس ابنة بلدوين الثاني ملك بيت المقدس ، ولم يكن له إلا ابنة صغيرة إسمها الأميرة كونستانس ، ووفقًا لقوانين الإقطاع في غرب أوربا فإنَّ إمارة أنطاكية تنتقل إلى الوريثة الوحيدة ، وهي الطفلة كونستانس ! على أن يوضع وصيٌّ مناسب عليها حتى تبلغ سن الرشد ، فوضعت أليس بنت بلدوين الثاني نفسها على الوصاية دون أن تنتظر رأي أبيها ملك بيت المقدس ، وكان من الواضح أنها تطمح إلى الملك ، بل وترامت الإشاعات في أنطاكية أنها تريد أن تحكم كأميرة مستقلة ، وليست كوصية على الأميرة الصغيرة كونستانس !

ووصلت الأنباء من أنطاكية بسرعة إلى كل مكان ..

سمع عماد الدين زنكي بالأخبار فإهتم بها جدًّا ؛ لأن حالة أنطاكية الآن مضطربة جدًّا ، ولو إستغل الفرصة ، وباغتها بالهجوم فقد يستطيع أن يفتحها ، ويخلِّص المسلمين من هذا الإحتلال .

وكذلك وصلت الأخبار إلى بلدوين الثاني ملك بيت المقدس ، فأسرع إلى أنطاكية ليختار الوصي المناسب .

ووصل بلدوين الثاني إلى أسوار أنطاكية أولاً ، ففوجئ بكارثة أخرى ! وهي أن إبنته أعلنت العصيان عليه وإستقلت بالإمارة ، بل وأرسلت إلى عماد الدين زنكي تعرض عليه مساعدتها في حكم أنطاكية على أن تعطيه جزية مالية كرمزٍ للتبعية !

كانت هذه بالطبع فرصة ذهبية لعماد الدين زنكي لولا أن بلدوين الثاني إستطاع أن يمسك بالرسول الذي يحمل رسالة أليس، بل وأعدمه ، ثم تراسل مع رجال الحكومة في أنطاكية الذين وجدوا أن محاولة أليس هذه محاولة طفولية للاستئثار بحكم إمارة صليبية عسكرية ؛ ففتحوا الأبواب لأبيها بلدوين الثاني الذي تملك الأمور بسرعة ، ثم قام بنفي إبنته إلى مدينة اللاذقية .

ومع أن بلدوين الثاني سيطر على الأوضاع في أنطاكية إلا أن عماد الدين زنكي أدرك أن الوضع في الإمارة لا بد أن يكون مضطربًا ، ومن هنا أسرع عماد الدين زنكي بجيشه إلى حلب ليدرس الوضع هناك ، فلعل الهجوم على أنطاكية الآن أفضل من الهجوم على الرها ، وعليه فيمكن له أن يؤجِّل قصة الأراتقة إلى وقت لاحق ، خاصةً أن قوتهم كما بدا له ضعيفة .

وجد عماد الدين زنكي أن أقرب الحصون التابعة لإمارة أنطاكية هو حصن الأثارب ، وقد فقده رضوان بن تتش سنة (504هـ) 1110م ، أي منذ عشرين سنة كاملة ، وهو أقوى حصون المنطقة مطلقًا ، ويشرف مباشرة على مدينة حلب ، ويسيطر على الطريق بين حلب وأنطاكية ، ولأهميته القصوى وضع فيه الصليبيون فرقة من أمهر الفرسان في أنطاكية .

رأى عماد الدين زنكي أن فتح هذا الحصن سيهزُّ أنطاكية هزة عنيفة ، إضافةً إلى تأمين مدينة حلب ؛ حيث كان الفرسان الصليبيون كثيرًا ما يخرجون من الحصن ليغيروا على مزارع حلب وفلاحيها ثم يعودون سالمين إلى داخل الحصن ؛ ولذلك توجه عماد الدين زنكي مباشرة لحصار الحصن المهم ، مستغلاًّ حالة الفوضى التي تعاني منها الإمارة .

لكن عماد الدين زنكي بخبرته العسكرية أدرك أن فتح الحصن صعب جدًّا ، وقد تطول مدة الحصار دون فائدة ، وهو في نفس الوقت لا يستطيع أن يهاجم أنطاكية في الغرب تاركًا هذا الحصن الخطير في ظهره ، فقام بحيلة ذكية ؛ إذ توجه بجيشه في إتجاه أنطاكية موهمًا فرسان الأثارب أنه سيستغل ظروف أنطاكية في إسقاط المدينة الرئيسية ، ومن الواضح أنه لم يظهر لهم قوته بكاملها ، إذ رأى الفرسان في الحصن أن الخروج واللحاق بعماد الدين زنكي ممكن ، وسينقذ الإمارة ، وهكذا خرجوا بالفعل ، فإستدرجهم عماد الدين زنكي بعيدًا عن الحصن ، ثم فاجأهم بالقتال المباشر ، وأسقطهم في كمين عسكري محترف ، وما هي إلا ساعات قليلة وسقطت كتيبة الفرسان بكاملها بين قتيل وأسير ! وعاد عماد الدين زنكي بسرعة إلى الحصن ، ففتحه عنوة ، وأسر الحامية التي بداخله ، ثم أمر بتخريب الحصن ؛ لكي يقطع على الصليبيين أي فرصة مستقبلية للسيطرة منه على حلب .

لقد إنتصر إنتصارًا مهيبًا حقًّا ، خاصةً أن هذه الفرقة الصليبية كانت من أمهر فرقهم وأقواها ، ولم يكتف عماد الدين زنكي بذلك ، بل انطلق صوب أنطاكية ، فحاصر مدينة حارم القريبة جدًّا من أنطاكية ، فعرضوا عليه أن يدفعوا له نصف دخل البلد ، على أن يعقد معهم هدنة، ووجد عماد الدين زنكي أن قوته العسكرية لن تسمح له بفتح البلد ، وكان رحمه الله حاسمًا جدًّا في قراراته ، فأدرك أنه لن يستطيع فتحه ، ومن ثَمَّ قَبِل بعرضهم، ورفع الحصار .

لقد كانت حملة موفقة غاية التوفيق ، أسقط فيها حصنًا منيعًا كحصن الأثارب ، وأوقع فرقة صليبية ماهرة بين قتلى وأسرى ، وضرب الجزية على مدينة حارم ! وكانت كل هذه الأحداث في سنة (524هـ)1130م .

وطار ذكر عماد الدين زنكي في الآفاق ، وصار الحديث عنه كبطل المسلمين في حروبهم ضد الصليبيين ، وبدا المسلمون يشعرون أن الجهود التي بُذلت لتوحيد المسلمين قد بدأت تؤتي ثمارها .

وحملت سنة 525هـ بعض الأخبار الجديدة التي تصب في مصلحة المسلمين ، فقد شاء الله أن يموت في هذه السنة (21 من أغسطس 1131م) بلدوين الثاني ملك بيت المقدس ، وهو الملك صاحب الخبرة العريضة الذي حكم قبل ذلك إمارة الرها ثمانية عشر عامًا ، ثم مملكة بيت المقدس ثلاثة عشر عامًا ، وطَّد في كل هذه السنوات ملك الصليبيين ، وإكتسب مهارة فائقة وخبرة عميقة في التعامل مع المسلمين ، وكذلك مع زعماء الصليبيين ، وكان موته خسارة كبيرة للصليبيين ، خاصةً أنه كان وصيًّا على إمارة أنطاكية بعد الظروف الصعبة التي مرت بها من قتل للأمير بوهيموند الثاني ، والمؤامرة الفاشلة التي قامت بها أليس إبنة بلدوين الثاني للإستيلاء على الحكم .

لقد كانت أزمة كبيرة لمملكة بيت المقدس وإمارة أنطاكية ، خاصةً أن الذي تولى الحكم بعد بلدوين الثاني لم يكن له إلا خبرة بسيطة جدًّا في الأراضي الإسلامية ، وهو الملك فولك الأنجوي !

أما كيف وصل الأمير فولك الأنجوي إلى حكم مملكة بيت المقدس ، فالقصة تبدأ من ثلاث سنوات (521هـ\ 1128م) حيث رغب بلدوين الثاني أن يزوِّج إبنته الكبرى من أمير يصلح لقيادة المملكة من بعده ؛ وذلك لأنه لم ينجب إلا أربعة بنات كانت إحداهن هي أليس التي تزوجت من بوهيموند الثاني أمير أنطاكية ، ومرت بنا قصتها ، وحيث إن الملك بلدوين الثاني لم يجد في الزعماء الصليبيين في المنطقة من يصلح لهذا الزواج ، فقد أرسل رسالة إلى لويس السادس ملك فرنسا في ذلك الوقت ، وطلب منه ترشيح أحد الأمراء الأكفاء الذين يصلحون لهذا الشرف ، وكان أن إختار ملك فرنسا أحد أهم الأمراء الفرنسيين ، وهو فولك الأنجوي ، وأرسله إلى بيت المقدس ، وإطمأنَّ له بلدوين الثاني ، وزوجه فعلاً من إبنته ميلزاند وأقطعه مدينتي صور وعكا ، وحرص على تدريبه سياسيًّا وعسكريًّا ، حتى إذا مات بلدوين الثاني إعتلى فولك الأنجوي مملكة بيت المقدس ، وصارت له كل صلاحيات الملك الراحل ، ومنها أنه أصبح وصيًّا على أنطاكية كذلك .

ومن هنا فلا شك أن أوضاع الصليبيين ستصبح مضطربة ، لا لقلة خبرة الملك فولك الأنجوي فقط ، ولكن لأن الأوضاع في أنطاكية لم تكن مستقرة أبدًا بسبب أطماع الأميرة أليس بنت الملك بلدوين الثاني ، والتي تم نفيها قبل ذلك إلى اللاذقية .

وشاء الله أن يحدث أمرٌ آخر مهم جدًّا بعد هذه الأحداث بقليل، وهو وفاة جوسلين دي كورتناي أمير الرها المخضرم ! وتولى من بعده إبنه جوسلين الثاني ، الذي لم يكن يمتلك معشار خبرة أبيه ، فكان هذا حدثًا كبيرًا مساعدًا للمسلمين ، خاصة أنه يأتي في الوقت الذي تتنامى فيه قوة المسلمين تحت قيادة عماد الدين زنكي رحمه الله .

ثم إنه تزامن مع هذه الأحداث أمر آخر كان له من الآثار ما غيَّر من مسيرة الأحداث ، ذلك أن دُبيس بن صدقة ، وهو زعيم قبيلة بني مزيد الشيعي ، الذي كان مواليًا للسلطان سنجر السلجوقي الرأس الأكبر للسلاجقة ، وقع أسيرًا في يد بوري بن طغتكين ، ولم يكن هذا الأسر في معركة ولا قتال ، ولكن ضلَّ دبيس بن صدقة الطريق يومًا ما فوقع في يد حسان بن كلثوم الكلــبي، فعرف شخصه وقيمته ، فحمله إلى زعيم دمشق ليكون له يدٌ عنده !

وعرف عماد الدين زنكي بأسر دبيس بن صدقة لدى بوري بن طغتكين ، فقام بمباحثات مع بوري بن طغتكين إنتهت إلى تبادل الأسرى ، حيث يأخذ عماد الدين زنكي دبيس بن صدقة ، في نظير ردِّ سونج بن بوري بن طغتكين إلى دمشق .

وتمت بالفعل الصفقة ، وكان الجميع - بما فيهم دبيس بن صدقة - يتوقع أن يُؤذِي عماد الدين زنكي دبيسًا ؛ لأنه كان رجلاً فاسدًا ومثيرًا للفتن ، إضافةً إلى أنه كان منافسًا لعماد الدين زنكي على منصب إمارة الموصل وحلب ، لكن عماد الدين زنكي بفقهه السياسي المعروف فعل عكس ما توقع الجميع !

لقد إستقبل عماد الدين زنكي دبيسًا إستقبال الأمراء والزعماء ، وقرَّبه وأكرمه ، وعامله بما يعامل به أكابر الملوك ! وهذا أثار تعجب الناس ودهشتهم ، لكن عماد الدين زنكي كان يستقطب مثل هذه الرموز المحرِّكة فيستفيد منها ، ويوجِّهها نحو خدمة الهدف العام لدولته .

لقد كان دبيس بن صدقة من الشخصيات المؤثرة في المجتمع في ذلك الوقت ، مع الإعتراف تمامًا أن تأثيره كان سلبيًّا ولم يكن إيجابيًّا ، إلا أنه يستطيع توجيه قبيلة كبيرة تسيطر بشكل كبير على وسط العراق ، وخاصةً منطقة واسط والحلَّة ، ولن يُقدِم مثل هذا الرجل على محاولته القديمة الفاشلة بقلب نظام الحكم في بغداد إلا وهو يملك مقومات كثيرة تدفعه إلى هذه الفكرة ؛ فلماذا لا يشتري عماد الدين زنكي ولاءه في هذا الموقف ، فيضمن وقوفه إلى جانبه في مشاريعه الضخمة لتوحيد المسلمين ولجهاد الصليبيين ؟ أو على الأقل فإنه سيضمن تحييده ، وعدم التدبير له ؟ ..

إن قبيلة دبيس بن صدقة لن تختفي من الساحة ، بل سيظهر من يقودها في حال غياب دبيس ، فلماذا لا يوجِّه عماد الدين زنكي دفَّة القبيلة عن طريق دبيس بن صدقة نفسه ؟ , ثم إن دبيس بن صدقة كان مقربًا للسلطان سنجر أعلى سلطة في الدولة السلجوقية ، ومثل هذا الفعل من عماد الدين زنكي يُهدِّئ من روع هذا السلطان ، الذي كان يريد تولية دبيس مكان عماد الدين زنكي ، فسيرى الآن أن عماد الدين زنكي يحفظ أصدقاء السلطان ومقربيه .

وهذا العمل من عماد الدين زنكي لن يكون منتقدًا من السلطان محمود سلطان فارس والعراق ؛ لأنه لم يكن يمانع منذ سنتين أن يولِّي دبيسًا إمارة الموصل وحلب ، لولا قوة حجة عماد الدين زنكي وحسن بيانه .

على أن السلبية الوحيدة التي تظهر في هذا العمل هي أن هذا الفعل سيغضب الخليفة المسترشد الذي كان يكره دبيس بن صدقة كراهية شديدة ؛ لأنه كان يريد أن يخلعه من منصبه ، وهذه كبيرة لا تغتفر عند الخلفاء ، ولا تُنسى أبد الدهر ؛ ولذلك فمن المتوقع أن يعترض المسترشد بالله على هذا الموقف من عماد الدين زنكي ، ولكن عماد الدين زنكي كان محدِّدًا وجهته من البداية ، وكان واضح الرؤية تجاه مراكز القوى الحقيقية في المنطقة ؛ ولذلك فولاؤُهُ سيكون أقرب إلى السلطان سنجر والسلطان محمود لا إلى الخليفة المسترشد حتى لو أظهر بعض القوة !

وغني عن البيان أن عماد الدين زنكي لم يقدِّم أي تنازل عقائدي أو فقهي أو فكري للقائد الشيعي دبيس بن صدقة ، إنما كان تعامله معه من باب السياسة وتقريب وجهات النظر في العمل الإسلامي ، لا من باب الرضا بمخالفات دبيس بن صدقة في الفقه والعقيدة ، أو التقريب بين مذهبين متباعدين .

وكما كان متوقعًا فإن هذا الموقف من عماد الدين زنكي أثار إرتياحًا عند السلطان سنجر والسلطان محمود ، بينما أثار غضبًا شديدًا عند الخليفة المسترشد بالله ، الذي راسل عماد الدين زنكي يطلب تسليم دبيس بن صدقة إليه ، وكان من المحال طبعًا بعد أن فعل عماد الدين زنكي كل ذلك أن يُسلِّم دبيس بن صدقة ليُقتل ؛ فرفض طلب الخليفة مما أوغر صدره على عماد الدين زنكي بشدة .

إذن كرؤية عامة للأوضاع في أوائل ومنتصف سنة 524هـ ، فإن أسهم عماد الدين زنكي كانت بصفة عامة قد إرتفعت جدًّا بإنتصاراته الباهرة على الصليبيين في حصن الأثارب وفي حارم ، وصار مقربًا جدًّا إلى قلوب العامة ، وإمتلك الكثير من الأوراق الضاغطة ، خاصةً بعد إخضاع مدن نصيبين ودارا ؛ مما أعطى الإنطباع أنه يريد أن يتوجه إلى الرها ، وبعد أن أنقذ دبيس بن صدقة من الأسر ، مما يشير إلى رغبته في إستغلال كل القوى لهدفٍ واحد واضح ، هو وَحْدة المسلمين وجهاد الصليبيين .

وإضافةً إلى هذه الصورة الطيبة فإن أوضاع الصليبيين كانت مضطربة للغاية ، حيث مات بلدوين الثاني وجوسلين دي كورتناي ، وتولى فولك الأنجوي حديث الخبرة بالمنطقة ، وكذلك جوسلين الثاني الأضعف كفاءةً وشجاعة من أبيه ، غير الإضطرابات الطاحنة التي كانت في أنطاكية .

كان هذا الوضع يشير إلى أن الفترة القادمة ستكون فترة علوٍّ للمسلمين ، وقلاقل وخسائر للصليبيين ..لكن كثيرًا ما تجري الرياح بما لا تشتهي السفن !لقد حدث أمرٌ غيَّر مجرى الأحداث كثيرًا ، وعطَّل مسيرة الجهاد ما يقرب من أربع سنوات كاملة !

لقد مات السلطان محمود عن عمرٍ أقل من سبعة وعشرين عامًا ! وكانت مفاجأة قلبت الموازين في الأمة الإسلامية ، حيث إنه مات صغيرًا جدًّا ، وبالتالي فأبناؤه أعمارهم صغيرة جدًّا ، ومن هنا ظهر الطامعون في الملك من كل مكان ، وصارت الأمة كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا !

إن كرسي السلطنة له بريق ما بعده بريق ، والفرصة المواتية الآن قد لا تتكرر إلا بعد عدد من السنوات لا يعلمه إلا الله ، ومن هنا اجتهد كل الطامعين أن يصلوا إلى هذا الكرسيِّ الوثير !

مَن الطامعون في كرسي السلطنة ؟!

أولاً : الملك داود ابن السلطان محمود ، وقد إستخلفه أبوه على السلطنة ، ولكنه كان أصغر من عشر سنوات ؛ ولذلك فهو تحت وصاية أتابكه (مُربِّيه) آقسنقر الأحمديلي .

ثانيًا :
الأخ الأول للسلطان محمود وهو الملك مسعود بن محمد بن ملكشاه ، وكان رجلاً حسن الأخلاق ، وكان يرأس جرجان ، وكانت له قوة كبيرة وجيش عظيم ، وكان يبلغ من العمر ثلاثة وعشرين عامًا .

ثالثًا :
الأخ الثاني للسلطان محمود ، وهو الملك طغرل بن محمد بن ملكشاه ، وكان خيِّرًا وعادلاً قريبًا إلى الرعية ، وكان يبلغ من العمر إثنين وعشرين عامًا .

رابعًا :
الأخ الثالث للسلطان محمود، وهو الملك سلجوقشاه بن محمد بن ملكشاه ، وهو أمير فارس وخوزستان ، وكان يبلغ من العمر ... .

خامسًا :
السلطان سنجر ، وهو عم السلطان محمود ، وأقوى الشخصيات السلجوقية ، وسلطان خراسان وبلاد ما وراء النهر ، وأكبر الجميع سنًّا (46 سنة) ، وإن كانت بلاده بعيدة عن العراق وشرق فارس ، وهي منطقة أملاك السلطان الراحل محمود .

سادسًا :
الخليفة المسترشد بالله ، الذي يريد أن يخرج من سيطرة السلاجقة ، وأن يستقل بنفسه ، وإن كان هذا سيعني أنه لن يصبح حاكمًا إلا على منطقة بغداد فقط وما حولها ؛ لضعف جيش الخلافة في هذا الوقت .

فهذه ست قوى متصارعة على الحكم ، كلٌّ منها له طموحه الخاص ، ومبرراته لطلب الحكم ، وكلٌّ منها يقف خلفه أنصار وأعوان ، وجيش وشعب ! لقد كانت أزمة حقيقية توشك أن تدفع الأمة إلى أتُّونٍ من الصراعات والإنشقاقات .


فإذا أضفت إلى هؤلاء بعض القوى الأخرى التي لا تطمع في كرسي السلطنة ولكنها مؤثِّرة للغاية ، فإن الموقف سيزداد تعقيدًا ، وعلى رأس هذه القوى بلا شك يأتي عماد الدين زنكي رحمه الله !!

فعماد الدين زنكي وإن كان مجرد أمير على إمارة إلا أنه أصبح من أقوى القادة العسكريين ، ومن أوسعهم نفوذًا ؛ إذ يسيطر الآن على الموصل وحلب وحران وحماة ونصيبين وبعض مناطق الأكراد ، بل يصل نفوذه إلى مشارف أنطاكية .. ثم إنه البطل الذي إنتصر على الصليبيين ، وقلوب الشعوب الإسلامية تهفو إليه .

نَعَمْ هو في هذه المرحلة لا يستطيع أن يعلن دولة خاصة به ، وليس له القبيلة الكبيرة أو الأعوان الكثر الذين يساعدونه على الإستقلال وإنشاء دولة جهادية خالصة إلا أنه قوة لا يستطيع المتنافسون على السلطة أن يتجاهلوها ، ولن يصبح في نفس الوقت قرار عزله قرارًا آمنًا ؛ لأنه سيؤدِّي إلى سخط عام في العالم الإسلامي ، كما أن الاحتياج إليه في جهاد الصليبيين أصبح إحتياجًا ماسًّا ..

وعلى هذا فالمتوقع الآن أن تبدأ إحدى هذه القوى أو أكثر من قوة ، في إستقطاب عماد الدين لصالحها وعلى عماد الدين أن يحسن الإختيار ؛ لكي لا يدخل في صدام مع شخصية قد تصل بعد ذلك إلى كرسيِّ السلطنة ، ومن ثَمَّ يضطرب موقفه ، وبالتالي تتوقف حركة الجهاد .

فما هي رؤية عماد الدين زنكي في هذا الموقف الشائك ؟

إن الموقف حقيقة في غاية التعقيد ؛ لأن القوى تكاد تكون متساوية ، وفرصتها متقاربة ، إلا أن الفرصة الكبرى في تخيل عماد الدين زنكي كانت للملك مسعود بن محمد بن ملكشاه ، وهو أكبر الأخوة الآن للسلطان الراحل محمود .


إن هذا هو أكبر الأخوة ، وبالتالي ففرصة إجتماع الناس عليه عالية ؛ لأنه أكبر من أخويه طغرل وسلجوقشاه ، وهو أفضل من الطفل داود إبن السلطان الراحل ، الذي لا يملك من أمره شيئًا ، بل سيكون أُلْعُوبة في يد أتابكه آقسنقر الأحمديلي .. وكذلك فرصة الملك مسعود أعلى من السلطان سنجر ؛ لأن السلطان سنجر وإن كان كبيرًا مهيبًا إلا أنه بعيد ، وسيطرته في غالب الأمر شرفيَّة ، وليست واقعية .

أما الخليفة المسترشد بالله فإمكانياته أقل من أحلامه ، والوقوف إلى جواره في هذه الأزمة هو عدم فقه للواقع ، ولا حسن تقدير للنتائج , وإضافةً إلى كل ما سبق فإن الملك مسعود شخصيَّة محبوبة وحسنة الخلق ، وبالتالي سيكون قبول المسلمين لها عاليًا .

وفي نفس الوقت الذي كان عماد الدين زنكي يفكِّر فيه في الملك مسعود كان الملك مسعود يفكر في القوى الموجودة على الساحة لنصرته في الوصول إلى كرسي السلطنة ، وكان من أوائل الذين فكَّر فيهم عماد الدين زنكي الأمير القوي !

وهكذا أرسل الملك مسعود رسالة إلى عماد الدين زنكي يطلب منه المساعدة العسكرية على إقراره في منصب السلطة ، ووعده بإعطاء مدينة إربل المهمة جدًّا عسكريًّا في نظير هذه المساعدة ، فوافق عماد الدين زنكي ، وصار في صفِّ الملك مسعود .

ثم إن التقليد المتبع في ذلك الوقت كان يقضي بأنه لا بد للسلطان الجديد من تقليد من الخليفة العباسي ، وهذا يجعل فرصة الطاعة للسلطان في أنحاء العالم الإسلامي أوسع؛ لأن الناس كانت تعتبر جدًّا برأي الخليفة ، على الأقل من الناحية الشرعية ، ويشعرون أن مخالفته لا تأتي بخير ، مع يقين الجميع بضعف مركزه، وقلة حيلته؛ ولذلك كان السلاطين حريصين دائمًا على تقليد الخليفة لهم ، ومن شَعَر أن الخليفة لن يقلده فلا يمانع أن يخلع الخليفة تمامًا ، ثم يضع خليفة غيره يعطيه التقليد !

وعليه فإن الجميع كان ينظر إلى رأي المسترشد في هذه القضية ، وعادةً ما كان الخليفة يُقِرُّ من إتفق السلاجقة على إختياره ، أما الآن فالوضع مختلف ؛ إذ حدث التنازع بين خمس شخصيات مختلفة : العم سنجر ، والأخوة الثلاثة مسعود وطغرل وسلجوقشاه ، والإبن داود .. فمَن مِن هؤلاء يختار الخليفة ؟!

إن الخليفة المسترشد متطلع للحكم ، وعليه فهو يريد أن يختار أقل الناس تدخلاً في شئون الحكم ؛ لكي يدير هو الأمور بنفسه ، وعلى ذلك فقد وقع إختياره على السلطان سنجر ؛ وذلك لبُعد المسافات بينه وبين العراق ، ومن ثَمَّ سيصبح للخليفة المسترشد كلمة مسموعة في العراق على الأقل ، وقد يكون في الشام أيضًا !

هكذا كان رأي المسترشد بالله وطموحه !

وعلى هذا فقد أقام المسترشد الخطبة للسلطان سنجر ، وعلَّق أي موافقة على سلطان جديد على موافقة السلطان سنجر شخصيًّا ، وهذا - ولا شك - أعجب السلطان سنجر جدًّا وإستحسنه !

فالسلطان الذي إختاره السلطان محمود قبل أن يموت هو السلطان داود إبنه ومعه جيش أصفهان ، وهو القوة الرئيسية في جيوش السلاجقة ، حيث كان تحت سيطرة السلطان محمود شخصيًّا ، ولا شك أن السلطان داود - مع أنه طفل صغير - لن يقبل بضياع السيطرة منه ؛ ولذلك عزم على التوجه إلى بغداد بجيشه ؛ لإجبار الخليفة على تقليده للسلطنة !

وفي نفس الوقت تحرك الأخوان مسعود وسلجوقشاه إلى بغداد لنفس الغرض ، وهو إجبار الخليفة على تقليدهما كلٌّ على حدة !

فهذه جيوش ثلاثة لداود ومسعود وسلجوقشاه ! ومن الموصل تحرك جيش عماد الدين زنكي نصرةً لمسعود , أما السلطان سنجر فقد شعر أن بُعد المسافة قد يمنعه من السيطرة على الأوضاع ، فإتفق مع الأخ الثالث طغرل ، وجمع جيشًا كثيفًا وتوجه إلى بغداد هو الآخر ! وهذا مالم يكن يتوقعه الخليفة ، فهو لم يتخيل أن يأتي سنجر بنفسه ومعه طغرل ، ليصبح في النهاية الخليفة تابعًا لهم كما كان تابعًا لغيرهم !

وتعقَّد الموقف تمامًا ! فهناك أربع قوى متصارعة !

قوة السلطان المعلن حتى الآن ، وهو السلطان داود بن محمود ومعه جيشه المتجه إلى بغداد ، ويقاومه الآن ثلاث قوى مؤيدة بجيوش ، وكلها يتجه إلى بغداد أيضًا :

القوة الأولى : قوة الملك مسعود بجيشه ، ومؤيَّدة بجيش عماد الدين زنكي .
القوة الثانية : قوة الملك سلجوقشاه .
القوة الثالثة : قوة السلطان سنجر ، ومعه الملك طغرل .

وهذا الوضع لا بد أن يلزم الخليفة بأن يختار بجدية السلطان المرتقب الذي يجب أن يقف إلى جواره .

ولكن قبل الحديث عن نتيجة هذه الصدامات المرتقبة لا بد من وقفة مع هذا الموقف العجيب ، حيث تتصارع جيوش حقيقية قوية يقودها أخوة وأقارب من الدرجة الأولى !
كيف تمَّ هذا ؟ وما هي طبيعة القتال بينهم ؟!

لي على هذا الموقف عدة تعليقات :

أولاً : فتنة الدنيا , يقول رسول الله : "أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا" .

والفتنة التي فتحت على هؤلاء فتنة عظيمة جدًّا ، فنحن كثيرًا ما نرى الأخوة يتصارعون على ميراث بسيط تركه لهم أبوهم ، فما بالكم بتركة تضم عدة دول كبرى !!


إن الذي سيوضع في منصب السلطان ستكون له السيطرة على العراق وفارس (إيران) والشام بكل دولها وأذربيجان وأرمينية وباكستان ، وقد يتوسع ملكه بعد ذلك في بلاد أخرى كالجزيرة العربية أو تركيا ، فهي فتنة عظيمة ، ولا سيما أن آخر ما يخرج من قلب الإنسان هو حب السلطان !

ثانيًا : هؤلاء الأخوة وإن كانوا من أبٍ واحد ، إلا أنهم كثيرًا ما ينشئون متباعدين ، حيث يعيش كل واحد في دولة مختلفة ، وقد يكون له أم مختلفة ، ومربٍّ مختلف ؛ فلا يربط بينه وبين أخيه الرباط الذي نراه في الأخوة المتحابين .

