هذا ليس مجرد اهتمام إنساني محايد، بل هو ضغط سياسي منظم من قاعدة ترامب الإنجيلية، يُوجه عبر منظمات ورجال دين وسياسيين جمهوريين، ويُترجم إلى إجراءات تنفيذية.
فقد وصفت، مؤخرا، المؤرخة والكاتبة أنثيا بتلر، المتخصصة في المسيحية الإنجيلية، نهج إدارة ترامب بأنه يوفر للإنجيليين "مساحةً لشن حرب مقدسة".
ويعني ذلك -وفق بتلر- أن تهديد ترامب لنيجيريا لا ينبع من اهتمام إنساني موضوعي بالمسيحيين، بقدر ما يستغل مزاعم اضطهاد المسيحيين لخدمة رؤية سياسية إنجيلية محددة وإرضاء قواعده الشعبية.
هناك ميزة أخرى لسردية الاضطهاد الديني وهي أنها تحجب المصالح المادية الكامنة وراء تهديدات ترامب لنيجيريا. وأهم هذه المصالح هي الطاقة، في ضوء كون أبوجا هي أكبر منتج للنفط في أفريقيا.
وهي تنتج خاما عالي القيمة لانخفاض محتواه من الكبريت وسهولة تكريره. وهذا ما يجعل نيجيريا جذابة لأسواق الطاقة الأميركية الساعية إلى مصادر متنوعة خارج الشرق الأوسط، وبعيدا عن المنافسة مع القوى العالمية الأخرى.
لطالما تمحورت العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة ونيجيريا حول هذا الاهتمام النفطي الذي تسبب في تبادل تجاري ثنائي بقيمة تجاوزت 11 مليار دولار حسب بيانات عام 2023.
وتُعد الولايات المتحدة أحد أكبر الشركاء التجاريين لنيجيريا، كما أنها من بين أكبر المستثمرين الأجانب فيها باستثمارات مباشرة تبلغ 5.6 مليارات دولار.
والأهم أن واشنطن وافقت على صفقة بيع أسلحة لنيجيريا بقيمة 346 مليون دولار في أغسطس/آب 2025، وُصفت بأنها تهدف إلى "تعزيز القدرات الأمنية لنيجيريا ودعم أهداف السياسة الخارجية الأميركية الأوسع في أفريقيا جنوب الصحراء".
تعكس هذه الحقائق أهمية البلد الأفريقي في إستراتيجية أميركا بالقارة السمراء، في ظل رغبة واشنطن في الحفاظ على وجود عسكري لها في غرب أفريقيا، خاصة بعد "انسحابها" من
النيجر عام 2023، وسعيها لإيجاد قواعد وشراكات بديلة لعمليات مكافحة الإرهاب والمراقبة الإقليمية.
ولا تزال نيجيريا، على الرغم من عدم استقرارها، منصة محتملة لمثل هذه العمليات. ويمكن أن يؤدي التهديد بالتدخل العسكري، متبوعًا بتهدئة مشروطة، إلى انتزاع حقوق الاستخدام العسكري أو توسيع نطاق اتفاقيات تبادل المعلومات الاستخباراتية.
يتوافق ذلك أيضا مع القلق الأميركي بشأن الوجود المتزايد للصين في نيجيريا وأفريقيا بشكل عام، فقد استثمرت بكين أكثر من 14 مليار دولار في مشاريع الطاقة والبنية التحتية النيجيرية منذ عام 2018.
ومن وجهة نظر واشنطن، يُمثل هذا تهديدا إستراتيجيا، إذ يُعزز النفوذ الصيني على قاعدة الموارد الحيوية لنيجيريا، والأهم أنه يشجع السلطات في البلاد على تحدي الولايات المتحدة في بعض القضايا.
وقد حدث هذا التحدي في يوليو/تموز الماضي حين رفضت أبوجا بحسم ضغوط ترامب المتزايدة من أجل استقبال الفنزويليين المرحلين من الولايات المتحدة، وكما ظهر في إدانتها للفظائع التي ترتكبها إسرائيل في غزة أمام الأمم المتحدة، خلافا للسياسة الأميركية.
يتعين فهم التهديد العسكري الذي وجّهه ترامب ضمن هذا السياق الأوسع. فمن خلال التلويح بعمل عسكري ضد نيجيريا ما لم تمتثل الحكومة للمطالب الأميركية، يسعى ترامب إلى إعادة تأكيد الهيمنة الأميركية على عملية صنع القرار في الدولة الأفريقية.
إن نيجيريا الضعيفة وغير المستقرة التي تواجه ضغوطًا عسكرية، وعزلة دولية ستكون أكثر اعتمادًا على المساعدة العسكرية الأميركية وأكثر خضوعا للمطالب الأميركية فيما يتعلق بالوصول إلى النفط، والقواعد العسكرية.
في المقابل، فإن نيجيريا التي تقاوم الضغوط الأميركية وتُعمّق علاقاتها مع الصين وتنحاز اقتصاديا إلى تكتلات مثل "
البريكس" تُمثّل خسارة إستراتيجية لا يمكن لأميركا أن تسمح بها.
الخلاصة هي أن التهديد الأميركي لنيجيريا يقدم نموذجا على كيفية توفير غطاء ديني لعملية استعراض فجة للقوة. والمشكلة أن هذا التهديد يشكل سابقة سيكون لها ما بعدها.
فإذا ما أقرت الولايات المتحدة أن ادعاءات الاضطهاد الديني (حتى غير الموثوقة منها) تبرر التهديدات العسكرية ضد دول ذات أهمية إستراتيجية، فقد يتوسع هذا المعيار ليشمل دولا أخرى، ويفتح الباب أمام عودة الحروب ذات الطابع الديني في عالم يعج بالصراعات.
علاوة على ذلك، قد تأتي تهديدات ترامب بنتائج عكسية. فمن خلال التهديد بالتدخل العسكري، تُخاطر إدارة ترامب بتسريع نفس النتائج التي تدّعي معارضتها.
فإما أن يزعزع ذلك استقرار نيجيريا ويفتح المجال لدائرة أوسع من العنف الطائفي الحقيقي بفعل استدعاء قوة أجنبية "دينية" إلى ميزان طائفي هش ونزاع إقليمي قد يُؤدي إلى نزوح المقاتلين للدول المجاورة، وإما أن يُسرّع من توجه نيجيريا، ومن ورائها العديد من القوى الأفريقية، نحو الصين
وروسيا.
بالنسبة لنيجيريا، يُمثل هذا التهديد اختبارًا لسيادتها وقدرتها على المقاومة. وقد عرضت حكومة تينوبو تعاونا مشروطا مع الولايات المتحدة مع حد فاصل واضح وهو احترام سيادة أبوجا، في حين سارع الاتحاد الأفريقي للدفاع عن سيادة القارة معلنا رفض استخدام القوى الخارجية للخطابات الدينية سلاحا لتبرير التدخل العسكري.
تشير ردود الأفعال هذه، إلى أنه في حين أن خطاب ترامب قد يرضي قاعدته الإنجيلية ويحقق بعض المصالح الأميركية قصيرة الأجل، فإن تأثيره العملي هو المزيد من العزلة للولايات المتحدة والمزيد من الأفول لنجمها السياسي.