على مدار الثلاثينيات والأربعينيات، ظل الحزام البشتوني مصدرا لانتفاضات محدودة ضد البريطانيين في الهند وضد السلطة المركزية الأفغانية، لكنها لم تُسفر عن تغيير مجريات السياسة جذريا في دلهي أو كابل، وكانت الحدث الأبرز وقتها ظهور جماعة "خُدام الرب" (خُداي خِدمَت كار) بزعامة البشتوني عبد الغفار خان، الذي ألهمته حركة
المهاتما غاندي في الهند كي ينتفض ضد الاستعمار البريطاني بالتحالف مع حزب المؤتمر الهندي، وكانت الحركة تسعى إلى أن تُكون ولاية بشتونية وجزءا من جمهورية مستقلة في الهند.
حين بدأ الحديث عن تقسيم الهند إلى الهند وباكستان، أجري استفتاء في كل الولايات، بما فيها ولاية الحدود الشمالية الغربية، وقاطعت حركة خُدام الرب الاستفتاء، مُطالبة بأن يشمل إمكانيةَ استقلال منطقة البشتون أو انضمامها إلى أفغانستان. ولكن الاستفتاء جرى بصيغة "الهند أم باكستان"، وفي الأخير رجَّح المشاركون كفة باكستان، ومن ثمَّ أصبحت ولاية الحدود الشمالية الغربية إقليما باكستانيا عام 1947.
حين بدأت إجراءات انضمام باكستان إلى الأمم المتحدة، كانت أفغانستان هي البلد الوحيد الذي أبدى اعتراضه، وساق الحُجج على عدم مشروعية خط ديوراند رغم الموافقة الضمنية التي شملتها معاهدة راولبندي، لكنها اعتراضات لم تلق صدى آنذاك.
وقد بدأت كابل بعدئذ تُروِّج لمشروع انفصال البشتون في دولة مستقلة باسم بشتونستان، وحرَّضت القبائل البشتونية على التمرُّد بوجه الجيش الباكستاني عام 1950، وقدَّم الجيش الأفغاني دعما لوجستيا للقبائل، لكن الجيش الباكستاني الذي ورث بنية مؤسسية قوية من البريطانيين، دحر التمرُّد سريعا.
ورثت باكستان فعليا التموضع الاستراتيجي والجيوسياسي البريطاني في مواجهة القبائل البشتونية، وفي مواجهة أفغانستان في الوقت نفسه. وفي مُستهل الحرب الباردة، بدا ذلك جليا بانضمام باكستان إلى حلف بغداد البريطاني، في حين اختارت الهند عدم الانحياز نظريا والتحالف الفعلي مع
الاتحاد السوفياتي. وبالمثل، مالت أفغانستان قليلا نحو السوفيات لمواجهة التحالف الباكستاني-الأميركي والضغوط الأميركية.
في عام 1953، قررت كابل التواصل مع موسكو من أجل صفقة تسليح، مثلها مثل معظم دول العالم الثالث التي رفضت تعميق العلاقات مع الغرب، وحصلت بالفعل على سلاح سوفياتي، بل وأقام فيها آلاف من الخبراء العسكريين السوفيات عدة سنوات لتدريب الجيش، وبدا إذن أن الحرب الباردة ترسم إيقاع الصراع بين أفغانستان وباكستان.
بعد عاميْن، قرَّرت باكستان أن تضع منطقة "فاتا" تحت إدارة مركزية مباشرة، ما جلب عليها شجبا وتنديدا من كابل، التي تحرَّكت فيها مظاهرات أحرقت العلم الباكستاني ورفعت علم "بشتونستان"، وقُطِعَت العلاقات بين البلدين بعدئذ لمدة عاميْن، قبل أن يعود النظام إلى وضعه القديم عام 1970.
ازداد تغلغُل النفوذ السوفياتي في الدولة والجيش في أفغانستان على مدار عقديْن، مما شجع موسكو على دعم حزب الشعب الديمقراطي (الشيوعي) واختراقه للجيش، حتى انقلب الجيش في الأخير بقيادة محمد داوود خان، ابن عم الملك، وذو الخلفية العسكرية ورئيس الوزراء السابق، الذي أعلن الجمهورية عام 1973.
لم يبق داوود خان طويلا، إذ ساهم الجيش نفسه في التمرُّد عليه بعد 5 سنوات في ثورة "ثَوْر"، ومن ثمَّ أصبحت أفغانستان تحت حكم نظام شيوعي صريح منذ عام 1978، وهو نظام وجد نفسه في مواجهة انتفاضة مضادة لسياساته الشيوعية، دفعت الجيش السوفياتي إلى غزو أفغانستان عام 1979 دفاعا عن النظام.
من هُنا تحوَّلت الكثير من المعادلات الإقليمية، إذ أصبح إقليم الحدود الشمالية الغربية في باكستان معقلا لجماعات جهادية وقبلية تشكَّلت آنذاك لمقاومة غزو السوفيات بدعم من الولايات المتحدة وحلفائها، وذلك بعد أن كانت المنطقة مصدر قلق لإسلام آباد لوقت طويل.
وقد تجسَّدت الصحوة الإسلامية التي انتشرت في معظم بلدان العالم الإسلامي حينها في تبلور تلك الجماعات بوجه
النظام الشيوعيوالجيش الروسي على مدار 10 سنوات، حتى انسحب السوفيات عام 1989، ثم قرَّروا وقف دعمهم للنظام بالكامل عام 1992.