ثالثًا :
التربية العسكرية الصرفة التي ينشَّأ عليها الأولاد ، خاصةً في الدولة السلجوقية التي كانت دولة عسكرية من الطراز الأول ، وقد رأينا في كثير من الأحيان أن الذي يتولى تربية الأولاد رجل عسكري ، بل قد يكون رئيس الجيش كله ، وهو الذي كان الأتراك السلاجقة يطلقون عليه لفظ "أتابك" أي مربي الأمير ، فكان عماد الدين زنكي مثلاً هو مربي ألب أرسلان بن السلطان محمود ، وكان طغتكين الذي صار أمير دمشق هو مربي أولاد دقاق بن تتش ، وهكذا .. ولا شك أن هذه النشأة العسكرية جعلت قضية الروابط الأسرية والعلاقات الإنسانية أقل عندهم من غيرهم .

رابعًا :
الزمن زمن فتنة ، والخليفة ضعيف ، وكل واحد من هؤلاء له مبرراته - التي قد تكون مقنعة - للوصول إلى الحكم ، وقد يرى أنه يدافع عن حقٍّ ، ولا يجب التفريط فيه ..

والذي يثبت أن القضية فعلاً فتنة هو إشتراك عدد لا بأس به من أفاضل الأمة وثقاتها في مثل هذه الصراعات ، بل إن السلاطين المشاركين في هذه الصراعات كانوا على درجة عالية من الأخلاق الحميدة ، والخصال الحسنة ، وكانوا في مجملهم محبوبين في شعوبهم ، قريبين من رعيتهم .


رابعًا : ضعف الاتصالات كان يؤدي إلى كثير من النتائج السلبية ، والمشاكل المعقدة ، وقد كان الجميع يتنافس على الوصول إلى الخليفة أولاً، وقد يأخذ هذا الوصول أيامًا كثيرة ، ثم يعود بالرَّدِّ في أيامٍ أخرى ، وهكذا , فلو أخذت هذا الأمر على نطاق المساحة الشاسعة التي يعيش فيها كل واحد من هؤلاء المتصارعين ، لعلمت أن الأمر فعلاً في غاية التعقيد .

خامسًا :
لا شك أن البطانة المحيطة بكل واحد من هؤلاء كانت تزيِّن له أنه أفضل الجميع وأحكمهم وأعقلهم ، وأحقهم بالحكم ، ولا شك أن هذه البطانة مستفيدة جدًّا من وصول رجلهم وقائدهم إلى منصب السلطنة ، فهذه ليست ترقية له فقط ، بل ترقية للجميع !

فهذه بعض الخلفيات التي تفسِّر لنا حدوث مثل هذه الفتنة ، وليس هذا مبرِّرًا لقَبولها ، أو عذرًا لحدوثها ؛ فإن هذه الفتنة كانت وبالاً كبيرًا على المسلمين عطَّل مسيرة الجهاد أربع سنوات كاملة ، ولكن ذكرناها من باب محاولة فَهم الأحداث فهمًا متكاملاً .


وممَّا هو جدير بالذكر أن المعارك التي كانت تدور بين هذه الطوائف المتناحرة لم تكن معارك ضارية مع أن أعدادهم كبيرة ، وعُدَّتهم قويَّة ، ممَّا يدلُّ على أن معظم المتصارعين كانوا حريصِين إلى حدٍّ كبير على دماء إخوانهم ؛ ولذلك كثيرًا ما رأينا تصالحًا أثناء القتال ، أو عفوًا بعد النصر ، أو عدم حميَّة أثناء الصدام ؛ ممَّا أفرز نتائج قد نستغربها أحيانًا ، وهذا لم يكن عند السلاطين فقط ، بل حتى عند القادة الأقلِّ ، بل وعند الجنود ؛ لأنه من المؤكَّد أن حميَّة هؤلاء للقتال ليست كحميَّتهم عند قتال الصليبيين .

ونعود إلى الأحداث ، ونجد أن الخليفة المسترشد بالله بدأ يتردَّد في قضيَّة إعلانه أن السلطان الذي يجب أن يُسيطر على العراق هو السلطان سنجر ، وخاصَّة أنه أتى معه بالملك طغرل بن محمد ، الذي سيسيطر على الأمور كلها .

وفي نفس الوقت إلتقى جيشا السلطان داود بن محمود مع جيش عمِّه الملك مسعود في أرض فارس ، وحدثت مناوشات ليمنع كل منهما الآخر من الوصول إلى بغداد ، وإنتهت المناوشات بالصلح بين الطرفين ، ولكن أرسل كل منهما رسالة سريعة إلى الخليفة المسترشد يطلب إعطاءه السلطنة .

وكانت المناوشات التي حدثت بين السلطان داود والملك مسعود سببًا في وصول الملك سلجوقشاه إلى بغداد أولاً ، وهو بالطبع يطلب لنفسه السلطنة !

وبينما إستقبل الخليفة سلجوقشاه ، وبدأ في المباحثات ، إذ بجيشين يقتربان من بغداد , الجيش الأول هو جيش الملك مسعود من الشمال الشرقي ، والجيش الثاني هو جيش عماد الدين زنكي الموالي للملك مسعود ، ويأتي من الشمال الغربي !

ووجد الخليفة نفسه في مأزق ، خاصَّة أنه ليس على وفاق مع عماد الدين زنكي بسبب قضيَّة دبيس بن صدقة ، ومن ثَمَّ وبعد مفاوضات سريعة مع سلجوقشاه اتَّفقا على قتال هذين الجيشين والدفاع عن بغداد ! ولكن كان من الواضح أن الخليفة لا يدري لماذا هو يدافع عن بغداد ، هل يدافع عنها لنفسه أو للملك سلجوقشاه ، أم للسلطان سنجر ، أم للسلطان داود ؟! لقد كان الموقف عجيبًا حقًّا ! كما أن الجيوش المهاجمة لبغداد لم تكن تهاجم بحميَّة وقوَّة ، فَهُمْ في النهاية يهاجمون عاصمة الخلافة الإسلاميَّة بغداد ، والذين يدافعون عنها هم إخوانهم وعشيرتهم .


وهكذا حدث قتال بلا رُوح ، لم تظهر فيه المهارات المعروفة للمقاتلين .. لقد إتجه سلجوقشاه بجيشه لحرب أخيه مسعود ، بينما إتجه الخليفة لحرب عماد الدين زنكي !
وكان الصدام الأول هو الصدام بين الخليفة بجيش بغداد مع عماد الدين زنكي بجيش الموصل ، ومن الواضح أن عماد الدين زنكي لا يقاتل بحميَّته المعروفة ، ولا بحماسته المعهودة ، فحدث أمر متوقَّع ، وهو أنه إنهزم من جيوش الخليفة! ونقول : إن هذا شيء متوقَّع ؛ لأن الخليفة يقاتل بكلِّ طاقته ، وبجيش بغداد الذي يصل إلى ثلاثين ألف مقاتل ، بينما كان يتحرَّج عماد الدين زنكي من مثل هذا القتال ، وكل ما تخيَّله أنه سيذهب بقوَّة رمزيَّة إلى بغداد يكون هدفها فقط أن تعلن أن الموصل وبلاد الشام تقف إلى جوار الملك مسعود ، غير أن الصدام حدث ، وكان الخليفة جادًّا تمامًا في حربه ، ولعلَّه كانت تراوده أحلام الفكاك النهائي من السيطرة السلجوقيَّة على العراق !

وهُزم عماد الدين زنكي وجيشه ، وتفرَّق الجيش هنا وهناك ، وهرب عماد الدين زنكي في إتجاه الشمال ، ووصل إلى مدينة تَكريت ، وهي في المنتصف بين بغداد والموصل ، وكانت وراءه فرقة من الجيش العباسي تطارده ، وكان من الممكن أن تكون أزمةً كبيرة ، خاصَّة أن نهر دجلة كان يعوقه عن العبور للناحية الغربيَّة ليصل إلى مدينة الموصل ، لولا أن أمير قلعة تكريت عرف عماد الدين زنكي فأسرع بمدِّ المعابر على دجلة ، وأنقذه من الجيش العباسي ، بل وإستضافه في قلعته عدَّة أيام أصلح فيها شأنه ، وطمأن قلبه ؛ لأنه كان يشعر أن هذا الرجل هو أمل المسلمين ، وهو الذي يحمل راية الجهاد ضدَّ الصليبيين ، كل هذا مع أنَّ مدينة تكريت تابعة للخليفة العباسي ، وليس لأحد آخر ، ممَّا يعني أن هذا الرجل يخاطر بمنصبه في سبيل حماية عماد الدين زنكي .


بقي أن نعرف أن هذا الرجل هو نجم الدين أيوب بن شاذي ، وهو والد صلاح الدين الأيوبي ، ولم يكن صلاح الدين قد وُلد بعدُ في هذه الفترة ، ولكن كانت هذه الحادثة سببًا في التعارف والتآلف بين نجم الدين أيوب وعماد الدين زنكي ؛ مما مهَّد لأن يُرَبَّى صلاح الدين الأيوبي بعد ذلك في كنف أولاد عماد الدين زنكي ، وأهمّهم بالطبع هو نور الدين محمود .

فانظر إلى عجيب تدبير ربِّ العالمين ، ولو لم يكن هناك من فوائد لهذه الفتنة التي حدثت إلاَّ هذا التعارف لكفى به ، وصدق الله إذ يقول: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) .

وصلت أخبار هزيمة عماد الدين زنكي إلى الملك مسعود ، وكان حينها في مناوشات عسكريَّة مع أخيه سلجوقشاه ، فعلم أن الحلَّ العسكري لن يُجدي ، خاصَّةً أن جيوش السلطان سنجر بدأت تقترب من بغداد ، هنا إتَّفق الملك مسعود وأخوه الملك سلجوقشاه على الصلح ، وتراسلا مع الخليفة ليعرضا عليه رأيًا !

وكان الرأي هو أن يُعطى العراق للخليفة يحكمه عن طريق وكيل له يختاره ، وتُعطى السلطنة لمسعود ، وتعطى ولاية العهد لسلجوقشاه ، بمعنى أنه عند وفاة الملك مسعود يتولَّى سلجوقشاه ، وليس أحدٌ من أبناء السلطان مسعود .

ووجد الخليفة أن هذا الحلَّ أفضل من سيطرة السلطان سنجر ، وعلى ذلك وافق على هذا الرأي ، وقُطعت خطبة السلطان سنجر من العراق ، وصارت إلى السلطان مسعود !

وإقترب السلطان سنجر أكثر وأكثر من بغداد ، وهنا إضطر السلطان مسعود وأخوه الملك سلجوقشاه أن يجتمعا على حرب عمِّهما السلطان سنجر ، مع العلم أن أخاهما طغرل في جيش السلطان سنجر !

وكانت موقعةً عجيبة ، تقاتلت فيها أعداد هائلة ؛ حيث وصلت جيوش السلطان سنجر إلى مائة ألف فارس أو يزيد ، وكانت الغلبة فيها بوضوح للسلطان سنجر ، الذي إستدعى الملك مسعود بعد هزيمته ، فلما رآه قبَّله وأكرمه ، وعاتبه على عصيانه ، ثم أعاده إلى كنجة في بلاد فارس ، ووضع إبن أخيه طغرل في كرسيِّ السلطنة ، دون إعتبار بالطبع لرأي الخليفة ، الذي اضطرَّ أن يُعطيه السلطنة وهو كاره .. وهكذا صار سلطان العراق وفارس هو السلطان طغرل ، وذلك تحت رعاية السلطان سنجر ! وكانت هذه الوقعة العسكريَّة في 8 من رجب سنة 526هـ\ 1132م .

فهل هدأت الأحداث بهذه الزعامة الجديدة للسلطان طغرل ؟!

أبدًا ، إن الفتنة لم تقف ! فقلوب الجميع تغلي بالمشاكل ، وكلُّ واحد من هؤلاء تشغله هموم شتَّى، والأفكار تتزاحم في عقله، وتعالَوْا نأخذ استراحة سريعة بعد هذه الصدامات ؛ لنرى الوضع في أخريات هذه السنة ، خاصَّة أن هناك أحداثًا مهمَّة عاصرت هذه الفتنة لا بُدَّ من التعليق عليها ، فلنرقب معًا هذه الملحوظات العشر :

أولاً :
السلطان سنجر عاد إلى بلاده مسرعًا بعد وضع الملك طغرل في السلطنة ؛ لأن بلاد السلطان سنجر بعيدة ، وهي خراسان وبلاد ما وراء النهر ، أي في وسط آسيا ، وتَرْكُ السلطانِ لبلاده فترة طويلة قد يُغري بعضَ الطموحين بالثورة عليه .

ثانيًا :
الملك طغرل الآن يستمتع بكرسي السلطنة ، لكنَّ قوَّته بمفرده دون عمِّه ، لا شكَّ أنها ضعيفة ، فهذا قد يؤثِّر في موقفه ، وقد يُغري إخوانه بالإنقلاب عليه !

ثالثًا :
الملك مسعود خسر في معركة ضدّ السلطان سنجر ، لكنه لم يخسر جيشه ، فالسلطان سنجر كان رحيمًا به ؛ فأعاده وما يملك من جيوش إلى فارس .. ولا شكَّ أن رغبته في السلطنة لن تنقطع ، خاصَّة أنه كان أكبر من أخيه السلطان طغرل ، ولا يجد معنًى لإعطائه السلطنة دونه .

رابعًا :
الملك داود الذي كان سلطانًا وخُلِع ، لا بُدَّ أنه سيفكر في مصيره ؛ فهو إبن السلطان محمود الراحل ، وقد إستخلفه أبوه لكن أعمامه وجَدَّهُ صرفوا السلطنة عنه ، فهل سيهدأ ، أم سيناضل من أجل الكرسيِّ المسلوب ؟!

خامسًا :
الخليفة المسترشد يغلي غيظًا ؛ فالسلطان الآن هو طغرل بن محمد على غير رغبته ، ولا شكَّ أنه سيتحيَّن الفرصة للخلاص من سيطرة هذا السلطان الجديد .

سادسًا :
عماد الدين زنكي يتحسَّر على ما آلت إليه الأحداث ؛ لقد مرَّ الصليبيون بظروف صعبة جدًّا وقلاقلَ ، وسيمرُّون بظروف أخرى أكثر صعوبة ، وكانت الفرصة مواتية لهجوم شامل عليهم ، لولا الفتنة التي بدأت ، ولا يبدو لها من نهاية في القريب العاجل .

سابعًا :
في 21 من شهر رجب سنة 526هـ - أي في نفس الشهر الذي وُضع فيه السلطان طغرل في منصبه - تُوُفِّيَ بوري بن طغتكين أمير دمشق ، وخلفه إبنه إسماعيل بن بوري الملقَّب بشمس الملوك ، وكان رجلاً فاسدًا ظالمًا ، شديد الظلم ، إرتكب في حياته من القبائح والمنكرات ما أنكره عليه الجميع ، وصار يُقاتل كل مراكز القوى في بلده ؛ حتى أوقع الرهبة في قلوب كل الناس ، وكانت فتنة عظيمة على أهل دمشق !

ثامنًا :
حدثت فتنة بين شمس الملوك إسماعيل بن بوري حاكم دمشق وأخيه شمس الدولة محمد بن بوري أمير بعلبك ، وصار بينهما قتال كبير ، إنتهى بإستيلاء شمس الملوك إسماعيل على حصنين مهمَّين في شمال دمشق ، بينما أقرَّ أخاه شمس الدولة محمد على حكم بعلبك ، وكانت هذه الفتنة فرصة لتدخُّل عماد الدين زنكي ليضمَّ دمشق إلى حكمه ، لولا الفتنة الأشدُّ التي كانت تدور في العراق ..

تاسعًا :
تأزّم الموقف أكثر في أنطاكية ! لقد قامت الأميرة المتمردة أليس بنت الملك الراحل بلدوين الثاني بمؤامرة للسيطرة على الحكم في أنطاكية ؛ حيث قامت بالإتِّفاق مع ثلاثة أمراء صليبيين على مساعدتها في الوصول إلى الحكم في أنطاكية مستغلَّة حداثة خبرة الملك فولك الأنجوي بالشرق الإسلامي ، ولم تكن خطورة المؤامرة فقط في الخروج عن طوع الملك فولك وتسيير الإمارة وَفق أهواء امرأة غير ناضجة كأليس ، ولكن كانت خطورتها في أسماء الأمراء الثلاثة الذين وافقوا على مؤامرة أليس ؛ فهم : جوسلين الثاني أمير الرها ، وبونز بن برترام أمير طرابلس ، إضافةً إلى وليم وهو أمير أحد حصون اللاذقية التابع إلى إمارة أنطاكية ، وهو حصن صهيون .

ووجه الخطورة أن هذه المؤامرة ستؤدِّي إلى إنشقاق كبير في الصفِّ الصليبي ؛ حيث تتعاون الإمارات الثلاث في قضية ضدَّ المملكة الرئيسية ، وهي مملكة بيت المقدس .


ولقد شعر بعض فرسان أنطاكية بالمؤامرة ، وراسلوا الملك فولك الأنجوي الذي جاء مسرعًا على رأس جيشه ليُحبط مؤامرة الأميرة المتهوِّرة ، إلاَّ أن بونز أمير طرابلس إعترض طريقه في لبنان ، ومنعه من إكمال المسيرة ، فحدث قتال بين جيش بيت المقدس وجيش طرابلس ، وهي المرَّة الأولى منذ نزول الجيوش الصليبية في أرض الشام وفلسطين التي يحدث فيها قتال بينهم ، وإضطرب الوضع جدًّا ، وإنسحب الملك فولك من أرض المعركة ، ولكنه إستطاع الوصول إلى أنطاكية عن طريق البحر من ميناء بيروت ، ودخلها بالفعل ، وأحبط المؤامرة ، لكنَّ بونز أسرع إلى أنطاكية ليحاول تثبيت دعائم الأميرة أليس ، إلاَّ أنه حدث قتال كبير بينه وبين الملك فولك انتهى بهزيمة كبيرة لأمير طرابلس ، وإستقرار الأوضاع في أنطاكية لصالح الملك فولك الذي وَضَعَ على أنطاكية أميرًا من طرفه هو رينو ماسوير Renaud Masoier , لقد كانت أزمةً كبيرة كان من الممكن أن تُستغلَّ لصالح المسلمين ، لولا أن المسلمين كانوا منشغلين بفتنتهم !

عاشرًا :
لم تكن هذه هي الأزمة الوحيدة التي مرَّ بها الصليبيون ، بل كانت هناك أزمة أخرى لعلَّها أشدّ ، حيث حدث تصادم عسكري داخلي في مملكة بيت المقدس بين الملك فولك الأنجوي والأمير هيو الثاني أمير يافا .. وسبب الصدام هو إكتشاف الملك فولك الأنجوي أن زوجته الملكة ميلزاند بنت الملك بلدوين الثاني كانت تخونه مع الأمير الشابِّ هيو الثاني ! وكانت نتيجة الصدام بالطبع هو أسر الملك هيو الثاني ، وجرحه جراحة خطيرة ثم ترحيله إلى صقلية ، حيث مات هناك بعد قليل .

ومع أن الشرع النصراني يقضي بإمكانية أن يُطَلِّق الملك فولك الأنجوي زوجته لثبوت الخيانة الزوجيَّة عليها ، إلاَّ أن الملك فولك الأنجوي كان يعلم أن تطليقها يعني ذهاب المُلْكِ ؛ لأنه يحكم بيت المقدس إنتسابًا لبنت الملك الراحل بلدوين الثاني ، وعليه فحتَّى لو حُوكِمَت الملكة ميلزاند ، فإن الحكم سينتقل إلى إحدى أخواتها ، وبالتبعية إلى زوجها ؛ ومن هنا آثر الملك فولك الأنجوي أن يغضَّ الطرف ، وأن يأمر زوجته أن تستغفر لذنبها ! بل إنه بدأ يسترضيها بشكل مبالغ فيه ؛ لأنها أظهرت الغضب الشديد عليه لقتله عشيقها !


ومن هذه المبالغات التي فعلها الملك فولك الأنجوي أنه إضطر لموافقة الملكة ميلزاند على إعادة أختها الأميرة أليس إلى حكم أنطاكية بدلاً من الأمير رينو ماسوير ! وبهذا لم يتنازل الملك فولك الأنجوي عن كرامته فقط ، بل تنازل أيضًا في مسألة الأميرة أليس - والتي كان صارمًا جدًّا فيها قبل ذلك - عن أمن وسلامة أنطاكية حين وافق على إمارة الأميرة الطموحة أليس ، هذا بالإضافة طبعًا إلى تنازله تمامًا عن نخوته كرجل ، أو فطرته كإنسان !

إذن كان الوضع في أواخر سنة 526هـ يبشِّر بتصدُّع داخلي في الصفِّ الصليبي ، ولولا إنشغال المسلمين بأزماتهم الداخليَّة في العراق لكان الوضع مختلفًا تمامًا ، ولْيُدْرِك المسلمون الأثمان الباهظة التي تدفعها الأُمَّة نتيجة الفُرقة والتشتُّت .

أمَّا بالنسبة لبطلنا عماد الدين زنكي فقد إضطرَّ أن يمكث بجيشه في الموصل قرب الأحداث الساخنة في بغداد ، حيث إن هذه الأحداث من الممكن أن تُغَيِّر كل الأنظمة والأوضاع ، وإكتفى بمناوشات بسيطة مع الصليبيين عن طريق أمير حلب الأمير سوار ، وهو أمير من أمراء دمشق الذين هربوا منها سنة 524هـ ، فإستقطبه عماد الدين زنكي ، وأقطعه حلب وأعمالها ، وكان من المجاهدين الأشداء ، الذين أبلَوْا بلاءً حسنًا في منصبهم طيلة حياة عماد الدين زنكي .

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 04-03-14, 04:57 AM

  رقم المشاركة : 20
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

ولْنَعُدْ إلى موقفنا المعقَّد في العراق !

إن الأمور لم تهدأ بطبيعة الحال ؛ لقد ترك السلطان سنجر إبن أخيه السلطان طغرل في كرسي السلطنة وعاد إلى خراسان ، ولا شكَّ أن هذا أضعف موقفه ، وأطمع المتنافسين فيه ! وكان السلطان طغرل يتَّخذ من همذان مقرًّا له ، فقام الملك داود بن محمود ومعه أتابكه والمتصرِّف في شئونه آقسنقر الأحمديلي بالثورة على السلطان طغرل ، وجمعا الجيوش ، وحدث تصادم بين القوَّتين في رمضان سنة 526هـ بالقرب من همذان ، وإنتهى الأمر بهزيمة الملك داود ، وإستقرار الأمر من جديد للسلطان طغرل .

ولكنَّ الأمر لم يقف عند هذا الحدِّ ، فقد رحل الملك داود إلى بغداد ، وإلتقى بالخليفة المسترشد بالله الذي أكرم وفادته ، وإستقبله إستقبالاً كبيرًا ، وأنزله بدار السلطان ، وإن لم يخلع عليه لقب السلطنة ؛ فهو الآن ضعيف مهزوم !


سمع بهذه الأحداث الملك مسعود ، وكان يرى أنه أحقُّ الناس بالسلطنة ؛ لأنه أكبر الإخوة ، وعلى الأقلِّ فهو أحقُّ من السلطان الحالي طغرل أخيه الأصغر ، فذهب مسرعًا إلى بغداد ، وإلتقى بالخليفة المسترشد وبالملك داود ، وإتفق معهما على أن يخلع الخليفةُ عليه لقب السلطان على أن يكون داود بن محمود وليَّ عهد له ، وبذلك ينفذ المخطط القديم الذي كان بين الخليفة المسترشد بالله والملك مسعود مع إختلاف ولاية العهد ، فإنها ستكون لداود بدلاً من الملك سلجوقشاه !

وجمع الملك مسعود والملك داود جيوشهما ، وتصادما مع جيش الملك طغرل في أكثر من موضع في بلاد فارس ، وإنتصر الملك مسعود ، وبالتالي أخذ لقب السلطنة ، وكان هذا في أواخر سنة 527هـ ، حيث أخذت الأحداث المؤسفة السابقة عامًا كاملاً .

وفي ظلِّ هذه الأزمات المتتالية كان إسماعيل بن بوري حاكم دمشق الفاسد يرقب الأحداث ، ومن ثَمَّ باغت مدينة حماة التي كانت تتبع عماد الدين زنكي ، فحاصرها حصارًا شديدًا ، وإنتهى الأمر بإسقاطها لصالحه ، وكانت خسارة كبيرة جدًّا للإمارة الزنكية الناشئة ؛ لأن حماة مركز مهمٌّ للإنطلاق نحو دمشق ، كما أنها مركز مهمٌّ أيضًا لحرب إمارة طرابلس ، لكن على فداحة هذه الحادثة إلاَّ أنها كانت متوقَّعة ؛ نتيجة الخلل الأمني الخطير من جرَّاء صراعات السلاطين والملوك السلاجقة !

ومع ذلك فالأمير المحنَّك عماد الدين زنكي لم يكفّ عن إرسال السرايا لحرب الصليبيين ؛ وذلك ليمنعهم من الطمع في بلاد المسلمين نتيجة الفتن المتتالية بالعراق ، وكان القائم بهذه الحملات العسكريَّة في المعظم هو سوار أمير حلب ؛ ومن ذلك مهاجمته لمدينة تلِّ باشر التابعة لإمارة الرها في جمادى الآخرة سنة 527هـ ، وإنتصاره على الصليبيين مع قتل ألف منهم ، هذا غير الغنائم الكثيرة التي ظفر بها ، وفوق ذلك فقد جنَّد سوار عدَّة فرق من التركمان من أرض الجزيرة ، وإستغلَّهم في الهجوم على إمارتي أنطاكية وطرابلس ، وحقَّق عدَّة إنتصارات هنا وهناك ، وقتلوا عددًا كبيرًا من الصليبيين ، وغنموا غنائم أخرى .

ولم يكن الهدف من هذه المعارك هو تحرير هذه الإمارات ؛ لأن القوَّة الإسلاميَّة لم تكن كافية لذلك ، ولكن كان الهدف الرئيسي هو قطع طمع الصليبيين في حلب وما حولها ، وذلك إلى أن تنتهي فتنة العراق ، ويتفرغ عماد الدين زنكي لمشروعه الجهاديِّ من جديد .. ومن هذا المنظور فقد نجحت هذه الحملات نجاحًا كبيرًا ، وإن لم تفلح في تحرير قلعة أو مدينة !

ثم نعود إلى قصتنا في العراق وفارس !

نحن الآن في سنة 528هـ وكرسي السلطنة مع الملك مسعود ، لكن هذا - ولا شكَّ - لن يُرضِي السلطان المخلوع طغرل ، الذي ما زال يتلقَّى معونات السلطان سنجر من بعيد ! , ولهذا فقد جمع السلطان طغرل قوَّته من هنا وهناك ، وأغرى الملك داود بن محمد بالإنفصال عن السلطان مسعود ، وحدث ذلك بالفعل ، بل وإستقطب بعض الفرق من جيش السلطان مسعود بنفسه ، ودارت معارك في أرض فارس بين الأخوين طغرل ومسعود ، وإنتهى الأمر بإنتصار السلطان طغرل من جديد على أخيه السلطان مسعود ، وبذلك عاد كرسي السلطنة مرَّة أخرى إلى السلطان طغرل !

لقد دخل المسلمون في تِيهِ الصراعات والفتن ، فأصبح أمرًا عاديًّا أن يتقاتل الإخوة ، وتتصارع الجيوش الإسلاميَّة مع بعضها البعض ، وأصبح أيضًا أمرًا مألوفًا أن ينتقل كرسي السلطنة من واحد إلى آخر كل عدَّة أشهر ، وكأنه منصبٌ عادي بسيط لا يؤثِّر في مسيرة أُمَّة كاملة !

ولا شكَّ أنه في ظلِّ هذه الظروف سيطمع كل مَن كان في قلبه مرض ، وكان أشدّ الناس معاناة في هذا الموضوع هو عماد الدين زنكي رحمه الله ؛ فقد تعب كثيرًا من أجل توحيد المسلمين في كيان واحد يصلح لجهاد الصليبيين ، ثم ها هو يرى بعينيه أن الكيان ينهار أمامه ، وأن السلاطين المسلمين يتصارعون معًا بدلاً من توحيد القوة في إتجاه صحيح ، بل ويستقطب كل واحد منهم طائفة من المسلمين فيستعديها على الأخرى ؛ ومن هنا ظهرت القلاقل في كل مكان ، وبدأت الأحوال تضطرب في داخل الإمارة الزنكيَّة الواسعة ، وشعر الناس أن عماد الدين زنكي مضطر للإنتظار حتى يرى نتيجة صراع السلاطين ، وكان عماد الدين زنكي نفسه متحرِّجًا من المشاركة في هذه الصراعات ، فنجده قابعًا بجيشه في الموصل منتظرًا لإستقرار الأحداث ، غير أنها كانت لا تستقرُّ !

في هذه الظروف قامت عدَّة إنقلابات في مناطق الأكراد الحميدية والهكارية في شمال وشمال شرق الموصل ، وكانت هذه المناطق - كما بيَّنَّا قبل ذلك - قد خضعت لحكم عماد الدين زنكي ، ولكنهم في ظلِّ هذه الإضطرابات طمعوا في الإنفصال عن الإمارة الزنكيَّة ، بل وبدءوا في الإغارة على حقول الفلاَّحين وأسواق التجَّار ؛ مما أحدث فزعًا كبيرًا في الموصل ، ولكن عماد الدين زنكي تعامل مع الموضوع بمنتهى الحزم ، فأخذ فرقة من جيشه ، وإتجه إليهم بنفسه ، وبعد عدَّة صدامات في جبالهم الوعرة إستطاع بفضل الله أن يقمعهم ، ويُسيطر على متمرِّديهم ، ويمتلك عدَّة قلاع وحصون لهم في أعالي جبالهم ، وما هي إلاَّ عدَّة أشهر حتى عاد الأمن من جديد ، وإستقرَّت الأوضاع .

ثم ما لبثت المشاكل أن ظهرت في منطقة جديدة هي منطقة الجزيرة وأراضي ديار بكر ؛ حيث وجد الزعماء هناك أن الأوضاع المستقبلة في العراق - التي شغلت عماد الدين زنكي بشكل كبير - ما هي إلاَّ فرصة لهم ليعيدوا السيطرة على ما ضمَّه عماد الدين زنكي قبل ذلك إلى إمارته ..

