عرض مشاركة واحدة

قديم 12-08-25, 04:13 PM

  رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
الباسل
المديــر العـــام

الصورة الرمزية الباسل

إحصائية العضو





الباسل غير متواجد حالياً

رسالتي للجميع

افتراضي



 

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

عناية علمية
ولئن كان "المماليك البحرية" قد عززوا شرعية حكمهم بإحياء الخلافة العباسية انطلاقا من القاهرة، وحاول خلفاؤهم "المماليك البرجية" تعضيد تلك الشرعية بادعائهم نَسَباً عربيا لعرقهم الشركسي، ثم عزز كل منهما سلطنته بأعمال جهادية عظيمة كانت نسبة "البحرية" منها أكثر عددا وأكبر أثرا من "البرجية"؛ فإن رابعة ركائز شرعية الحكم لكليهما كانت عناية سلاطينهما الفائقة بالحياة العلمية رجالا وأعمالا وأموالا، عبر رصد الأوقاف الغزيرة لتمويل تأسيس وتسيير المرافق التعليمية العظيمة من مدارس ومساجد والخانقاوات/الخوانق (زوايا صوفية).
وهو ما رصده ابن خلدون -في كتاب مذكرات حياته (الرحلة)- بقوله عن سلاطين المماليك عموما: "أهل هذه الدولة التركية بمصر والشام معنيون... بإنشاء المدارس لتدريس العلم، والخوانق لإقامة رسوم الفقراء (= المتصوفة) في التخلق بآداب الصوفية السنّية في مطارحة الأذكار ونوافل الصّلوات...، فيختطّون مبانيها، ويوقفون الأراضي المُغَلّة للإنفاق منها على طلبة العلم ومتدرّبي الفقراء…، واقتدى بسَننهم في ذلك مَنْ تحت أيديهم من أهل الرئاسة والثروة، فكثرت لذلك المدارس والخوانق"!!
ولذا كان لمصر المملوكية -بعصريْها البحري والبرجي- صيتُها المدوّي بعظيم الاحتفاء بالعلماء على النحو الذي وصفه ابن خلدون أيضا قائلا عن سلطانها الناصر محمد بن قلاوون (ت 741هـ/1340م): "ورَحَل أرباب البضائع من العلماء والتجار إلى مصر، فأوسعهم [الناصرُ] حباءً (= عَطاءً) وبِرًّا، وتنافست أمراء دولته في اتخاذ المدارس والرُّبُط (= الزوايا الصوفية) والخوانق (= الخانقاهات: المدارس الصوفية)، وأصبحت دولتُهم (= المماليك) غُرَّةً في الزمان وواسطةً في الدول"!!
والواقع أن هذا الاعتناء العظيم بالعلم والعلماء سبق عصر الناصر بنحو نصف قرن، وإن أخذ في عهده بعدا راسخا بقدر رسوخ وازدهار سلطنته الممتدة نحو أربعة عقود؛ فقد أدرك السلطان الظاهر بَيْبَرْس أهمية الأزهر من حيث التاريخ والموقع، فأراد توظيف تلك المكانة لتعزيز شرعيته عبر تدريس المذاهب السنية الأربعة أصولا وفروعاً، ثم صار الأمراء والسلاطين من بعده يتنافسون في بناء الجوامع وتأسيس المدارس، والإنفاق عليها ورعاية طلابها، وكان هذا جزءا لا يتجزأ من شرعيتهم الشعبية وهيبة سلطانهم.
فنظرًا لما تلقّاه المماليك -وهم في طور الشباب- من تنشئة دينية صارمة نظريا وعمليا، على النحو الذي سبق لنا وصفه؛ فقد حرص سلاطينهم -استكمالا لترسيخ الأبعاد الدينية لنظام حكمهم في أعين الشعب- على تقريب العلماء والزهّاد والقضاة واستشارتهم وتعظيم جنابهم، احتراما لمكانتهم أو مهابة لعواقب تأثيرهم الشعبي.
فمثلا يروي الإمام جلال الدين السيوطي (ت 911هـ/1505م) -في ‘حُسن المحاضرة‘- أن السلطان الظاهر بَيْبَرْس كان أمام هيبة سلطان العلماء الإمام عز الدين بن عبد السلام (ت 661هـ/1259م) "مُنقمِعًا... لا يستطيع أن يخرج عن أمره، حتى إنه قال لما مات الشيخ: ما استقر مُلكي إلا الآن"!!
