المحور، والرسالة، والانفجار: 7 أكتوبر وعودة المقاومة
يُفرد فالي نصر مساحة بارزة من كتابه لتحليل
هجوم 7 أكتوبر 2023، معتبرا إيّاه لحظة مفصلية في تفعيل إستراتيجية إيران الإقليمية. فالهجوم، الذي نفّذته
كتائب عز الدين القسام، لم يكن مجرد عملية عسكرية مفاجئة، بل اختبارا حقيقيا لقدرة طهران على الجمع بين العقيدة والمناورة.
جاء الهجوم ليُسقط الهالة الردعية التي أحاطت بإسرائيل طويلا، ويُعيد القضية الفلسطينية إلى مركز الطاولة الإقليمية، ويُربك اندفاعة التطبيع العربي مع تل أبيب. ورغم أن غزة كانت ساحة الانفجار، فإن ارتداداته امتدت إلى سوريا والعراق ولبنان واليمن، وجرى تفعيل جبهات أخرى لتكون بمنزلة مسارح إسناد وتحدٍّ إضافي.
لكن الصدمة الكبرى، كما يروي نصر، وقعت بعد عام واحد فقط. ففي أكتوبر/تشرين الأول 2024، باغتت إسرائيل
حزب الله بضربة خاطفة أدّت إلى اغتيال معظم قياداته، بمَن فيهم أمينه العام
حسن نصر الله، وتدمير واسع
للضاحية الجنوبية في بيروت.
هذه الضربة مثّلت ارتدادا عنيفا للمحور الإيراني، وأعادت طهران إلى وضع دفاعي قلق، لكنها لم تُحدث شرخا في عقيدتها الأساسية. فالحرب، كما يكتب نصر، "طويلة، ولن تُحسم بضربة واحدة" .
أعداء الداخل والخارج: معركة التوازن المستحيل
يربط الكاتب، بعين الباحث المتمرس، بين شرارتين بدتا في الظاهر متباعدتين: احتجاجات "مهسا أميني" التي هزّت الداخل الإيراني عام 2022، وهجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 الذي زلزل أمن إسرائيل من غزة.
ومن هذا الربط تنبثق فرضية مركزية في تفكيره مفادها أن النظام الإيراني لا يفصل بين الخارج والداخل كما يتوهّم كثير من المراقبين، بل يراهما وجهين لصراع واحد. فتماسك الداخل، في نظر طهران، ليس وليد سياسة اقتصادية ناجحة أو إصلاح سياسي متدرج، بل نتيجة مباشرة لمراكمة أوراق القوة الإقليمية.
بهذا المنطق، لم يرَ قادة إيران أن الغضب الشعبي المتفجر في شوارع طهران وقم وتبريز تعبير عن مأزق اجتماعي داخلي، بل "مؤامرة خارجية" بتحريك غربي، كما فسّرتها أجهزة الدولة، مما زاد من قناعة القيادة بجدوى التشدد لا الانفتاح، والمجابهة لا المصالحة. فالمرشد
علي خامنئي، كما يحلل نصر، يرى في الضغوط الغربية مسوّغا لإغلاق الداخل، لا بوابة لانفتاحه.
لكن المفارقة القاسية تكمن في أنّ الإستراتيجية الكبرى، التي نجحت في كسب أوراق خارجية، باتت تستنزف الرصيد الداخلي للنظام. ومع تآكل الطبقة الوسطى، وتزايد الضغط الاقتصادي، تحوّلت السياسة الخارجية من أداة قوة إلى وسيلة بقاء، ومن مشروع توسع إلى حائط صد ضد الانهيار من الداخل، بحسب الكاتب.
من جانب آخر، يفكك نصر، في فصول لاحقة، العلاقة المعقدة بين المشروع النووي الإيراني وإستراتيجية الممانعة الكبرى. فالنووي -كما يرى- لم يكن يوما مشروعا عقائديا أو دينيا كما تروّج بعض الخطابات الغربية، بل رافعة إستراتيجية دقيقة، وضعتها طهران على طاولة الردع الشامل، بوصفها أداة تفاوض، لا أداة حرب.
يدرك صانع القرار الإيراني أن العالم لا يحترم سوى مَن يملك أوراقا ثقيلة، قابلة للاستخدام أو التلويح، وأن السيادة في هذا العصر تُقاس بمدى القدرة على الاقتراب من الخطوط الحمراء دون تجاوزها. من هنا، صار النووي ملفا مركزيا في مشروع الاستقلال الإستراتيجي الإيراني بوصفه ورقة ضغط طويلة الأجل.