وإذا نظرنا إلى وضع هذه المناطق فإننا - كما ذكرنا من قبلُ - سنجد أن فيها قياداتٍ كثيرةً وزعامات متعددة ، لكن كل هذه الزعامات لا وزن لها ، اللهم إلا ثلاثة يمثِّلون أكبر قوَّة في هذه المناطق ، وهؤلاء هم الثلاثة الذين إشتركوا قبل ذلك في سنة 524هـ ، أي منذ أربع سنوات ، في حربٍ ضدَّ عماد الدين زنكي ، وهي موقعة دارا .

1- حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي ، وهو أمير ماردين .

2- ركن الدولة داود بن سقمان (إبن عم الأول) ، وهو أمير حصن كيفا .

3- سعد الدولة أبو منصور إيكلدي ، صاحب آمد .


وجد عماد الدين زنكي رحمه الله أن تجمُّع هؤلاء من جديد سيمثِّل عائقًا كبيرًا لمشروع الوَحدة ، خاصَّة في الظروف التي يمرُّ بها الآن ؛ حيث الأوضاع المضطربة في العراق وفارس ، وحيث الإنقلابات المتكرِّرة في مناطق الأكراد ، وحيث الهجمات الصليبية المتوقَّعة في منطقة حلب وما حولها ، ومن ثَمَّ فإنه لا بُدَّ من التعامل مع هذه المشاكل الجديدة بشيءٍ من الحسم وسرعة القرار .

وجد عماد الدين زنكي أن قتال هؤلاء الزعماء مجتمعين سوف يؤدِّي إلى خسائر كبيرة ، ومن ثَمَّ قرَّر أن يسلك الطريق السياسي لتفتيت إتحادهم ، وإستقطاب بعضهم ؛ لتنتهي المشكلة بأقلِّ خسائر ممكنة ..

وعند النظر إلى شخصيات وإمكانيات هؤلاء الزعماء ، فإنه وجد أن ركن الدولة داود شديد التصلُّب ويتَّصف بالعِنْد ، أما سعد الدولة أبو منصور إيكلدي فهو ضعيف ، وإمكانياته محدودة ، ويبقى حسام الدين تمرتاش فهو صاحب قوَّة كبيرة ، وإن كان هو شخصيًّا يتميَّز بالمرونة السياسيَّة ، كما أنه - كما وصف إبن الأثير - يحبُّ الدِّعَةَ والرفاهية ! وعلى ذلك ففرصة التوحُّد مع حسام الدين تمرتاش وإغراؤه بفكِّ التحالف مع هؤلاء الضعفاء ، وجعل تحالفه مع عماد الدين زنكي شخصيًّا قد تكون فكرة صائبة .. ومن هنا بدأ عماد الدين زنكي رحمه الله يتقرب من حسام الدين تمرتاش ، فأوقف التحرُّكات العسكريَّة ناحية بلاده ، وأرسل له بعض الهدايا ، مع تذكيره بأهمية الوَحْدة بين المسلمين ، وإغرائه بإتساع ملكه في حال التوحُّد معه .

ووجد هذا الأمر قبولاً سريعًا عند حسام الدين تمرتاش ، ووجد في صداقة عماد الدين زنكي أكبر النفع عن صداقته مع ركن الدولة داود أو سعد الدولة إيكلدي ، فتجاوب مع تقرُّب عماد الدين زنكي ، ثم ما لبث الأمر أن وصل إلى تحالفٍ سياسي معلن ، وتوحيد القوَّتين في كيان واحد ، وبدأ عماد الدين زنكي وحليفه حسام الدين تمرتاش في بسط السيطرة على المناطق المحيطة ، وجُوبهوا - بلا شكٍّ - بمقاومة من الزعيمين الآخرين ، إلاَّ أنهماإ نتصرا في أول الصدامات ، وتمَّ الإستيلاء على قلعة من أهمِّ قلاع ركن الدولة داود ، وهي قلعة الصَّوْر قرب ماردين ، وأهداها عماد الدين زنكي إلى حليفه الجديد حسام الدين تمرتاش ؛ تأكيدًا على الحلف الذي بينهما .

هكذا إستطاع عماد الدين زنكي بسياسته أن يوظِّف حسام الدين تمرتاش لصالحه ، وأن لا يكتفي فقط بضمِّ أراضٍ جديدة لإمارته ، بل ويرسِّخ الأمن فيها دون أن يعرِّض قوَّاته لخطر كبير .

ونترك إقليم الجزيرة وديار بكر ، ونترك الإمارة كلها لنرحل رحلة سريعة في عقل بطلنا عماد الدين زنكي !


إن الأحداث الجارية في الأُمَّة الآن تكشف طبيعة الرجال ومعادنهم ، كما تكشف قوَّتهم وإمكانياتهم .. فما هي الرؤية الصائبة في هذه الأحداث ؟ وما هو ردُّ الفعل المناسب الذي من المفترض أن يتعامل به عماد الدين مع الأحداث ؟.

إنه إعتاد - كما كان يفعل أبوه من قبل - أن يكون ولاؤه لسلطان السلاجقة ؛ لأنه هو الأقوى ، وهو الذي يتحكم فعليًّا في الأمور ، وهو الذي يتحمَّس لقضايا المسلمين ويتحرَّك إليها .. إنه اعتاد على ذلك منذ زمنٍ ، لكن شتَّان بين سلاطين الأمس وسلاطين اليوم ! أين الثَّرى من الثُّريَّا ؟!

أين مجموعة السلاطين المتصارعة الآن من ألب أرسلان أو ملكشاه أو بركياروق أو محمد ؟ حتى السلطان محمود - على صغر سنِّه - كانت له رؤيةٌ ، وكانت له طموحات جيدة للأُمَّة الإسلامية ، كما أنه كانت له قوَّة يستطيع بها أن يتغلب على منافسيه ، ومن ثَمَّ تستقرُّ أوضاع البلاد ، وتتفرغ إلى همومها الخارجيَّة ، وعلى رأسها قضية الصليبيين .

أما هؤلاء السلاطين الأقزام فعلامَ يتقاتلون ؟!

هل يستطيع أحدٌ أن يقول : إن هذا القتال لله ؟! بل هل يستطيع أحد أن يجزم أن الحقَّ في الصراع مع هذا الطرف دون غيره؟!
... إن المعاصرين للحدث أنفسهم كانوا لا يستطيعون أن يجزموا أن فلانًا على حقٍّ ، وغيره على باطل ! ولذلك ترى الزعماء والأمراء والجنود والشعوب كثيرًا ما تنقلب من طاعة سلطان إلى طاعة غيره ، وليس ذلك لضعف في الأخلاق أو المبادئ ، ولكن لضعفٍ في الرؤية والتحليل .

ثم إن كل السلاطين ضعفاء ! أو على الأقلِّ قوَّتهم متكافئة ؛ فيصعد سلطان على الكرسيِّ عدَّة أشهر ، وأحيانًا عدَّة أيام ، ثم يخلعه غيره ! ويُنادى بالسلطنة لفلان في بلد ، ويُنادى بها لغيره في بلد مجاور ، ويقف الخليفة اليوم مع سلطان، ويقف غدًا مع سلطان ثانٍ، وقد يقف بعد غدٍ مع سلطان ثالث !


إنها فتنة تترك الحليم حيرانَ !


لقد شهدت السنوات الثلاث التي أعقبت موت السلطان محمود ولاية داود ، ثم مسعود ، ثم طغرل ، ثم مسعود ، ثم الآن طغرل ! ولا يعلم أحد كيف يكون الغد ؟!

أهذا أمر يُعقل؟! ثم إن الخليفة الطموح المسترشد بالله صار طرفًا في الصراع ، وله جيش مؤثِّر ، وإن لم يكن كبيرًا جدًّا ، بحيث يفرض على الجميع كلمته ، لكنه أصبح من عناصر التأثير المحسوبة في المعادلة ، فهل سيأتي زمنٌ يحمل فيه الخليفة مهامَّ الخلافة كما يحمل إسمها ؟!

إنه سؤال صعب في وسط هذه المتغيِّرات الكثيرة ! ولنتجوَّل في عقل بطلنا عماد الدين زنكي !


مع أيِّ هذه القوى ينضمُّ ؟ وأيُّ هذه القوى يناصر ؟ وأي القوى أعظم ؟! .. لقد كان يقف مع الملك مسعود في البداية ؛ لأنه الأخ الأكبر من الإخوة المتصارعين ، ويبدو أنه كان أقرب إلى السلطنة .. أما الآن فقد كشفت الصراعات أن الجميع ضعيف ، وأن الجميع من طلاَّب الدنيا ، وإن حَسُنت أخلاقهم ، ورقَّت طبائعهم .. فهل يُكمِل المسيرة مع السلطان مسعود ؟ أم يُوَجِّه عونه إلى سلطان آخر ؟ أم يقف مع الخليفة ؟!

إن الأمر جِدُّ محيِّر !! بل محيِّر جدًّا .


أتدرون وجه الحيرة في المسألة ؟! إن الحيرة ليست فقط في الإختيار بين المتنازعين ، ولكن الحيرة في شيء أعظم ! لقد أثبتت الأيام أن عماد الدين زنكي أقوى من الجميع !!
إنه أقوى من كل سلاطين هذه الأيام ، وكذلك أقوى من الخليفة العباسي !! إنه ليس فقط أقوى أخلاقيًّا أو عقائديًّا ، لكنه أقوى كذلك ماديًّا وعسكريًّا ، وهو أقوى أيضًا في فَهْمه وعقله ورؤيته , إنه الوحيد الذي جعل من قضية الصليبيين قضية حياته ، والوحيد الذي حمل على أكتافه مهمة توحيد المسلمين ، والوحيد الذي كان يستشير الفقهاء والعلماء فيما يفعل وفيما يختار .

ثم إنه أقوى كذلك في حبِّ الناس له ؛ إنَّ قلوب المسلمين في كل مكان تهفو إليه ، ويتناقل الجميع أخباره بشغفٍ وحب ولهفة ، ولا يختلف عليه إثنان من عموم الشعوب ، لكن مَن مِن الناس يتعلق بأحد هؤلاء السلاطين ؟! إن وجود طغرل لا يفرق كثيرًا عن مسعود ! وسلجوقشاه لا يختلف كثيرًا عن داود ! ولو ظهرت شخصية رابعة أو خامسة أو عاشرة فلن يفرق هذا كثيرًا مع الناس !


إن هذا هو الواقع الحقيقي ، فلماذا لا يُصبِح عماد الدين زنكي هو القوة الأولى في العالم الإسلامي ، ويصبح قائمًا بما يجب أن يقوم به السلطان ؟!


إنه سؤال جريء !ولكنه سؤال واقعي ! إن الإجابة المحزنة قد تكون : إنه ليس سلجوقيًّا ! فكيف يقوم مقامه ؟!

وهل لا بد للسلطان أن يكون سلجوقيًّا ؟! وهل لا بد للخليفة أن يكون عباسيًّا ؟! وهل لا بد للحكم أن يكون توارثيًّا ؟!


إنها أسئلة جريئة ، لكن الإجابة عليها ستكشف لنا أخطاء كثيرة وقعت فيها الأمة في كثير من فترات حياتها .. إنني لا أمانع أن يتولى الإبن بعد الأب حكم البلاد ، إن كان الإبن كملكشاه الذي تولى الحكم بعد أبيه ألب أرسلان .

إن هذا توارث غير مخلٍّ بقواعد الشريعة ، ولا آداب الحكم وأصوله .. إن الحاكم المسلم لا بد أن تتوافر فيه صفات كثيرة من العلم والقوة وحسن الخلق وتوقير الشريعة والكفاءة في الإدارة وحسن السياسة ، وغير ذلك من صفات لا بد أن يتحلى بها الحاكم ، فإن توافرت هذه الصفات في الإبن أو الأخ فلا مانع من أن يتولى بعد أبيه أو أخيه .. أما أن يتولى حكم المسلمين فقط لأن مؤهلاته هي القرابة من الحاكم ، فهذا لا يجوز شرعًا ولا عقلاً !

لقد كانت فترة السلاجقة فترةً مهمَّة في حياة الأمة الإسلامية ، وذلك أيام طغرل بك مؤسِّس الدولة ثم ألب أرسلان وملكشاه وغيرهم من السلاطين الأقوياء ، لقد كانت فترة مهمة رفعوا فيها راية الإسلام عالية ، لكن إذا ضعف أمرهم فلا بد أن يحمل الراية آخرون ، ولا يُضحَّى أبدًا بالأمة في سبيل أشخاص ، والله يقول : ( وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) .

وكما ذهب المُلْك من يد أقوامٍ إلى السلاجقة ، فلا بد أن يأتي يوم ويذهب المُلْك من يد السلاجقة إلى غيرهم .. ويبدو أن هذا "الغير" في هذه الأيام سيكون عماد الدين زنكي !

إن رصيد عماد الدين زنكي من الجهاد والخبرة والمواهب والكفاءة يرشِّحه لهذا المنصب الرفيع دون منافس حقيقي في زمانه ، وإلا فمَن مِن الأسماء المتصارعة يدانيه في ملكاته ؟ خاصةً أنهم جميعًا من صغار السن قليلي الخبرة ؛ فالسلطان مسعود - وهو أكبرهم - لم يتجاوز في سنة 528هـ السادسة والعشرين من عمره ، بينما يبلغ عماد الدين زنكي من العمر الآن الحادية والخمسين من العمر ! إنه رجلٌ عركته التجارب ، ودرَّبته الخطوب والأحداث ، وشهد القريب والبعيد ببراعته ، وعرف الجميع قوته ، ولو ملك أمر المسلمين فإنهم جميعًا سيسعدون به ، ويكونون طوع كلمته .

لكن ماذا يفعل عماد الدين زنكي الآن ؟! هل يُعلِن الثورة وينفصل بإمارته عن الجميع ؟

أم يقف بقوته مع أحد الضعفاء فيصبح هذا الضعيف قويًّا به ؟

إن إعلانه الثورة قد يفتح نيران السلاجقة أجمعين ؛ لأنه ليس سلجوقيًّا ، وبذلك تدخل البلاد في تِيهِ الصراعات .. وكذلك وقوفه بجوار أحد الضعفاء سيقوِّي مركزه على حساب غيره ، وسيصعد هذا الضعيف على كرسيٍّ لا يناسبه ، وإلى مقام لا ينبغي أن يصل إليه ، وفي هذا خداع للناس ، وخيانة للأمانة .


كما أن قضية الصليبيين ستُنسى تمامًا في خضم هذه المعارك الداخلية المقيتة !

ماذا يفعل عماد الدين زنكي ؟!


إنه يريد أن يُغلِق هذا الملف تمامًا ليتفرغ إلى قضية الصليبييين ، وليعيد البسمة إلى شفاه المسلمين المعذَّبين ، والمجروحين في كرامتهم ، والمطرودين من ديارهم وأرضهم .

فأين الطريق في هذه المتاهات المخيفة ؟!


لقد فكَّر عماد الدين زنكي كثيرًا ثم أخذ قراره ! لقد قرر أن يعيش قصته "وكأنه" منفصلٌ عن السلطنة والخلافة ، لكنه لن يُعلِن الإنفصال لكي لا يثير الغضب ، ويحرِّك الفتن .

إنه سوف يضع هؤلاء الضعفاء جميعًا خلف ظهره ، حتى لو إستقر الأمر لأحدهم ، فهم سيأخذونه إلى الدنيا التي يريدونها إذا سار خلفهم ، أما هو فسيقود الأمة إلى عزِّها ومجدها ، وقبل ذلك وبعده إلى رضاء ربِّها .

إن في عنقه أمانة ثقيلة ، ولا يريد أن يضيِّع وقته في جدال طويل ، أو في صراع عقيم .. إنه لن يُعلِن الآن أنه الزعيم الأول الذي يجب أن يُتبع ، وقد لا يعلن ذلك مطلقًا ، ولكنه سيعمل بعمل الرجل الأول ، وفي نفس الوقت فهو سيتلطَّف قدر ما يستطيع مع أشباه الزعماء الذين يعاصرونه ؛ ليتجنَّب أذاهم ، أو عرقلتهم لمشروعه الكبير !

إنه سيجعل ساحة عمله في المنطقة التي حددها السلطان الراحل محمود في منشوره لعماد الدين زنكي ، وهي مناطق الموصل والجزيرة والشام ، ولن يلتفت إلى مناطق الصراعات السلجوقية والعباسية ، وهي مناطق بغداد ووسط العراق وفارس وغيرها ، وخاصةً أن وَحْدة الموصل والجزيرة والشام قادرة بإذن الله على فعل شيء ذي قيمة مع الصليبيين ، ومن أدرانا ؟! فلعل هذا الجهد من عماد الدين زنكي يستكمله غيره فيوسِّع دوائر الوحدة ، ويعزُّ الأمة أكثر وأكثر ، ولقد كان مُلْك طغرل بك أو ألب أرسلان صغيرًا جدًّا بالقياس إلى مُلْك الإبن ملكشاه ، ولكن هكذا دومًا الأمور ، تنمو بتدرج !!

ثم في النهاية ، إنَّ عماد الدين زنكي يعمل لله كما تدل على ذلك الشواهد الكثيرة التي ذكرناها قبل ذلك وهذا الذي يعمل لله لن يضيِّعه الله ، ولو لم ير ثمار عمله ؛ فإن الله يحفظ له أجرها يوم القيامة ، وهذا منتهى آمال المؤمنين .

لقد كانت هذه هي الأفكار التي جالت في ذهن البطل عماد الدين زنكي ، وهذه هي الرؤية التي بَصُرها بعد جَهْدٍ عميق ، وبعد فتنة إستمرت حتى الآن ثلاث سنوات ، ولا يعلم أحد إلا الله متى ستنتهي .

وعلى ذلك فقد بدأ عماد الدين زنكي في سياسته الجديدة فورًا ، وهي سياسة تلطيف العَلاقات دون وعد صريح بالوقوف إلى جانب طرف دون طرف .

وبدأ عماد الدين زنكي بالخليفة المسترشد بالله ، خاصةً أنه كان هناك صدام مع هذا الخليفة منذ سنتين يوم أنْ كان عماد الدين زنكي مناصرًا للملك مسعود ؛ وأرسل عماد الدين زنكي الهدايا للخليفة ، بل وأرسل إبنه الأكبر سيف الدين غازي ليؤكِّد طاعته للخليفة وولاءَه له وتقديره لمكانته ، فإطمأنت بذلك نفس الخليفة ، وتبادل مع عماد الدين زنكي الهدايا .

وفي مطلع سنة 529هـ ، وبينما عماد الدين زنكي رحمه الله يرتِّب أوراقه ليرى كيفية التعامل مع الوضع الجديد للسلاطين ؛ حيث كان طغرل على كرسيِّ السلطنة منذ عدة أشهر ، وصل نبأ عجيب ! لقد تُوفِّي طغرل فجأةً في المحرم من هذه السنة وهو في السادسة والعشرين من عمره ! وهكذا تحرَّك الملك مسعود بسرعة ، وجمع الأعوان ، وإعتلى كرسي السلطنة !

لقد خلا الجو لمسعود ليكون السلطان الجديد ، خاصةً أن داود بن محمود قد ضعفت قوته جدًّا بعد قتل أتابكه (مربِّيه) آقسنقر الأحمديلي ، ويقال أنَّ الذي قتله هو مسعود عن طريق الباطنيَّة .. كما أن السلطان سنجر قد شعر بعدم إمكانية الخوض في صراع فارس والعراق بعد موت مرشَّحه للسلطنة الملك طغرل ، أما سلجوقشاه فكانت قوَّته أضعف من الجميع .

وهكذا وصل السلطان مسعود إلى الحكم لا لكونه مستحقًّا ، ولكن لخلوِّ الساحة من الآخرين ، وكان من الواضح أن الدولة السلجوقيَّة في نزعها الأخير !

في نفس هذا الوقت وصلت إلى عماد الدين زنكي إستغاثة عجيبة من دمشق ! لقد أرسل زعيمها الفاسد شمس الملوك إسماعيل بن بوري إستغاثة إلى عماد الدين زنكي يطلب منه أن يأتي ويتسلَّم مدينة دمشق ! وأصل الحكاية أن شمس الملوك إسماعيل أظهر من الفساد ما لا يُتوقع ، حتى إنَّه قتل أخاه سونج بالجوع ! حيث حبسه في بيتٍ وتركه عدَّة أيام حتى مات من الجوع . ثم إنه بدأ يُصادر أموال الناس ، وينهب أملاكهم ، حتى إنه لم يكن يتردد عن نهب الحقير من الأشياء ، وكان لا يمتنع عن سرقة أموال الفقراء ، فضجَّ الناس كلهم أجمعون ، وإعترض عليه بعض الأعوان فقتلهم ، ثم أظهر عدم التردُّد في قتل كل معارض ؛ مما أحدث إضطرابًا عنيفًا في دمشق ، وحتى وصل الأمر إلى أن شمس الملوك إسماعيل صار يخاف على نفسه تمامًا ، وتوقع إنتقامًا قريبًا من الناس ، وبدأ يخشى حتى من أشدِّ مقربيه ، وشعر أنه سيُقتل بين لحظة وأخرى ؛ وهذا دفعه إلى الإستغاثة بعماد الدين زنكي الرجل الأول في العالم الإسلامي آنذاك ، وعرض عليه أن يتسلم المدينة في نظير حمايته، بل إنه هدَّد من شدة خوفه أنه إن لم يأت مسرعًا فإنه سوف يسلِّم المدينة إلى الصليبيين !

وجد عماد الدين زنكي أن هذه فرصة ثمينة لضمِّ دمشق إلى مملكته ، وتوجه فورًا من الموصل إلى مدينة دمشق ، غير أنه في طريقه إليها وجد فرصة سانحة لضم مدينة الرَّقَّة إلى كيانه الموحَّد .. ومدينة الرقة هي مدينة من مدن إقليم الجزيرة ، وهي قريبة من حرَّان ، وتقع شرق الفرات ، وأفلح فعلاً في ضم المدينة ، ولكن هذا عطَّله قليلاً ، فوصل إلى دمشق متأخرًا نسبيًّا ، فوجد أن شمس الملوك إسماعيل قد قُتل ، وقد جاءته مؤامرة القتل من حيث لا يحتسب ! حيث إن الذي دبَّرت محاولة قتله هي : أمُّه !! وهذا من أعجب الأمور في التاريخ حيث تسعى أمٌّ إلى التآمر لقتل إبنها الملك ؛ وذلك لأنه من شدة فساده كان يدبِّر لقتل أمِّه ، فسارعت هي بقتله ! فلما قُتِل شمس الملوك تولى من بعده أخوه شهاب الدين محمود بن بوري ، وإتفق أهل دمشق على طاعته .

حاصر عماد الدين زنكي دمشق محاولاً ضمها ، لكنها إستعصت عليه ، وأصرت على عدم الانضمام لوَحْدة المسلمين ، وتحصن أهلها في الحصون المختلفة ، وتولى الدفاع عن دمشق شخصية عسكرية خطيرة سيكون لها شأن في تاريخ دمشق ، وهو معين الدين أَنُر ، وهو من مماليك طغتكين أمير دمشق الراحل ، وكان معين الدين أنر رجلاً عسكريًّا فذًّا ، غير أنه كان نفعيًّا إلى أكبر درجة ، ولم يكن يمانع من إستخدام أي وسيلة لتثبيت قدمه في منصبه ، وسوف يصل الأمر معه إلى التعاون المباشر مع الصليبيين .

في هذه الأثناء حدثت تطورات ساخنة في العراق حيث راودت الخليفة المسترشد بالله الأحلام في الإستقلال عن الدولة السلجوقية ، خاصةً بعد أن أغراه الملك داود بن محمود بالإتحاد معه لحرب عمِّه السلطان مسعود ؛ فجهَّز الخليفة جيوشه وبدأ يستعد لحرب مباشرة مع السلطان الجديد مسعود !

وعلى الساحة الشاميَّة وجد عماد الدين زنكي أن فرصة إسقاط دمشق ضعيفة جدًّا ، وأنه في ظل الأوضاع المتقلبة التي تعاني منها الأمة الإسلامية لن يستطيع أن يمكث طويلاً أمام أسوار دمشق .. ثم إنه وجد أن حماة الآن قد خلت من الحاميات القوية نظرًا لسحب معظم الطاقة العسكرية التي كانت بها إلى دمشق لمواجهة الأوضاع الجديدة هناك ، وكان قد مرَّ بنا أن شمس الملوك إسماعيل ضم حماة إلى دمشق في أثناء الصراعات الدائرة في العراق ، وذلك منذ ثلاث سنوات ومن هنا فإن عماد الدين زنكي إستغل الفرصة ، وترك دمشق الحصينة ، وتوجه إلى مدينة حماة ، وإستطاع أن يعيد امتلاكها ، وتوجه منها إلى حمص ، وحاصرها كذلك ، إلا أن حمص الحصينة قاومت بقيادة قريش بن خيرخان ، وبالتالي تعذَّر عليه ضم هذه المدينة المهمَّة ، فعاد منها إلى حلب .

في غضون هذه الأحداث وصلت الأخبار بالصدام المؤسف بين الخليفة المسترشد بالله والسلطان مسعود في العاشر من رمضان سنة (529هـ) يونيو 1135م ، وكان النصر حليفًا للسلطان مسعود ، وتم أسر الخليفة المسترشد بالله ، ولم يُقتل في هذه المعركة أي إنسان ! وتم التحفُّظ على الخليفة في همذان ، وهي المقر الرئيسي للسلطان مسعود .

كانت نتيجة مؤسفة جدًّا للخليفة العباسي ، وإضطر الخليفة إلى قبول الصلح المذل مع السلطان مسعود ؛ إذ كان الصلح يقضي بأن يدفع الخليفة مبلغ أربعمائة ألف دينار للسلطان مسعود ، وأن لا يعود لتجميع العساكر أبدًا ، وأن لا يخرج من داره ، فضلاً عن إقرار السلطان مسعود في كرسيِّ السلطنة !

قَبِل الخليفة الوضع الجديد ، وبينما هو يتأهب للرحيل والعودة إلى بغداد حدث أمرٌ أشد أسفًا من كل ما سبق ؛ إذ دخل عليه أربعة وعشرون رجلاً من الباطنيَّة في خيمته وقطَّعوه إربًا !! وكان ذلك في السابع عشر من ذي القعدة من سنة 529هـ .

ترامت الأنباء أن السلطان مسعود هو الذي حضَّ على قتل الخليفة ؛ لأنه لم يكن يأمن له حتى بعد إقراره ببنود الصلح القاسية ، ومع ذلك فقد بويع لإبنه أبي جعفر المنصور الملقَّب بالراشد بالله ، لكن كان من الواضح أن المنطقة أصبحت على مِرْجَلٍ يغلي بعنفٍ ، خاصةً أن السلطان مسعود لم يكتف بذلك ، بل توجَّه لحرب إبن أخيه داود بن محمود ، الذي كان قد تحالف مع المسترشد بالله ضدَّه !

كان عماد الدين زنكي في أثناء هذه الكوارث مشغولاً بما هو أهم وأعظم ، فقد توجه إلى حلب وذلك بعد ضم حماة ، وفشله في ضم حمص ، وهناك بدأ يخطِّط للهجوم على أنطاكية مستغلاًّ حالة الإضطراب العسكري هناك ، خاصةً وهو يعلم أنها الآن تحت الحكم المباشر للأميرة المتهورة أليس ! ولكي يضمن عماد الدين زنكي رحمه الله أن لا تصل نجدة إلى إمارة أنطاكية من إمارة الرها القريبة ، أرسل أمير حلب سوار ليهاجم مدن تلِّ باشر وعَيْنتاب وعَزاز ، وبذلك قطع طرق الإتصال بين الرها وأنطاكية ، وشعل جيوش الرها بنفسها ، فلا تصبح لها فرصة في التوجُّه إلى أنطاكية .

بعد هذا التخطيط بدأ عماد الدين زنكي رحمه الله في مهاجمة الحصون والقلاع الواقعة في أطراف إمارة أنطاكية ، وكذلك المدن الإسلامية المحتلة في هذه المنطقة ، وبعد عدة معارك متتالية إستطاع بطلنا أن يحرر كفرطاب ومعرَّة النعمان وزردنا ، فكانت هذه الإنتصارات بمنزلة البَلْسم على الجروح الإسلاميَّة الكثيرة في هذه الفترة !

أثارت هذه الانتصارات المتكررة إنتباه الجميع ، سواء من الصليبيين أو من المسلمين !
فعلى الصعيد الصليبي ألقت هذه الإنتصارات الرعب في قلب أليس أميرة أنطاكية ، فلجأت إلى رعونة جديدة ! فلقد أرسلت الأميرة أليس إلى إمبراطور الدولة البيزنطية تعرض عليه زواج إبنتها كونستانس من إبن الإمبراطور يوحنا ألكسيوس كومنين ، وبالتالي الإشراف المباشر من الدولة البيزنطية الأرثوذكسية على أنطاكية الكاثوليكية !

وكانت خطوة هزت الصليبيين من الأعماق ، فهم يحاولون دفع الدولة البيزنطية عن أنطاكية منذ ما يقرب من أربعين سنة ، ثم في لحظة واحدة ستُضيِّع هذه الأميرة الطائشة كل جهود الصليبيين ! ثار الصليبيون في أنطاكية بشدة ، وتراسلوا مع الملك فولك الأنجوي الذي لم يجد حلاًّ إلا أن يزوِّج الأميرة الصغيرة كونستانس - التي لم تبلغ العاشرة بعدُ - من شخصية موالية له ، وتصلح أن تقود إمارة أنطاكية ، ووقع إختياره على الأمير ريموند بواتييه ، وهو أحد أبناء الأمير وليم التاسع دوق أكويتانيا ، وكان أميرًا فرنسيًّا يعيش في بلاط هنري الأول ملك إنجلترا في ذلك الوقت ، فإستدعاه على عجل ، وجاء الأمير ريموند بواتييه ، وتزوج من كونستانس ، وصار بذلك أميرًا لأنطاكية ، وكان هذا الأمير من القوة بحيث أعاد من جديد تنظيم الأوضاع داخل أنطاكية ، وبالتالي عُزلت الأميرة المتمردة أليس عن الأحداث ، فآثرت أن تذهب إلى اللاذقية ، حيث ماتت هناك بعد قليل !


كان هذا على الصعيد الصليبي ..

