من المهم التأكيد على أن معظم دول العالم قارية بحكم الجغرافيا حيث تفتقر إلى خندق محيطي يعزلها تمامًا عن التهديدات، ويعني ذلك أن النظام البحري القائم على القواعد وحده هو الذي يوفر لهذه الدول الحماية الكاملة.
تدمج المؤسسات وأنظمة التحالف القدرات المتنوعة للدول لاحتواء تهديدات القلة وتعمل كـ"بوليصة تأمين" للنظام القائم على القواعد. وفي حين أن ذلك لا يلغي الأخطار تمامًا، فإنه يقللها إلى أقصى درجة ممكنة.
لكن العالم لا يزال يضم العديد من القاريين التقليديين، ومنهم الرئيس الروسي بوتين الذي أفصح بوضوح عن أنه ينوي توسيع حدود روسيا. وهكذا تعد السيطرة على أوكرانيا مجرد بداية فقط أما القائمة الكاملة فلخصها بوتين بقوله إن هناك قاعدة قديمة مفادها أن "أي مكان تطؤُه قدم جندي روسي، فهو ملكنا".
يشمل ذلك على أقل تقدير أوروبا الوسطى والشرقية، التي احتلتها القوات السوفياتية بعد الحرب العالمية الثانية وربما يتوسع إلى باريس التي وصلت إليها القوات الروسية في نهاية الحروب النابليونية.
وتماما كما فعلت خلال الحرب الباردة، تسعى موسكو اليوم إلى تفكيك الغرب من الداخل والخارج. لقد برع الروس في الدعاية منذ زمان الثورة البلشفية، واستخدموها بنجاح لتسويق الشيوعية حول العالم، مما كلف العديد من الدول عقودًا من تراجع النمو. والآن، تستخدم روسيا الدعاية لنشر "وهم" أن
الناتو هو الذي يهدد روسيا وليس العكس.
وقد زادت وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير من قدرة روسيا على بث الدعاية في الخارج، وهو ما تفعله من خلال تأجيج التوترات على جانبي العديد من القضايا الخلافية.
على سبيل المثال، سعت موسكو إلى تحويل الحرب في أوكرانيا إلى قضية خلافية تفصل الولايات المتحدة عن أوروبا، وتفرق الدول الأوروبية المختلفة، مما يُضعف كلًّا من الناتو
والاتحاد الأوروبي.
كما ساهمت في الترويج لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي أدى إلى تآكل علاقات المملكة المتحدة مع جيرانها في القارة العجوز.
وعملت روسيا كذلك على خلق تدفقات هائلة من المهاجرين بدعمها للديكتاتور بشار الأسد خلال الحرب الأهلية السورية (الثورة السورية*)، والآن بزعزعة استقرار أفريقيا، مما أدى إلى تدفق اللاجئين إلى أوروبا. وقد أدت هذه التدفقات إلى زعزعة الاستقرار بشكل كبير، مما سهل صعود اليمين الانعزالي في القارة.
بالتزامن تسعى قوى قارية أخرى إلى قلب النظام العالمي الحالي. مثلا، تهدف كوريا الشمالية إلى السيطرة على شبه الجزيرة الكورية بأكملها، والقضاء على كوريا الجنوبية. أما مسرح إيران الرئيسي فهو الشرق الأوسط، حيث تسعى طهران إلى بسط نفوذها في العراق ولبنان وسوريا.
ثم هناك الصين التي ربما يوحي قرارها بالاندماج في النظام العالمي الحالي سعيا وراء الثروة بأنها تتبنى منظورًا بحريا حتى إنها بنت أسطولًا بحريًّا ضخمًا.
لكن بكين لا تستطيع نشر سفنها بفعالية في زمن الحرب بسبب البحار الضيقة والضحلة والمزدحمة بالجزر التي تحيط بسواحلها. هذا يجعلها أشبه بألمانيا، التي بنت أساطيل بحرية ضخمة لم تستطع استخدامها بشكل موثوق به في أي من الحربين العالميتين.
وقتها، حاصرت المملكة المتحدة بحر الشمال
وبحر البلطيق الضيقين، مما أدى إلى القضاء على حركة الملاحة الألمانية وقصرها على الغواصات حتى إن برلين كانت بحاجة إلى السواحل الفرنسية والنرويجية الطويلة لتوفير مخارج أكثر موثوقية لغواصاتها، لكن ذلك لم يكن كافيًا لبحريتها، فضلًا عن أسطولها التجاري.
واليوم تعتمد الصين الآن على التجارة والواردات أكثر من ألمانيا آنذاك، وخاصة في مجالي الطاقة والغذاء، ومن المرجح أن تؤدي الاختناقات الاقتصادية الناجمة عن توقف تجارتها المحيطية إلى إضعاف اقتصادها.
وكما أثبتت أوكرانيا التي نجحت في إغراق سفن روسية، يمكن حتى للطائرات المسيرة (الرخيصة) إغلاق البحار الضيقة. لدى الصين 13 جارا بريا و7 جيران بحريين، ولا يخلو الأمر من خلافات معهم. ويمكن لهؤلاء الجيران -باستخدام الغواصات والمدفعية الساحلية والطائرات المسيرة والطائرات المقاتلة- إغلاق حركة المرور التجارية للصين وجعل الحركة البحرية في محيطها محفوفة بالأخطار.
على النقيض لا يحتاج العديد من جيرانها الساحليين القريبين إلى عبور بحر الصين الجنوبي للوصول إلى المحيط المفتوح، فإندونيسيا وماليزيا والفلبين وتايلاند وتايوان، جميعها لديها سواحل بديلة على البحار المفتوحة، مما يجعل حصارها أمرًا صعبًا.
نتيجة لذلك، فإن الصين شأنها شأن روسيا لا تزال تمتلك منظورا قاريا، فبالإضافة إلى المطالبات الإقليمية بجزر تابعة لليابان والفلبين، وتهديدها باستخدام القوة للاستيلاء على تايوان، تسعى بكين إلى الحصول على أراضٍ من بوتان والهند ونيبال.