ورغم أن التوترات تراجعت منذ ذلك الحين، فإن إيران تفقد نفوذها التقليدي في باكو، بما في ذلك علاقاتها التاريخية مع إقليم ناخجيوان، الجيب الأذربيجاني المحاذي للحدود الإيرانية من جهة الغرب. ففي مارس/آذار 2025، دشَّنت تركيا وأذربيجان خط أنابيب غاز جديدا يربط ناخجيوان بشبكة الغاز التركية، مما قلَّل من اعتماد الإقليم الذي دام لعقود على الطاقة الإيرانية.
إذا ما أفضى اتفاق سلام بين أذربيجان وأرمينيا إلى فتح ممر بري مباشر يربط أذربيجان بالجيب عبر جنوب أرمينيا، فستفقد إيران نقطة نفوذ أخرى (ممر زانغِزور)*. مثل هذا التحوُّل لن يُقلِّص من دور إيران في ممرات الطاقة فحسب، بل وفي نصيبها من التجارة الإقليمية أيضا، حيث كانت لوقت طويل ممرا للبضائع التركية المتجهة إلى آسيا الوسطى، كما أنه يُعزِّز أكثر فأكثر من نفوذ تركيا في المنطقة.
ولدى إيران مخاوف أعمق من أذربيجان، وهي أن باكو قد تُستخدَم نقطة انطلاق لهجوم عسكري إسرائيلي في حال نشب صراع جديد بشأن برنامجها النووي.
يضاف إلى ذلك أن إيران بها أقلية كبيرة من الأتراك الأذر تُقدَّر بنحو 20 مليون نسمة، ما يعادل ربما رُبع السكان في البلاد، وهي تتركَّز في شمال غرب البلاد، وبالنسبة لها فإن تبلور دور أعمق لأذربيجان، مع تركيزها المتزايد على الروابط الإثنية والتاريخية المشتركة معهم، قد يُشكِّل محاولة لتغذية النزعات الإثنية والانفصالية.
لم يعزل الصعود الدولي المتزايد لأذربيجان البلاد عن نقاط ضعفها الداخلية. فبعد الانتصار في ناغورني قره باغ، حظي الرئيس علييف بشرعية شعبية هي الأكبر منذ استقلال البلاد عن الاتحاد السوفياتي.
نظريا، كان من المُفترَض أن تُشكِّل هذه اللحظة فرصة نادرة لإعادة ضبط المشهد السياسي على نطاق أوسع: فعلى مدى سنوات، جرى تبرير غياب الإصلاحات السياسية والاقتصادية والمبالغة في الإنفاق العسكري بالصراع الذي لم يُحسَم مع أرمينيا، وقد تطلَّع كثيرون في أذربيجان إلى أن يؤدي النصر أخيرا إلى انفتاح البلاد وصياغة هوية وطنية جديدة لما بعد قره باغ.
بيد أن تلك الآمال أخذت تتلاشى بسرعة. فمنذ عام 2023، شددت الحكومة قبضتها الأمنية، فسجنت الصحفيين والنشطاء والمعارضين، وقيَّدت دخول الإعلام الأجنبي، وقلَّصت أنشطة عدد من وكالات
الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية.
وفي هذا السياق، واصلت الحكومة تصوير أرمينيا على أنها تهديد لها، مُعتمدة على
تجربةالحروب وفقدان الأراضي والنزوح الجماعي التي لا تزال ماثلة في الأذهان. ولكن بعد استعادة الأراضي المحتلة وضعف شهية الناس لخوض حرب جديدة، لم تعُد تلك السردية تلقى الصدى السابق نفسه.
لا تُبدي الحكومة في باكو رغبة تُذكَر في تجاوز السردية القديمة، ليس فقط لأنها تساعد في شرْعَنة السيطرة الداخلية، بل وكذلك لعدم ظهور سردية وطنية بديلة واضحة. ومع ضعف السردية الرسمية، فإن التحديات الهيكلية التي لطالما أخفاها الخطاب القديم بدأت تظهر إلى النور ويصبح تجاهلها أصعب، ومن بينها الإحباط الشعبي من محدودية الفرص الاقتصادية، وعلامات الاستفهام بشأن
الشفافية في حُكم البلاد.
ثمَّة هشاشة اقتصادية متزايدة إذن وراء مشهد الانتصارات الجيوسياسية، إذ تعتمد أذربيجان بدرجة كبيرة على إيرادات النفط والغاز المُتقلِّبة من بحر قزوين. وقد انخفض إنتاج النفط من ذروته عام 2010، حين بلغ 823 ألف برميل يوميا، إلى 566 ألفا فقط بحلول عام 2025، وذلك بسبب تزايد صعوبة استخراج النفط.