أما على الصعيد الإسلامي فإنَّ إنتصارات عماد الدين زنكي أثارت ردود فعل متباينة في العالم الإسلامي ، فبينما تلقَّت الشعوب الإسلامية ، وكذلك العلماء والفقهاء والصالحون من أبناء الأمة هذه الأخبار بالفرح والسرور ، وإزدياد الأمل في الخروج من الأزمة ، إذا بآخرين يتلقون هذه الأنباء بقلق بالغ وعصبية زائدة !

لقد شعر السلطان مسعود بالقلق الشديد من إانتصارات البطل عماد الدين زنكي ، وتنامى عنده القلق من أكثر من وجه :


أولاً : كان عماد الدين زنكي على علاقة طيبة بالخليفة المسترشد في أيامه الأخيرة ، وقد يثور لحادث قتله ، خاصةً أن عموم الناس يتناقلون أن السلطان مسعود هو الذي دفع الباطنية لقتل الخليفة .

ثانيًا :
هذه الإنتصارات المتتالية رفعت عماد الدين زنكي جدًّا في عيون المسلمين فصار أثقل من كل السلاطين ، ولا يستبعد أبدًا أن يستقل عماد الدين زنكي بكل المناطق التي يحكمها ، وقد إستقل غيره قبل ذلك بمدنهم مع أنهم أضعف منه جدًّا ؛ فهذه دمشق يحكمها أولاد طغتكين ، وهذه حمص يحكمها أولاد خيرخان ، وهذه شيزر يحكمها أولاد منقذ ، وهكذا .

ثالثًا :
المشروع التوحيدي الذي يقوم به عماد الدين زنكي واضح للجميع ، فهو قد نجح في ضم الموصل إلى حلب إلى حماة ، فضلاً عن عدد كبير من مدن الجزيرة ، وأقام علاقات قوية مع الأكراد ، وكذلك مع حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي ، وهو زعيم الأراتقة ، ولا يستبعد أن يستمر عماد الدين زنكي في مشروعه التوحيدي هذا على حساب بقيَّة المدن الإسلامية ، وقد يصل الأمر إلى التوجُّه إلى بغداد ذاتها ، أو إلى أرض فارس حيث معاقل السلاجقة .

رابعًا :
أعداء السلطان مسعود كُثُر ، وعلى رأسهم إبن أخيه داود بن محمود وأخوه سلجوقشاه ، وكذلك عمه السلطان سنجر ، فماذا يحدث لو تحالف أحد هؤلاء مع عماد الدين زنكي ضد السلطان مسعود ؟!

هذه الأسباب مجتمعة جعلت السلطان مسعود يفكر في فعل خبيث غير متوقع من رجل يُوصف بحسن الخُلُق ، وهو أخذ القرار الآثم بقتل عماد الدين زنكي !!!


إنه لن يكتفي بعزله ، حيث سيظل موجودًا على الساحة كأقوى منافس له ، ولكنه سيستريح منه نهائيًّا بقتله ، غير عابئٍ بأحلام المسلمين ، ولا جهاد الصليبيين ، ولا توحيد الأمة الإسلامية !

إنها النظرة الأنانية البحتة التي نرى الكون كله يدور حول مركز السلطان ، وبالتالي فهو يريد تسخير كل الأحداث لخدمته هو شخصيًّا ، مهما كانت النتائج .

ومع هذا التدبير الخبيث إلا أن الله كان رحيمًا بعباده ؛ لقد جعل الله نجاة عماد الدين زنكي في رجل عجيب ما توقَّع أحدٌ أن يأتي خير من ورائه !

إنه دُبَيْس بن صَدَقة !


إنه هذا الزعيم الشيعي الفاسد الذي إستنقذه عماد الدين زنكي قبل ذلك بعدة سنوات من أسر بوري بن طغتكين له ، وعامله بالحسنى ، وقرَّبه وأكرمه ، فحفظ الجميل لعماد الدين زنكي ! لقد كان هذا الرجل في بلاط السلطان مسعود حيث كان منضمًّا إليه في حرب الخليفة ؛ لأننا نعرف مدى الصراع الذي كان بين دبيس والخليفة المسترشد بالله .

ثم إنه إطَّلع على هذه النية الفاسدة من السلطان مسعود ، وعرف أن تدبير جريمة القتل سيكون عن طريق إستدعاء عماد الدين زنكي إلى بلاط السلطان في همذان ، ثم إغتياله على حين غِرَّة ؛ فأسرع بإرسال رسالة عاجلة إلى عماد الدين زنكي يخبره بالمؤامرة ، ويحذِّره من القدوم على بلاط السلطان !

وسبحان الله ! فقد علم السلطان مسعود أن دبيس بن صدقة هو الذي كشف مؤامرته ، وضيَّع فرصة إغتيال عماد الدين زنكي رحمه الله ، فقام بقتل دبيس بن صدقة على الفور ! وهنا قال عماد الدين زنكي كلمته المشهورة : " فديناه بالمال ، ففدانا بالروح!" .

لقد كانت هذه إرادة الله أن يحفظ حياة عماد الدين زنكي عدة سنوات أخرى ؛ لأنه سبحانه كان يدَّخره لأعمال أخرى جليلة .


ومع حدوث مثل هذا الموقف المقزز ، وتعرض عماد الدين زنكي وهو في أوج نشاطه في جهاد الصليبيين لطعنة في ظهره إلا أنه ظل مهتمًّا بمشروعه الجهادي ، ولم يُرِدْ لنفسه أن تغوص قدمه في الصراعات الدنيوية التي يشعلها السلاطين بينهم وبين بعضهم البعض ، ومع ذلك فتعرضه هو شخصيًّا إلى محاولة إغتيال سيدفعه دفعًا على عدم إهمال الأحداث ، وإلى محاولة دفع الضرر دون الإنغماس في مشاكلهم المركَّبة !

إن الوضع في العراق الآن ملتهب جدًّا ؛ لقد بويع للراشد بالله إبن المسترشد بالله شريطة ألاَّ يُجهِّز الجيوش ، وألاَّ يحارب السلطان مسعود ، ولكن كان من الصعب على الخليفة الجديد أن يتجاهل قول الجميع بأن الذي دفع الباطنية لقتل أبيه هو السلطان مسعود ، إضافةً إلى إجتماع كثير من الأمراء الذي خشوا من عنف السلطان مسعود على ترك مسعود والتوجُّه للخليفة الراشد بالله ، وكذلك فعل الملوك داود بن محمود الذي يبحث عن سلطنته الضائعة !! لقد قرر هؤلاء جميعًا أن يقاتلوا السلطان مسعود من جديد ، وعليه فقد تجمعت قوتهم في بغداد بينما كان السلطان مسعود في همذان !

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 04-03-14, 04:59 AM

  رقم المشاركة : 21
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

قرأ عماد الدين زنكي هذه الأحداث ، فقرر أن يكون قريبًا دون أن يغرق في مستنقع الصراع ، وعليه فقد إقترب إلى الموصل ليكون على أهبة الاستعداد إذا جدَّ جديد ، بينما أعلن بوضوح أنه في صفِّ الراشد بالله ، ولم يكن يستطيع أحد أن ينكر هذا الولاء الجديد للخليفة بعد معرفة مؤامرة السلطان مسعود لقتل البطل عماد الدين زنكي .

دارت المعارك في بغداد بين جيش الخليفة الراشد بالله وأعوانه من الأمراء وكذلك داود بن محمود ، وبين السلطان مسعود ، وكانت الغلبة في هذه المعارك للسلطان مسعود الذي دخل بغداد عنوة ، وإضطر الخليفة الراشد بالله أن يهرب في إتجاه الشمال حيث إستقبله عماد الدين زنكي في الموصل ترقبًا لما يحدث في بغداد .

إجتمع السلطان مسعود مع أعيان العباسيين في بغداد ، وكان يريد أن يخلع الخليفة الراشد بالله ؛ لأنه خالف الاتفاق المعقود بينهما على عدم قتال السلطان ، وأن يضع خليفة غيره يجتمع عليه الناس ، وفي ذات الوقت يطيع السلطان مسعود ، ومن ثَمَّ لا يتجدد الصراع ..

وقد وقع إختيار العباسيين - وأقرهم السلطان مسعود - على رجل فاضل محبوب له سيرة حسنة ، ويحب العدل ، ومن ثَمَّ تهدأ الأمور في البلاد ، وكان هذا الرجل هو أبو عبد الله محمد بن المستظهر بالله ، وهو أخو الخليفة المقتول المسترشد بالله ، وعمّ الخليفة المخلوع الراشد بالله ، وقد لُقِّب بعد خلافته بلقب "المقتفي لأمر الله" ، وإستقر له الأمر بعد ذلك أكثر من أربعٍ وعشرين سنة ، ومن ثَمَّ هدأت أمور بغداد كثيرًا ، وكان هذا الأمر في أواخر سنة 530هـ (ذي الحجة 530هـ\ سبتمبر 1136م) .

أما البطل عماد الدين زنكي ، فإنه لم يجعل هذه الأحداث الساخنة تلهيه عن أهدافه الكبرى ؛ ولذلك فعلى الرغم من إنتصار مسعود وتمكُّنه من السلطنة إلا أن عماد الدين زنكي لم يُشغِل نفسه لا كثيرًا ولا قليلاً بالإنتقام لنفسه من مسعود الذي كان يدبر قتله ، مع أن قوته العسكرية ومكانته في قلوب الناس كانت تمكنه من الإنتقام من السلطان مسعود ، إلا أنه لم يكن يريد أن يتشتت في معارك جانبية ، وكان يريد ألا ينسى دومًا القضيتين العظيمتين في حياته ، وهما : وحدة المسلمين ، وجهاد الصليبيين
.

وعلى هذا فقد عمل عماد الدين زنكي في هذه الفترة ، في أواخر 530هـ وأوائل 531هـ في أربعة محاور رئيسية وهي :


المحور الأول : إقامة علاقات طيبة مع الخليفة المقتفي بالله ؛ لضمان عدم حدوث قلاقل مع الكيان العباسي ، وإن لم يكن بالقوة المخوِّفة ، لكن كان من الواضح من سير الأحداث أن المسلمين ما زالوا يهتمون برأي الخليفة وتزكيته حتى مع ضعفه ، إضافةً إلى ما إشتهر به الخليفة الجديد من حُسْن السيرة والعدل وحبِّ الناس له .

المحور الثاني :
توسيع الإمارة الزنكية في إتجاه الجزيرة بالتعاون مع حسام الدين تمرتاش ، وقد قام الحليفان عماد الدين زنكي وحسام الدين تمرتاش بالهجوم المشترك على جبل جور ومنطقة السيوان ، وهذه مناطق تقع في شمال ديار بكر ، مما يعني التوسع الكبير في أراضي الجزيرة ، وهذا دفع المقاومين لهذا المشروع التوحيدي أن يهدءوا كثيرًا ، ومن ثَمَّ إستقرت الأوضاع جدًّا في مناطق الجزيرة ، وهذا أعطى فرصة لعماد الدين زنكي للتفرغ للصليبيين .

المحور الثالث :
هو مدينة حمص ، التي تمثِّل عقبة في طريق دمشق ، وكذلك تمثل نقطة ضعف في ظهر عماد الدين زنكي إذا أراد الهجوم على أنطاكية أو طرابلس ، ومن ثَمَّ كرر عماد الدين زنكي محاولاته في حصار المدينة ، ولكنه لم ينجح في فتحها ، إلا أن هذه المحاولات هزَّت صاحبها قريش بن خيرخان فإضطر إلى تسليم المدينة لشهاب الدين محمود صاحب دمشق ؛ ليساعده في الدفاع عنها ضد عماد الدين زنكي ، وعندها وضع شهاب الدين عليها أقوى أمرائه وأصلبهم معين الدين أَنُر .

المحور الرابع :
وهو أهم المحاور ، وهو محور الصليبيين ، وقد حرص عماد الدين زنكي على ألا يتركهم يأخذون فرصة لإعادة تنظيم صفوفهم ، فكان دائم المباغتة لهم ، ومن ذلك ما فعلوه في منطقة اللاذقية من نصر عظيم على القوات الصليبية وتدمير كبير لحصونهم هناك ، وقتل عدد كبير من جنودهم ، وكذلك أسر أكثر من سبعة آلاف صليبي دفعة واحدة ، مع أخذ ما لا يقدر من الغنائم ، ويكفي أن الدواب المغنومة كانت أكثر من مائة ألف رأس من الخيول والبغال والحمير والبقر والغنم ! هذا سوى الأقمشة والحليِّ والبضائع مما يخرج - كما يقول إبن الأثير - عن الحد !

لقد كان نصرًا عظيمًا حقًّا أعاد للمسلمين الكثير من الثقة ، وكان ذلك في شهر شعبان سنة 530هـ .


ومع كون عماد الدين زنكي مشغولاً في هذه المحاور مجتمعة إلا أنه حرص على تأمين ظهره تحسُّبًا من أي غدر من ناحية السلطان مسعود ، وهذا دفعه إلى ضم مدينة دقوقا ، وهي مدينة تقع بين مدينتي إربل وبغداد ، أي أنها تقع في جنوب شرق الموصل ، وبذلك تصبح مدينة تفصل بينه وبين أملاك السلطان مسعود ، ليكتشف تحركاته قبل أن يباغت في الموصل ، وكان ضم هذه المدينة في أوائل سنة 531هـ .

ثم إن الله مهَّد لعماد الدين زنكي بإضعاف قوة الصليبيين عن طريق حملة قام بها أحد زعماء جيش دمشق وإسمه بزواش ، حيث أراد أن يقوم بشيء مثل الذي يقوم به عماد الدين زنكي ، مع أن الدمشقيين كانوا لا يمانعون إذا إقتضت الحاجة أن يتعاونوا مع الصليبيين ! وسنرى قريبًا مثالاً لهذا التعاون ، لكن الذي حدث أن هذا القائد أخذ فرقة من جيشه ، وساعده كثيرٌ من التركمان من المنطقة ومن ديار بكر ، وقاوموا بإغارة سريعة على إمارة طرابلس ، فخرج لهم بونز بن برترام أمير طرابلس ، ودار قتال كبير حقق فيه المسلمون نصرًا كبيرًا بجوار قلعة الصنجيل التي أسَّسها ريمون الرابع جَدُّ بونز ، وحدثت مفاجأة في هذا القتال إذ قُتِل بونز بن برترام أمير طرابلس ! كما أسر عدد كبير من جنوده ، هذا فضلاً عن الغنائم الوفيرة .

لقد سرت روح الجهاد التي نفثها عماد الدين زنكي في الأمة حتى تحرك جيش لم يعقد أبدًا على الجهاد في هذه الفترة ليحقق هذا الإنجاز الكبير ، ويُضعِف بذلك من قوة إمارة طرابلس جدًّا ، بل ومن قوة الصليبيين جميعًا .

وقد تولى حكم إمارة طرابلس بعد قتل أميرها إبنه ريمون الثاني ، ليبدأ حكمه بأزمة عسكرية وسياسية كبيرة .. وقد تمت هذه المعركة في رجب من سنة 531هـ\ مارس 1137م .

ولقد كانت هذه المعركة السابقة عجيبة في تاريخ الصراع الإسلامي- الصليبي ؛ وذلك لأن قواد دمشق في ذلك الوقت يقتربون من الصليبيين ، بل ويتراسلون معهم للدفاع المشترك ضد عماد الدين زنكي ! مما يوحي أن هذه المعركة كانت محاولة فردية من أحد الفرق العسكرية الدمشقية قوَّاها وجود عدد كبير من المتطوعين التركمان مما أحدث هذا الأثر الكبير .. لكن للأسف مع حدوث هذا النصر الكبير ، وهذه النتائج المؤثرة إلا أن علاقة التعاون بين دمشق والصليبيين لم تنقطع حتى بعد هذه المعركة ! مما يؤكد على أن هذا الصدام لم يكن يمثِّل توجهًا عسكريًّا للحكومة الدمشقية في هذا الوقت .

ويؤكد على ذلك ما حدث في الشهر التالي مباشرة ، أي في شهر شعبان سنة 531هـ عندما حَصَر عماد الدين زنكي مدينة حمص ، فقاومه بشدة أميرها معين الدين أَنُر ، ولما شعر بأن مقاومته قد تنهار أسرع بالإستنجاد بأمراء الصليبيين ، فجاءت نجدة صليبية على رأسها ملك بيت المقدس نفسه فولك الأنجوي ، بل وكان فيها أيضًا ريمون الثاني الذي قُتل أبوه منذ أيام على أيدي الدمشقيين ! وهكذا واجهت القوات الحمصية الدمشقية الصليبية المشتركة جيوش عماد الدين زنكي مما أجبره على رفع الحصار عن حمص ، لكنَّ هذا الموقف أعطاه - وأعطى المسلمين جميعًا - رؤية واضحة عن طبيعة معين الدين أنر وشهاب الدين محمود .. وهذه المواقف - على بشاعتها - تكشف الأوراق ، وتوضِّح الخبايا وليس من شكٍّ أن الزعيم المسلم الذي تؤيده قوى الاحتلال هو زعيم عميل لا إخلاص عنده للقضية ، ولا يعمل إلا لنفسه ، وليس من أمل فيه لنصر المسلمين .

غير أن عماد الدين زنكي وجد قدوم الصليبيين إلى هذه المنطقة المتقدمة في الشام فرصة لقتالهم ، خاصةً أن جيش طرابلس القريب قد تعرض لهزيمة قريبة ، وقتل زعيمه الخبير بونز بن برترام ، كما أن فولك يأتي من أماكن بعيدة ، وقد يكون من الصعب عليه أن ينسحب إلى مكان آمن ؛ ولهذا قرر عماد الدين زنكي أن يستدرج الجيوش الصليبية للحرب بعيدًا عن أسوار حمص ، وفي نفس الوقت فإنه كان يريد أن يضغط على الصليبيين ليختاروا طريق الحرب معه ، ولا يفكروا بتجنُّب القتال والعودة لإماراتهم ، فماذا يفعل ؟!

لقد قرر عماد الدين زنكي أن يهاجم مَعْلمًا مهمًّا من معالم الصليبيين المهمة ، والذي سيضطرون إضطرارًا إلى الدفاع عنه ، ومن ثَمَّ قتال عماد الدين زنكي .. وكان هذا المَعْلم هو حصن بعرين (بارين) الضخم على المنحدرات الشرقية لتلال النصيرية ، والذي يحرس المنفذ المؤدِّي إلى منطقة البقيعة .

إن هذا الحصن له أهمية بالغة حيث إن الذي سيسيطر عليه سيشرف تمامًا على حوض نهر العاصي ، وبذلك سيمنع الإتصالات بين إمارة أنطاكية في الشمال ، وإمارة طرابلس ومملكة بيت المقدس في الجنوب ، كما أنه يشرف إشرافًا مباشرًا على حمص وحماة .

وهكذا إقتربت فعلاً الجيوش الصليبية لحماية حصن بارين المهم ، الذي كان مملوكًا في هذا الوقت للصليبيين ، وبه عدد كبير من الجنود الصليبيين .

وفي الساحات المجاورة لهذا الحصن ، وفي شهر شوال سنة 531هـ\ يونيو سنة 1137م ، دارت موقعة شهيرة من مواقع الإسلام ..
إنها موقعة حصن بارين !!

إنها موقعة يشترك فيها رأسان مهمان من رءوس الصليبيين : الملك فولك الأنجوي ملك بيت المقدس ، والأمير ريمون الثاني أمير طرابلس .. ودار القتال شديدًا عنيفًا ، وتساقط القتلى هنا وهناك ، وإرتفعت سحب الغبار تغطِّي كل شيء ، ثم ما لبث الغبار أن إنقشع ليُسفِر عن النتيجة الحاسمة ! , لقد إنتصر المسلمون نصرًا مبينًا !

لقد قُتل معظم الجيش الصليبي ، وأُسر معظم الذي بقي على قيد الحياة ، وكان الأمير ريمون الثاني من أولئك الذين أسروا ، أما الملك فولك الأنجوي فقد فرَّ هاربًا في فرقة من جيش إلى حصن بعرين المجاور ، ثم أسرع الملك فولك الأنجوي بإرسال رسالة إستغاثة عاجلة يطلب فيها من الأمير ريموند بواتييه أمير أنطاكية ، ومن الأمير جوسلين الثاني أمير الرها أن يأتيا بسرعة على رأس جيوشهما لنجدة الجنود المحاصَرين في قلعة بارين الحصينة .

وأسرع عماد الدين زنكي رحمه الله ، وحاصر الحصن حصارًا محكمًا ، فمنع عنه كل شيء ، وضبط الطرق المؤدية إليه تمام الضبط ، حتى إنقطع الملك فولك تمامًا عن العالم الخارجي ، وما عاد مدركًا لما يحدث في الخارج .

أخذت المجانيق الإسلامية تقصف الحصن الضخم لَيْلَ نهار ، وقد بدا واضحًا أن المسألة مسألة وقت ، وأن الجيوش الصليبية المحصورة ليست عندها النية أن تخرج لحرب المسلمين إلا إذا جاءت لها نجدة كبيرة .

وبينما عماد الدين زنكي رحمه الله يحاصر الحصن العملاق وصلت الأخبار بتحرك جيش الرها وأنطاكية في إتجاه حصن بارين ، بل ظهرت بوادر مفاجئة بتحرك جيوش الدولة البيزنطية صوب المنطقة ، وهذا للمرة الأولى منذ بداية الحروب الصليبية !

لقد كان الموقف صعبًا حقيقةً ؛ لأن جيوش الدولة البيزنطية كبيرة ، وإذا إشتركت مع الجيوش الصليبية فقد يُحصر عماد الدين زنكي بينهم وبين الصليبيين الموجودين في حصن بارين ، وهذا قد يُضيِّع مكاسب الإنتصار السابق .

أما لماذا تدخلت الدولة البيزنطية فذلك لسببين :

أما السبب الأول فهو تحرك القساوسة والرهبان فورًا بعد حصر الملك فولك في حصن بارين ، وذلك من إمارتي الرها وأنطاكية إلى البلاط البيزنطي ، وناشدوا الإمبراطور البيزنطي التدخل لنجدة الجيش الصليبي المحصور في حصن بارين ، ذاكرين له أنه إذا قتل الملك فولك فالطريق إلى بيت المقدس سيكون مفتوحًا للمسلمين .

وأما السبب الثاني
فهو غضب الإمبراطور البيزنطي من زواج الأميرة كونستانس إبنة الأميرة أليس من ريموند بواتييه ، وذلك بعد أن عرضت الأميرة أليس زواج إبنتها على إبن الإمبراطور البيزنطي يوحنا كومنين ، إذ كيف يُعرض الزواج على إبن الإمبراطور ثم يُرغب في غيره ، مع الأخذ في الإعتبار طبعًا أن هذا الزواج كان سيضع أنطاكية تحت الإشراف البيزنطي المباشر .

وهكذا تطورت الأحداث لتنذر بمشكلة قد يقع فيها عماد الدين زنكي والمسلمون !

ماذا يفعل عماد الدين زنكي ؟!

لقد إستغل عماد الدين زنكي رحمه الله فرصة إنقطاع الأخبار عن الملك فولك الأنجوي ، وشدد جدًّا من قصف الحصن ، على أمل أن يطلب الملك فولك التسليم بأيِّ شروط ، فتنتهي مشكلة حصن بارين قبل قدوم القوات النصرانية المشتركة .. وقد حدث فعلاً ما توقع البطل عماد الدين زنكي ، وأرسل الملك فولك يطلب التفاوض من أجل فك الحصار !
لقد كان الله مع الجيش المسلم .

وليس الذي حدث هذا أمرًا غريبًا ؛ فالله دومًا ينصر من نصره ، يقول تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ
) .

ووافق عماد الدين زنكي على التفاوض السريع ، وهو يمنع في كل ذلك أي أخبار من الوصول إلى الملك فولك ، ليتم الأمر على ما يريد عماد الدين زنكي .. ووصل الطرفان فعلاً إلى إتفاق ، حيث سيخرج الصليبيون من داخل الحصن آمنين ، ويطلق سراح الأمير ريمون الثاني ، وذلك في نظير أن يسلَّم حصن بارين الخطير للمسلمين ، ويدفع الملك فولك مبلغ خمسين ألف دينار ذهبية .

وتم فعلاً تنفيذ الإتفاق، وتسلم المسلمون الحصن المهم ، وإحتفظوا بعدد كبير من الأسرى ، وأطلق سراح الملك فولك ومن معه من جنود في داخل الحصن ، وكذلك الأمير ريمون الثاني .

لقد أفلحت خطة عماد الدين زنكي ، وندم الملك فولك ندمًا شديدًا بعد أن علم بتجمُّع الجيوش النصرانية ، لكن لم يكن هناك حلٌ آخر أمامه .

وقبل أن نذكر ما فعلته الجيوش البيزنطية والصليبية نعلِّق على ما فعله عماد الدين زنكي رحمه الله مع المسلمين بعد تحرير بعض المناطق المجاورة للحصن ، فلقد جاء المسلمون الذين حُرِّرت أراضيهم يطلبونها ، وذكرنا قبل ذلك في موضع آخر من الكتاب أنه وزَّع الأراضي على كل من كان معه إثبات بملكية الأرض ، وذلك خلافًا للمذهب الحنفي الذي يتبعه ؛ لأنه رأى أن ملاك الأراضي سيضيع حقهم دون ذنب منهم ، غير أنه بقيت مجموعة من الملاك تطلب أرضها ، لكنها - للأسف - فقدت أوراق ملكية هذه الأرض في أثناء الهروب من البلاد عند إحتلالها ، فلم تدرِ ماذا تفعل حيث ستضيع عليها الأراضي ، وفي نفس الوقت فعماد الدين زنكي لا يستطيع تسليم أرض إلى إنسان دون دليل ؛ خشية أن يكون مدعيًا ، ثم يظهر بعد ذلك المالك الحقيقي للأرض ، مع ملاحظة أن هذه الأراضي إحتلت منذ حوالي أربعين سنة !

وإنهمك بطلنا في المشكلة مع كثرة الهموم التي عليه ، إلا أنه كان حزينًا لحيرة الناس ، وللأزمة التي وقعوا فيها .. ثم إنه فجأة وجد حلاًّ للموقف ، إذ سرعان ما إنتفض قائلاً : " إطلبوا دفاتر حلب ، وكل من عليه خراج على مِلْكٍ يسلم إليه
!" .

لقد أمر عماد الدين زنكي بفتح دفاتر تحصيل الخراج على هذه الأراضي ، وهذه الأراضي كانت تابعة لمملكة حلب ، فكان أصحابها إذا سددوا الخراج عنها إلى ملك حلب دُوِّن ذلك في الدفاتر ، فإذا كان إسمه مدونًا عن أرض معينة فلا شك أنه كان يملكها !

ونجحت الفكرة ، وتسلم الجميع أراضيه ، ويعلِّق إبن الأثير على هذا العمل فيقول : "وهذا من أحسن الأفعال وأعدلها !
" .

إنه لشيء عظيم حقًّا أن يسعى الحاكم إلى إيصال كل حق إلى مستحقيه ، حتى لو كلفه هذا جهدًا ووقتًا ، وحتى لو كان هذا سيأتي على حساب الدولة ؛ إذ إن الأراضي المجهولة كانت ستضم إلى بيت مال المسلمين ، وإنه لشيء عظيم حقًّا أن يشغل عماد الدين زنكي نفسه بهذه القضايا ، مع أن الجيوش الصليبية والبيزنطية على الأبواب ، لكنه كان على يقين أن الله ينصره لهذا العدل الذي يسعى إلى تطبيقه ، فرحمه الله رحمه واسعة !

ماذا فعل الجيش البيزنطي ؟!


لقد كان هدف الجيش البيزنطي الرئيسي هو البحث عن مصالحه ! ولم تكن عنده الدوافع أبدًا لإنقاذ الملك فولك ، أو الإهتمام بأمره ، فالصراع بين البيزنطيين والصليبيين محتدم من أول أيام الحملة الصليبية ؛ ولذلك فعين الإمبراطور يوحنا كومنين كانت في المقام الأول على أنطاكية وما حولها من أملاك بيزنطية قديمة ، وأهمها إقليم قليقية وما فيه من مدن عريقة كالمصيصة وأذنة وطرسوس ، والتي كانت في هذا التوقيت تحت سيطرة الأمير الأرمني ليون .

ومن هنا فإن الإمبراطور البيزنطي يوحنا كومنين لم يكن من همِّه الإسراع إلى منطقة حصن بارين لإستعادة الحصن من المسلمين ، ولكنه توجه بجيش كثيف إلى إقليم قليقية أولاً ، ودُهِش الأرمن من القوات البيزنطية التي لم تظهر في هذه المناطق منذ عشرات السنين ، وكان الذي دفع الإمبراطور البيزنطي إلى هذه الجرأة إحساسه أن الجيوش الصليبية تمر بأزمة كبيرة نتيجة إضطرابات الحكم المتكررة في أنطاكية ، ونتيجة ضربات عماد الدين زنكي الموجعة ؛ ولهذا أراد أن ينتهز الفرصة التي قد لا تتكرر بسهولة .

إستطاع الإمبراطور البيزنطي بسهولة أن يحتل المدن الكبيرة في إقليم قليقية ، وهرب الأمير الأرمني ليون إلى جبال طوروس ، ولم تكن هناك مقاومة تُذكر ، وهذا شجَّع الإمبراطور يوحنا كومنين أن يتوجه بجيوشه إلى أنطاكية ذاتها ، ثم ضرب حولها الحصار المحكم ؛ مما أرعب أميرها الجديد ريموند بواتييه !

وجد الأمير بواتييه أن القوات الصليبية الآن ممزقة بعد إنتصارات عماد الدين زنكي ، وكلا القائدين الملك فولك والأمير ريمون الثاني مشغول بهمومه ، كما أن الأمير جوسلين الثاني يتلقَّى ضربات أمير حلب سوار ، وهكذا لن يكون أمامه إلا أحد حلَّيْنِ : إما أن يقاوم الإمبراطور البيزنطي عسكريًّا ، وإما أن يتفاوض معه ويحصل منه على أي شيء .

وجد الأمير ريموند بواتييه أن قوته ضعيفة جدًّا بالقياس إلى قوة الإمبراطور البيزنطي ، ورأى أنه لو قاوم عسكريًّا ثم سقطت المدينة فإنه سيفقد كل شيء ، وقد يفقد حياته في الصراع ؛ فآثر لذلك أن يتفاوض مع الإمبراطور الكبير .