لكن المفارقة المؤلمة -كما يوضح نصر- أن هذا السلاح غير المكتمل تحوّل أيضا إلى ساحة استنزاف خطيرة: وسيلة لردع الخارج من جهة، وذريعة لحصار اقتصادي خانق من الداخل من جهة أخرى.
وهكذا تعيش طهران في معادلة ملغومة بين تطوير المشروع وضمان عدم تجاوزه للخطوط الحمراء التي تبرر عملا عسكريا دوليا، وهو ما يشبه ما وصفه كيسنجر ذات مرة بـ"المسافة الإستراتيجية بين الطموح والانتحار".
محور المقاومة: النظام الإقليمي الموازي
في أحد أعمق محاور تحليله، يتناول فالي نصر ظاهرة "محور المقاومة"، لا بوصفه تحالفا ظرفيا أو تكتلا عقائديا، بل باعتباره مشروعا جيواستراتيجيا صاعدا، يطمح إلى إعادة تعريف القوة والنفوذ في الإقليم، من خارج قوالب الدولة القُطرية وموازينها التقليدية.
فقد بدأ هذا المحور، كما يوضح نصر، ببناء أدوات ردع غير متماثلة (خلايا، وميليشيات، وشبكات غير نظامية)، ثم راكم بمرور الزمن مكونات أشبه ما تكون بنظام إقليمي موازٍ له روايته العقائدية، ورموزه الأيديولوجية، وقنواته الإعلامية، وأذرعه العسكرية الممتدة من بغداد إلى صعدة، ومن دمشق إلى غزة.
ورغم أن طهران لا تمارس سيطرة كاملة على قرارات حلفائها في "المحور"، فإنها تتحكم في الاتجاه العام من خلال بنية معقدة من التنسيق العقائدي، والدعم اللوجستي، والتمويل المستمر، فيما يمكن وصفه بقيادة غير مرئية، لكنها فعّالة، أشبه بقبضة ناعمة تُمسك بعصب القرار من دون أن تُقيّده علنا.
غير أن نصر يزعم أن ثمة هشاشات تكتنف هذا البناء. فمع صعود قادة ميدانيين يمتلكون طموحات تتجاوز الحسابات الإيرانية، ومع تزايد الضربات التي تستهدف المكونات المختلفة للمحور، بات المشروع مهددا إما بالتفتت الذاتي وإما بالتحوّل إلى عبء إستراتيجي على صانع القرار الإيراني، فالمشروع الذي بدأ ليكون درعا للنفوذ، قد يتحول -في لحظة ما- إلى عباءة مثقوبة تجرّ إيران إلى هُوّة معارك لا قرار لها فيها.
الذاكرة الإستراتيجية: حين تصوغ الجغرافيا السياسة
يغوص فالي نصر عميقا في الجذر النفسي والتاريخي لنظرية الأمن القومي الإيراني، ليكشف عن بنية ذهنية تشكّلت عبر قرون من الجراح المفتوحة.
فإيران، كما يصوّرها، لا تصوغ سياساتها فقط من منطلق المصلحة المباشرة، بل من خلال سردية قومية مثقلة بتاريخ من التدخلات الخارجية والإهانات السيادية، بدءا من معاهدات الاستسلام أمام روسيا القيصرية، وصولا إلى الاحتلال البريطاني-السوفياتي في ا
لحرب العالمية الثانية، ثم الانقلاب الأميركي-البريطاني ضد حكومة
محمد مصدق عام 1953.
كل هذه الأحداث، كما يقول نصر، شكّلت ما يشبه "عقدة الاضطهاد" في وعي النخبة السياسية الإيرانية. ولذلك، فإن السياسة الخارجية لا تُبنى في طهران باعتبارها إستراتيجية مصالح فحسب، بل فعل مقاومة لعكس مسار الإهانة التاريخية. ومن ثم فإن أي انفتاح على الغرب يُنظر إليه بوصفه خطرا وجوديا، وأي تراجع يُفسَّر تنازلا عن الكرامة الوطنية.
ومن هنا، لا تسعى "الممانعة" فقط لرفض الهيمنة، بل استعادة الكبرياء المهدورة عبر القرون. إنها محاولة لإحياء فكرة "العظمة الإيرانية"، ليس على هيئة إمبراطورية بالضرورة، بل هوية مقاومة متجذّرة، تمزج لغة السياسة بالمقدّس الأيديولوجي، وتعبر عن نفسها في مصطلحات "الدفاع عن المستضعفين"، و"مواجهة الظلم"، و"الصمود أمام
المشروع الصهيوني".