ويروي الإمام ابن حَجَر العسقلاني -في ‘إنباء الغُمر بأنباء العُمر‘- أن السلطان الظاهر بَرْقُوق (ت 801هـ/1398م) حين أنشأ مسجده الجامع، وقرر فيه شيوخًا يتولون التدريس "استقر [الشيخ] علاء الدين السيرامي (الحنفي المتوفى 790هـ/1388م) مُدرسَ الحنفية بها وشيخَ الصوفية بها، وبالغ السُّلطان في تعظيمه حتى فرش سجّادته بيده"!
ونظرًا للمكانة العظيمة التي حازها العلماء وما تولوه -في الدولة المملوكية (648-922هـ/1250-1517م)- من الوظائف الدينية كالقضاء والتدريس والفتيا والإمامة والخطابة والوعظ، والوظائف الديوانية مثل الإشراف على الأوقاف وتولي قضاء الجيش وديوان المال ومؤسسة الوزارة وجهاز الحِسبة؛ كان علماء الشرع من الفقهاء والصوفية على رأس المشاركين في حملات المماليك العسكرية أيضًا.
والمواقف الدالة على ذلك أكثر من أن تُحصى؛ منها مثلا مشاركتهم في مقاتلة التتار وطرد الصليبيين من المدن الشامية، ففي رجب من عام 666هـ/1267م "جهّز السلطان [الظاهر بَيْبَرْس] عسكرًا إلى الشقيف (تقع جنوبي لبنان اليوم وكان يحتلها الصليبيون آنذاك)، ثم سار إليها بنفسه.. وقدم الفقهاء للجهاد"؛ وفقا للمقريزي في تاريخه ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘.
ومن ذلك أيضا المساهمة الكبيرة لشيخ الإسلام ابن تيمية في تحريض أمراء المماليك على مواجهة التتار معركة شَقْحَب، وهو ما يخبرنا به تلميذه شمس الدين محمد ابن عبد الهادي المقدسي (ت 744هـ/1344م) -في كتابه ’العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية’- قائلا إنه في "أول شهر رمضان من سنة اثنتين وسبعمئة (702هـ/1302م) كانت وقعة شَقْحَب (= قرية تبعد اليوم عن دمشق 38كم جنوبها) المشهورة، وحصل للناس شدة عظيمة، وظهر فيها من كرامات الشيخ (= ابن تيمية) وإجابة دعائه، وعظيم جهاده وقوة إيمانه، وشدة نصحه للإسلام، وفرط شجاعته ونهاية كرمه…؛ ما يفوق النعت ويتجاوز الوصف".
وينقل لنا ابن عبد الهادي عن أحد أصحاب ابن تيمية -وكان ممن حضر معه تلك المعركة- انبهارَه بـ"كثرة من حضرها من جيوش المسلمين"؛ ثم أورد حديثه عن مكانة شيخه عندهم فـ"قال: واتفقت كلمة إجماعهم على تعظيم الشيخ تقي الدين (= ابن تيمية) ومحبته، وسماع كلامه ونصيحته، واتعظوا بمواعظه وسأله بعضهم مسائل في أمر الدين، ولم يبق من ملوك الشام تركي ولا عربي إلا واجتمع بالشيخ في تلك المدة، واعتقد خيره وصلاحه ونصحه لله ولرسوله وللمؤمنين".
وإذا كانت العلاقة بين السلطان والفقيه في عصر المماليك ظلت -في غالب الأحيان- تدور على قاعدة تكريم العلماء وتعظيم مكانتهم؛ فإن هذه القاعدة وجدت في الواقع العملي المتعلق بمؤسسات الدولة والمجتمع ما يرسخها، ويمنحها حواضن مؤسسية تكفل لها الاستمرارية في أدائها وعطائها، وتضمن استقلالية العلماء عن السلطة في أداء رسالتهم العلمية والمجتمعية.