وتمت المفاوضات بين الطرفين ، ووصلوا إلى خطة واسعة شاملة فيها خطورة كبيرة على المسلمين ..
وكانت بنود الاتفاقية تشمل الآتي :

أولاً : تسليم أنطاكية إلى الإمبراطور البيزنطي .

ثانيًا :
تتحد القوتان الصليبية والبيزنطية لضرب عماد الدين زنكي .

ثالثًا :
يتم تكوين إمارة بديلة للأمير ريموند بواتييه، وتكون هذه الإمارة في شرق أنطاكية، وتكون قاعدتها مدينة حلب ، وتضم عدة مدن أخرى مهمة في المنطقة مثل حماة التابعة لعماد الدين زنكي الآن ، كما تنتزع شيزر من بني منقذ وتضم إلى نفس الإمارة ، كذلك تنزع حمص من إمارة دمشق حيث ستمثِّل الحدود الجنوبية لهذه الإمارة الجديدة .

رابعًا :
يبقى الأمير ريموند بواتييه على إمارة أنطاكية مؤقتًا حتى صيف العام القادم (أي صيف 1138م) عندما يبدأ الطرفان في تنفيذ الاتفاق بالتعاون العسكري ، على أن تُرفع أعلام الدولة البيزنطية فوق أنطاكية من الآن دلالةً على التبعية .

كانت هذه هي بنود الاتفاقية الخطيرة التي وافق عليها الطرفان ، إضافةً إلى أنهم حصلوا كذلك على موافقة الملك فولك الأنجوي على هذا المشروع .

كان هذا المشروع يحقِّق - إذا تم بحذافيره - أطماع كل فريق ؛ فالإمبراطور البيزنطي سيسترد أنطاكية حُلم البيزنطيين ، وسيضرب القوة الإسلامية في أعماقها ، وليس هذا فقط ، فالإمارة الجديدة المزمع قيامها ستكون فاصلاً بين أنطاكية وبين المسلمين ، وهكذا سيتكفل الصليبيون بالدفاع عن إمارة أنطاكية .

أما ريموند بواتييه فكل ما يهمه هو أن يكون أميرًا ، فهو أصلاً لم يتعب مطلقًا في إنشاء هذه الإمارة ، بل جاء إليها من أوربا منذ سنتين فقط ، ثم إن البديل الذي يطرحه الإمبراطور البيزنطي أفضل كثيرًا ، فلا شك أن إمارة تضم مدنًا كحلب وحمص وشيزر وحماة ستكون إمارة قوية وعظيمة .

وهكذا وافق الطرفان راضين على هذه النتيجة ، وكذلك أقرها فولك الأنجوي ، ولا يخفى علينا أن هذا كان على غير رغبة النورمانيين الذين أنشئوا الإمارة الصليبية ، خاصةً أن الذين أخذوا القرار سواء ريموند بواتييه أو فولك الأنجوي من الفرنسيين وليسوا من الإيطاليين .

ولقد حاول الإمبراطور البيزنطي أن يخادع عماد الدين زنكي رحمه الله ، فأرسل له رسالة يبرر فيها دخوله للأراضي المجاورة لأنطاكية ، بأنه ما دخل إلى بلاد المسلمين إلا لحرب الأرمن ، وأنه لا ينوي بذلك قتاله ، لكنَّ هذا الرد لم يكن مقنعًا لعماد الدين زنكي ، ورأى أن عزة دولته تقتضي أن يأخذ ردَّ فعل مناسب ، ولم يجد القائد العزيز عماد الدين زنكي ردًّا يناسب التعدي على حدود الدولة الإسلامية إلا الحل العسكري ، وعليه فقد أرسل سرية من جيشه بقيادة أمير حلب سوار لمهاجمة الجيش البيزنطي ..

وبالفعل إستطاع سوار أن يقتل عددًا كبيرًا من الجنود البيزنطيين ، وأن يأسر مجموعة أخرى ، مع أنه قوته كانت أصغر بكثير من قوة الجيش البيزنطي , ومع هذه الإهانة المباشرة للقوات البيزنطية إلا أن الإمبراطور لم يُرِدْ أن يدخل في مستنقع الحرب مع المسلمين ، خاصةً وقد سمع الكثير عن بطلنا عماد الدين زنكي ! ولهذا غضَّ الإمبراطور البيزنطي الطرف عن هذه الخسائر ، وإنطلق عائدًا إلى بلاده ليجهِّز عدَّة أكبر إستعدادًا لحرب كبيرة في العام القادم !

ومن الجدير بالذكر أن نشير إلى أن هذه الإتفاقيات الصليبية البيزنطية لم تعلن في ذلك الوقت ، ولم يعلم بها عماد الدين زنكي في حينها ، ولكنه أدرك أن تعاونًا ما سيكون بين الدولة البيزنطية والصليبيين ، وذلك بعد رؤية الأعلام البيزنطية فوق أسوار إمارة أنطاكية دون إعتراض يذكر من الصليبيين ؛ ولهذا أمر عماد الدين زنكي بزيادة الإحتراز لتأمين الحدود الشمالية لإمارته والملاصقة لآسيا الصغرى ، حيث يسيطر البيزنطيون الآن على إقليم قليقية ، ويحتفظون هناك بحامية بيزنطية قوية .

ولا يخفى علينا أن هذه الإنتصارات التي حققها عماد الدين زنكي ، وهذا التفاعل القوي مع التعديات الصليبية والبيزنطية ، وضعت بطلنا في الصدارة المطلقة لقوَّاد المسلمين في هذا العصر ، خاصةً أن هذا المجد الكبير ، وهذه العزة الواضحة تأتي في وقت ظهرت فيه أطماع السلاطين والأمراء والزعماء الآخرين بشكل واضح ، وليس أدل على ضعف هؤلاء الزعماء من هذه الأحداث الدامية التي شهدتها أرض العراق وفارس في نفس الوقت الذي كان بطلنا عماد الدين زنكي يسعى لتوحيد المسلمين لجهاد الصليبيين والبيزنطيين .. وكانت الإشتباكات ما زالت دائرة في فارس والعراق بين السلطان مسعود وإبن أخيه الملك داود بن محمود ، على الرغم من كل الأحداث الكبرى التي رأيناها في أرض الشام !

أما بالنسبة لعماد الدين زنكي فهو كان يشعر أن الصليبيين بالإشتراك مع البيزنطيين يدبِّرون لشيء كبير في أرض الشام ؛ لذلك حاول البطل عماد الدين زنكي أن يسيطر على عدة حصون ومدن أخرى في منطقة الشام تسهِّل له قتال الأعداد عند إجتماعهم ..

توجه عماد الدين زنكي إلى مدينة بعلبك اللبنانية ليحاول فتحها إلا أنها إستعصت عليه لحصانتها ، وكانت بعلبك تابعة لإمارة دمشق ، فعرض صاحبها أن يهادنه في مقابل مبلغ من المال يدفعه لعماد الدين زنكي ، فقَبِل عماد الدين زنكي ذلك ليحيِّد صفها ، وينطلق إلى غيرها .. وكان رحمه الله حاسمًا في قراراته وأفعاله ، لا يعاند في البقاء محاصِرًا لمكان يقرب إلى تقديره أنه لا يُفتح .

إنتقل عماد الدين زنكي رحمه الله من بعلبك إلى حصن المجدل ، فإستطاع بعد جهد أن يفتحه وأن يضمه إلى إمارته ، وكان تابعًا كذلك لإمارة دمشق ، ثم إنتقل منه إلى إحدى الأملاك الأخرى لنفس الإمارة وهي مدينة بانياس ، فدخلت بسهولة في طاعته ، وكانت هذه الأحداث في أوائل سنة (532هـ) أواخر 1137م .

بعد هذه السيطرة الميدانية على معظم المناطق التابعة لإمارة دمشق لم يعُدْ أمام عماد الدين زنكي ليضم دمشق إلا أن يسيطر على حمص لأنها في الطريق بين حماة ودمشق ؛ ولذلك فقد توجه عماد الدين زنكي مباشرة إلى حصار حمص ، ولكن حمص أصرت على المقاومة وطال الحصار حتى كاد أهل حمص يفتحون الأبواب ، لولا ورود الأخبار بأمر خطير دَهِم المسلمين في هذا التوقيت !

لقد وصلت إلى أرض الشام جيوش الإمبراطورية البيزنطية الهائلة ، وعلى رأسها الإمبراطور البيزنطي يوحنا كومنين ، وقد جاءت تقصد مدينة حلب ذاتها وذلك لتنفيذ الإتفاق الذي عُقِد في السنة الماضية بينهم وبين الأمير ريموند بوتييه أمير أنطاكية .

كانت الأخبار مفزعة ؛ لأن سقوط حلب يهدم المشروع التوحيدي للأمة من أساسه ، ويعيدنا من جديد لنقطة الصفر .. وعلى ذلك فقد أمر عماد الدين زنكي أمير حلب سوار - وكان معه في حصار حمص - أن يترك الحصار ، وأن يتوجه من فوره إلى مدينة حلب ليرفع من درجة إستعدادها ، وليقوِّي تحصيناتها ، ويعمِّق خنادقها ، ويطمئن أهلها أن المسلمين قادمون .. وكانت هذه الأحداث في شهر رجب (532هـ) إبريل 1138م .

وبمجرد نزول الجيش البيزنطي إلى أرض المسلمين إنضمَّ له أمير أنطاكية ريموند بواتييه ، وكذلك أمير الرها جوسلين الثاني ، إضافةً إلى كتيبة من الداوية ، وإتجهت هذه الجيوش المجتمعة إلى مدينة البلاط ، وإحتلتها عنوة ، ثم توجهت إلى مدينة بزاغة (وهي مدينة إسلامية حصينة تابعة لإمارة حلب) ، وقد أصرَّ الإمبراطور البيزنطي على إسقاطها لوجودها على الطريق الواصل بين حلب وآسيا الصغرى ، وظل الحصار مدة سبعة أيام ثم تواصلت الرسل بين الطرفين ، وإتفقوا على أن تفتح المدينة أبوابها في نظير إعطاء الأمان لكل أهلها، وفتحت المدينة بالفعل أبوابها ، ولكن الإمبراطور البيزنطي يوحنا كومنين غدر بالمسلمين ، وأمر بمذبحة رهيبة في المدنيين من أهل بزاعة ، وقتل منهم خمسة آلاف وثمانمائة مسلم ومسلمة ، وأخذ الباقين كأسرى وسبايا ، وفرَّ بعض السكان إلى المغارات في الجبال ، فأشعل الإمبراطور البيزنطي النيران في مداخل المغارات ليموت المسلمون في داخلها مختنقين ! وكان سقوط بزاغة في 25 من رجب 532هـ .

لقد كان غدرًا مشينًا من الإمبراطور الكبير !!


ومع ذلك فإن هذا الحصار لمدينة بزاغة ، وهذا الوقت الذي أُنفق في قتل المسلمين وأسرهم ، أعطى الفرصة الكافية لمدينة حلب أن ترفع من درجة إستعدادها إلى الدرجة القصوى ، وأن تتهيأ للجيوش القادمة تمام التهيُّؤ ، وبذلك ضاع عنصر المفاجأة من الإمبراطور البيزنطي ، الذي توجه بعد سقوط بُزَاعة إلى مدينة حلب .

ماذا يفعل عماد الدين زنكي رحمه الله إزاء هذا الموقف العصيب ؟!

تعالَوْا نستمتع بالأداء الراقي لعماد الدين زنكي في هذه المشكلة المعقَّدة ، وندرس معًا منهجه في مواجهة هذه الأزمة الطارئة ، وكيف كانت نظرته شمولية للأحداث ، وكيف كانت رؤيته لمسرح العمليات رؤية عبقرية موفَّقة !

أولاً : تقوية تحصينات حلب إلى أقصى درجة ، وإعادة أميرها الشجاع سوار إليها لتَقْوَى نفوس أهلها به .

ثانيًا :
ترك حامية صغيرة من جيشه حول حمص تناوش حاميتها ؛ لكي لا تخرج هذه الحامية فتضرب عماد الدين زنكي في ظهره .

ثالثًا :
تقدم عماد الدين زنكي بجيشه الرئيسي ، ليقف به في موقف متوسط في الشام ، في منطقة سَلَمْيَة إلى الشمال الشرقي من حمص ، وذلك حتى تكون حركة سريعة إلى أيِّ نقطة في شمال الشام حسب تحركات الجيش البيزنطي .

رابعًا :
أرسل عماد الدين زنكي رسالة عجيبة نادرة من نوعها ، تدل في مضمونها على التجرُّد الشديد لله ، وعلى الفقه الواسع لهموم الأمة الإسلامية .

لقد أرسل بطلنا رسالة إلى السلطان مسعود - وكان في بغداد آنذاك - يستحثه على إرسال جيش كبير لنجدة المسلمين في حلب والشام .. وهذا يحمل دلالات كبيرة مهمة ، فالبطل عماد الدين زنكي يتناسى في لحظة خلافاته مع السلطان مسعود من أجل مصلحة المسلمين ، ويتناسى أن السلطان مسعودًا كان يدبِّر منذ سنتين مؤامرة لإغتياله ، ويتناسى أن السلطان مسعودًا مشغولٌ منذ سبع سنوات - أي منذ وفاة السلطان محمود سنة 525هـ - في صراعات دنيوية لا وزن لها .. إنه يتناسى كل هذه الأمور ليضم قوته إلى قوة السلطان مسعود لدفع الخطر عن المسلمين .

وليس هذا فقط ! بل إن القاضي كمال الدين الشهرزوري ذكر في منتهى الصراحة لعماد الدين زنكي أن السلطان مسعودًا إذا جاء بجيشه إلى الشام فإنه سيضمها إلى أملاكه هو ، وستضيع زعامة عماد الدين زنكي ، فردَّ عماد الدين زنكي ردًّا عجيبًا إذ قال : "إن هذا العدو قد طمع في البلاد ، وإن أخذ حلب لم يبق في الشام إسلام ، وعلى كل حال فالمسلمون أولى بها من الكفار
!" .

إن هذه الروح العجيبة ، وهذا التجرد الجميل لمن أقوى أسباب نصر عماد الدين زنكي ، وشتَّان بين رجل يعمل لله ، وآخر يعمل لنفسه ومصالحه .

وهكذا أرسل عماد الدين زنكي وفدًا إلى بغداد لإستنهاض السلطان مسعود لنصرة المسلمين ، وجعل على رأس هذا الوفد القاضي كمال الدين الشهرزوري بنفسه .

خامسًا :
رسالة أخرى عجيبة أرسلها البطل المتجرد عماد الدين زنكي رحمه الله ! وكانت هذه الرسالة إلى خصمه اللدود في أرض الجزيرة ركن الدولة داود بن سقمان الأرتقي ! فعلى الرغم من الصدمات التي حدثت بين الفريقين في غضون السنوات العشر السابقة إلا أن عماد الدين زنكي يرى أن الظروف الحالية تحتِّم عليه أن يتناسى كل الصراعات القديمة ، وأن يعمل على توحيد المسلمين في كيان واحد قادر على مواجهة الجموع الهائلة للبيزنطيين والصليبيين .

سادسًا :
رسالة ثالثة مهمة أرسلها عماد الدين زنكي تدل على فقه عسكري دقيق للموقف ، فلقد أرسل رسالة سريعة إلى زعماء المسلمين في آسيا الصغرى وهم : السلطان مسعود بن قلج أرسلان زعيم السلاجقة الروم ، ومحمد بن غازي الدانشمندي زعيم بني الدانشمند يدعوهم للتوحُّد والهجوم على المدن الإسلامية المحتلة من البيزنطيين في آسيا الصغرى ؛ وذلك لدفع الإمبراطور البيزنطي إلى العودة إلى آسيا الصغرى لدفع خطر المسلمين هناك .

لقد كان تخطيطًا بارعًا رائعًا ، يدل على عقلية عسكرية متميزة .


ماذا حدث على أرض الواقع ؟!

لقد نزلت القوات النصرانية البيزنطية والصليبية حول أسوار مدينة حلب في 6 من شعبان سنة 532هـ ، ففوجئت بالإستحكامات العسكرية القوية التي جهَّزها الجيش المسلم هناك ؛ فالخنادق كثيرة وعميقة ، والأسوار عالية وسميكة ، والجيش المسلم متحفِّز ، والسهام تنهال على الجيوش النصرانية من كل مكان ، مما منع النصارى من الإقتراب من المدينة .

ولم يكتفِ المسلمون بذلك ، بل أخرج الأمير المسلم البطل سوار عدة سرايا من الجيش المسلم تقابل بعض الفرق المحاصِرة ، فأخذتهم على حين غِرَّة ، وقُتِل من الصليبيين والبيزنطيين خلق كثير ، بل إن أحد كبار قساوستهم قُتل في أثناء هذه المعارك مما أزعجهم إزعاجًا شديدًا .

لقد وجد الإمبراطور البيزنطي أن حلب - بجيشها الشجاع وتحصيناتها المنيعة - حُلم بعيد المنال ! وهذا دفعه إلى أن يقرِّر فجأةً ، وبعد ثلاثة أيام فقط ، أن يرفع الحصار تمامًا عن مدينة حلب الباسلة !!

لقد عجزت الجيوش العملاقة أن تكسر إرادة المسلمين في حلب ، ولعلنا نتذكر صبر الصليبيين على حصار أنطاكية قبل ذلك بأكثر من أربعين سنة ، حيث صبروا على الحصار سبعة أشهر كاملة حتى سقطت المدينة ، أما الآن فالجيوش النصرانية أضعاف الجيوش التي كانت تحاصِر أنطاكية ، ومع ذلك لم يصبروا !!

ما السر في ذلك ؟!

إن السر لا يكمن في طبيعة الجيوش النصرانية أو أعدادها ، إنما يكمن في الأساس في طبيعة الجيش المسلم وقوته ؛ فالمسلمون المحصورون في حلب مختلفون تمام الإختلاف عن المسلمين الذين حُصِروا قبل ذلك في أنطاكية ، فقد ظهرت في هذه الأزمة نتيجة التربية الإيمانية والجهادية والعلمية والعسكرية التي بذل فيها عماد الدين زنكي الأوقات ، وسخَّر من أجلها طاقات الأمراء والعلماء ، فأفرزت هذا الجيش المسلم القوي ، وهذا الشعب المسلم الصابر .

وترك الإمبراطور البيزنطي حلب يائسًا ، وإتجه إلى حصن الأثارب غرب حلب ، وكانت به حامية إسلامية بسيطة ، فآثرت أن تنسحب لأن إحتمال هلكتها قريب ، وبالتالي إمتلك الإمبراطور البيزنطي حصن الأثارب ، ووضع فيه أسرى وسبايا مدينة بزاغة ، الذين كان الإمبراطور يستصحبهم معه في طريقه ، ثم وضع معهم حامية بيزنطية ، وأكمل طريقه غربًا وجنوبًا حيث إحتل معرَّة النعمان وكفرطاب ، ويَمَّم وجهه تجاه شيزر !

ورأت الحامية الإسلامية في حلب أن الجيوش النصرانية قد رحلت عن المدينة ، فأرسلوا خلفهم العيون لتعرف مسارهم .. وأدرك الأمير سوار أمير حلب أن البيزنطيين تركوا الأسرى والسبايا المسلمين في حصن الأثارب ، وتركوا معهم حامية بيزنطية صغيرة ، فإنتهز الفرصة ، وخرج من حلب مسرعًا في فرقة من جيشه ، وحاصر حصن الأثارب ، ثم ما لبث أن أسقطه وقتل عددًا من جنود الحامية البيزنطية وأسر الباقي ، وحرَّر كل الأسرى والسبايا المسلمين ، وعاد بهم جميعًا إلى حلب !

وإرتفعت معنويات المسلمين إلى السماء ، ووصلت الأخبار إلى جيش عماد الدين زنكي المرابض عند سَلَمْيَة ، فازداد إصراره على الجهاد ، وقويت نفوس الجند ، وشعروا جميعًا بمعيَّة الله لهم .

أما الإمبراطور البيزنطي فقد آثر أن يتجه إلى شيزر لأنها إلى الآن إمارة مستقلة ، وعلى رأسها سلطان بن منقذ ، وهي ليست تابعة لعماد الدين زنكي ، وبالتالي فإن الإمبراطور البيزنطي سيواجه إمارة ضعيفة نسبيًّا دون أن يستثير غضب الزعيم العنيد عماد الدين زنكي !

هكذا ظنَّ الإمبراطور البيزنطي ، ولكن الواقع كذَّب ظنونه !


لقد أرسل سلطان بن منقذ - مع رغبته الشديدة في الإحتفاظ بإستقلاله عن عماد الدين زنكي - رسالة إستغاثة عاجلة إلى عماد الدين زنكي ، فلم يتردد عماد الدين زنكي لحظة ، بل توجه بقوته الرئيسية فورًا لإنقاذ شيزر ، وعبر نهر القويق (وهو أحد روافد نهر الفرات) ، وتجاوز مدينة حماة التابعة له ، فجعلها في ظهره ليحتمي بحصونها إذا حدث تفوق للجيش البيزنطي ، ثم تقدم في إتجاه شيزر حتى عسكر في منتصف الطريق بين شيزر وحماة ، وأرسل العيون الاستخباراتية لتنقل له الأخبار .

جاءت الأخبار بعد قليل أن الجيوش النصرانية تخرج عن حد الإحصاء ، وأنها أضعاف جيش عماد الدين زنكي ، وأن البيزنطيين والصليبيين قد نصبوا ثمانية عشر منجنيقًا حول شيزر ، هذا إضافةً إلى آلات الحصار الضخمة ، وأن أعلام الجيوش النصرانية تشمل قوات الدولة البيزنطية وإمارة أنطاكية وإمارة الرها ، إضافةً إلى كتيبة الداوية !

علم عماد الدين زنكي من هذه الأخبار أن قتال هذه الجموع الهائلة قتالاً مفتوحًا أمرٌ غير مأمون ؛ ولذلك عزم عماد الدين زنكي على إتِّباع سياسة أخرى في القتال ، تضمن له نتائج أفضل ..
فماذا فعل بطلنا الموهوب ؟!

لقد قرر أن يعمل في وقت واحد على عدة محاور :


المحور الأول : حرب الإستنزاف
وقد إستخدم عماد الدين زنكي هذا الأسلوب لكي يتجنب الصدام مع القوة النصرانية بكاملها ، فكان يُرسِل فرقة كبيرة من جيوشه تقترب من شيزر ، فإذا رآها النصارى إقتربوا منها ليقاتلوها ، فينسحب عماد الدين زنكي تدريجيًّا ليبعدهم عن القوة الرئيسية المحاصِرة لشيزر ، ثم يصطدم بهم فيقتل منهم ويأسر ! وظل يتبع هذا الأسلوب حتى أرهق الجيوش النصرانية دون أن يعطيها فرصة لقتاله قتالاً مفتوحًا .

المحور الثاني : قطع التموين عن الجيوش النصرانية


حيث أرسل فرقًا من جيشه تحاصِر الطرق خلف الجيش النصراني ، وبذلك تمنعه من تحصيل المواد والمؤن بشكل ثابت ؛ مما يؤدي مع مرور الوقت إلى ضائقة قد تمنع من إمكانية الجيش على الصبر فترة طويلة .

المحور الثالث : محور الحرب النفسية


لقد راسل عماد الدين زنكي القوات المتحالفة ، وأظهر لهم أن قوته ضخمة وكبيرة ، وقال لهم في سخرية : "إنكم قد تحصنتم مني بهذه الجبال ، فإخرجوا عنها إلى الصحراء حتى نلتقي ، فإن ظفرتم أخذتم شيزر ، وإن ظفرنا بكم أرحتُ المسلمين من شرِّكم !" .

ولقد كان عماد الدين زنكي يعلم أن قوته أضعف من قوتهم ، ولم يكن له رغبة في خروجهم ، ولكنه كان بهذه الكلمات يحطمهم نفسيًّا ، ويشعرهم أن قوته أكبر من قوتهم ، وأنه واثق تمام الثقة من نفسه وجيشه ، وكان هذا - ولا شك - ليرهبهم ، وقد ظهرت هذه الرهبة بوضوح في كلمات الإمبراطور البيزنطي عندما أشار عليه بعض قادة الصليبيين أن يخرج لقتال عماد الدين زنكي ، فقال في جزعٍ : "أتظنون أنه ليس من العسكر إلا ما ترون ؟ إنما يريد أنكم تلقونه ، فيجيء إليه من نجدات المسلمين ما لا حدَّ عليه" .. وهكذا أدَّى هذا الإستفزاز إلى إرهاب الإمبراطور البيزنطي ، ومنعه من التفكير في التقدم جنوبًا .

المحور الرابع : فك الإتحاد بين قوات التحالف !


وقد قام عماد الدين زنكي في هذا الصدد بعمل رائع إذ أرسل خطابات إلى زعماء القوات الصليبية يُعلِمهم أن الإمبراطور البيزنطي إذا إستولى على حصن واحد بالشام أخذ البلاد التي بأيديهم منه .. ولا شك أن هذا الكلام وقع موقعه من الصليبيين لسابق العهد بسياسة الدولة البيزنطية ، وذكَّرهم هذا بالصراع الطويل ، والمنافسة المستمرة التي كانت بين الإمبراطور ألكسيوس كومنين أبي الإمبراطور يوحنا كومنين ، وبين أسلافهم من زعماء الحملة الصليبية .

ولم يكتفِ عماد الدين زنكي بذلك ، إنما أرسل رسالة إلى الإمبراطور البيزنطي نفسه يخبره أن الصليبيين في بلاد الشام خائفون منه ، فلو فارق مكانه تخلَّوا عنه ! وكانت هذه الكلمات تؤثر أيضًا في الإمبراطور البيزنطي ؛ لأن تاريخ الصليبيين يشهد أنهم أخذوا أنطاكية ومدن إقليم قليقية على خلاف معاهدة القسطنطينية القديمة ، مما يوحي أن الصليبيين قد يغدروا به إذا تم لهم الإنتصار !

وهكذا ألقى عماد الدين زنكي الشك في قلوب المتحالفين ، حتى صار كل طرف على وجل من الطرف الآخر ، وهكذا فترت عزيمة الطرفين على إكمال القتال .

بهذه الخطة المتوازنة جدًّا بدأ البيزنطيون يتململون من البقاء في الحصار الطويل حول شيزر ، خاصةً أن المدينة حصينة جدًّا ، وقد يتطلب إسقاطها عدة أسابيع أو أشهر , وهكذا وصل الجيش النصراني إلى حالة من التردد وخيبة الأمل ، خاصةً بعد تزايد أعداد القتلى والأسرى في جيوشهم دون نصر واضح يحققونه .

ثم إن الله أراد أن يعجِّل برحيل القوات البيزنطية ،
وذلك عن طريق حدوث أربعة أمور في وقت متزامن ، كان لها أكبر الأثر في تغيير إستراتيجية الجيوش النصرانية :

أما الأمر الأول فهو وصول الأخبار بإستجابة ركن الدولة داود بن سقمان لنداء عماد الدين زنكي ، وقدومه على رأس خمسين ألف تركماني دفعة واحدة ! وقد حرص عماد الدين زنكي على إيصال هذه الأخبار للجيش النصراني ليزيد من هزيمته النفسية .

وأما الأمر الثاني
فهو وصول الأخبار أيضًا بإتحاد جيش سلاجقة الروم والدانشمنديين وهجومهم على مدينة أذنة في إقليم قليقية ، وهذه المدينة كانت قد دخلت تحت سيطرة الدولة البيزنطية ، ومن ثَمَّ فهذا يعني أن الدولة البيزنطية بدلاً من أن تزيد أملاكها ، فإنها ستفقد منها أجزاء مهمة .

وأما الأمر الثالث فهو صراع داخلي نشأ بين قواد الصليبيين ريموند بواتييه وجوسلين الثاني ! فقد كان كلٌّ منهما يكره الآخر ويخاف من إزدياد نفوذه ، فكان جوسلين الثاني يرى أن وجود ريمون بواتييه في شيزر وحلب إذا نجح الجيش البيزنطي في إسقاطهما سوف يضيِّق عليه حريته ، حيث سيفصل بينه وبين مملكة بيت المقدس الراعية للجميع .. وعلى الجانب الآخر فإن ريموند بواتييه كان في شكٍّ كبير أن تستقر الأمور لصالحه إذا تكوَّنت هذه الإمارة المزعومة ؛ لأنه يرى أن الجيوش الضخمة لم تفلح في التقدم خطوة في إحتلال حلب أو شيزر ، فكيف سيكون الحال إذا رحلت جيوش الإمبراطورية البيزنطية ! وهذه الهواجس عند جوسلين الثاني وريموند بواتييه قادت إلى نزاع بين الطرفين وخصام ، إضافةً إلى أن جوسلين الثاني قام بالوشاية بين ريموند بواتييه والإمبراطور البيزنطي مما أدَّى إلى فتور العَلاقة بينهما .

أما الأمر الرابع والأخير ,
فهو قدوم عرض من أمير شيزر إلى الإمبراطور البيزنطي يعرض عليه مبلغًا كبيرًا من المال يعوِّضه عن نفقات الحرب على أن يسحب قوَّاته فورًا ، ويرفع الحصار عن شيزر ! وهكذا أخذ الإمبراطور البيزنطي يُقَلِّب الأمر في ذهنه من جديد ، ووقع في حيرة شديدة فيما يجب أن يفعله ، فإستمرار القتال قد يؤدِّي إلى هلكة له ولجيشه ، والإنسحاب ضربة كبيرة لكرامته ، فماذا يفعل ؟

لا شك أن أفكارًا كثيرة تضاربت في عقله ، ولا شك أنه قد أخذ يجمع النقطة إلى جوار النقطة ، والحدث إلى جوار الحدث ليخرج في النهاية بقرار .

ولنتجول معًا في عقل الإمبراطور البيزنطي يوحنا كومنين !


أولاً : حصار شيزر إستمر حتى هذه اللحظة ثلاثة أسابيع دون أي تقدم .

ثانيًا :
مدينة شيزر مدينة ثرية جدًّا ، وتموينها الداخلي كثير جدًّا ، وعليه فهي تستطيع المطاولة في الحصار فترة طويلة جدًّا .

