برز ذلك بوضوح في أوكرانيا، إذ اعتمدت روسيا على أسراب مُسيّرات "شاهد-136" الرخيصة نسبيا لإرهاق الدفاعات، مستفيدةً من فارق الكُلفة الهائل بين أهداف ثمنها عشرات الآلاف من الدولارات واعتراضات قد تُكلِّف مئات الآلاف أو أكثر للصاروخ الواحد، وهو ما وثّقته دراسات تفصيلية عن "تكتيك الإغراق بالمُسيّرات".
في المقابل، حققت بطاريات باتريوت في كييف اعتراضات باليستية عالية القيمة أمام صواريخ "كينجال" الفرط صوتية، لكن بكُلفة تشغيلية كبيرة ضمن معركة استنزاف طويلة.
يُظهِر ذلك أن منظومة "باتريوت"، رغم تطورها، ليست درعا سحريا قادرا على صد جميع الهجمات، خصوصا عند مواجهة تكتيكات "الإغراق" أو التعامل مع أهداف صغيرة منخفضة البصمة الرادارية.
من هنا يجادل منتقدو الصفقة من الأوساط العسكرية الأميركية بأن شراء هذا الكمّ الضخم من الصواريخ قد يكون مدفوعا بالخوف من نفاد المخزون، أكثر مما هو مبني على حساب دقيق للتوازن بين الكلفة والجدوى.
لكن في المقابل، يردّ المسؤولون العسكريون بأن التجارب الميدانية أثبتت الحاجة الملحة إلى هذا التعزيز، فمنظومة "باتريوت" وُصفت بأنها منقذة حين نجحت في حماية كييف من موجات الصواريخ الروسية، كما أسهمت في اعتراض صواريخ إيرانية استهدفت قواعد أميركية في الخليج. وبالنظر إلى هذه الأمثلة، يرى البنتاغون أن عدم توفير مخزون كافٍ قد يترك فراغا دفاعيا خطيرا في لحظة حرجة.
وثمة تقارير صدرت منتصف العام الحالي تؤكد ذلك، إذ تشير إلى أن الولايات المتحدة لم يعد لديها إلا نحو 25% من مخزون صواريخ "باتريوت" اللازم لتغطية خططها العملياتية حول العالم، بعدما استُهلكت كميات كبيرة من الذخائر في أوكرانيا وإسرائيل وبعض دول الشرق الأوسط خلال الأشهر السابقة.
وقد دفع هذا النقص وزارة الحرب الأميركية إلى تجميد بعض شحنات الصواريخ إلى كييف مؤقتا بهدف إعادة ترتيب الأولويات، وهو ما عكس حاجة إلى إعادة بناء المخزونات تحسّبا لأي أحداث قد تطرأ في مناطق قتال أخرى.
يعني ذلك أن آثار الصفقة لا تقتصر على الجانب العسكري، بل تمتد إلى السياسة والإستراتيجية، فهي أولا رسالة طمأنة للحلفاء بأن واشنطن تؤكد التزامها بتوفير أحدث وسائل الدفاع وضمان التفوق النوعي لشركائها.
إذ إن أكثر من 17 دولة تعتمد على منظومة "باتريوت"، من بينها اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا وبولندا وإسرائيل ودول الخليج، وكثير من هذه الدول شارك في تمويل تطوير "باك-3" أو عقد صفقات لشرائه، مما يعني أن المشاركة في تغطية هذه التكلفة سيزيد من تبعية هذه الدول للتكنولوجيا والدعم الفني الأميركي، وهو مكسب سياسي يعمّق التحالفات لعقود، في حين يمكن استخدام المنظومة بوصفها ورقة مساومة سياسية؛ تمنحها واشنطن أو تمنعها وفق حسابات إستراتيجية.
فضلا عن ذلك، تُمثِّل هذه الصواريخ رسالة ردع لخصوم واشنطن. فنجاح "باتريوت" في إسقاط صواريخ روسية فرط صوتية من طراز "كينجال"، وجّه ضربة رمزية لموسكو، وعزَّز جزئيا صورة الردع الغربي.
الصين هي الأخرى تراقب عن كثب انتشار بطاريات "باتريوت" و"ثاد" في آسيا، وقد احتجّت سابقا على نشر الأخير (ثاد) في كوريا الجنوبية خشية من راداراته بعيدة المدى.
أما
إيران، التي استثمرت بكثافة في الصواريخ والمسيّرات، فتجد نفسها أمام شبكة دفاعية آخذة في التوسع تشمل "باتريوت" و"ثاد" وقطع بحرية مزودة بإيجيس.
ومع ذلك، فإن هذه القوة السياسية تثير جدلا أعمق: هل بات القرار الأميركي أسيرا لما حذّر منه الرئيس الأسبق دوايت أيزنهاور قبل أكثر من ستة عقود، أي تغوّل المجمّع الصناعي العسكري؟ إذ يرى منتقدون أن توسع اعتماد الحلفاء على نظم أميركية يعزز نفوذ الشركات المصنّعة التي تدفع لبيع المزيد عبر جماعات ضغط ودراسات تضخّم التهديدات.
وبذلك يصبح الإنفاق الدفاعي الضخم استثمارا في الأرباح والنفوذ بقدر ما هو استثمار في الأمن والردع، حيث تحصد شركات التكنولوجيا العسكرية نصيبا متزايدا من ميزانية البنتاغون وتكتسب نفوذا سياسيا متعاظما.
وفي حين يعتمد نفوذ تلك المؤسسات على أدوات تتراوح بين الضغط السياسي وتبرعات الحملات الانتخابية، وصولا إلى ما يُعرف بظاهرة "الباب الدوار"، إذ ينتقل بعض المسؤولين السابقين في وزارة الحرب للعمل داخل شركات رأس المال الاستثماري التي تضخ أموالها في تقنيات عسكرية ناشئة قبل العودة مجددا إلى البنتاغون، فإن تحذير أيزنهاور لم يفقد راهنيته، بل يجد صداه في صفقات كبرى مثل صفقة الباتريوت الأخيرة، حيث يتقاطع سؤال الأمن القومي مع واقع نفوذ صناعات السلاح على القرار السياسي الأميركي.