ومن هنا حرص هؤلاء المماليك على عمارة المنشآت الدينية والتعليمية ورصد الأوقاف السخية، لتزداد قوة ورسوخا عما كانت عليه في العصر الأيوبي؛ وهو أمر صبّ في مصلحة خدمة الإسلام نشرا لعلومه ورعاية لطلبتها وعلمائها، وإن تنوعت دوافع ذلك وأهدافه بين الرغبة في ابتغاء الأجر الأخروي وطلب التقرب إلى الرعية وكسب ولائها، وفي الحالتين فإن الحياة العلمية كانت هي المستفيدة والظافرة وهو ما تجلى في ذخائر المكتبة العربية في شتى المعارف، مما جعل من العصر المملوكي عصر الموسوعات المعرفية بلا منازع.
ولذا لم يكن من المستغرب أن يصف القاضي المؤرخ ابن خَلْدُون -في تاريخه- أوقافَ المماليك في مصر بأنها "الأوقاف التي جاوزت حُدودَ النهاية في هذا المصر لكثرة عوالمه" أي أقاليمه وسكانها، بل إنها لكثرتها "أصبحت خافيةَ الشُّهرة مجهولةَ الأعيان"!!
وقد تنوعت منشآت هذه الأوقاف ما بين المساجد والمدارس وخانقاهات الصوفية وكتاتيب الأطفال -وخاصة الأيتام منهم- والمستشفيات والمكتبات وأسبلة السقاية والخانات والفنادق، وغيرها من المرافق الخدمية التي كانت يعج بها عمران المدينة الإسلامية.
ويلاحظ أحيانا أن المماليك هم الذين كانوا يبادرون في إنشاء الأوقاف وافتتاح المساجد والجوامع رغم الاعتراض على ذلك من بعض الفقهاء وقُضاة القضاة؛ ومن ذلك قصة إعادة افتتاح الجامع الأزهر في عصر السلطان بَيْبَرْس سنة 665هـ/1267م، بعد مئة عام من إغلاقه بأمر السلطان صلاح الدين الأيوبي.
وكانت الأوقاف على هذه المؤسسات -من الأراضي الزراعية الخصبة وغيرها- تدرّ ملايين الدنانير الذهبية كل عام، فتصرف على الصيانة والتعمير ومرتبات العلماء وطلبة العلم وأبناء السبيل. وقد نقل الإمام المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار’- أنه لكثرة هذه الأوقاف -قبل أن تتعدى عليها أيادي ظَلَمَة الأمراء في عصره- صارت تُشرف عليها ثلاث إدارات مستقلة: "الأولى: تُعْرف بالأحباس (= الأوقاف السلطانية)، ويلي هذه الجهة دَوَادار (= أمين سر) السلطان وهو أحد الأمراء، ومعه ناظر الأحباس ولا يكون إلا من أعيان الرؤساء".
والإدارة الثانية "تُعْرف بالأوقاف الحُكْمية (= الأوقاف القضائية) بمصر والقاهرة، ويلي هذه الجهة قاضي القضاة الشافعي...، ويقال لمن يتولى هذه الجهة ناظر الأوقاف...؛ وكانت جهة عامرة يتحصل منها أموال جمّة". وأما الإدارة الثالثة فهي "الأوقاف الأهلية (= الأوقاف الشعبية)، وهي التي لها ناظر خاص إما من أولاد الواقف أو من ولاة السلطان أو القاضي...، وكان متحصلها قد خرج عن الحد في الكثرة لما حدث في الدولة التركية من بناء المدارس والجوامع"!!
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة
مؤسسات خدمية
وبفضل هذه المؤسسات الوقفية الوفيرة والموارد المالية الهائلة المرصودة لها، ناهيك عما يخصص لها من مؤسسة بيت المال العام؛ راجت سوق المعارف والعلوم في عصر المماليك بعد أن "ابْتَنَى أكابرُ الأمراء وغيرُهم من المدارس ما ملأ الأخطاط (= أحياء المُدُن) وشَحَنَها"؛ وفقا لتعبير المؤرخ شهاب الدين القَلْقَشَنْدي (ت 821هـ/1418م) في ‘صبح الأعشَى في صناعة الإنشا’.