تمركز النظام الشيوعي بدون الدعم السوفياتي في المُدن بالأساس، بينما سيطرت الجماعات الجهادية على القرى والمنطقة الحدودية حتى باتت معظم البلاد تحت سيطرتهم. وتلاشت لبعض الوقت آثار خط ديوراند، وتدفقَّ الدعم الباكستاني لا يعرف حدودا بين بشتون أفغانستان وبشتون باكستان، طالما صُوِّبَت البنادق نحو الشمال.
في غضون ذلك، اندلع اقتتال داخلي بين الجماعات الجهادية، وتمخَّض عن ذلك الصراع الأهلي ظهور حركة طالبان، التي وصلت إلى السلطة عام 1996 في ما اعتُبِر ذروة النفوذ الباكستاني.
غير أن التداخل المتزايد بين حركة طالبان وتنظيم القاعدة، جعل أفغانستان وإقليم الحدود الشمالية الغربية ملاذا للقاعدة في الوقت نفسه، التي لفتت أنظار العالم كله بعملية 11 سبتمبر/أيلول بعد 5 سنوات. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه في ذروة تحالف طالبان وباكستان، لم تُقِر الحركة خط ديوراند حدودا رسمية، لكنها لم تملك آنذاك دوافع لفتح الملف مع باكستان. ففي صيف عام 2001، وحين زار إسلام آباد وزير داخلية طالبان عبد الرزاق، رفض توقيع اتفاق يتبنى رسميا خط ديوراند باعتباره حدودا نهائية بين البلدين.
ولكن إسلام آباد لم تلق بالا لتلك الخلافات في ظل هشاشة أفغانستان واحتياجها للدعم الباكستاني في العموم، بل استفادت من تحوُّل خط ديوراند إلى باب مفتوح يتحرَّك عبره مقاتلو طالبان بأريحية جيئة وذهابا، كي يحكموا أفغانستان عبر نظام لم تعترف به سوى إسلام آباد مع السعودية والإمارات العربية المتحدة حينها، وهي استراتيجية حوَّلت منطقة الشمال الغربي من عبء إلى رصيد إقليمي، إلا أن باكستان كان لها أن تندم عليها بعد وقت ليس بالطويل.
حين غزت الولايات المتحدة أفغانستان عام 2001، نجحت واشنطن في التحالف مع خصوم طالبان القدامى من الجماعات المسلّحة وألحقت بها الهزيمة، وسرعان ما تأسست سلطة جديدة برئاسة
حامد كرزاي أشرفت على تأسيس جيش جديد عام 2002. لم تنحلَّ الروابط بين طالبان وباكستان في يوم وليلة، رغم انحياز إسلام آباد الصريح إلى الحرب على الإرهاب، وهي روابط أفقدت المسؤولين الأميركيين الثقة أكثر من مرة في باكستان، وأحدثت التوترات بين إسلام آباد وواشنطن مرات ومرات.
في أعوام 2004 و2005 و2006، وقّعت الحكومة الباكستانية اتفاقات عدة مع جماعات جهادية باكستانية ذات صلة وثيقة بطالبان بدأت تنشط في جنوب وشمال وزيرستان، وحصلت في بعضها على تعهّدات بعدم استخدام أراضي باكستان في دعم مجاهدي أفغانستان أو مهاجمة باكستان، مقابل تسهيل حركة القبائل والتجارة عبر خط ديوراند.
ولكن الاتفاقات كانت مُبهَمة فيما يخص استهداف قوات
الناتو من عدمه، ومن ثمَّ تحوَّلت مع الوقت إلى استراحة محارب استفادت منها طالبان في نهاية المطاف. ورغم ترحيب واشنطن بها في البداية، فإنها سرعان ما أدركت أن منطقة "فاتا" تحوَّلت إلى ملاذ ونقطة انطلاق لعمليات طالبان ضد الجيش الأميركي في أفغانستان.
مع الوقت، زادت ضغوط واشنطن على إسلام آباد كي تلتزم بسياسات الحرب على الإرهاب، وتكُف عن سياستها المزدوجة تجاه طالبان. "لا يُمكنك أن تحتفظ بالأفاعي في حديقتك الخلفية، ثم تتوقّع منها أن تلدغ جيرانك فقط"، هكذا علَّقت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة
هيلاري كلينتون في نقد مُبطَّن للعلاقات بين الأجهزة الأمنية الباكستانية وحركة طالبان.
بالفعل، غلبت كفة واشنطن ودعمها السخي مع الوقت، فتآكل بالتدريج تحالف طالبان وباكستان، ومن ثمَّ تحوَّل أصدقاء إسلام آباد إلى خصوم استهدفوا أراضيها مثلها مثل الولايات المتحدة، وتحوَّلت الجماعات ذات الصلة بطالبان في شمال غرب باكستان إلى حركة طالبان باكستان عام 2007.
على مدار عقد من الزمان تقريبا، عانت إسلام آباد من عشرات الهجمات الإرهابية من طالبان باكستان، حتى بلغ ضحايا تلك الهجمات والعمليات العسكرية المضادة لها أكثر من 100 ألف بين عامي 2001 و2016، وكان أبرزها استهداف الحركة مدرسة في
بيشاور والذي راح ضحيته أكثر من 100 طفل، وخلق مناخا شعبيا غاضبا على الحركة، أتاح للجيش التحرُّك.
لذا، شن الجيش الباكستاني عام 2014 عملية "ضرب عضب" (الضربة الواحدة) ولمدة أكثر من عام لمواجهة طالبان باكستان، وكذلك جماعة لشكر إسلام النشطة في إقليم الحدود الشمالية الغربية، الذي بات يُعرف منذ عام 2010 باسم إقليم خيبر بختونخوا.