وبفضل قدرته على تحليل كميات هائلة من البيانات بسرعة، يُمثِّل الذكاء الاصطناعي فرصة جديدة لمواجهة التحديات السيبرانية المعقدة، ولعله يكون حجر الزاوية في سياسة أميركية جديدة للردع السيبراني من خلال ما يُعرف بـ"التوائم الرقمية المولَّدة بالذكاء الاصطناعي".
فالتوأم الرقمي هو نسخة افتراضية ذكية من أي كيان (مثل توربينات الرياح)، أو نظام كامل (مثل شبكة كهرباء)، تتغذى هذه النسخة الافتراضية على بيانات حية لتتصرف وتستجيب كما لو كانت النسخة الحقيقية. الأمر أشبه بمرآة ذكية للواقع، تتيح لنا مراقبة الأداء، والتنبؤ بالمشكلات، وتجربة السيناريوهات الصعبة بأمان قبل حدوثها فعليا.
وبالتالي، أحدثت التطورات الأخيرة في الذكاء الاصطناعي طفرة في قدرة التوائم الرقمية على محاكاة كيانات ضخمة ومعقدة بدقة متناهية.
ولم تعد هذه التقنية حكرا على الصناعة، بل أصبحت أداة حيوية لتعزيز السلامة والكفاءة: فشركة "رولز رويس" تستخدم توائم رقمية لمحركات طائراتها لمراقبة الأداء والسلامة، بينما تعتمد "فورد"، و"بي إم دبليو" على توائم مماثلة لتحسين عمليات التصنيع.
ومع توسع استخدام التوائم الرقمية وتنامي فوائدها، باتت الحكومات هي الأخرى ترى فيها فرصة، فقد أنشأت سنغافورة توائم رقمية لمصانع المياه والطاقة، ودمجت هذه النماذج في اختبارات وتجارب محاكاة، فيما وظف حلف
الناتو هذه الأنظمة في تمرينه السنوي للدفاع السيبراني، حيث خاضت فرق الأمن محاكاة للهجوم والدفاع على البنية التحتية السنغافورية.
وفي المقابل، يمكن للولايات المتحدة أن تحقق خطوة نوعية في حماية بنيتها التحتية الحساسة عبر إنشاء توائم رقمية لمئات الأنظمة الحيوية، وذلك بتعاون وموافقة أصحابها من القطاع الخاص. فمثل هذه التوائم تمنح الجيوش فرصة اختبار سيناريوهات هجمات خطيرة بأمان، دون تعريض الخدمات الأساسية لأي خطر فعلي.
ومن خلال محاكاة الهجمات على مختلف مكونات النظام داخل التوأم الرقمي، يمكن تحديد نقاط الضعف التي قد تتسبب في أكبر قدر من الاضطراب، وهو ما يسمح للشركات بتركيز مواردها المحدودة على معالجة أخطر الثغرات بدلا من محاولة إصلاح كل مشكلة على حدة.
في السياق ذاته، لا تقتصر فائدة التوائم الرقمية على اختبار الهجمات، بل يمكنها أيضا رسم نمط سلوكي أساسي للأنظمة يساعد في كشف أي شذوذ قد يشير إلى هجمات سيبرانية. فمثلا، إذا أظهر التوأم الرقمي لنظام مياه تغيرا غير معتاد في صمامات المياه أو ضغط الأنابيب، يمكن لفريق الأمن اكتشاف أي اختراق محتمل بسرعة قبل أن يتسبب في أضرار فعلية.
وتتسع أهمية هذه التقنية لتشمل البنية التحتية على نطاق أوسع، إذ يمكن استخدام نسخ رقمية لشبكات الكهرباء الإقليمية لمحاكاة سيناريوهات الأعطال المتكررة، وتحديد النقاط الحيوية التي يمكن لتعزيز حمايتها أن يمنع الانقطاعات على نطاق واسع.
(مثال توضيحي: إذا تعطلت محطة كهرباء واحدة في شبكة ما، فقد يتمخض عن ذلك تحميل زائد على محطات أخرى، فتتعطل بدورها، وهكذا تنتشر الانقطاعات في أنحاء أوسع. وهنا يأتي دور التوائم الرقمية التي تسمح بمحاكاة هذه السيناريوهات بصورة افتراضية، دون أن تتعرض الشبكة الحقيقية لأي ضرر.*)
أما إذا تحدثنا عن المياه الحضرية، فسنكتشف أن التوائم الرقمية تُعَدُّ أداة حيوية لمحاكاة هجمات التلوث، وهو ما يُمكِّن المسؤولين من اقتراح حلول وخطط للاستجابة الطارئة. ومع الوقت، ستصبح هذه التوائم وسيلة لإجراء مقارنات واقعية تشبه تلك التي يقوم بها خبراء الأمن القومي في ساحات القتال التقليدية.
فمثلا، يمكن لتوأم رقمي لأنظمة التحكم موجود في سد هوفر بالولايات المتحدة أن يحاكي سيناريوهات هجوم محتملة، مما يمنح المسؤولين القدرة على تصميم دفاعات أدق وأعقد، إضافة إلى وضع خطط لاستعادة السيطرة بسرعة حال وقوع أي هجوم أو اعتداء فعلي.
يُعَدُّ إنشاء توائم رقمية شاملة تحديا تقنيا كبيرا، إذ يتطلب فهما دقيقا لأنظمة البنية التحتية وبيانات الشبكات التي قد يعتبرها أصحابها ملكية خاصة، فضلا عن أن الأمر سيستغرق وقتا طويلا لبناء شراكات جديدة بين خبراء الحكومة في الذكاء الاصطناعي، والاستخبارات، وأصحاب هذه الأنظمة ومشغّليها.