ثالثًا :
القوات البيزنطية فَقَدت حتى الآن أعدادًا كثيرة من الجنود ما بين قتيل وأسير ، سواء حول أسوار حلب ، أو في حصن الأثارب ، أو حول أسوار شيزر ، أو في المعارك المتكررة مع عماد الدين زنكي . وفي نفس الوقت فالقوات البيزنطية فقدت الأسرى المسلمين الذين أسرتهم من بُزَاغة ، حيث حرَّرهم الأمير سوار من حصن الأثارب ، وهذا يعني أن القوات البيزنطية خسرت دون مكسب !

رابعًا :
قائد الجيوش الإسلامية عماد الدين زنكي ، قائدٌ عنيد مجاهد لا تلين له قناة ، وصبور لا تفتر له عزيمة ، ومحترف يتقن كل فنون الحرب ، ولا يبدو مطلقًا أنه يقبل بالهزيمة !

خامسًا :
القوات الصليبية المساعدة له قوات ضعيفة ، وصراعاتها الداخلية كثيرة ، ولا يوجد عنصر الثقة المتبادلة بين الطرفين أبدًا .

سادسًا :
مدينة أذنة على وشك الضياع ، ولا يقف الأمر عند مصيبة ضياعها ، ولكن قد يتطور الأمر إلى إغلاق طريق العودة على الجيوش البيزنطية ، وبذلك تحصر الجيوش البيزنطية بين سلاجقة الروم والدانشمنديين من ناحية ، وبين عماد الدين زنكي من ناحية أخرى .

سابعًا :
الإمبراطور السابق رومانوس الرابع لم يقدِّر هذه الحسابات العسكرية ، ومن ثَمَّ خاض موقعة قديمة مع البطل الإسلامي السابق ألب أرسلان ، وهي موقعة ملاذكرد سنة (463هـ) 1070م ، وكانت نتيجتها كارثة على الإمبراطور البيزنطي وعلى الدولة البيزنطية بكاملها ، فهل يكرِّر يوحنا كومنين الخطأ الذي وقع فيه الإمبراطور السابق ، أن ينجو بنفسه وبجيشه ؟!

ثامنًا :
كل هذه التطورات الخطيرة تحدث من جيش عماد الدين زنكي فقط ، فماذا لو جاء جيش الأراتقة التركماني ، وقوامه - كما نقل الجواسيس - خمسون ألف مقاتل ؟! لا شك أن القوات البيزنطية ستوضع عندها في مأزقٍ خطير !

تاسعًا :
وصلت الأنباء أيضًا أن عماد الدين زنكي أرسل مبعوثًا إلى السلطان مسعود سلطان السلاجقة العظام ! فماذا لو جاء جيش كثيف من بغداد يقوده السلطان مسعود حفيد السلطان ألب أرسلان الذي سَحَق قبل ذلك بتسعة وستين عامًا جيشَ الدولة البيزنطية ؟!

عاشرًا :
إذا إنسحب الإمبراطور البيزنطي دون أي نتيجة فقد يتعرض للوم كبير في البلاط البيزنطي قد يؤثِّر في منصبه ، أما الآن فأمامه فرصة كبيرة أن يحقِّق شيئًا ، وذلك أن يقبل بالمبلغ الضخم الذي سيدفعه أمير شيزر تعويضًا عن نفقات الحرب الباهظة ، كما أنه سيترك حامية في مدينتي بزاغة وكفرطاب لتُصبِحا قواعد متقدمة للجيش البيزنطي في أرض الشام ، وسوف يعود الإمبراطور البيزنطي مسرعًا إلى مدينة أذنة ليحميها من السلاجقة الروم والدانشمنديين ، وقد يحقق إنتصارًا عليهما يرفع قليلاً من أسهمه ، ويعوِّضه عن حملته الفاشلة إلى بلاد الشام !

إذن بإستعراض هذه الأمور العشرة التي جالت في ذهن الإمبراطور ندرك أن التحليل المنطقي ، والتفكير السليم يقضيان بأن يأخذ الإمبراطور البيزنطي القرار الجريء بالإنسحاب الفوري من حوله أسوار شيزر ، قابلاً بالطرح الذي قدمه أمير المدينة ، وذلك قبل أن يفقد كل شيء ، ولا يجد حتى هذا الطرح أمامه !

وهذا هو الذي حدث بالفعل ! وأعلن الإمبراطور البيزنطي الكبير إنسحابه وجميع القوات المتحالفة من حول مدينة شيزر بعد ثلاثة وعشرين يومًا من الحصار !

لقد أعلن الإمبراطور البيزنطي بوضوح فشله في كسر الإرادة الإسلامية ! لقد كان نصرًا خالدًا حقًّا ! لقد رحلت الآلاف المؤلفة من قوات التحالف البيزنطي الصليبي لتنجو بنفسها من أَتُّون المسلمين المحرق ! لقد رحلوا وهم لا يلوون على شيء ! رحلوا رحيلاً مخزيًا مشينًا ! لم ينظروا فيه إلى هيبتهم أو مكانتهم أو تاريخهم أو حتى مستقبلهم .

لقد كان يومًا من أيام الله المشهورة ، سمع به العالم أجمع ، وتكلم عنه المسلمون والنصارى ، ولفت أنظار المؤرخين الغربيين والشرقيين ، وصار علامة محفورة في أذهان أجيال وأجيال .

كانت هذه الأحداث في شهر رمضان 532هـ\ مايو 1138م ، أي بعد أقل من سنة على موقعة فتح بارين التي إنتصر فيها عماد الدين زنكي على جيوش إمارة طرابلس المتحدة مع مملكة بيت المقدس .. وهكذا صار عماد الدين زنكي بلا جدال البطل الإسلامي الأول ، ولم يكن أحد يستطيع إنكار هذه الحقيقة حتى لو كان في داخله يرفضها ، وصار لفظ "الدولة الزنكية" مقبولاً جدًّا ، فهذه هي الدولة الأولى بلا منازع في عالم الإسلام .

أما بطلنا الحبيب فلم يكتفِ بهروب القوات النصرانية بهذه الطريقة المشينة ، إنما تحرك في خطوات سريعة ، ليثبت للجميع أنه لم يتنفَّس الصعداء لأن الجيوش البيزنطية والصليبية رحلت ، بل هم الذين يجب أن يتنفسوا الصعداء لنجاتهم بحياتهم من أيدي المسلمين !

ماذا فعل بطلنا العظيم ؟!


أولاً :
أسرع عماد الدين زنكي رحمه الله بجيشه خلف الجيش البيزنطي يطارده ، وإستطاع أن يصطدم مع مؤخرة الجيش البيزنطي ، وأن يقتل ويأسر ويغنم ، مما جعل البيزنطيين يُسرِعون الخُطَا في إتجاه بلادهم .

ثانيًا :
تحرك عماد الدين زنكي بسرعة ليسيطر على آلات الحصار الثقيلة التي كان ينصبها البيزنطيون حول أسوار حلب ، فهذه آلات متطورة الصنع باهظة التكاليف ، وهي غنيمة عظيمة غالية .. وإستطاع بالفعل أن يستولي على معظمها ، وإضطر البيزنطيون إلى حرق البقية لعدم مقدرتهم على الحركة السريعة وهم يجرون هذه الآلات الضخمة .

ثالثًا :
أرسل عماد الدين زنكي سرية بقيادة صاحبه صلاح الدين الياغيسياني لإعادة فتح كفرطاب ، وإخراج الحامية البيزنطية منها .. وأفلح صلاح الدين الياغيسياني في ذلك في نفس الشهر الذي رحلت فيه القوات البيزنطية ، أي في رمضان سنة 532هـ .

رابعًا :
فعل عماد الدين زنكي ما هو أعظم من ذلك ، إذ إستغل هذا النصر الكبير، وتحرك حركة مفاجئة في إتجاه حصن عرقة ، وهو من الحصون التابعة لإمارة طرابلس ، وإستطاع بعد حصار طويل وقصف مستمر أن يُسقِط الحصن ، وأن يأسر مَن به من الصليبيين .

وكانت حركة في منتهى الذكاء منه ، إذ كان المتوقع أن يهاجم إمارتي أنطاكية والرها إنتقامًا من زعيميهما اللذين شاركا الإمبراطور البيزنطي في الحملة ، إلا أنه هاجم إمارة طرابلس التي لم تكن مستعدة لهذا الهجوم المباغت .

خامسًا :
لم ينس عماد الدين زنكي قضية توحيد الأمة ، ومن ثَمَّ فبمجرد رحيل القوات البيزنطية ، وأثناء رمضان سنة 532هـ ، عاد عماد الدين زنكي بسرعة إلى حصار حمص آملاً أن يفلح في إسقاطها , وهكذا لم يترك عماد الدين زنكي فترة في حياته للراحة حتى بعد هذا الجهد الكبير الذي بُذِل حول أسوار شيزر .

لكن في هذه المرة التي حاصر فيها عماد الدين زنكي رحمه الله مدينة حمص ، فكر أن يأخذها بطريقة أخرى توفِّر عليه كثيرًا من العناء ، وقد تفتح الباب لضم مدن أخرى في المستقبل ! لقد فكر عماد الدين زنكي أن يتزوج زواجًا سياسيًّا مهمًّا يكفل له التقرب من حاكم دمشق شهاب الدين محمود بن بوري ، وهكذا طلب عماد الدين زنكي الزواج من صفوة الملك زمرد خاتون أم شهاب الدين محمود في مقابل أن يأخذ مدينة حمص !

وقد يتساءل أحدٌ : كيف يتزوج ثم يأخذ حمص بدلاً من أن يُعطِي هو شيئًا ؟! فنقول أنه - ولا شك - قد دفع الكثير من أمور المهر والهدايا الثمينة إلا أنه يطلب حمص في مقابل الشرف الكبير الذي تناله مَن تتزوج من عماد الدين زنكي رحمه الله !

فعماد الدين زنكي الآن يحكم أكبر إمارة في العالم الإسلامي ، ثم إنه البطل المغوار الذي يحقق الإنتصارات المتتالية على الصليبيين والبيزنطيين , ولا شك أن الإرتباط بهذا الرجل شرف ما بعده شرف .

وقد تم لعماد الدين زنكي ما أراد فعلاً ، ووافق شهاب الدين محمود على هذا الزواج ، وتم فعلاً في نفس الشهر أيضًا ، أي في شهر رمضان 532هـ ، وهكذا دخلت حمص في إمارة عماد الدين زنكي !

وقبل أن نترك الأحداث في هذه الفترة نريد أن نعرف ماذا تم في أمر الإستغاثة التي أرسلها عماد الدين زنكي إلى السلطان مسعود السلجوقي في بغداد ، والتي حملها القاضي كمال الدين الشهرزوري !

لقد وصل كمال الدين إلى بغداد بسرعة ، وإلتقى بالسلطان مسعود ، وعرَّفه عاقبة التواني عن نصرة المسلمين في أرض الشام ، وخوَّفه بما يفهمه من أمور ضياع الملك والسلطان ، فأخبره أن البيزنطيين إذا ملكوا حلب فإنهم سينحدرون مع نهر الفرات إلى بغداد نفسها , فتحتل عاصمة الخلافة !

ماذا كان ردُّ فعل السلطان السلجوقي مسعود ؟! يقول إبن الأثير رحمه الله : " فلم يجد عنده حركة !!
" .. أي أن السلطان قابل الأمر ببرود شديد ، وكأنه جمادٌ لا روح فيه ! فلم يُبْدِ أي إنفعال ، ولم يظهر عليه أي تأثُّر ، وكأن القضية لا تعنيه بالمرَّة !

خرج القاضي كمال الدين الشهرزوري محبطًا من عند السلطان مسعود ، ولكنه فكر أن يمارس عليه ضغطًا يحرِّك حميَّته ! لقد أمر كمال الدين أحد أصحابه أن يمضي إلى جامع القصر ، وهو الجامع الذي يصلي فيه الخليفة ، وأن يأخذ معه مجموعة من الأعوان ، ثم بمجرد صعود الخطيب إلى المنبر يقوم هذا الرجل ، ويقوم معه أصحابه فيصيحون جميعًا : "واإسلاماه ، وادِينَ محمَّداه"
، ثم يشق ثيابه ، ويلقي عمامته ، ثم يخرج إلى دار السلطان يستغيث ويستغيث معه الناس .

ثم وضع كمال الدين رجلاً آخر يقوم بنفس الفعل في مسجد السلطان ، ليتبعه الجميع بعد ذلك إلى دار السلطان أيضًا .

لقد كانت خطة لإثارة الجماهير في بغداد ، لتضغط شعبيًّا على السلطان ، وذلك بصورة تخيفه من حدوث إنقلاب عليه ، وهذا - لا شك - سيثير السلطان ، خاصةً والصراع ما زال مستمرًّا مع إبن أخيه داود بن محمود حول كرسيِّ السلطنة ، وقد يصطاد الملك داود في الماء العكر ، ويحرِّك الناس لجهاد الصليبيين ، وهذا سيسبِّب حرجًا كبيرًا للسلطان مسعود !

ونجحت الخطة ، وتحركت الجماهير الغاضبة تصيح : واإسلاماه ، وامحمداه .. وكانت مظاهرة ضخمة أرعبت السلطان ، وصاح من فوره : إحضروا لي إبن الشهرزوري ! فأُحضر له ، فقال السلطان : "أي فتنة أثرت ؟!" فردَّ كمال الدين : "ما فعلت شيئًا ، أنا كنت في بيتي ، وإنما الناس يغارون للدين والإسلام ويخافون عاقبة هذا التواني" .. فقال السلطان مضطرًّا : "إخرجْ إلى الناس ففرِّقهم عنَّا ، وإحضرْ غدًا وإخترْ من العسكر ما تريد
!" .

فخرج كمال الدين الشهرزوري إلى الناس ، وسكَّنهم وعرَّفهم أن السلطان سيجهز الجنود لنجدة المسلمين في الشام .. وفي الغد ذهب كمال الدين الشهرزوري إلى السلطان فوجده قد جهَّز جموعًا عظيمة من الجند ، لدرجة أن كمال الدين خاف من هذه الجموع الكبيرة ، وتوقع أن السلطان ينوي أن يضم الشام إلى أملاكه بعد أن يحارب البيزنطيين والصليبيين ، فأرسل كمال الدين الشهرزوري بسرعة إلى نصير الدين بن جقر أمير الموصل يستشيره ، ولم يرسل لعماد الدين زنكي لبُعد المسافة ، فقال نصير الدين : " البلاد لا شك مأخوذة ، فلأن يأخذها المسلمون خير من أن يأخذها الكافرون
!" .

لقد كان نصير الدين يتمتع بنفس الرؤية التي عند عماد الدين زنكي ، فأجاب بنفس الكلمات التي أجاب بها عماد الدين زنكي عندما إعترض عليه الناس حين فكَّر في إستقدام السلطان مسعود .

وهكذا تجهزت الجيوش وأوشكت على الرحيل ، إلا أنه في الوقت الذي كادت أن تتحرك فيه وصلت رسالة عاجلة من عماد الدين زنكي يخبر فيها كمال الدين الشهرزوري برحيل الإمبراطور البيزنطي ، وبإنتصار المسلمين ، ومن ثَمَّ فلا داعي لحركة الجيوش من بغداد إلى حلب !

وبهذا تكون الأمور - بفضل الله - قد سارت لصالح عماد الدين زنكي ، ولم يضطر إلى الدخول في مواجهة قد تكون مؤسفة مع جيوش السلطان مسعود .

وإزاء هذا الوضع الجديد ، وقد ذاع صيت عماد الدين زنكي في كل مكان ، وإعترف الجميع بفضله وجهده ، وصار له الدعاء على كل منابر المسلمين ، فكر السلطان مسعود فيما يجب أن يفعله مع عماد الدين زنكي ! إنه لا يستطيع الآن أن يهاجمه أو يأمره بشيء يغضبه ؛ لأن عموم جمهور المسلمين سيقف مع عماد الدين زنكي لا شك ؛ ولذلك فكر السلطان مسعود في إحتواء عماد الدين زنكي، والتعامل معه كقائد كبير من قواده ، وبالتالي أرسل له فورًا التشريفات والخلع ، وهنَّأه بالنصر الكبير ، وبالإنجاز الذي حققه للمسلمين ، وعامله كأمير من أمرائه التابعين له ، لا كقائد دولة منفصلة عنه ، وقَبِل عماد الدين زنكي هذا الأسلوب ، فهو لم يكن يريد أن يدخل في صراعات لا معنى لها ، إنما كان يريد أن يفرِّغ كل جهده لتوحيد المسلمين ، ولإخراج الصليبيين من الأرض الإسلامية .

وهكذا إنتهت سنة 532هـ نهاية سعيدة على المسلمين ، بعد أن وضحت الرؤية لعموم الناس ، وأضحى هناك أمل كبير في إخراج الصليبيين بعد أن عرف المسلمون طريق الوحدة والجهاد .

وقبل أن نترك هذه السنة المتميزة في تاريخ هذه الفترة نشير إلى حدث مهم شهدته هذه السنة ، ولم يلفت أنظار الناس آنذاك ، وإن كان أثره في المسلمين - بل على العالم - بعد ذلك سيصبح كبيرًا جدًّا .. وهذا الحدث هو ميلاد البطل الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي ! ومن عجيب الأمور أن صلاح الدين الأيوبي وُلِد في اليوم الذي عُزِل فيه أبوه نجم الدين أيوب من قيادة قلعة تكريت بعد خلاف حدث بينه وبين رئيس الشرطة في بغداد مجاهد الدين بهروز ، لدرجة أن أباه في بادئ الأمر كان يتشاءم منه ؛ لأنه ولد في اليوم الذي فقد فيه علمه ! ولم يكن يدرك أن صلاح الدنيا والدين سيكون في حياة هذا الوليد !

ولقد رحل نجم الدين أيوب ومعه أخوه أسد الدين شيركوه من تكريت إلى إمارة الموصل ليكونا في خدمة البطل عماد الدين زنكي ، وقد مر بنا قبل ذلك أن نجم الدين أيوب كان قد ساعد عماد الدين زنكي في عبور دجلة سنة 526هـ عند هزيمة عماد الدين زنكي من الخليفة المسترشد ، وقد قدَّم نجم الدين أيوب يومها العون كله لعماد الدين زنكي ، وآواه في القلعة عدة أيام ؛ ولذلك عندما وقعت له هذه الأزمة فكر في اللجوء إلى عماد الدين زنكي كي يجد العون عنده .. وقد كان عماد الدين زنكي عند حسن ظن نجم الدين أيوب ، فأحسن إستقباله ، وأقطعه بعض الإقطاعات ليختبر مهارته في القيادة ؛ تمهيدًا لتوليته منصبًا أكبر إذا أثبت كفاءته , وهكذا توطدت العَلاقة بين عماد الدين زنكي ونجم الدين أيوب ، وهذا هو الذي سيجعل العلاقة بعد ذلك قوية بين ابن عماد الدين زنكي وهو نور الدين محمود ، وبين صلاح الدين الأيوبي إبن نجم الدين أيوب .. فسبحان الذي يُسيِّر الكون بحكمته !

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 04-03-14, 05:01 AM

  رقم المشاركة : 22
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

عماد الدين زنكي وفتح الرها

مع عظمة الإنتصارات السابقة ، ومع تقدم المسلمين الواضح في قصة صراعهم مع الصليبيين ، إلا أن هذا التقدم الإسلامي كان يعيبه أمران ، وكان هذان العيبان لا يغيبان عن عماد الدين زنكي رحمه الله .

أما العيب الأول : فإن المعارك الإسلامية حتي الآن كانت في الأساس ردود أفعال ، بمعني أن الهجوم غالبًا ما يأتي من قِبَل الصليبيين أو البيزنطيين ، ثم يسرع عماد الدين زنكي بالرد بما هو مناسب .. ومع أن ردود عماد الدين زنكي كانت دائمًا قوية إلا أن هذه إستراتيجية غير آمنة ؛ حيث إن المهاجِم يباغت عدوه بما لا يتوقع ، ويختار أرض المعركة وزمانها، وقد يتعرض المسلمون حينها لظروف تمنع من الرد المناسب ، وكان عماد الدين زنكي يسعي للتغلب علي هذا العيب ، وأن يكون هو البادئ بالتخطيط والهجوم ، إلا أن هجمات الصليبيين المتوالية كانت تضيِّع عليه هذه الفرصة .

وأما العيب الثاني : فكون القوات الإسلامية تهاجم الإمارات الصليبية مجتمعة دون التركيز علي إمارة معينة ، وهذا يضع كل الإمارات في حالة إستنفار ، وفي نفس الوقت لا يُحدِث أثرًا كبيرًا ؛ حيث يشتِّت الجهود ، ويُضيِّع الطاقات ، ولا يحرِّر في النهاية إلا حصنًا أو مدينة ، بينما تبقي الإمارة صلبة مقاومة للإنهيار .

ولتلافي هذين العيبين رأي عماد الدين زنكي أن يوفر جهده فترة معينة من الزمن ، يهتم فيها بإعداد جيش قوي متماسك ومتناسق ، ويوحِّد إمارته بشكل أقوي ، ويضم إليها ما يلزم من أجزاء تسهِّل عليه مهمة جهاد الصليبيين ، وقد كانت هذه المرحلة التي تمر بها إمارة عماد الدين زنكي مناسبة لهذه الأفكار ، حيث خرج عماد الدين زنكي من الأحداث السابقة قويًّا مرهوبًا ، وبالتالي فلا يُتوقع من الإمارات الصليبية أن تغزو أو تثير غضبه .. كما أن جانب السلطان مسعود أصبح إلي حدٍّ كبير مأمونًا ، حيث أرسل التشريفات إلي عماد الدين زنكي ، وأقرَّ بإمارته وزعامته علي قطاع كبير من الدولة الإسلامية .

ولم يكن أمام عماد الدين زنكي إلا أن يحدِّد الإمارة الصليبية التي ينبغي أن يركِّز جهوده لحربها بغية إسقاطها بالكُلِّيَّة ، ثم يشرع في تمهيد الأمر لذلك ، ولو أخذ هذا الأمر عدة سنوات .

وبإستقرار الوضع الذي وصلت إليه الإمارات الصليبية المختلفة في هذا الوقت ، وجد عماد الدين زنكي أنه ينبغي أن يوجِّه جهوده ويكثِّفها لإسقاط إمارة الرها دون غيرها !

أما لماذا الرها دون بقية الإمارات ، فهذا لأسبابٍ :

أولاً : إمارة الرها هي أقرب الإمارات لقوات عماد الدين زنكي ، وبالتالي فإن حركة الجيوش الإسلامية إليها ستكون أسهل ، وإذا حدث - لا قدر الله - هزيمة للجيش الإسلامي فإنه سيجد حصونًا ومدنًا قريبة يستطيع أن يلوذ بها ، ومن ثَمَّ فإن فرصة تأمين القوات الإسلامية أعلي في حرب هذه الإمارة من غيرها .

ثانيًا : إمارة الرها هي أشد الإمارات خطورةً علي إمارة عماد الدين زنكي ، فهي قريبة جدًّا من الموصل وحلب وكل مدن إقليم الجزيرة ، وبالتالي فخروج الجيوش الإسلامية من حصونها لتهديد أمن القري والمدن الإسلامية يمثِّل إحتمالاً كبيرًا واردًا .. كما أن عماد الدين زنكي لا يستطيع أن ينطلق لحرب أنطاكية أو طرابلس ويترك خلف ظهره هذه الإمارة الصليبية الحصينة ؛ فقد تقطع عليه طريق العودة ، أو تهاجمه من ظهره ، ولا يخفي خطورة ذلك علي الجيش المسلم .

ثالثًا : إمارة الرها غير مستقرة ، حيث إن تركيبتها السكانية تجعل أحوالها مضطربة ، وكذلك تاريخها يشهد بعدم الإستقرار ؛ فإمارة الرها تعتمد علي الأرمن في حياتها .. ومع كون الأرمن نصاري مثل الصليبيين إلا أنهم كانوا يبغضونهم أشدَّ البغض ، والتاريخ يشير إلي أكثر من مذبحة إرتكبها الصليبيون الكاثوليك في حق الأرمن ؛ مما جعلهم في وجلٍ دائم من الصليبيين , وقد حدث في تاريخهم أكثر من مرة أن تراسلوا مع المسلمين ليخرجوهم من أزمتهم مع الصليبيين ؛ ولذا فأوضاع هذه الإمارة الداخلية قد تسهِّل علي عماد الدين زنكي مهمته ..

رابعًا : علي رأس إمارة الرها جوسلين الثاني ، وهو أضعف الأمراء الصليبيين الآن ، ولم يكن علي كفاءة أبيه مطلقًا ، ولم يكن يُؤثِر القتال والنزال ، ولعل الهجوم علي إمارته يكون أسهل من غيره .

خامسًا : إمارة الرها إمارة داخلية ، أي أنها بعيدة عن ساحل البحر الأبيض المتوسط ، وبالتالي فإنها تفتقر إلي الإمدادات البحرية من السفن الإيطالية التي طالما نجدت الإمارات البحرية كأنطاكية ، وطرابلس ، ومملكة بيت المقدس .

سادسًا : الهجوم علي إمارة الرها لن يستثير الإمبراطورية البيزنطية لبُعدها عن حدودها ، ولقلة طمعها فيها ، بينما لو هجم عماد الدين زنكي علي إمارة أنطاكية لحرَّك ذلك جيوش الدولة البيزنطية التي تشعر أن لها حقًّا في هذه الإمارة بشكل خاص .

لهذه الأسباب فإن فرصة إسقاط المسلمين لهذه الإمارة أقرب من غيرها ، وعليه فيجب تكثيف الجهد لتحقيق هذا الهدف ، ولا مانع من الإنتظار عدة سنوات ليصبح العمل متقنًا ، وتصبح فرصة نجاحه أفضل .

ولا شك أن الإنتظار لا يعني أنها فترة سكون بلا عمل ، لكنها فترة إعداد وتجهيز ، والهدف في آخرها واضح ، وهذا الذي جعل الخطوات في هذه الفترة كلها تصبُّ في مصلحة واحدة .

ولقد رأي عماد الدين زنكي رحمه الله أن عليه أن يعمل في محورين رئيسيين :

المحور الأول : هو تمهيد أرض الجزيرة ليومٍ تُهَاجَم فيه إمارة الرها .

فأرض الجزيرة بها تجمعات تركمانية كثيرة ، والأوضاع فيها غير مستقرة ، والتعاون الذي بين عماد الدين زنكي وحسام الدين تمرتاش تعاون ضعيف غير مبنيٍّ إلا علي خوف حسام الدين تمرتاش من قوة عماد الدين زنكي أو طمعه في عطاياه ، والأحلاف التي من هذا النوع كثيرًا ما تسقط وتتهاوي عند تعارض المصالح .. كما أن ركن الدولة داود وإن كان قد وعد بالقدوم علي رأس خمسين ألفًا نجدةً لشيزر ، إلا أنه متصلب الرأي جدًّا ، وحارب عماد الدين زنكي قبل ذلك مرارًا ، وله أتباع وأعوان، ولا يستبعد أبدًا أن يُحدِث مشاكل مستقبلية .

وبالنسبة لعماد الدين زنكي فإنه لا يستطيع أن يفتح الرها بينما أحوال الجزيرة مضطربة ؛ لأنه لكي يتجه للرها لا بد أن يعبر الجزيرة ، ولو ضغط عليه الصليبيون فلا بد أن تكون له قاعدة قوية يرجع إليها آمنًا ؛ ولهذا فإستقرار الجزيرة أمرٌ حتمي لفتح الرها .

المحور الثاني : محاولة ضم مدينة دمشق .

فمدينة دمشق هي أهم مدن الشام مطلقًا ، ومن أحصنهم عسكريًّا ، ومن أكثرهم كثافة للسكان ، ومن أغناهم ثروة في المال والسلاح ، كما أنها بموقعها الإستراتيجي جدًّا تشرف علي عدة محاور في غاية الأهمية ؛ فهي قريبة جدًّا من عدة مدن إسلامية محتلة مثل بيروت وصيدا وعكا وطبرية ، كما أنها قريبة من إمارة طرابلس ، وكذلك هي في الطريق إلي بيت المقدس ، وهي تشرف علي الطريق بين بيت المقدس في الجنوب ، وإمارات الشمال طرابلس وأنطاكية والرها ؛ ولهذا فضم دمشق يعتبر خطوة كبيرة في طريق وَحْدة صلبة تهدف إلي تكوين قوة حقيقية قادرة علي دَحْر الصليبيين وطردهم من بلاد المسلمين .

كان هذان المحوران هما الشغل الشاغل لعماد الدين زنكي في هذه الفترة ، وقد وجَّه إليهما قوته في خلال السنوات الخمس التي أعقبت رحيل القوات البيزنطية عن أرض المسلمين .

وكما توقع عماد الدين زنكي فقد حدثت بعض المشاكل والإضطرابات من حسام الدين تمرتاش الذي لم يقنع بالمنح التي يعطيها له عماد الدين زنكي ، وشعر أن عماد الدين زنكي بعد إنتصاراته الكثيرة سيصبح الزعيم الأوحد ، وبذلك ستضيع أحلام حسام الدين تمرتاش في الطريق ؛ ولهذا قام حسام الدين تمرتاش بخطوة جريئة خطيرة ، وهي التراسل مع الأمير أبي بكر نائب عماد الدين زنكي علي نصيبين لتحفيزه علي الإنقلاب علي عماد الدين زنكي ، وبالفعل خرج الأمير أبو بكر علي عماد الدين زنكي مما سبَّب حرجًا بالغًا .