وقد يستغرق تطوير احتياطيات جديدة سنوات ويتطلب استثمارات أجنبية ضخمة، وهو أمر صعب في عالم يتجه نحو الطاقة المتجددة، بل إن الانخفاض المعتدل في أسعار النفط هذا العام، من نحو 80 دولارا للبرميل في أوائل السنة إلى 64 دولارا في أواخر مايو/أيار، قد يؤدي إلى خسارة أكثر من 20% من عائدات الدولة إن استمر الانخفاض حتى نهاية العام.
وتُعقِّد هذه المخاطر الهيكلية طموحات أذربيجان الأوسع. فموقع باكو الجغرافي وحده لا يكفي لجعلها مركزا حيويا للطاقة والتجارة بين الشرق والغرب، إذ إن الدول التي تنجح في توظيف موقعها، سواء في أوروبا أو الخليج أو آسيا الوسطى، تُعزِّز ذلك ببناء مؤسسات موثوقة، وشفافية إدارية، وحدٍّ أدنى من الاستقرار السياسي.
ورغم أن المستثمرين الأجانب لا يشترطون وجود الديمقراطية، فإنهم يطلبون أنظمة قائمة على قواعد واضحة، تجعل من السهل التنبؤ بالقرارات، مع عمل المؤسسات باستمرارية، وضبط للتدخُّلات السياسية والفساد. وبدون ذلك، لن يحقق أي ممر تجاري، مهما كانت أهميته الإستراتيجية، إمكاناته الكاملة.السلام المفقود في القوقاز
لقد غيَّرت الحرب في أوكرانيا موقع أذربيجان على نحو لم يكن من الممكن تخيله في السابق. ولكن هذه المكاسب قصيرة الأجل لا تضمن الاستقرار الدائم، وقد يؤدي إفراط الحكومة في الثقة بصعود البلاد إلى نتائج عكسية.
ففي ديسمبر/كانون الأول الماضي، على سبيل المثال، أسقط صاروخ روسي بالخطأ طائرة مدنية أذربيجانية، فوجَّه الرئيس علييف بنفسه انتقادا علنيا للكرملين. وكان رد باكو المنفتح والمتحدي إشارة إلى موقف جديد مفاده أنها لم تعد تخشى موسكو كما في السابق، لكن هذا قد يتغيَّر إذا ما استعادت روسيا نفوذها في القوقاز.
وبالمثل، يبدو أن المسؤولين الأذربيجانيين يفترضون أن قُرب بلادهم دبلوماسيا من إسرائيل، وجغرافيًّا من إيران، يجعل من باكو شريكا لا غنى عنه للمصالح الأميركية بعيدة المدى، بغض النظر عمَّن يكون في البيت الأبيض، بل إن حكومة علييف عبَّرت علنا عن تفضيلها لإدارة ثانية لترامب، على اعتبار أنه سيكون أكثر تشدُّدا مع إيران.
ومع ذلك، فإن هذا الانحياز يحمل في طيَّاته مخاطر خاصة به، فإذا ما تصاعد التوتر بين إيران وإسرائيل
والولايات المتحدة، قد تنتقم طهران من أذربيجان عسكريا أو عبر استخدام نفوذها لدى رجال الدين الشيعة لإثارة اضطرابات داخلية، لا سيَّما إذا بدا أن باكو تدعم إسرائيل.
وفي الوقت نفسه، لا تزال أذربيجان تُعرقل فرصة تاريخية لتحقيق سلام دائم في المنطقة، فقد أجَّلت الاتفاق مع أرمينيا ووضعت شرطيْن أساسيَّيْن: تعديل الدستور الأرمني لإزالة نصوص تعتبرها بمنزلة دعاوى إقليمية ضِمنية بخصوص أراضٍ داخل أذربيجان، ومنح ممر بري غير منقطع يربط أذربيجان بجيب ناخجيوان (ومن ثمَّ بتركيا)*.
وبشكل غير مُعلَن، يُلمِّح المسؤولون في أذربيجان إلى أنهم قد يطالبون أيضا بضمان استثماري فوري من الاتحاد الأوروبي والمؤسسات الغربية للمساعدة في إعادة إعمار المناطق التي كانت تحت السيطرة الأرمينية.
وتجري حاليا إعادة توطين ناغورني قره باغ والمناطق المحيطة بها تدريجيا ببعض من أكثر من 600 ألف أذربيجاني شُرِّدوا أثناء حرب التسعينيات، لكن التقدم بطيء، إذ لم يَعُد إلا نحو 13 ألفا حتى الآن. وقد تعرَّضت العديد من البلدات لدمار كبير، وكل شيء تقريبا من البنية التحتية إلى المساكن يحتاج إلى إعادة بناء من الصفر وسط استمرار عمليات إزالة الألغام. ومع ذلك، فإن الاستثمار الغربي قد لا يأتي أبدا.