وتدل المعطيات التاريخية المتوافرة عن هذه المدارس على تنوعها المذهبي، وأن دعم المماليك المالي والمدرسي للمذاهب الفقهية لم يكن مرتبطا بانتمائهم إلى مذهب معين، فما من مذهب إلا وأنشؤوا لأتباعه مدارس ورصدوا لهم أوقافا، وأحيانا تكون المدرسة مشتركة بين مذهبين أو أكثر، وإن ظل كثير منها مخصصا للمذهبين الشافعي والحنفي لظروف المكانة الخاصة لكل منهما في نفوس معظم سلاطين وأمراء المماليك.
فلم يكن إذن من المستغرب حينها أن نجد عدة علماء عظماء في عصر واحد وربما في قُطر واحد من أقطار الدولة المملوكية. وهكذا نلاقي في مصر أئمة كبارا مثل الأئمة: العز بن عبد السلام الشامي الأصل والنشأة والمصري المهجر والوفاة (ت 661هـ/1259م)، وتقي الدين بن دقيق العيد (ت 702هـ/1302م)، وعلَم المتصوفة أبي الفضل أحمد ابن عطاء الله السكندري (ت 709هـ/1309م)، وقاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة (ت 733هـ/1333م)، وتقي الدين السُّبكي (ت 756هـ/1355م)، وشيخ الإسلام سراج الدين البُلْقَيْني (ت 803هـ/1400م) والمقريزي وابن حَجَر العسقلاني وبدر الدين العَيْني.
كما نجد نظراء لهم في الشام مثل: شرف الدين النووي (ت 676هـ/1277م) وقاضي القضاة ابن الزَّمْلَكاني (ت 727هـ/1327م) وشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م)، وعَلَم الدين البِرْزالي (ت 739هـ/1338م) وجمال الدين المِزِّي (ت 742هـ/1341م)، وشمس الدين الذهبي (ت 748هـ/1347م) وابن القيم (ت 751هـ/1350م) وتاج الدين السُّبكي المصري المولد الشامي الدار والوفاة (ت 771هـ/1359م) وابن كثير (ت 774هـ/1372م).
وقِسْ على ذلك أمثالهم في حواضر الحجاز واليمن الداخلة ضمن الدولة المملوكية، بل وحتى من أعلام العلماء الذين لجؤوا إلى مصر خلال هذه الحقبة الزاهرة واتخذوها وطنا بديلا عن أوطانهم الأصلية، كما حصل لقاضي قضاة المالكية والمؤرخ العظيم عبد الرحمن ابن خَلْدُون عندما نزل بالقاهرة سنة 784هـ/1382م فمُنح -على الفور- كرسيا للتدريس في الأزهر. وقد حدثنا عن ذلك -في كتاب رحلته- بقوله: "وانثال عليّ طلبة العلم بها، يلتمسون الإفادة مع قلة البضاعة، ولم يوسعوني عذراً، فجلستُ للتدريس بالجامع الأزهر بها".
ولئن كانت رعاية المماليك للحياة العلمية والدينية في دولتهم (علماءَ وعلوماً ومؤسساتٍ خادمةً لكليهما) عظيمة في مستواها ومحتواها؛ فإنه يبقى من الأمور اللافتة أن هذه العناية سرعان ما نشأت في كنفها فئة واسعة من أمراء المماليك أنفسهم وأبنائهم، مما يوحي بأن الأمر كان وعياً عاما بين أوساط المماليك وليس لدى سلاطينهم فقط؛ فدخلت هذه الفئة التاريخ من باب العلم تحصيلا وتوصيلا وليس من بوابة السياسة والعسكر، وكانت -بوجه ما- هي المكافئ الذكوري لـظاهرة الجواري المثقفات والعالمات في الحضارة الإسلامية.
ولا ريب أن هذه الفئة -التي يمكن تسميتها بـ«المماليك العلماء» في مقابل «المماليك الأمراء»- تنفي الصورة النمطية المتداولة اليوم عن المماليك، باعتبارهم كانوا فقط رجال حرب وكرّ وفرّ أو رجالات دولة يتصارعون -بلا رحمة- على سدة الحكم؛ والحال أن المنتمين منهم إلى فئة العلماء أسهموا إسهامات عظيمة ومؤثرة في مسيرة العلوم الشرعية والأدبية تعليمًا وتأليفًا وهم لا يزالون في ملابس الجندية وعُدّة القتال، ناهيك عن تبديدها لصحة الفكرة الشائعة عن عصر المماليك باعتباره عصر انحطاط علمي وفكري وأدبي.
