وهنا يبرز ما يسميه بيب "الإكراه عبر الحرمان"، وهو شكل من الضغط العسكري يهدف إلى منع العدو من تحقيق أهدافه الإستراتيجية، لا مجرد إيذائه أو رفع تكلفة صموده. فالهدف ليس إلحاق ضرر بالخصم لأجل الضرر، بل حرمانه من أي أمل في النجاح العسكري، وإظهار أن تكاليف الاستسلام أقل من تكاليف المقاومة، بما يدفعه إلى إعادة تقييم الموقف والتراجع طواعية.
وعندما يدرك العدو أن استمرار القتال لن يجلب له مكاسب حقيقية، بل سيؤدي إلى خسائر فادحة أو طريق مسدود، فقد يختار التراجع حتى دون انهيار سياسي أو تدمير شامل. وهكذا تتحقق أهداف الحرب لكن بتكلفة أقل على كلا الجانبين. كما أن هذا النوع من الإكراه يمنح الخصم مخرجًا من الأزمة دون إذلال، وهو ما يجعله، في نظر بيب، أكثر قابلية للنجاح في النزاعات المعقدة من القصف العقابي أو محاولات الإخضاع المباشر.
أضف إلى ذلك أن القصف الجوي، مهما بلغت دقته أو شدته، لم يؤدِّ في أي حالة موثقة إلى إسقاط نظام حكم بمفرده، من دون أن يصاحبه غزو بري أو انهيار داخلي حاسم. ففي أفضل الأحوال، قد يدفع القصف قادة العدو إلى تراجع تكتيكي أو توقيع هدنة لحماية ما بقي من مقدراتهم، لكنه نادرًا ما يُفضي إلى التخلي عن السلطة أو تغيير جذري في التوجهات السياسية.
ولعل نماذج أخرى أحدث تؤكد هذه النتيجة، منها ما جرى في
ليبيا عقب اندلاع
الثورة الليبية ضد
معمر القذافي في فبراير/شباط 2011. إذ أن الضربات الجوية لم يكن لها أن تؤدي إلى إسقاط النظام الليبي من غير النجاحات التي حققها المقاتلون المعارضون للقذافي على الأرض.
يُفسّر بيب هذا النمط بتركيبة صناعة القرار داخل الدول الواقعة تحت الضغوط القصوى، موضحًا أن القادة، خاصة في الأنظمة السلطوية أو ذات الطابع التعبوي، يدركون جيدًا أن الاستسلام تحت ضغط القصف لا يعني فقط الهزيمة السياسية، بل تهديدًا مباشرًا لبقائهم الشخصي، وربما لحياتهم. من هنا، يُفضل العديد منهم المواصلة في القتال رغم التكاليف، على أمل الصمود أو قلب الموازين لاحقًا، لا سيما حين تغيب الضغوط البرية.
يستحضر بيب أمثلة عدة تدلل على وجهة نظره، ففي
حرب فيتنام، شنت الولايات المتحدة حملتين جويتين رئيسيتين ضد الشمال، بهدف إجباره على وقف تسلل المقاتلين والإمدادات إلى الجنوب وإجبار
هانوي على التفاوض على تسوية سلمية.
سُمِّيت الحملة الأولى "الرعد المتدحرج" (Rolling Thunder) وكانت في عهد الرئيس جونسون. وركّزت خلالها الولايات المتحدة على التصعيد التدريجي للضربات الجوية، بما يشمل استهداف البنية الصناعية وأحيانًا منشآت مدنية.
تنقّلت هذه الحملة بين ثلاث إستراتيجيات دون التزام واضح بإحداها، هي: العقاب من خلال ضرب أهداف مدنية، والحرمان عبر استهداف البنية العسكرية واللوجستية، والتصعيد الرمزي لإيصال رسائل ضغط سياسي.
غير أن الحملة فشلت في تحقيق أهدافها، إذ كانت
فيتنام الشمالية ترى في دعم الجنوب قضية وطنية لا يمكن التنازل عنها، كما أظهرت قدرة لافتة على التكيف مع القصف بفضل بساطة بنيتها التحتية وتدفق الدعم العسكري والاقتصادي من
الصين والاتحاد السوفياتي.