ولا ننسي أن نصيبين كانت من أملاك حسام الدين تمرتاش قبل أن يضمها عماد الدين زنكي لدولته سنة 524هـ ، ولكن عماد الدين زنكي إستطاع أن يسيطر علي الأمور في نصيبين ، ومع ذلك إستطاع الأمير أبو بكر أن يهرب إلي حسام الدين تمرتاش ، وهنا طلب عماد الدين زنكي تسليم الأمير أبي بكر ، فرفض حسام الدين تمرتاش ، ودارت مفاوضات طويلة ومنازعات بين الطرفين ، ومع ذلك أصرَّ حسام الدين تمرتاش علي عدم تسليم الأمير أبي بكر لعماد الدين زنكي ، فإضطر عماد الدين زنكي إلي التلويح بالحلِّ العسكري ضد الحليف حسام الدين تمرتاش ؛ فلجأ حسام الدين إلي حلٍّ وسط حيث سلَّم الأمير أبا بكر إلي السلطان مسعود علي إعتباره سلطة أعلي ، غير أن السلطان مسعود رأي أن وضع عماد الدين زنكي الآن لا يسمح بأيِّ نوع من المساومات ، وأن أي نزاع بين الطرفين قد لا يكون في مصلحة السلطان مسعود ؛ ولذلك سلَّم السلطان مسعود الأمير أبا بكر إلي عماد الدين زنكي كدليلٍ علي العلاقات الودية بين الطرفين ! وكانت هذه الأحداث في سنة 533هـ .

إنتهت مشكلة نصيبين والأمير أبي بكر ، لكن أدرك عماد الدين زنكي خطورة الوضع في بلاد الجزيرة ، ومع ذلك فإن عماد الدين زنكي لم يؤثر الإصطدام مع حسام الدين تمرتاش ، بل لجأ إلي التسكين والعتاب ، وجرت الأمور في صالحه إذ حدث أن هجم ركن الدولة داود بن سقمان علي بعض أملاك حسام الدين تمرتاش مما إضطره إلي اللجوء إلي عماد الدين زنكي ، الذي قَبِل بدوره أن يتم الصلح بينه وبين حسام الدين تمرتاش ليعود الحلف إلي سابق عهده ، ولتبقي المشكلة الرئيسية في المنطقة هي مشكلة ركن الدولة داود بن سقمان .

وفي نفس السنة هدأت الأمور بفضل الله في مدينة حرَّان ، حيث كانت قد شهدت قبل ذلك إنقلابًا هي الأخري علي يد أحد أتباع عماد الدين زنكي ، وهو سوتكين الكرجي ، إلا أنه مات فجأةً في سنة 533هـ لتعود المدينة بسلام إلي طاعة عماد الدين زنكي .

وبينما تتجه الأمور نحو الإستقرار النسبي في أرض الجزيرة ، إذا بالأحداث تتطور فجأة في دمشق !

لقد مر بنا أن عماد الدين زنكي تزوج أم حاكم دمشق شهاب الدين محمود ، التي كان لها كلمة مسموعة في بلاط دمشق ؛ ليسهل عليه ضم دمشق بعد ذلك بجهود سياسية ، إلا أن الأخبار أتت في شوال 533هـ بمقتل شهاب الدين محمود علي يد أحد رجاله ! وقد يكون وراء هذه المؤامرة معين الدولة أَنُر قائد الجيش ، وأقوي الشخصيات المؤثِّرة في دمشق .

ويؤيِّد ذلك أن معين الدين أنر نصَّب علي الحكم أخًا غير شقيق لشهاب الدين محمود ، وهو جمال الدين محمد بن بوري ، وهو من أمٍّ أخري غير صفوة الملك زمرد خاتون زوجة عماد الدين زنكي ؛ وبذلك يضمن معين الدين أنر أن الأمور كلها تكون في يده ، ويُبعِد بذلك زمرد خاتون عن التحكُّم في دمشق ، ويبعد بالتالي زوجها عماد الدين زنكي عن الوصول لأسرار الحكم في دمشق .. كما أن الزعيم الجديد الضعيف جدًّا جمال الدين محمد سيجعل كل الأمور في يد معين الدين أنر ، وبذلك تصبح له السلطة الفعلية في دمشق .

وقد حدث لمعين الدين أنر ما يتمني ، وسلَّم له جمال الدين محمد كل مقاليد الأمور في دمشق ، بل وأقطعه مدينة بعلبك المهمة ، التي تسيطر علي الطريق المؤدية إلي دمشق من شمالها ، وهي المدينة الوحيدة الآن في شمال دمشق ، والتي لم تدخل بعدُ في حكم عماد الدين زنكي ، ولو سقطت أصبح الطريق مفتوحًا إلي دمشق .

وصلت هذه الأخبار المزعجة إلي عماد الدين زنكي ، والتي قوَّضت أحلامه في السيطرة السياسية علي دمشق ، وكان عماد الدين زنكي آنذاك في الموصل ، وبعدها بقليل تسلَّم رسالة أخري من حلب من زوجته زمرد خاتون تطلب منه فيها أن يتوجه إلي دمشق ؛ لينتقم لمقتل إبنها شهاب الدين محمود ، ويقيم الحد علي قاتله .. وتزامن أيضًا مع وصول هذه الرسالة ، وصول بهرام شاه بن بوري ، وهو أخو جمال الدين محمد بن بوري زعيم دمشق الجديد ، وقد وصل إلي الموصل يطلب من عماد الدين زنكي مساعدته للوصول إلي الحكم هناك علي أن يكون مواليًا له !

جمَّع عماد الدين زنكي هذه النقاط إلي جوار بعضها البعض ، ووجد أن عليه ألا يضيِّع وقته ، فأخذ جيشه في ذي القعدة 533هـ\ يوليو 1139م وتوجه فورًا إلي دمشق ! , وجد عماد الدين زنكي وهو في طريقه إلي دمشق أن حصار دمشق دون إسقاط بعلبك سيمثِّل خطورة حقيقية علي جيشه ؛ إذ قد يُحصر بين حامية بعلبك وجيش دمشق ، وعلي ذلك فقد غيَّر عماد الدين زنكي من وجهته ، وإتجه إلي بعلبك حيث ضرب عليها الحصار إبتداءً من يوم 20 من ذي الحجة 533هـ ، ونَصَب حولها أربعة عشر منجنيقًا ، ودعا أهلها للتسليم دون قتال إلا أن أهلها رفضوا ، ومن ثَمَّ بدأت المجانيق تقصف ليلَ نهار ، وضرب الحصار المحكم حول المدينة وهي تقاوم ، وإستمر حصاره لها أكثر من أربعين يومًا متصلة ، ثم سقطت المدينة أخيرًا ، ودخلها عماد الدين زنكي في صفر 534هـ\ أكتوبر 1139م .. وبذلك إستطاع عماد الدين زنكي أن يسيطر علي كل المدن الشمالية التابعة لإمارة دمشق ، وهي مدن بعلبك وحمص وحماة وبانياس والمجدل .

ظل عماد الدين زنكي في بعلبك شهرًا كاملاً يُنظِّم أمورها الإدارية ، ويُقوِّي من تحصينها بعد القصف المتوالي الذي أصابها خلال الحصار السابق ، ثم أقطعها لنجم الدين أيوب ( والد صلاح الدين الأيوبي) .

وقبل أن يتحرك عماد الدين زنكي إلي دمشق آثر أن يحاول محاولات سلمية قبل الحصار العسكري ، فعسكر بجيشه في سهل البقاع ، ثم أرسل إلي جمال الدين محمد بن بوري زعيم دمشق يعرض عليه التفاهم والتعاون ، فيُسلِّم دمشق إلي عماد الدين زنكي في مقابل أن يعطيه عماد الدين زنكي مدينتي حمص وبعلبك ، لكن هذا العرض لم يجد قبولاً عند جمال الدين محمد ولا عند رجال حكومته ، وعلي رأسهم بالطبع معين الدولة أنر ، ومن ثَمَّ توجه عماد الدين زنكي بقوته العسكرية وحاصر دمشق في ربيع أول 534هـ\ نوفمبر 1139م .

كان الحصار حول دمشق محكمًا ، ودارت عدة إشتباكات بين الطرفين علي مدار عدة أشهر متصلة ، وكاد جمال الدين محمد يقبلُ بالتسليم لولا إصرار معين الدين أنر علي المقاومة ، وتأزم الموقف جدًّا في داخل دمشق نتيجة الحصار الطويل ، ثم حدثت مفاجأة في شعبان 534هـ\ مارس 1140م إذ تُوُفِّي جمال الدين محمد زعيم دمشق فجأةً ، وحدث صراع داخلي في دمشق بين الورثة علي الحكم ، وكانت بوادر فرصة لعماد الدين زنكي للتدخل العسكري ، إلا أن معين الدين أنر أسرع بوضع مجير الدين أبق بن محمد ، وهو إبن الحاكم المُتوفَّي جمال الدين محمد .. وهكذا إستمرت المقاومة الدمشقية العنيفة مما أرهق عماد الدين زنكي الذي ظل محاصِرًا لدمشق حتي الآن لمدة تزيد علي ستة أشهر متصلة ، ومع ذلك فإنه لم يرفع الحصار آملاً في إنهيار الحالة الاقتصادية للمدينة ، وهذا قد يدفعهم للإستسلام .

وإزاء هذا الحصار المحكم لجأ معين الدين أنر إلي وسيلة جديدة لدفع عماد الدين زنكي إلي ترك المدينة ، ورفع الحصار , وكانت هذه الوسيلة في غاية البشاعة ، وتُظهِر لنا بوضوح طبيعة هذا الرجل ، وطبيعة الحاكم مجير الدين أبق ، وكذلك طبيعة الشعب الذي تعاطف مع هذا الإجراء ! لقد أرسل معين الدين أنر إلي مملكة بيت المقدس يستعين بملكها فولك الأنجوي ، ويطلب منه القدوم بجيش صليبي كبير لحرب عماد الدين زنكي ويُحذِّره من أن عماد الدين زنكي إذا إستولي علي دمشق فإن هذا قد يُهدِّد أمن مملكة بيت المقدس !!

إنظر إلي معين الدين أنر كيف يحافظ علي أمن الصليبيين في فلسطين !

ثم إنه يشجِّع الملك فولك الأنجوي ويغريه بعدة مغريات تُسهِّل عليه قرار الحرب ! ما هذه المغريات ؟!

أولاً : سيتكفل معين الدين أنر بالنفقات الشهرية للحملة الصليبية ، والتي قدَّرها معين الدين أنر بعشرين ألف دينار ذهبية تُدفع للملك فولك الأنجوي !

ثانيًا : تشترك القوات الصليبية مع القوات الدمشقية في "تحرير" مدينة بانياس من عماد الدين زنكي ، ثم يقوم معين الدين أنر بإعطائها إلي الصليبيين علي سبيل "الهدية"!

ثالثًا : لكي يضمن الملك فولك الأنجوي أن معين الدين أنر لن يخلف وعدًا من وعوده ، فإنه علي إستعداد أن يُسلِّم الملك فولك عددًا من الأمراء المسلمين كرهائن يحتفظ بها الملك فولك لحين إنتهاء المعارك ، ورحيل عماد الدين زنكي ، وتسلُّم الهديَّة وهي مدينة بانياس !

لقد وصل المسلمون في دمشق في هذه الفترة إلي حالة مزرية جدًّا دفعتهم إلي إرتكاب موبقات كبيرة غير مفهومة ، ودفعتهم إلي المخاطرة بكل شيء في سبيل عدم التعاون مع عماد الدين زنكي ، ولو كان الثمن هو التعاون المباشر والصريح مع الصليبيين !

لقد صار البقاء في كرسيِّ الحكم هو الهدف مهما كان الثمن !

ووجد الملك فولك الأنجوي أن هذه فرصة لا تعوَّض لضرب عدة أهداف بخطوة واحدة ! فهو سينتقم لكبريائه ، ويردُّ إعتباره من عماد الدين زنكي الذي إنتصر عليه منذ ثلاث سنوات في موقعة حصن بارين .. وفي نفس الوقت فهو سيضرب القوة الإسلامية الرئيسية ، وسيساعده في ذلك جيش قوي هو الجيش الدمشقي !

وسوف يأخذ الملك فولك فوق ذلك مدينة بانياس ذات الموقع المهم جدًّا علي الطريق الساحلي غرب الشام .. ثم إن هذه بداية علاقة توادّ مهمة مع مدينة دمشق قد تسهِّل له مستقبلاً إحتلال المدينة ، أو علي الأقل تأمين الحدود الشمالية لمملكة بيت المقدس ، حيث ستصبح مدينة دمشق كالحاجز بينه وبين قوات المسلمين في حلب والموصل .

لقد كانت فرصة ذهبية لم يضيِّعها الملك فولك الأنجوي !

وجاءت الجيوش الصليبية مسرعةً ، وشعر عماد الدين زنكي بالخطر الشديد ؛ إذ إنه لو حُصِر بينها وبين الجيش الدمشقي فإنَّ هذا قد يعرِّضه لكارثة عسكرية ؛ ولهذا قرَّر عماد الدين زنكي أن يرفع الحصار بسرعة ، وأن يتَّجه بجيوشه إلي إقليم حَوْرَان ليقابل جيش الصليبيين بمفرده قبل أن يتَّحد مع الدمشقيين .

كان الملك فولك يتقدَّم في حذرٍ ، وعَلِمَ بتقدُّم عماد الدين زنكي إلي إقليم حَوْرَان ، فإنتظر الملك فولك عند بحيرة طبرية ، وخشي أن يواجه عماد الدين زنكي بمفرده ؛ فأرسل معين الدين أنر رسالة إستغاثة جديدة إلي ريموند بواتييه أمير أنطاكية ، فجاء علي رأس جيشٍ لينقذ المدينة المحاصَرة دمشق !!

ووجد عماد الدين زنكي أن هذه القوَّات المجتمعة ستمثِّل خطرًا كبيرًا علي جيوشه ، فإنسحب إلي حمص ثم منها إلي الموصل .. ومن الجدير بالذكر أن معين الدين أنر أخذ فرقة من جيشه وحاصر مدينة بانياس حتي أسقطها ، وذلك بعد قتال شديد مع حاميتها التابعة لعماد الدين زنكي ، ثم بعد أن أسقطها سلَّمها لقمةً سائغةً للملك فولك الأنجوي تنفيذًا للإتفاق الذي بينهما !!

فيا عجبًا لهذا الزمن الذي يبذل فيه مسلم وقته وجهده ودمه "لتحرير" بلدمسلم من حكم المسلمين ، ثم يقوم بإهدائه لأصدقائه من الصليبيين !

وعاد عماد الدين زنكي رحمه الله بخيبة أمل كبيرة من مأساة هذا البلد الإسلامي الكبير , وواقع الأمر أن دمشق ظلَّت لفترة طويلة من الزمن - من أوَّل قصَّة الحروب الصليبية وطيلة حياة عماد الدين زنكي ، وكذلك بعده - عائقًا منيعًا لمشروع الوَحْدة الإسلامية ، ولم تُحَلّ مشكلتُهَا الإنفصالية إلاَّ مؤخَّرًا في عهد البطل الإسلامي الشهير نور الدين محمود رحمه الله .

عاد عماد الدين زنكي إلي الموصل فوجد أن هناك مشكلة أخري تفجَّرت ، وهي أن أحد القادة التركمان - وكان إسمه قفجاق بن أرسلان تاش التركماني - قد تمركز في مدينة شهرزور شرق الموصل ، وجمع حوله عددًا هائلاً من الأنصار ، وصار مهدِّدًا بصورة مباشرة لمعقل عماد الدين زنكي في الموصل .. ومما زاد من خطورته أنه كان علي عَلاقة طيبة جدًّا بالسلطان مسعود ؛ فخاف عماد الدين زنكي أن يتلقَّي أوامر سرِّيَّة من السلطان مسعود بغزو الموصل ، ومن ثَمَّ فقد إنطلق عماد الدين زنكي من فوره إلي هذه المنطقة ، وكانت واقعةً بين الجبال وفي منتهي الحصانة ، وإقتتل معهم عماد الدين قتالاً شديدًا ، ثم كتب اللهُ له النصر ، وفرَّ جنود قفجاق في كل ناحية ، وإنطلق عماد الدين زنكي لحصار القلاع والحصون في المنطقة فأسقطوها جميعًا ، وسيطر عماد الدين زنكي علي كل المحاور في هذه الجبال سيطرة تامَّة؛ ومع ذلك فقد قام عماد الدين زنكي بما لا يُتوقَّع في مثل هذه الظروف ، فقد أعطي الأمان لقفجاق ، ووعده وعدًا حسنًا إن هو عاد إليه .

وبالفعل عاد قفجاق إلي عماد الدين زنكي ، فأكرمه عماد الدين وولاَّه المناطق التي كانت معه قبل ذلك ، وجعله تابعًا له ، وقد حَفِظ قفجاق هذا الجميل لعماد الدين زنكي ولأولاده من بعده ، ودخل في خدمة آل زنكي ، وظلَّ هو وأولاده أوفياء علي العهد إلي ما بعد سنة ستمائة من الهجرة ! أي أكثر من ستين سنة بعد هذا الحدث .. فإنظر إلي جميل صُنْع عماد الدين زنكي ، وكيف رسَّخ الأمن في ربوع المنطقة بعفوٍ جميل ، وسياسة حسنة .

وفي سنة 535هـ\ 1140م قام ركن الدولة داود بن سقمان بالهجوم علي مدينة مَيَّافارقِين التابعة لحسام الدين تمرتاش ، الذي إستغاث بدوره بعماد الدين زنكي ، فأسرع عماد الدين زنكي وهجم علي بعض أملاك ركن الدولة داود في أماكن أخري ؛ وذلك لتخفيف الضغط علي مَيَّافارقِين ، وإختار عماد الدين زنكي أن يهجم علي قلعة بهمرد القريبة من حصن كيفا ، وكان هذا الإختيار ذكيًّا بارعًا ؛ حيث كان يقود القلعة قرا أرسلان بن داود ، إضافةً إلي قرب القلعة من حصن كيفا ، وهذا أزعج داود بن سقمان جدًّا ؛ لخوفه أوَّلاً علي إبنه المحاصَر في قلعة بهمرد ، ولخوفه ثانيًا علي أهمِّ معاقله وعقر داره حصن كيفا القريبة من قلعة بهمرد ، وهذا الخوف دفعه إلي رفع الحصار عن ميَّافارقين والتوجُّه إلي قلعة بهمرد ، ولكن عماد الدين زنكي كان قد حقَّق الإنتصار بالفعل، ومَلَك قلعة بهمرد المهمَّة ، وهذا أدَّي إلي إستقرار وضعه ؛ حيث خشي داود بن سقمان أن يدخل في صدام مباشر مع عماد الدين زنكي .

وفي سنة 536هـ\ 1141م إستطاع عماد الدين زنكي أن يضمَّ آمد إلي حكمه ، وأن يُدْخِل أبا منصور إيكلدي حاكمها في طاعته ، ومن ثَمَّ ترسَّخت أقدامه بشكل أكبر في ديار الجزيرة ؛ ولكن هذه السيطرة أقلقت حسام الدين تمرتاش من جديد ، فأظهر التمرُّد ، ومدَّ خطوط التفاهم مع خصمه ركن الدولة داود بن سقمان ؛ ليعقد حلفًا مشتركًا بعد عداء عدَّة سنوات !

لقد كانت أرض الجزيرة فعلاً تموج بالفتن والأهواء !

لجأ عماد الدين زنكي إلي الطرق السياسيَّة لتفتيت هذا الحلف المعادي ، فتراسل مع ركن الدولة داود بن سقمان ، وعرض عليه أن يتحالف معه هو ويترك حسام الدين تمرتاش ، وقد فكَّر داود في الأمر ، فوجد أن عماد الدين زنكي أقوي كثيرًا من حسام الدين تمرتاش ، وأن البلاد ستئُول إليه بالقوَّة إن أصرَّ علي الصدام ، وأن عماد الدين زنكي لم يغدر في حلفه السابق مع حسام الدين تمرتاش ، بل أعطاه عدَّة قلاع وحصون كهدايا وهبات ، وأن الغدر أتي من حسام الدين تمرتاش في حقِّ عماد الدين زنكي ، وقد يأتي منه مرَّةً أخري في حقِّ داود نفسه .. وهكذا إجتمعت العوامل في ذهن داود بن سقمان علي الموافقة علي فكِّ تحالفه مع حسام الدين تمرتاش ، والتحالفِ مع عماد الدين زنكي !

وهكذا إزدادت قوَّة عماد الدين زنكي بينما وجد حسام الدين تمرتاش نفسه وحيدًا في أرض الجزيرة !! ولم يكتفِ عماد الدين زنكي بذلك بل توسَّع جنوبًا وضمَّ مدينة الحَدِيثَة ثم عانة ، وبذلك صارت سيطرته علي منطقة الجزيرة أقوي وأعظم .

إستغلَّ عماد الدين زنكي إستقرار الأوضاع وقوَّة مركزه ، فأسرع في سنة 537هـ\ 1142م بإنفاذ حملة واسعة تهدف إلي السيطرة علي عدَّة حصون في أقاصي ديار بكر وفي أعالي الجزيرة ، فسيطر علي أماكنَ لم يَصِلْ إليها قبل ذلك أحدٌ من السلاجقة أو غيرهم ، فضمَّ طَنْزَة وأسعرد وحِيزَان ، وكذلك ضمَّ عدَّة حصون مثل : الدوق ، ومطليس ، وبانسبة ، وذي القرنين ،وترك في هذه المدن والحصون مَنْ يحفظها من رجاله ، وبذلك وصل الإستقرار في منطقة الجزيرة إلي درجة لم يَصِلْ إليها قبل ذلك .. ويمكن القول أن الطريق الآن أصبح مفتوحًا بشكل آمن إلي إمارة الرها ، اللهم إلا من بلاد حسام الدين تمرتاش ، الذي أدرك عماد الدين زنكي أنه ضعيف ، وأن ضعفه هذا سيمنعه من إعتراض طريق عماد الدين زنكي إذا أراد غزو الرها .

ولم تكن هذه التحرُّكات الثابتة في أرض الجزيرة لتُلْهِيَ عماد الدين زنكي عن متابعة الأمن في إمارته الواسعة ، فكان بالمرصاد لكل محاولة تهدف إلي إثارة الفتنة أو زعزعة الأمن ؛ فمن ذلك صرامته في التعامل مع ثورة قامت عليه في مناطق الأكراد الهكارية شرق الموصل ، وذلك حين مات زعيمهم أبو الهيجاء الهكاري الذي كان مواليًا لعماد الدين زنكي ، فقام من بعده نائبه باو ألارجي ، وأحدث صراعًا في المنطقة يخرج به عن سيطرة عماد الدين زنكي ، فعاد إليه عماد الدين زنكي مسرعًا ، وإصطدم معه ، وإنتصر عليه ، وملك مركزهم الرئيسي ، وهو قلعة آشب ، وضمَّ إليها عدَّة قلاع أخري في المنطقة .

ومن مظاهر يقظته كذلك أنه تعرَّض لهجوم صليبي في بعض المناطق القريبة من حلب ، فقامت الحامية الحلبية بالتصدِّي لهذا الهجوم ، وقتلتْ من الصليبيين سبعمائة ، وظفرت بالكثير من الغنائم .

وعندما ظهرت بعض الإضطرابات في مناطق الأكراد المهرانية - وهم يقطنون في عدد من القلاع في المنطقة الجبلية المتاخمة لجزيرة إبن عمر ، وأهمها قلعة كواشي - تصدَّي لهم عماد الدين زنكي ، وأخضعهم بكل حسم ، ومن ثَمَّ عاد الأمن والأمان لربوع دولته كلها .

وهكذا في نهاية سنة 537هـ وبداية سنة 538هـ كانت أمور عماد الدين زنكي قد إستقرَّت كثيرًا ، وصار من الممكن له أن يقوم بخطوات عملية ، وبخطَّة واضحة تهدف إلي غزو الإمارة العتيدة : الرها !

لقد مرَّت حتي الآن خمس سنوات - منذ سنة 533 وإلي سنة 538هـ - لم يحدث فيها صدام يُذكر مع الصليبيين ، ولكنها لم تكن سنواتٍ خاملةً ، بل كان فيها إعداد متَّصل ، وتنظيم مستمرٌّ ، وما غابت قضية جهاد الصليبيين عن ذهن عماد الدين زنكي أبدًا ، بل لم تغبْ قضية إمارة الرها بالذات عن تفكير البطل الجليل عماد الدين زنكي ، فكان الأمر كما ذكر إبن القلانسيّ رحمه الله في كتابه (ذيل تاريخ دمشق) : "فكان ذِكْر هذه المدينة جائلاً في خلده ، وأمرها ماثلاً في خاطره وقلبه" .

وبدأ عماد الدين زنكي يرتِّب أوراقه ، ويُعِدُّ عُدَّته ، ويرسم خطَّته ؛ لينظِّم هجومًا شاملاً علي إمارة الرها ، وبينما هو في هذا الإعداد إذ بالأحداث تتكاثف في سنة 538هـ\ 1143م لتُمَهِّد الطريق لعماد الدين زنكي لينفِّذ خطَّته !

ولا يقولنَّ أحدٌ أن هذه مصادفة عجيبة! فإن الأمور تجري بالمقادير ، ولقد رأي اللهُ الإخلاصَ في قلب عماد الدين زنكي ، والإتقان في عمله ، فساعده في أحواله ، ويسَّر له أمور ه، خاصَّةً وهو يكافِح من أجل قضية إسلامية ، ومهمة شرعية ، هي من أعظم المهامِّ مطلقًا ، وهي مهمَّة تحرير بلاد المسلمين من الأعداء العاصبين .

وتعالَوْا نرصد بعض الحوادث التي تمَّت في سنة 538هـ وأوائل سنة 539هـ (1143- 1144م) ، والتي فتحت طريق عماد الدين زنكي إلي الرها !

أولاً : تُوُفِّيَ في سنة 538هـ\ 1143م الإمبراطور البيزنطي يوحنا كومنين ، وتولَّي من بعده ابنه مانويل كومنين. ولا شكَّ أن الأزمة التي حدثت بوفاة يوحنا كومنين - الذي حكم إمبراطوريته خمسة وعشرين عامًا كاملة - كانت أزمة كبيرة ، وإضطر مانويل أن يصرف كل جهوده لتنظيم الأمور الداخلية في الإمبراطورية ؛ وهذا أخرج الإمبراطورية الكبيرة من معادلة الصراع ، فلم يكن عندها الوقت أو القوَّة للتدخُّل لصالح إمارة الرها ، وكانت هذه نقطة مهمَّة ؛ لأننا رأينا قبل ذلك تحالفًا بيزنطيًّا صليبيًّا في سنة 532هـ ، أي منذ ستِّ سنوات فقط ، وكان جوسلين الثاني أمير الرها مشارِكًا في هذا التحالف ، ولا شكَّ أن تحالفًا كهذا كان من الممكن أن يُعَطِّل خطط عماد الدين زنكي لغزو الرها، لكنَّ الله سلَّم .

ثانيًا : نتيجة وفاة الإمبراطور يوحنا كومنين طمع ريموند بواتييه أمير أنطاكية في إقليم قليقية ، والذي سيطرت عليه الإمبراطورية البيزنطية أثناء حملتها علي المنطقة سنة 532هـ ، وبالتالي تقدَّم ريموند بواتييه بقوَّاته وإحتلَّ إقليم قليقية .. وهذا - لا شكَّ - أغضب الإمبراطورية البيزنطية ؛ لينشأ بينها وبين أمير أنطاكية صراع ونزاع حول هذا الإقليم ، وهذا النزاع الخطير صرف ذهن ريموند بواتييه تمامًا عن إمارة الرها ، وبالتالي فَقَدت إمارة الرها مناصرة أقرب الإمارات الصليبية إليها .

ثالثًا : تُوُفِّيَ فجأةً الملك فولك الأنجوي ملك بيت المقدس علي إثر جراحة أُصيب بها في رحلة صيد ! وترك ولدين صغيرين هما : بلدوين الثالث وكان عمره ثلاثة عشر عامًا ، وعموري أو إيموري وكان عمره سبع سنوات فقط .. وهكذا وُضِع الطفل بلدوين الثالث علي كرسيِّ المملكة ، وتولَّت أمُّه ميلزاند بنت بلدوين الثاني - وهي الزوجة الخائنة التي تحدَّثنا عنها قبل ذلك - منصبَ الوصاية علي الحكم !

وبذلك صارت الأمور في يد هذه المرأة ، وهي تحكم باسم الطفل بلدوين الثالث .. ولا شكَّ أن هذا الإضطراب أضعف كثيرًا من هيبة مملكة بيت المقدس ، وتفرَّق شمل الإمارات الصليبية ؛ حيث كان من المعتاد أن يقوم ملك بيت المقدس بتجميع جهودهم ، وفكِّ نزاعاتهم وحلِّها ، أمَّا الآن فالزعماء العسكريُّون أمثال ريموند بواتييه وجوسلين الثاني لن يستمعوا لقول امرأة ، ولا لحُكْم طفلٍ !

رابعًا : نشب صراع معلن بين الأمير جوسلين الثاني أمير الرها والأمير ريموند بواتييه أمير أنطاكية ، واللذان كانا علي درجة كبيرة من العداء والكراهية والغيرة ، وكان التنافس بينهما شديدًا علي أملاك المسلمين المتوسطة بينهما ، وكان الذي يكتم هذا الصراع وينهيه وجود الملك فولك كسلطة أعلي لكلِّ الصليبيين في بلاد المسلمين ، أمَّا عند وفاة الملك فولك فلم يعد هناك مَنْ يفكُّ إشتباك الأميرين ، ومن ثَمَّ أصبح الاختلاف بينهما صريحًا معلنًا .

خامسًا : تُوُفِّيَ فجأة أيضًا ركن الدولة داود بن سقمان ، الزعيم الأرتقي الخطير ، وهو وإن كان محالفًا لعماد الدين زنكي في أيامه الأخيرة إلاَّ أنه شخصيَّة غير مأمونة ، وبالتالي فقد ينقلب علي عماد الدين زنكي في أية لحظة ، وقد يضرب عماد الدين زنكي في ظهره ، ولم يكن يمانع في التحالف مع الصليبيين إذا لزم الأمر للدفاع عن أملاكه وحصونه .. وقد تولَّي من بعده إبنه قرا أرسلان بن داود ، وكان علي خلافِ أبيه تمامًا ، فكان مفتقرًا للحكمة السياسية ، والقدرة القتالية التي كان يتمتع بها أبوه ، بل إنه وفي أيام حكمه الأولي قرَّر التحالف مع جوسلين الثاني أمير الرها ، وهذا وإن كان يبدو خطيرًا إلاَّ أنه كشف أوراقه مبكِّرًا ، وأعطي عماد الدين زنكي المبرِّر الكافي لضربه ، وللهجوم علي بلاده ، وكان هذا أمرًا سهلاً بالنسبة لعماد الدين زنكي ؛ وذلك لقلَّة خبرة قرا أرسلان ، وضعف تأثيره علي جنوده .