وإذا دققنا النظر في نشأة فئة «المماليك العلماء» هذه -في شقها المتعلق بالعصر المملوكي- فسنجد أنها تعود إلى بدايات تأسيس الدولة المملوكية، وربما ترجع نماذجها الأولى إلى العصر الأيوبي ثم زاد بروزها في زمن السلطان الصالح نجم الدين أيوب، الذي نجد أن أحد أبرز مماليكه -وأعظم سلاطين المماليك فيما بعد- وهو الظاهر بَيْبَرْس كان يلقب بـ"العالِم المجاهد"!!
وعلى صعيد ازدهار المؤسسات التعليمية بمصر؛ يُمكن اعتبار عصر المماليك هو العصر الذهبيّ لمؤسسة الأزهر جامعا وجامعة؛ فالمقريزي يفيدنا -في ‘المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار’- بأن مَنْ "يلازمون الإقامة فيه بلغت عدتهم في هذه الأيام (= سنة 818هـ/1415م) سبعمئة وخمسين رجلا ما بين عَجَمٍ وزَيَالعة (= منتسبون إلى زَيْلَع: مدينة كانت شمالي الصومال اليوم)، ومن أهل ريف مصر ومغاربة، ولكل طائفة رواق يُعرف بهم، فلا يزال الجامع عامرا بتلاوة القرآن ودراسته وتلقينه، والاشتغال بأنواع العلوم الفقه والحديث والتفسير والنحو، ومجالس الوعظ وحِلَق الذِّكْر".
وإلى جانب الأزهر؛ كانت هناك عشرات المدارس العلمية التي تنافسَ السلاطين والأمراء والوجهاء في بنائها وتشييدها طوال العصر المملوكي، وقد أورد منها الإمام المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- نحو 50 مدرسة عرّف بتواريخ إنشائها وعطائها، ومن أسسها من السلاطين والأمراء بل ونسائهم، والمذاهب التي كانت تدرّس فيها، والأوقاف التي كانت مرصودة لتمويل العملية التعليمية فيها.
ومن أعظم تلك المدارس الخالدة آثارها إلى اليوم: "مدرسة السلطان حسن" التي ضمت أجنحة دراسية للمذاهب الفقهية الأربعة، وكانت مع ذلك مسجدا جامعا. ويفيدنا المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- بأنه بُدئ في إنشائه سنة 757هـ/1356م، فجاء "في أكبر قالب وأحسن هندام وأضخم شكل، فلا يُعرف في بلاد الإسلام معبد من معابد المسلمين يحكي هذا الجامع، أقامت العمارة (= التشييد) فيه مدّة ثلاث سنين لا تبطل يوما واحدا، وأرصد لمصروفها في كل يوم عشرون ألف درهم (= اليوم 40 ألف دولار أميركي تقريبا)"!!
ولم يكن أمر الحياة العلمية في الشام المملوكية بأقل شأنا مما كان عليه في مصر، بل إنه قد يفوقه أحيانا كثيرة؛ فإذا كان المقريزي أرّخ لـ50 مدرسة كانت في القاهرة المملوكية حتى عصره، فإن المؤرخ المملوكي عبد القادر النعيمي الدمشقي (ت 927هـ/1523م) عرّف -في كتابه ‘الدارس في تاريخ المدارس‘- بـ130 مدرسة قرآنية وحديثية وفقهية كانت في مدينة دمشق وحدها!!
وهذا العلامة السوري الدكتور مصطفى السباعي (ت 1384هـ/1964م) يلخص لنا -في كتابه ‘من روائع حضارتنا‘- ازدهار المؤسسات العلمية الشامية، حسبما بلغه أمرها في حقبة فاصلة شهدت نهاية الدولة المملوكية وصعود وريثتها الدولة العثمانية في نهاية الربع الأول من القرن العاشر الهجري/الـ16م.
فنجده يقول -اعتمادا على ما أورده المؤرخ النعيمي في ‘الدارس في تاريخ المدارس‘- إنه "كان في دمشق وحدها للقرآن الكريم سبع مدارس، وللحديث ست عشرة مدرسة، وللقرآن والحديث معا ثلاث مدارس، وللفقه الشافعي ثلاث وستون مدرسة، وللفقه الحنفي اثنتان وخمسون مدرسة، وللفقه المالكي أربع مدارس، وللفقه الحنبلي إحدى عشرة مدرسة. هذا عدا عن مدارس الطب والرباطات والفنادق والزوايا والجوامع، وكلها كانت مدارس يتعلم فيها الناس".