لكن مع قليل من الإبداع والصبر والثقة، يمكن حل كثير من هذه القضايا. فرئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان يُعَد من أبرز الداعمين لاتفاق السلام، وإذا نجح في إقناع الأرمن بأن تعديل الدستور ليس سوى خطوة لبناء الثقة المتبادلة، التي ستجلب مكاسب اقتصادية أكبر على المدى البعيد، فقد يتمكَّن من تمريرها.
أما إذا أقدم على هذه الخطوة المثيرة للجدل قبل الانتخابات البرلمانية الحاسمة عام 2026، فقد يتهمه معارضوه بالتفريط في المصالح الوطنية، وهو ما يُمكن أن ينسف عملية السلام بأكملها.
اللافت أن باشينيان هو الشخصية السياسية الكبرى الوحيدة في يريفان التي تدفع باتجاه تسوية دائمة، حيث وصف أعضاء من المعارضة الأرمنية تعديل الدستور المقترح بأنه خيانة للمصالح الوطنية. وإذا ما خسر باشينيان السلطة، فقد يُمهِّد ذلك الطريق لقيادة أرمينية مختلفة تماما، ويُرجَّح أن تتكوَّن من شخصيات انتقامية تميل إلى روسيا، وقد ترى أن المواجهة المتجددة مع أذربيجان تصبُّ في صالحها السياسي.
علاوة على ذلك، فإن قضية إعادة فتح طرق التجارة والحدود، التي أُغلق بعضها لأكثر من ثلاثة عقود، تظل مسألة حساسة سياسيا لكثير من الأرمن، لا سيَّما الطريق المقترح الذي يربط أذربيجان بناخجيوان.
وفي هذا السياق، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يطرح ترتيبات عملية تلبي توقعات الطرفين بشأن الوصول والسيطرة، إلى جانب تقديم دعم مالي واستثمارات في البنية التحتية ومساعدة فنية لتسهيل التنفيذ، إذ إن الاتحاد يُنظر إليه على أنه وسيط موثوق من الجانبين. وستحقق أوروبا فوائد أخرى في غضون ذلك، إذ يمكن لاتفاق ناجح أن يساعد على تحويل ميزان القوى الجيوسياسي في القوقاز بعيدا عن روسيا بشكل دائم.
سيكون لدور تركيا أهمية حاسمة أيضا. فأنقرة ترى القوقاز جزءا من باحتها الخلفية إستراتيجيا، وتعتبر
التطبيع مع أرمينيا وسيلة للمشاركة في تشكيل النظام الإقليمي بعد النزاع، لا للهيمنة عليه. وقد تبعت تركيا موقف باكو في كل خطوة، مؤكدة أنها لن تفتح حدودها مع أرمينيا إلا بموافقة أذربيجان.
وسيمنح اتفاق السلام أنقرة الضوء الأخضر، ويساعد على بلورة نظام إقليمي جديد تُشكِّل فيه المشاركة التركية، المدعومة بالدبلوماسية الأوروبية، شريانَ حياة إستراتيجيا لأرمينيا وتقييدا من قدرة روسيا على العودة. كما أن دورا إقليميا أقوى لتركيا سيخدم أذربيجان، التي تعتمد في النهاية على أنقرة لموازنة أي ضغط روسي متجدد.
إن السؤال ليس ما إذا كان اتفاق السلام مرغوبا فيه، بل ما إذا كان بالإمكان التوصل إليه قبل أن تُغلق النافذة التي جعلته ممكنا. فكلما تأخرت التسوية، ازداد تعرض العملية لتقلُّبات السياسة الداخلية والتدخُّلات الخارجية، إذ إن هشاشة الوضع الداخلي في أرمينيا، وتراجع الاهتمام الدولي بالقوقاز، وتجدُّد الاهتمام الروسي، كلها عوامل يمكن أن تُقوِّض التقدُّم الإيجابي الذي تحقق في السنوات الثلاث الماضية.
إن الفرصة الإستراتيجية التي أتاحها انشغال موسكو في أوكرانيا لن تدوم للأبد، وإذا حدثت تحوُّلات جيوسياسية جديدة من دون تسوية دائمة، فقد تجد روسيا طُرُقا لاستعادة نفوذها في القوقاز، ليس بالضرورة لاستعادة سيطرتها الكاملة، بل لتعطيل التقدُّم الجاري بدونها، وتمديد حالة الغموض، وضمان الحفاظ على مصالحها، دون أن يكون ذلك في مصلحة أي طرف في المنطقة بالضرورة.
___________________________
*إضافة المُترجم.
هذا المقال مترجم عن
فورين أفيرز ولا يعبر بالضرورة عن موقف شبكة الجزيرة التحريري