وهكذا تضافرت هذه الأحداث مجتمعة علي عزل إمارة الرها ؛ حيث إنها فقدت العون من إمارة أنطاكية ومن مملكة بيت المقدس ، كما فقدته من الإمبراطورية البيزنطية ، وإضافةً إلي ذلك فقد فَقَدت أرض الجزيرة شخصيَّة عنيدة ، هي شخصية ركن الدولة داود بن سقمان ، وبذلك خارت قوَّتها أمام البطل عماد الدين زنكي !!

وها قد صار الطريق إلي الرها مفتوحًا !

نظر عماد الدين زنكي نظرة عسكرية إلي إمارة الرها فوجد أنها قد قُطِّعَت أوصالها من الأعوان نتيجة وفاة الإمبراطور يوحنا كومنين والملك فولك الأنجوي ، ونتيجة صراعها مع إمارة أنطاكية ، ولم يبقَ لها من اتِّصال إلاَّ مع الأراتقة في أرض الجزيرة عن طريق أميرهم الجديد قرا أرسلان ابن داود ، فأراد عماد الدين زنكي أن يقطع هذا الاتصال ليعزل إمارة الرها نهائيًّا عن العالم المحيط ؛ وبالتالي يسهل عليه ضربها بعد ذلك .. ولهذا قام عماد الدين زنكي في نفس السنة في 538هـ\ 1143م بحملة عسكرية تهدف إلي إسقاط الحصون الصليبية الواقعة في إقليم شبختان - وهو من أقاليم الجزيرة ، وهو الإقليم الفاصل بين حدود إمارة الرها وبين أملاك قرا أرسلان - وبذلك يعزل الحليفين عن بعضهما البعض .. وبالفعل نجح عماد الدين زنكي في إسقاط عدَّة حصون صليبية في هذا الإقليم ، منها : جملين ، والموزر ، وتل موزن ، وغيرها ؛ وبذلك حقَّق ما يريد ، وصارت إمارة الرها معزولة عُزْلَة تامَّة ، ولم يَعُدْ أمام عماد الدين زنكي إلاَّ أن يتوجَّه إليها بجيشه .

وبينما هو في هذا التوقيت يجهِّز نفسه للمهمَّة الكبري إذ جاءته الأخبار بمفاجأة مفزعة كادت تغيِّر كل خططه ، وتفسد عليه كل إعداده !

لقد جاءت الأخبار من بغداد أن السلطان مسعودًا السلجوقي يتجهَّز لغزو عماد الدين زنكي وإنتزاع الإمارة منه !

في هذا التوقيت يُريد السلطان مسعود أن يقاتل عماد الدين زنكي !! إنه - ولا شكَّ - مصابٌ بعدَّة أمراض نفسيَّة وأخلاقيَّة ! إنه مصاب بمرض الحَوَل السياسي ؛ فلا يعرف إلي أين يجب أن يوجِّه حربه ، وإلي أي طريقٍ ينبغي أن يسير بجيوشه !

وهو - في نفس الوقت - مصاب بضعف شديد في الدين ، فلا يمانِع من أن يفكَّ وَحْدة المسلمين في هذا التوقيت العصيب ، ولا يتردَّد في إرتكاب أمر يُشفِي غليل الصليبيين ، ويُتعِس المسلمين !

وهو أيضًا مصاب بإنهيار في الأخلاق فيُقبِل علي ضرب مجاهد في ظهره ، ويُسرِع في نصب كمين لجيوش المؤمنين !

إنها كارثة بكلِّ المقاييس !

ماذا يفعل عماد الدين زنكي إزاء هذا الموقف الرهيب ؟!

هل يتجاهل أمره ويتَّجه إلي الرها بعد أن أصبح مسرح العمليات جاهزًا ، أم أن هذا سيجعل ظهره مكشوفًا للسلطان مسعود ؛ فيهجم عليه ويضيع كل شيء ؟

أم هل يقاتل السلطانَ مسعودًا ، ويُضيِّع فرصة فتح الرها التي ظلَّ يُعِدُّ لها من أول أيام حكمه (أي منذ ثمانية عشر عامًا)؟!

لقد وضعه السلطان مسعود في مأزق خطير !

ولماذا فعل ذلك السلطان مسعود ؟!

لقد شعر السلطان مسعود أن الأرض تتناقص من حوله ، وشعر أيضًا أن هيبته قد قلَّت ، وصارت كلها لعماد الدين زنكي ، وأحسَّ أن أمراء الأطراف الذين يتبعونه قد بدءوا يثورون عليه ، ويخرجون عن طوعه ، وتوقَّع أن خروجهم هذا بتحريض من عماد الدين زنكي ليُضعِف من قوَّة السلطان .

وإزاء تمسُّك السلطان مسعود بحكمه وأملاكه وسلطته نسي قضية الصليبيين ، وتجاهل هموم المسلمين ، وسعي لأمرٍ لا يُسعِد أحدًا إلاَّ هو والصليبيين والشيطان ! فكانت هذه الكارثة !
وفكَّر عماد الدين رحمه الله ، وفكَّر ..

ثم وصل إلي ما ينبغي عمله في هذا الموقف !

إن الحلَّ الأمثل هو شراء رضا السلطان مسعود بأيِّ ثمن ، ولو كان التواضع له ، وإظهار الإمتثال الكامل لسلطانه ، مع أن الجميع يري أن عماد الدين زنكي أقوي ألف مرَّة من السلطان مسعود ، لكن عماد الدين زنكي ليس عنده وقت يضيِّعه في معاركَ جانبيةٍ ، كما أنه لا يسعي للقبٍ أو تشريف ، إنما يريد جهاد الصليبيين لله ? ، ولا يريد أن يشغله عن ذلك شاغل ، أيًّا كان هذا الشاغل .

لقد جاءت الأخبار إلي عماد الدين زنكي بهذا الأمر ، ثم ما لبث سيف الدين غازي بن عماد الدين زنكي أن جاء من بغداد هاربًا ؛ ليبلغ أباه بالأخبار الجديدة ، وكان عماد الدين زنكي قد ترك ولده الأكبر سيف الدين غازي في خدمة السلطان مسعود طيلة السنوات السابقة ، وكان هذا أمرًا سياسيًّا حكيمًا منه ؛ إذ به يتقرَّب إلي السلطان ليأمن شرَّه ، وهو في نفس الوقت ينقل الأخبار إلي أبيه عماد الدين زنكي .. فلمَّا عَلِمَ سيف الدين غازي بهذه التطورات هرب من السلطان ، وأسرع إلي أبيه بالموصل ليحذِّره ، ولكن عماد الدين زنكي فعل أمرًا عجيبًا ! إذ رفض أن يقابل إبنه ، وردَّه إلي السلطان ، وأرسل معه رسولاً من قِبَلِه يقول للسلطان : " إن ولدي هرب خوفًا من السلطان ، لمَّا رأي تغيُّره عليَّ ، وقد أعدْتُه إلي الخدمة ، ولم أجتمع به ؛ فإنه مملوكك ، والبلاد لك" !!

فكما يقول إبن الأثير : " فحلَّ ذلك من السلطان محلاًّ عظيمًا !" .

لقد تأثَّر السلطان تأثُّرًا بالغًا بهذا الموقف ، وسواء فَقِهَ الموقف علي أنه رضوخ حقيقي للسلطان ، أو فهمه علي أنه خدعة سياسية ، فإنه ما كان يستطيع إزاء هذا الموقف أن يستمرَّ في عزمه علي القتال ، خاصَّةً وهو يعلم قوَّة عماد الدين زنكي وسلطته ، إضافةً إلي أن ردَّ فعل عموم المسلمين لن يرحم السلطان مسعودًا ؛ لأنه فَقَدَ مُبَرِّر القتال بإظهار عماد الدين زنكي طاعته له !

وهكذا توقف السلطان مسعود عن مخطَّطه ، ونجا عماد الدين زنكي من هذه الكارثة ، ومن ثَمَّ يَمَّم وجهه شطر الرها !

كان عماد الدين زنكي واقعيًّا ، ويعلم أن حصون الرها منيعة جدًّا ، ويعلم أيضًا أن جوسلين الثاني وجيشه قادرون علي صدِّ هجمته إن تحصنوا بهذه الحصون المحكمة ، والتجارب السابقة للزعماء المسلمين علي مدار الخمسين سنة السابقة تؤكِّد ذلك ؛ وعليه فكانت خطة عماد الدين زنكي تهدف في الأساس إلي مباغتة الرها في الوقت الذي تخلو فيه المدينة من قائدها وجيشه .. لكن هل ينتظر عماد الدين زنكي إلي أن تأتي مثل هذه الفرصة ؟! إن هذا قد يتطلب وقتًا طويلاً ، وهو لا يدري ماذا تحمل له الأيام القادمة ! إن عليه أن يدفع جوسلين الثاني للخروج من حصونه ، ولكن دون أن يستفزه ؛ لأنه لا يميل للقتال أصلاً ، بل يؤثر الرفاهية والأمان .

ماذا يفعل عماد الدين زنكي ؟!

لقد قرر عماد الدين زنكي أن يتظاهر بأنه سيهاجم بعض حصون قرا أرسلان بن داود ، الذي يحالف جوسلين الثاني في هذا الوقت ، وسيتوجه بجيشه إلي هذه المنطقة القريبة من الرها ، وسيشيع في الأجواء أن هناك فرقًا مساعدة له ستأتي من حلب ؛ ليشجِّع جوسلين الثاني لأن يخرج من حصونه لقطع الطريق علي المعونة الحلبية ، فإذا خرج جوسلين الثاني من الرها ، وإبتعد عنها ، غيَّر عماد الدين زنكي من وجهته ، وترك مناطق الأراتقة وإتجه مباشرة إلي الرها فضرب حولها الحصار ، وعندها قد تكون هناك فرصة لإسقاط المدينة !

كان هذا هو الجهد البشري الذي بذله عماد الدين زنكي ، وكان من الممكن أن يوجد له ألف عائق يعوقه ، ويمنعه من النجاح !! كان من الممكن أن يشك جوسلين الثاني في الأمر فلا يخرج ، وكان من الممكن أن يتجاهل نصرة حليفه عمدًا ، وكان من الممكن لقرا أرسلان أن يعطِّل سير عماد الدين زنكي فلا يصل إلي الرها في الوقت المناسب ، وكان من الممكن أشياء أخري كثيرة ؛ لكنَّ الله لم يُرِدْ لكل هذه العوائق أن تحدث ، إنما أراد الله للنصر أن ينزل علي المؤمنين ، فدبَّر المواقف التي تقود إليه ، وأزال العوائق التي تمنع من الوصول إليه ؛ لتسير الأمور كلها نحو وجهة يريدها ، ونحو هدفٍ يرضي عنه .

إنه تدبيرُ ربِّ العالمين : إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

قديم 04-03-14, 05:03 AM

  رقم المشاركة : 23
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

إسترداد الرها !

وفي أواخر شهر ربيع الثاني من سنة (539هـ) نوفمبر 1144م ، خرج عماد الدين زنكي بجيش كثيف من الموصل متوجِّهًا صوب الرها ، وقد أمر جميع الأمراء والجنود ألا يتخلفوا عن هذه الموقعة المهمَّة ، فخرجوا جميعًا ..

لقد خرج بالجيش الذي بذل عمره في إعداده ، وتوجه بجيشه هذا إلى مدينة آمد التابعة للأراتقة ؛ ليُوهِم جوسلين الثاني وعيونه أنه لا يريد الرها ولا يفكر فيها , وقد إنطلت الخدعة على جوسلين الثاني ، خاصةً أن عماد الدين زنكي كان مشغولاً طوال السنوات الست السابقة في معاركه في أرض الجزيرة مع الأراتقة ، فلا جديد في الحدث ..

وكما رتَّب عماد الدين زنكي تمامًا خرج جوسلين الثاني في جيشه ، وإتجه جنوبًا ليقطع الإمدادات العسكرية الإسلامية القادمة من حلب ، وبسرعة نقلت عيون عماد الدين زنكي الأخبار إلى عماد الدين زنكي ، فغيَّر من إتجاهه في لحظات ، وإتجه إلى الرها من طريق وأرسل حاجبه صلاح الدين الياغيسياني من طريق آخر ، وكان هذا الإنفصال ليشتِّت عيون الصليبيين إذا رصدت التحركات ! وكانت حركة الجيش في معظمها في الليل ، وكانت الليلة التي إقتربوا فيها من الرها شديدة المطر ، وبردها قارسًا ، لكن ذلك لم يمنعهم من التقدم ، إنما منع عيون الصليبيين من رصد الأمور .

وإنقشع الظلام وظهر نور الصبح ليوم 28 من ربيع الثاني 539هـ \ 25 من نوفمبر 1144م ، ومع نور الصبح إكتشف الصليبيون في داخل المدينة أن الجيوش الإسلامية تحيط بها من كل جانب !

وصلت الأخبار المفزعة إلى جوسلين الثاني بعد فوات الأوان ، فخشي أن يعود إلى الرها فيصطدم بالقوات الإسلامية الكثيفة ، فقرر أن يذهب إلى مدينة تلِّ باشر التابعة له ، والتي يفصلها عن مدينة الرها نهر الفرات ؛ وذلك كي يكون قريبًا من الأحداث ، ويدرك التطورات أولاً بأول ، ولكنه في نفس الوقت محميٌّ بعائق مائي كبير هو نهر الفرات ، يعطيه الوقت الكافي للهرب إن لزم الأمر !

ثم إن جوسلين الثاني أرسل رسائل إستغاثة عاجلة إلى أنطاكية على الرغم من الخلاف بينه وبين ريموند بواتييه ، وكذلك إلى مملكة بيت المقدس إلى الملكة ميلزاند على الرغم من ضعفها ، وبُعد المسافة بينهما .

أما بالنسبة لريموند بواتييه فقد رفض أن يساعد جوسلين الثاني متعلِّلاً بإنشغاله في حربه في إقليم قليقية ضد الدولة البيزنطية ، وأما الملكة ميلزاند فقد أرسلت قوة عسكرية عاجلة على رأسها فيليب أمير نابلس ، وأليناند بورس أمير الجليل ، غير أن المسافة الطويلة جعلتهم يصلون بعد فوات الأوان !

أما عماد الدين زنكي فقد حرَّكت هجمته الجهادية الروح في عموم المسلمين ، فتقدَّم معه الآلاف من المتطوعة من شمال العراق ، حتى صار عدد جيشه يخرج عن الإحصاء ، وأغلق عماد الدين زنكي بإحكام كل الطرق المؤدية للرُّها ؛ حتى يمنع أي فرصة إغاثة للمدينة ، ونَصَب البطل المغوار آلات الحصار الضخمة حول الأسوار ، ومنها عدَّة عشرات من المجانيق ، وبدأ القصف الفوري للمدينة ، ولم يتوقف هذا القصف لحظة واحدة طيلة أيام الحصار .

وشعر الصليبيون داخل المدينة بالخطر الشديد ؛ فجوسلين قد أخذ معه معظم القادة اللامعين ، ولم يعد هناك من يمتلك المؤهلات العسكرية لهذه المهمَّة الشاقة .. وإزاء هذا الموقف تقدم الأساقفة النصارى لقيادة المقاومة ، وكان على رأسهم بالطبع الأسقف الكاثوليكي هيو الثاني ، وكان معه الأسقف الأرمني يوحنا ، والأسقف اليعقوبيُّ باسيل ، ويبدو أن عماد الدين زنكي كانت له عيون في داخل المدينة ، فوصلت إليه هذه الأخبار ، فأراد أن يفرِّق هذه التجمعات النصرانية ، فراسل أساقفة النصارى الشرقيين : اليعاقبة والأرمن ، وعرض عليهما التسليم مقابل الأمان ، وقد رفضا في البداية ، ولكنهما مالا في النهاية إلى التسليم ، إلا أن الأسقف الكاثوليكي هيو الثاني أصرَّ على المقاومة ، وأجبرهما على إكمال المهمة العسكرية .

وبدأت المدينة تدخل في مرحلة حرجة جدًّا حيث قلَّت المؤن والأغذية ، ولم يكن هناك أي فرصة لوصول جوسلين الثاني ، أو لإختراق الإستحكامات العسكرية الدقيقة التي نَصَبها عماد الدين زنكي في كل المحاور المؤدية للمدينة .

وكان مع عماد الدين زنكي فرقة متخصصة في هدم الأسوار إسمها فرقة النقَّابين ، أي الذين يُنقِّبون الأسوار ، فتقدمت هذه الفرقة ، وبدأت تمارس عملها بنشاط ، وهي تحت حماية القصف المستمر من المجانيق الإسلامية .. ومع مرور الوقت بدأت تظهر تباشير النجاح ، وبرغم المقاومة الشرسة إلا أن أحد أجزاء السور بدأت تتأثَّر ، وضاعف المجاهدون من جهدهم ، ولم يتوقف العمل لحظة ، ولم يتوان أحد مطلقًا عن بذل كل الطاقة .

وفي يوم 26 من جمادى الآخرة 539هـ\ 23 من ديسمبر 1144م ، وبعد ثمانية وعشرين يومًا كاملة من الحصار ، أَذِن الله لجزءٍ من السور أن ينهار !

وإشتعل الحماس في الجيش المسلم ، وعلت صيحات التكبير من كل مكان ، وإنهمرت جموع المسلمين إلى الجزء المنهار من السور ، وإنحدروا كالسيل داخل المدينة الحصينة ، وسرعان ما فُتحت الأبواب من الداخل ، ودخلت الجيوش الكثيفة يتقدمها البطل الفذُّ عماد الدين زنكي لترتطم الجيوش الإسلامية بالحامية الصليبية المرابضة داخل المدينة ، وكان أول مَن حمل على الصليبيين هو عماد الدين زنكي نفسه ! وسرعان ما إحتدم الصراع في كل مكان ، وعمَّت الفوضى أرجاء المدينة ، وإرتفعت سحب الغبار في كل مكان ، وسالت الشوارع بالدماء ، وتناثرت الأشلاء ، وسيطر المسلمون في لحظات على الأبراج والأسوار والأبواب ، وكذلك على كل المحاور في داخل المدينة ، وسقط القتلى من الصليبيين بالآلاف ، وألقى الله الرعب في قلوبهم ( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ) .

وسقط الأسقف هيو الثاني صريعًا تحت الأقدام ، وبسقوطه إنهارت معنويات الصليبيين تمامًا ، فلاذوا بالفرار إلى القلعة الموجودة في داخل المدينة وإنطلق الجنود المسلمون في كل مكان يملئون أيديهم من الثروات الضخمة ، والسبي الكثير ، والغنائم التي لا تُحصى ، وإنطلقت فرقة إسلامية قوية لحصار القلعة ، وما هو إلا يومان وسقطت القلعة ، وقَتَل عماد الدين زنكي مَن كان فيها من الصليبيين ، بينما أبقى على الأرمن واليعاقبة .

لقد كان يومًا من أيام الله ..

وكان يومًا من أيام الإسلام المشهودة !

وعندما ظهر تفوق المسلمين الواضح ، وإستتبت الأمور لعماد الدين زنكي أصدر أمره فورًا بوقف عمليات القتل ، وتأمين الجميع إلا الصليبيين العسكريين ، فإنهم كانوا يُقتلون ، وأُخذت النساء والأطفال سبيًا .

أما الأرمن واليعاقبة فقد أصدر عماد الدين زنكي عفوًا عامًّا عنهم ، مع أنهم كانوا يشتركون مع الصليبيين في الدفاع عن المدينة ، إلا أنه قدَّر ظروفهم ، وأدرك أنهم قُهِروا على ذلك ، فسامحهم وعذرهم !

ثم أعرب عماد الدين زنكي عن سياسته تجاه هذا البلد المهم بعد فتحه ، فقال : "إن ذلك البلد لا يجوز في السياسة تخريب مثله" ؛ فعماد الدين زنكي رأى أن الرها مدينة عظيمة لا ينبغي أن يدمِّرها ويتركها خاويةً على عروشها ، ولكن عليه أن يحافظ عليها ويحميها , وفي سبيل ذلك قرر عماد الدين زنكي عدة قرارات هي من أروع القرارات الإنسانية التي من الممكن أن يتخذها فاتحٌ أو منتصر !

أولاً : منع الإعتداءات على أملاك الأرمن واليعاقبة .

ثانيًا : على كل الجنود المسلمين أن يُعيدوا إلى الأرمن واليعاقبة (وهم النصارى الشرقيون الذين يعيشون في البلد منذ عشرات السنين ، أي سكان البلد الأصليين) كُلَّ ما أخذوه من أموال أو غنائم أو سبي أو غيره .. فأعاد الجنود كل ما أخذوه ، وعادت البلد إلى الحال التي كانت عليه قبل الفتح الإسلامي !

ثالثًا : إطلاق الحرية الدينية لهم ، وعدم المساس مطلقًا بكنائسهم .

رابعًا : إعطاء الأرمن واليعاقبة صورة من الحكم الذاتي لتصريف أحوالهم داخل المدينة دون الرجوع للمسلمين ، على أن تكون تبعيتهم للحكومة الإسلامية .

خامسًا : تخصيص الأساقفة بالعطف والرعاية وإسداء الهدايا ؛ فهؤلاء هم الذين يقودون شعوبهم .

سادسًا : دعوة الأرمن الذين هجروا البلد نتيجة إضطهاد الصليبيين إلى العودة مرة ثانية إلى الرها للعيش في أمانٍ في ظل الحكم الإسلامي .

وهكذا بهذه السياسة الحكيمة ، وبهذه الروح المتسامحة إستقرت الأوضاع في مدينة الرها ، وعادت إلى أيدي المسلمين بعد أكثر من خمسين سنة كاملة ، وعادت بهيئتها التي كانت عليها قبل أن يمتلكها الصليبيون ، وذلك كمدينة ذات طابع نصراني تحت حكم إسلامي .

لقد كان نصرًا خالدًا حقًّا تَوَّج الله به جَهْد البطل القدير عماد الدين زنكي ، ويكفي في وصف هذا النصر ما ذكره إبن الأثير في كتابه (الباهر) حين قال : " لم ينتفع المسلمون بمثله ، وطار في الآفاق ذكرُه ، وطاف بها نشره ، وسارت به الرفاق ، وإمتلأ به المحافل في الآفاق ، وكان هذا فتح الفتوح حقًّا ، وأشبههم ببدر صدقًا ..." .

ولم يكتف عماد الدين زنكي رحمه الله بإسقاط مدينة الرها ، بل أسرع إلى كل الحصون المجاورة والتابعة لإمارة الرها فأسقطها في الحال ، وكان أهمها حصن مدينة سروج الذي سقط في رجب 539هـ\ يناير 1145م ، وبعد أقل من شهرٍ من سقوط الرها .

وبذلك لم يبق في إمارة الرها إلا بعض المدن الصغيرة غرب الفرات وأهمها تل باشر التي يتمركز فيها جوسلين الثاني ، مما يعني تقريبًا إنهيار الإمارة الصليبية التي كانت أول الإمارات الصليبية تأسيسًا ، فأصبحت كذلك أولها سقوطًا !

ولا شك أن نصرًا مجيدًا كهذا كان له من الآثار ما لا يحصى ، ونستطيع أن نرصد من هذه الآثار ما يلي :

أولاً : إرتفعت الروح المعنوية للمسلمين إرتفاعًا هائلاً ، ليس في إمارة عماد الدين زنكي فقط ، ولكن في كل ربوع الدنيا ، وأقيمت الإحتفالات ، ونُظِمت الأشعار ، وشغلت هذه الإنتصارات كل الخطباء ؛ فهذه لم تكن آمالاً بالنصر ، أو وعودًا بالنجاح ، ولكنها كانت نتائجَ حقيقية ، وآثارًا ملموسة .

ثانيًا : في المقابل حدثت صدمة نفسيَّة هائلة للصليبيين ، فلم يكن جوسلين الثاني يتوقع أبدًا أن تسقط حصون الرها المنيعة ، وكان يتخيل أنها حملة ككل الحملات التي حدثت على مدار السنوات السابقة ، وهذا شلَّ حركته تمامًا ، فما جَرُؤ على التقدُّم بجيشه للدفاع عن المدينة .

ولا شك أن هذا ترك في نفسه وفي نفوس أصحابه وأمرائه ، رواسبَ عميقة ستؤثِّر جدًّا على تصرفاتهم مستقبلاً .. كما أننا لم نلاحظ أي جهود من الإمارات الصليبية الأخرى لإستعادة هذه الإمارة العتيدة ، مما يؤكِّد على إحباطهم التام من إمكانية النصر .

ثالثًا : دخل المسلمون بعد هذا الفتح المبين مرحلة التوازن مع الصليبيين ، ففي خلال السنوات الخمسين السابقة ، كانت قوة الصليبيين دائمًا أعلى ، وحتى عندما كان المسلمون يحقِّقون نصرًا ، فإنهم كانوا يحققونه على بعض الجيوش والأفراد ، ثم يعود كل فريق إلى مدنه وأملاكه دون أن يفقد منها شيئًا ، وحتى عندما كان يحدث أن يحرِّر المسلمون حصنًا أو مدينة كان سرعان ما يسترده الصليبيون ، أما الآن فقد توازنت القوى ، وأصبح للمسلمين القدرة على الوقوف وجهًا لوجه مع الصليبيين ، وتغيرت الإستراتيجية من مجرَّد الدفاع عند حدوث هجوم إلى إستخدام مبدأ الهجوم خير وسيلة للدفاع .

رابعًا : أيقظت هذه الهزيمة المريعة للصليبيين أوربا الغربية ، بعد أن كانوا قد اطمأنُّوا إلى أحوال الصليبيين في الشرق ، وبدأت تظهر فيها دعوات لإنقاذ الصليبيين في الإمارات الصليبية ، بل وأرسلت الملكة ميلزاند رسالة إستغاثة إلى البابا في روما تستنهض فيه الهمَّة لجمع نجدة كبيرة للصليبيين .. وهذه الحركة الأوربية ستكون نواة للحملة الصليبية الثانية بعد ذلك بسنوات قليلة .

خامسًا : غيَّر هذا النصر من سياسة إمارة أنطاكية تجاه الإمبراطورية البيزنطية ، فبعد أن تجرَّأ ريموند بواتييه وإحتل إقليم قليقية ، وَجَد نفسه الآن وحيدًا أمام القوة الإسلامية الجديدة ؛ وهذا دفعه إلى بدء مباحثات مع الإمبراطور البيزنطي مانويل كومنين يعرض عليه التعاون ضد المسلمين ، وهذا سيسحب الإمبراطورية البيزنطية مرة أخرى إلى حلبة الصراع بين المسلمين والنصارى .

سادسًا : سكنت تمامًا بعد هذا النصر العظيم محاولات السلطان مسعود لإقصاء عماد الدين زنكي عن الحكم والإمارة ، فقد أدرك حجمه بالقياس إلى حجم البطل الكبير ، وعَلِم أن أي محاولة لإقصائه لن تقبل البتَّة من عموم المسلمين ؛ ومن ثَمَّ فقد ظلت العلاقات طيبة إلى آخر عهد عماد الدين زنكي .

سابعًا : هزَّ هذا النصر الكبير مشاعر الخليفة العباسي المقتفي لأمر الله ، وكان رجلاً تقيًّا حسن الخُلُق ، فما تردد أن يُرسِل التشريفات الكثيرة لعماد الدين زنكي ، بل وأنعم عليه بعددٍ من الألقاب لم يكن من المعتاد أن تُعطى للأمراء والقادة ؛ مما أضفى على عماد الدين زنكي شكلاً جديدًا .. وهذه الألقاب مثل الملك العادل ، وركن الإسلام ، والأمير المظفر ، وعمدة السلاطين ، وزعيم جيوش المسلمين ، وملك الأمراء ! وكانت هذه الألقاب كلها تُوحي بالاستقلالية والزعامة ، وعدم التبعية لأحد ، وكانت تضع فوق أكتاف عماد الدين زنكي مسئوليات كبيرة إلى جوار المسئوليات التي يحملها .

ثامنًا : كانت هذه الإنتصارات ، وهذه المواقف من السلطان مسعود والخليفة المقتفي إيذانًا بميلاد الدولة الزنكيَّة ، التي يصبح فيها عماد الدين زنكي بمنزلة المؤسِّس الذي يتوارث أولاده من بعده الحكم في دولته ، والتي تَدِين كثيرٌ من العائلات والقبائل لهم بالولاء ، والذين تصبح لهم القيادة والريادة للعالم الإسلامي كله بعد ذلك ، ولتتسلم بذلك الدولة الزنكية الرايةَ من الدولة السلجوقية ، ويتحقق قول ربِّنا سبحانه وتعالى : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) .

تاسعًا : هدأت حركة الأراتقة تمامًا في أرض الجزيرة بعد هذا النصر ، ولم نسمع أي إعتراض من قرا أرسلان بن داود ، ولا من حسام الدين تمرتاش ، مع أنهما لم يُعلِنا الإنضمام تحت لواء عماد الدين زنكي ، ولكن النصر المهيب الذي تحقق أشعر كل منهما بحجمه ، فقَنِع بما يملك منتظرًا ما تأتي به الأيام !

عاشرًا : من الناحية العسكرية فإن هذا النصر طهَّر كل الطرق بين الموصل والشام من الصليبيين ، وفتح العراق بكل إمكانياته على ساحة الصراع الإسلامي الصليبي ، وصار إنتقال الجنود من العراق وفارس إلى الشام آمنًا ، هذا فضلاً عن الإضافة الإقتصادية الهائلة التي تمتعت بها الدولة الإسلامية بدخول مناطق الرها الثرية في دائرة حكمها .، وكذلك إرتفاع حالة الأمن إلى أعلى درجاتها بعد أن أصبح وادي الفرات بكامله واديًا إسلاميًّا !

فهذه كانت بعض الآثار التي ترتبت على نصر الرها ، وعلى سقوط الإمارة الصليبية التي كثيرًا ما دوَّخت المسلمين ، ولكن لا بد لكل ظالمٍ من نهاية ، ولا بد لكل ليلٍ من فجر ، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ .


 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس

إضافة رد

أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:47 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
 

شبكـة الوان الويب لخدمات المـواقع