وإلى جانب المؤسسات التعليمية الوافرة الزاهرة؛ كانت مراكز الرعاية الصحية من أعظم المرافق الخدمية العامة التي تميزت بها الدولة المملوكية، وقد أطلق القدماء على هذه المستشفيات أسماء ذات أصل فارسي فدعوها "البيمارستانات" أو "المارستانات"، وعرّبوها أحيانا بـ"دار الشفاء" أو "دار المرضى".
وقد أعطى سلاطين المماليك عنايتهم لإنشاء هذه المؤسسات الصحية التي كانت تقدم مجانا خدمات العلاج من كافة الأمراض (العضوية والعقلية) لمرتاديها مهما كانت فئاتهم وانتماءاتهم، ورصدوا لها الميزانيات الضخمة من الأوقاف الوفيرة وغيرها.
وقد أمدّنا المؤرخ المقريزي مثلا -في ‘المواعظ والاعتبار‘- بأسماء عدد المارستانات/المستشفيات الكبرى التي أقيمت بالعواصم المصرية -من الفسطاط وحتى القاهرة- خلال أربعة قرون حتى عصره، ملاحظا أن بعضها انْدَرس قبل زمانه، فكان من المارستانات التي ذكرها وتعود إلى الحقبة المملوكية: «المارستان المنصوري» الذي أنشأه السلطان المملوكي المنصور قلاوون (ت 689هـ/1290م)، و«المارستان المؤيَّدي» الذي أنشأه السلطان المؤيد شيخ المحمودي (ت 824هـ/1421م).
ويقدم لنا مؤرخ الحضارات الأميركي وِلْ ديورانت (ت 1402هـ/1981م) -في كتابه ‘قصة الحضارة‘- معطيات تاريخية تلخص عظمة تلك المؤسسات الطبية وخدماتها الصحية، ولاسيما «المارستان المنصوري» الذي يصفه بأنه "أعظم مستشفيات العصور الوسطى على الإطلاق"!!
وعن هذا المستشفى يقدم ديورانت تفاصيل بالغة الدقة والعجب عن إحكام نظامه الصحي، وكيف أنه كان مدعوما بمنظومة متكاملة من المرافق الصحية والخدمية؛ فيقول إنه "كان يحتوي على أقسام منفصلة لمختلف الأمراض، وأخرى للناقهين، ومعامل للتحليل، وصيدلية، وعيادات خارجية، ومطابخ، وحمامات، ومكتبة، ومسجد للصلاة، وقاعة للمحاضرات، وأماكن للمصابين بالأمراض العقلية زُوّدت بمناظر تسرّ العين"!
ويضيف أنه "كان المرضى يعالجون فيه من غير أجر رجالا كانوا أو نساء، أغنياء أو فقراء، أرقّاء أو أحرارا، وكان كل مريض يُعطَى عند خروجه منه -بعد شفائه- مبلغا من المال حتى لا يُضطر إلى العمل لكسب قوته بعد خروجه منه مباشرة، وكان الذين ينتابهم الأرقُ يستمعون إلى موسيقى هادئة، وقصاصين محترفين، ويُعطَوْن -في بعض الأحيان- كتبا تاريخية للقراءة" تحصيلا للعلم أو تزجية للوقت!!
يتبع...

 

 


الباسل

يتولى القادة العسكريون مهمة الدفاع عن الوطن ، ففي أوقات الحرب تقع على عاتقهم مسؤولية إحراز النصر المؤزر أو التسبب في الهزيمة ، وفي أوقات السلم يتحمّلون عبء إنجاز المهام العسكرية المختلفة ، ولذا يتعيّن على هؤلاء القادة تطوير الجوانب القيادية لديهم من خلال الانضباط والدراسة والتزوّد بالمعارف المختلفة بشكل منتظم ، واستغلال كافة الفرص المتاحة ، ولاسيما أن الحياة العسكرية اليومية حبلى بالفرص أمام القادة الذين يسعون لتطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم القيادية والفكرية

   

رد مع اقتباس