وبالتوازي مع هذا الانتشار الجوي، عززت موسكو وجودها البري في القاعدة عبر نشر وحدات من مشاة البحرية الروسية وعناصر مدرعة مع أنظمة دفاع جوي ورادارات متقدمة لتأمين المجال الجوي فوق الساحل السوري.
وهو ما فسره الباحث العسكري مايكل كوفمان من مؤسسة سي إن إيه بأنه جزء من عقيدة روسية تستند إلى فرض "تفوق جوي دفاعي" عبر دمج القوة الجوية مع أنظمة الحماية الأرضية لضمان استقرار التموضع العسكري في مسارح العمليات الخارجية.
وفي 30 سبتمبر/أيلول 2015، طلب بوتين تفويضا رسميا من مجلس الاتحاد الروسي لإرسال قوات مسلحة إلى سوريا، وهو ما وافق عليه المجلس بالإجماع في اليوم نفسه تحت ذريعة "محاربة الإرهاب" وضمان "استقرار الدولة السورية"، كما ورد في تغطية وكالة تاس الروسية.
ووفقا لبعض المصادر الإخبارية وقتها فإن التدخل الروسي جاء بناء على طلب رسمي من الرئيس السوري
بشار الأسد، الذي منح موسكو حق استخدام القواعد الجوية في اللاذقية وطرطوس.
بعد ساعات فقط من حصول الكرملين على التفويض البرلماني بالتدخل العسكري في سوريا، انطلقت أولى الضربات الجوية الروسية لتستهدف مدنا وبلدات سورية بداية من الرستن وتلبيسة والزعفرانية في ريف حمص، قبل أن تمتد لاحقا إلى حلب وإدلب وريف دمشق
ودير الزور وحماة وغيرها.
ورغم أن موسكو بررت عملياتها بأنها "ضد الإرهاب"، فإن منظمات دولية مثل هيومن رايتس ووتش والشبكة السورية لحقوق الإنسان وثقت سقوط آلاف الضحايا المدنيين نتيجة القصف العشوائي واسع النطاق الذي استُخدمت فيه صواريخ فراغية
وقنابل عنقودية وقذائف بعيدة المدى.
وفي الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2015 أعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية أن بلاده نشرت أكثر من 50 طائرة حربية في سوريا خلال فترة قياسية، مؤكدا أن جزءا كبيرا من العتاد العسكري كان مخزنا مسبقا في مستودعات طرطوس البحرية.
وبعد 3 أشهر فقط نقلت صحيفة واشنطن بوست عن مسؤولين أميركيين قولهم إن روسيا نجحت بتكلفة منخفضة نسبيا في منع انهيار النظام السوري.
وقد أشارت تقارير صحفية وتحقيقات دولية، أبرزها ما نشرته وكالة رويترز في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 إلى أن الدور الروسي تجاوز ذلك بكثير، مشيرة إلى أن شركات أمنية روسية خاصة مثل "
فاغنر" شاركت فعليا في المعارك البرية إلى جانب قوات النظام، في تنسيق وثيق مع وزارة الدفاع الروسية.
وقد خاضت هذه القوات معارك في مناطق مثل تدمر ودير الزور، وساعدت في تأمين حقول النفط والغاز لصالح دمشق وموسكو معا.
ومنذ عام 2017 دخل الدور الروسي في سوريا مرحلة أعمق من التدخل العسكري المباشر، حيث تحولت موسكو إلى الفاعل الأبرز في إدارة الصراع السوري عبر مسار أستانا إلى جانب تركيا وإيران، كما انخرطت في إعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية السورية، وأشرفت على اتفاقات المصالحات في درعا والغوطة وحمص لإعادة مناطق المعارضة إلى سيطرة النظام.
وبين عامي 2019 و2023 عززت روسيا وجودها طويل الأمد بشرعنة قواعدها في حميميم وطرطوس بعقود تمتد حتى 49 عاما، وسيطرت على عقود الطاقة والفوسفات والمرافئ، وحافظت على تفاهمات ميدانية مع إسرائيل سمحت للأخيرة بضرب مواقع إيران في سوريا تجنبا للاحتكاك المباشر.
ولكن مع تصاعد الضغط الاقتصادي على دمشق وتزايد التنافس الروسي الإيراني على القرار السوري بعد 2022، حاولت موسكو لعب دور الوسيط بين شبكات النفوذ داخل النظام، غير أنها فشلت في منع تآكل السلطة المركزية، وصولا إلى انهيار نظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024.
وعقب الإطاحة بنظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، بدا أن نفوذ روسيا في سوريا قد وصل إلى مفترق طرق، ورغم مشهد انسحاب العديد من القوات الروسية من الداخل السوري إلى الساحل، فقد تمكنت موسكو من الاحتفاظ بقاعدتيها الرئيسيتين الجوية في حميميم، والقاعدة البحرية في طرطوس.
واللافت أن موسكو سارعت بعد التغيير السياسي في دمشق إلى تثبيت قنوات الاتصال مع القيادة السورية الجديدة، مستفيدة من الصورة التي تحتفظ بها لدى قطاعات من السوريين باعتبارها قوة دولية مؤثرة يمكن التعامل معها بواقعية سياسية.
وفي المقابل اعتمدت حكومة
أحمد الشرع خطابا براغماتيا تجاه روسيا، إدراكا لأهمية استمرار التعاون معها في مجالات الطاقة والقمح والتسليح والدعم الدبلوماسي داخل الأمم المتحدة.
ووفقا لحنا نوت، مديرة ملف أوراسيا بمركز "جيمز مارتن" لحظر انتشار أسلحة الدمار الشامل، في مقالها الذي ترجمته
الجزيرة نت، فكما تستخدم دمشق انفتاحها على موسكو كورقة توازن في معادلة النفوذ الداخلي والخارجي؛ فإنها توجّه من خلاله رسالة إلى بقايا شبكات النظام السابق بأنها ليست معزولة، وإلى العواصم الغربية بأنها تملك بدائل إستراتيجية إذا فشلت محاولات تطبيع العلاقات معها، إضافة إلى رهانها على أن الوجود الروسي قد يسهم في الحد من العمليات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية.
ولكن من المرجح بحسب تقديرات مراكز أبحاث "كارنيغي موسكو" و"المجلس الروسي للعلاقات الدولية"، أن موسكو لن تستعيد موقع اللاعب المهيمن في سوريا كما كانت خلال سنوات ما قبل التغيير، بفعل استنزافها في أوكرانيا وتراجع قدرتها الاقتصادية.
ورغم أنها ستسعى إلى الحفاظ على نفوذ عسكري وسياسي متواضع، فإن الفاعلية الكبرى في صياغة مستقبل سوريا ستكون على الأرجح لدول الخليج وتركيا وربما الولايات المتحدة
والاتحاد الأوروبي إذا زاد انخراطهما في الملف السوري.