أما الحملة الجوية الثانية "لاينباكر" (Linebacker)، فكانت أكثر تركيزًا على إضعاف القدرات الميدانية من خلال هجوم تقليدي واسع، وحققت نجاحًا نسبيًّا لأنها جاءت متزامنة مع ضغط بري جنوبي، وتطور في شكل الصراع.
ويؤكد بيب أن النجاح النسبي لهذه الحملة لم يكن نتيجة دقة الضربات فحسب، بل بسبب تطابق الإستراتيجية الأميركية مع نقاط الضعف الحقيقية للعدو، على عكس حملة الرعد التي استهدفت المدنيين والبنى الهشة، دون التأثير فعليًّا في قدرة العدو على القتال.
والدرس الأساسي المستفاد من فيتنام، كما يراه بيب، هو أن القصف الجوي وحده، حتى وإن كان مكثفًا، لا يكفي لتغيير القرار السياسي للخصم، ما لم يُدمج ضمن إستراتيجية متعددة الأبعاد تُضعف قدرة العدو على القتال وتعرضه لخسائر حقيقية في ميدان المعركة.
أما في
حرب الخليج الثانية (1991)، فقد اعتمدت
الولايات المتحدة على حملة جوية ضخمة استمرت ستة أسابيع تحت اسم عملية "الرعد الفوري"، لجأت في بدايتها إلى إستراتيجية قطع الرؤوس التي راهنت بها على حسم الصراع جوًّا فقط، عبر استهداف القيادة العراقية ومراكز الاتصال والأمن الداخلي والبنية التحتية الحيوية. ورغم الأضرار الفادحة التي لحقت بشبكات الطاقة والنفط والاتصالات، فشلت هذه الحملة في تحقيق أهدافها، كما لم تفضِ إلى تمرد داخلي أو انهيار للنظام.
ومع تعثر المرحلة الأولى انتقل التحالف إلى إستراتيجية "الحرمان"، التي انطلقت فعليًّا في الأسبوع الثاني. وركزت هذه الحملة على تقويض قدرة العراق، عبر تدمير خطوط الإمداد ومهاجمة القوات والمعدات بدقة. ورغم نجاح هذه الإستراتيجية في تفكيك بنية الجيش العراقي، فإنها لم تُجبر
صدام حسين على الانسحاب إلا بعد تهديد حقيقي باجتياح بري واسع.
وبحسب بيب، فإن هذه التجربة تُظهر بوضوح أن إستراتيجية الحرمان هي الأكثر فاعلية في الإكراه الجوي، مقارنة بالعقاب أو حتى قطع الرأس. كما تُظهر أهمية الجمع بين "المطرقة الجوية" و"السندان البري"، حيث تؤدي القوة الجوية دورًا حاسمًا فقط عندما تُساندها قوة برية تضيق الخناق على العدو وتضعه أمام خيارات محدودة.
وكذلك يشير بيب إلى الحملة الجوية الواسعة على ألمانيا النازية بين عامي 1942 و1945، فرغم القصف الكارثي لمدن مثل هامبورغ ودريسدن، وما أسفر عنه من مئات الآلاف من القتلى ودمار واسع للبنية التحتية، فإن النظام النازي لم ينهَر، بل واصل القتال حتى اجتاحت القوات السوفياتية برلين في الأيام الأخيرة للحرب.
المشهد نفسه تكرر في اليابان، حيث نفذت القوات الأميركية حملة جوية قاسية شملت قصف طوكيو وتدمير المدن الكبرى، وصولًا إلى إسقاط القنبلتين النوويتين على
هيروشيماوناغازاكي. ومع ذلك، لم تقرر القيادة اليابانية الاستسلام إلا بعد أن أصبح الغزو البري وشيكًا، وعقب إعلان الاتحاد السوفياتي دخول الحرب ضدها، مما أجهض أي أمل في إمكانية الصمود أو التفاوض من موقع قوة.
تدعم هذه النماذج الفرضية المركزية لبيب، وهي أن القصف الجوي مهما بلغ عنفه وتدميره، لا يفضي وحده إلى إسقاط الأنظمة السياسية أو إرغامها على التراجع، ما لم يقترن بضغط بري مكثف أو تهديد وجودي شامل، وغياب هذا "السندان البري"، في عدد من النزاعات السابقة، أدى إلى تحويل الحملات الجوية إلى مجرد أدوات استنزاف بلا أثر إستراتيجي حاسم.