ومع ذلك، تظل هناك حاجة ماسّة إلى جسر يربط بين العالم المادي والرقمي، مع الحفاظ على خصوصية الأفراد، بعيدا عن النهج الصارم الذي تتبعه الصين، القائم على المراقبة الشاملة.
وفي المقابل، ستمنح التوائم الرقمية مسؤولي الأمن القومي الأميركي صورة متكاملة ومستمرة عن مستوى الدفاعات السيبرانية للبلاد، وستتيح لصانعي القرار تقييمات فورية عن قدرة البنية التحتية على العمل في الظروف الطارئة لمواجهة الهجمات السيبرانية.
فعلى سبيل المثال، يمكن للرئيس المستقبلي الذي يفكِّر في الرد على أي عدوان صيني الوصول سريعا إلى نماذج معقدة توضح كيفية أداء البنية التحتية الأميركية في ظل هجوم مستمر، وهو نوع من المعلومات التكتيكية التي يفتقدها النظام حاليا.
حتى الدفاعات السيبرانية المدعومة بالذكاء الاصطناعي تعجز عن سد الفجوة التي تمنح الصين ميزة أساسية أو تفوقا منهجيا. فالقوانين الأميركية الحالية تمنح مشغلي البنية التحتية الحرية الكاملة لمراقبة شبكاتهم، ويسمح لهم القانون الفيدرالي منذ 2015 بمشاركة المعلومات مع نظرائهم والحكومة لتعزيز الدفاع التعاوني.
ومع ذلك، تظل بعض القطاعات بلا أي إلزام فعلي بالمراقبة، وحتى في القطاعات التي توجد فيها متطلبات، تحتاج الجهات المسؤولة إلى متابعة المشغلين بانتظام، للتأكد من الحفاظ على الدفاعات السيبرانية والتعاون مع الآخرين.
إن الدفاع وحده، مهما بلغ من التطور، لا يكفي لمواجهة تفوق الصين في الفضاء السيبراني. فالردع الحقيقي يتطلب قدرة مستمرة على تقويض قدرات الخصم، واستعدادا لفرض تكاليف لا تُحتمل. لذلك، من الضروري بناء قدرات هجومية تُعرِّض الأهداف الحيوية للخطر، مع إيصال رسالة واضحة بالقدرة على الرد إذا تجاوز الخصم الخطوط الحمراء.
وبدلا من الانخراط في تبادل الهجمات على البنية التحتية المدنية، يمكن تركيز الجهود على الأصول العسكرية للخصم أثناء الأزمات، بما يتوافق مع
القانون الدولي ويحقق تأثيرا إستراتيجيا أعمق.
في النهاية، على الولايات المتحدة تعزيز رسائلها التحذيرية في الفضاء السيبراني. فهي بحاجة إلى توضيح أن استهداف البنية التحتية المدنية الحيوية، أو زرع قدرات هجومية مسبقة فيها بهدف تعطيل المجتمع، أمر غير مقبول. ويستند ذلك إلى الرسالة التي وجَّهتها إدارة بايدن إلى الصين بأن الهجمات السيبرانية ذات الأثر المادي تُعَدُّ فعلا عدائيا يوازي إعلان الحرب.
ومن الضروري أن تركِّز الولايات المتحدة على ثلاثة مبادئ رئيسية: تحديد المسؤولين عن الهجمات، وإبراز القدرة على الصمود، والرد بالمثل عند الحاجة. فالوضوح في التهديدات يعزز المصداقية، بينما الغموض قد يدفع الخصم للتجربة أو ارتكاب أخطاء.
على الجانب الآخر، لا بد للرسائل التحذيرية في الحرب السيبرانية أن تكون موثوقة وتتضمن تفاصيل كافية، تكشف من خلالها عن قوة القدرات الهجومية، لكن دون الإفصاح عن التفاصيل التي قد تُمكِّن الخصم من سد ثغراته.
ويبرز المثال الروسي درسا تحذيريا عن مخاطر الإفصاح المفرط عن القدرات السيبرانية، فقد استخدمت روسيا هجمات سيبرانية لقطع الكهرباء في أوكرانيا قبل غزوها الكامل عام 2022، وهو ما دفع أوكرانيا إلى تحسين دفاعاتها على شبكة الكهرباء بدرجة كبيرة.
ولأسباب سياسية وتقنية، تأخرت الولايات المتحدة في تعزيز دفاعاتها السيبرانية. فلم يُبدِ الكونغرس حماسا أو أي رغبة لتوسيع الصلاحيات القانونية أو لضمان استثمار مستدام يرقى إلى مستوى الدفاع الشامل، في حين تقاوم الشركات الخاصة أي متطلبات أمنية مفروضة قد تزيد من تكاليفها.
في نهاية المطاف، لم يعد تأجيل التحرك خيارا، فالذكاء الاصطناعي سيعزز تفوق القوى المهيمنة إذا لم تُتخذ خطوات سريعة وحاسمة.
فما يحتاج إليه العالم الآن هو رؤية جريئة وإرادة سياسية قوية لتأمين الفضاء الرقمي، فنجاح هذه الجهود سيُظهر كيف يمكن التمتع بفوائد الرقمنة والإنترنت دون المساس بالأمن القومي، بينما أي فشل سيكشف هشاشة الديمقراطيات أمام الهجمات السيبرانية، ويمنح إستراتيجيات الردع النشط مزيدا من النفوذ على الصعيد العالمي.
_______
* إضافة المترجم
هذه المادة مترجمة عن
فورين أفيرز