الانهيار الاستراتيجي للكيان الصهيوني بعد "طوفان الأقصى"
شكلت عملية "طوفان الأقصى" نقطة تحول تاريخية في ميزان القوى الإقليمي، فرغم امتلاك الكيان الصهيوني أحد أقوى الجيوش وأكثر أجهزة الاستخبارات تقدماً، فقد فشل فشلاً ذريعاً في التنبؤ بالعملية أو التصدي لها، كما كشفت العملية عن انهيارات في منظومة الردع والعقيدة العسكرية والتماسك الداخلي.
رداً على ذلك، شن الكيان حملة إبادة جماعية وحشية من بين الأشد تدميراً في التاريخ الحديث، حيث دمّر البنية التحتية المدنية
لقطاع غزةبالكامل، وقتل عشرات الآلاف من سكانه، ثلثاهم من النساء والأطفال، كما جرح عشرات الآلاف، وشرّد الباقين.
ومع ذلك، ورغم مرور أكثر من 21 شهراً من القصف والحصار والدمار والمجازر، فإن المقاومة الفلسطينية ما زالت صامدة وتخوض حرب استنزاف مريرة، كما تشارك في مفاوضات غير مباشرة مع المعتدي الصهيوني من موقع الصمود والثبات. فحتى الآن لم يتحقق الهدف العسكري الأساسي للكيان والمتمثل في "النصر المطلق" أو القضاء على حماس وتفكيك بنيتها التنظيمية.
يرى معظم الخبراء بعد طوفان الأقصى أن الكيان الصهيوني أصبح يعاني من أزمة استراتيجية، فقد فشلت نظرية الردع التي بنيت على فرض العقاب الساحق للأعداء والذي ينتج عنه الاستسلام والإذعان، وتآكلت صورة "إسرائيل" كقوة إقليمية واهتزت مصداقية مؤسساتها الأمنية، كما انهار التماسك الاجتماعي داخل دولة الكيان تحت وطأة الحرب والأزمة الاقتصادية، بالإضافة إلى تقويض المعنويات العسكرية، وهجرة آلاف الإسرائيليين خشية من المستقبل.
أما على الصعيد الدولي، فقد انهارت سردية الضحية اليهودية، حيث وثقت وسائل التواصل الاجتماعي المجازر والمجاعة والدمار في غزة، مما أدى إلى تغيير مشهود في الرأي العام العالمي.
كما أصدرت مؤسسات دولية -مثل محكمة العدل الدولية- تحذيرات بوقوع الإبادة، وأصدرت المحكمة
الجنائية الدولية أوامر توقيف بحق قادة صهاينة كبار مثل رئيس الوزراء ووزير الدفاع باعتبارهما مجرمي حرب. هذا بجانب الدعوات الواسعة إلى المقاطعة والعقوبات، وتراجع السياحة والاقتصاد، وبدء موجة هجرة عكسية تهدد التوازن الديمغرافي المستقبلي للكيان.
أهداف متباينة.. أميركا مقابل الكيان
ورغم اتفاق واشنطن وتل أبيب على أهداف استراتيجية، مثل سحق وإنهاء المقاومة الفلسطينية، وإضعاف أو احتواء إيران ومحور المقاومة، والحفاظ على التفوق الإقليمي، فإن أهدافهما المرحلية وتكتيكاتهما مختلفة.
فالكيان يسعى للهيمنة على المنطقة وفق رؤية "إسرائيل الكبرى"، ويتجلى ذلك في توسيع الاستيطان في الضفة الغربية (بقيادة الوزير المتطرف بتسلئيل سموتريتش)، وخطط استفزازية لبناء الهيكل في الحرم القدسي الشريف (بقيادة المتطرف الآخر
إيتمار بن غفيرالذي يريد فرض التقسيم المكاني والزماني في حرم الأقصى المبارك).
بالإضافة إلى ذلك، فإن تدمير غزة وتصاعد الإرهاب الاستيطاني في الضفة يهدفان إلى فرض تهجير جماعي للفلسطينيين لحل "المشكلة الديموغرافية"، وتَجنبِ نظام فصل عنصري دائم يوصم به الكيان.
أما الولايات المتحدة، فإن سياستها تهدف إلى تحقيق "استقرار إقليمي يبقى تحت السيطرة" من خلال إضعاف وحصار وردع إيران وحلفائها في محور المقاومة، والتحكم في أسواق الطاقة، واحتواء النفوذ الصيني والروسي في المنطقة، والحفاظ على بنية أمنية موالية لها من خلال تبني استراتيجية "الأعمدة التوأم" (Twin Pillar)، أي تبني سياسة الحفاظ على المصالح الأمنية والاقتصادية والاستراتيجية الأميركية في المنطقة من خلال حليفين إقليميين قويين هما الكيان الصهيوني والسعودية.
ولذلك أصبحت أولوية واشنطن الآن بعد فشل الحل العسكري الإسرائيلي في تحقيق النصر المطلق واستسلام المقاومة وتحرير الأسرى بدون أثمان، تتمثل في إنهاء حرب الإبادة في غزة من خلال عملية التفاوض والضغط السياسي، مع الإبقاء على النظام الإقليمي المهيمن عليه أميركيًّا كما هو بلا تغيير جوهري.
نحو نظام عالمي جديد.. مسار النهضة للعالم العربي والإسلامي
إن فشل الاستراتيجيات الأميركية عالمياً وإقليميا، وفقدان مصداقية النظام الدولي الذي تديره الولايات المتحدة منذ نهاية
الحرب العالمية الثانية، ومع انتشار شوفينية واشنطن وتفردها، مع هيمنة ترامب ذي السياسات العنصرية والمتفردة على القرار السياسي والمؤسسات السياسية في بلاده، ومع صعود الصين وتقدمها الاقتصادي الهائل ونفوذها السياسي الكبير، ومع تآكل قوة الكيان الصهيوني وإنهاك منظومته في حروبه المستمرة، فإن كل هذه الظواهر الكونية تفتح الباب أمام إعادة توجيهٍ تاريخية وبناء منظومة جديدة للنظام الدولي.
فالعالم يمر الآن بلحظة مصيرية قد تسفر عن تغييرات جوهرية في بنية النظام الدولي، وذلك يعطي للعالم العربي والإسلامي فرصة تاريخية تفرض أولوية التحرر من السيطرة الأجنبية والهيمنة الصهيونية.
لقد أثبت النظام الدولي القائم -بقيادة الولايات المتحدة والمنظومة الغربية- عجزه ورفضه لمحاسبة الكيان الصهيوني على جرائمه الجسيمة، رغم الأدلة الواضحة على شنه حرب إبادة جماعية ضد شعب أعزل في غزة المحاصرة، وارتكابه جرائم حرب وتطهير عرقي ومجازر.
وقد أصرّت هذه المنظومة على تبني سياسة أن القوة هي التي تحدد الشرعية وفرض الأمر الواقع. وبالتالي، فإن المصلحة الجوهرية للشعوب العربية والإسلامية تكمن في رفض وتغيير هذا النظام نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب يعكس قيم العدالة والاستقلال والسيادة والكرامة.
ولذلك لا بد من إدراك أن المعركة المركزية لكل الشعوب اليوم، والتي يجب أن تتحد عليها، هي في إنهاء النفوذ والهيمنة الأجنبية والصهيونية. فلا يمكن لمشروع نهضة حضارية، أو نظام ديمقراطي، أو ازدهار اقتصادي، أو تقدم علمي، أو مجتمع إسلامي، أن يتحقق في ظل السيطرة الأجنبية والهيمنة الصهيونية التي تتحقق من خلال الدعم الأميركي العسكري والسياسي والمالي المستمر وغير المحدود، لسبب جوهري وهو أن كل هذه المنجزات التي تسعى إليها الشعوب الحية يعتبرها الكيان تهديداً وجودياً له يجب محاربته وإحباطه، لذلك كان المقصود من هذا النفوذ الأجنبي والهيمنة الصهيونية إحباط أي مسعى للشعوب نحو تحقيق الاستقلال أو الوحدة أو النهضة.
هذه الهيمنة الأجنبية أصبحت اليوم جدارا حديديا يعترض مستقبل أي شعب يسعى نحو الاستقلال والتحرر والتقدم.
ومن هنا، لا بد من تفكيك هذه البنى الاستعمارية والاستغلالية حتى تنطلق نهضة حقيقية في العالم العربي والإسلامي، فالاستقلال والسيادة
وتقرير المصير والتعاون الإقليمي لا يمكن أن تتحقق مع وجود التفكك والضعف والتبعية والاحتلال داخل المنظومة العربية-الإسلامية.
باختصار، إن هذه المعركة يجب أن تتصدر كل الأولويات، لا كمجرد شعار، بل كمحددٍ استراتيجي وضرورة وجودية.
نهاية لحظة التفرد الأميركي
قد لا تسقط الهيمنة الأميركية دفعة واحدة، لكن تراجعها بات واضحاً. إن انحيازها الأعمى إلى الصهيونية الإجرامية والمتطرفة قد يشعل موجة جديدة من الانتفاضات في المنطقة، تكون ربيعاً عربياً جديداً لا يستهدف الأنظمة المستبدة فقط، بل يكون حراكاً جماهيرياً هادراً يستهدف تفكيك النفوذ الصهيوني والهيمنة الأميركية في المنطقة.
في هذه اللحظة المفصلية، يجب على الشعوب العربية والإسلامية أن ترسم مساراً جديداً تؤكد فيه إرادتها وتحقق استقلالها وتستعيد سيادتها، وتعيد تعريف دورها وترسم مستقبلها في نظام عالمي جديد، عادل ومتعدد الأقطاب، ولكنه ما زال في طور التشكيل.