تتعزز هذه التكهنات بفعل السردية التي تروجها دوائر السلطة الأميركية حول كون مادورو رئيسا غير شرعي سرق انتخابات 2024، وأنه
يقود ويوجه منظمات تهرب المخدرات إلى أميركا، ما دفع المدعية العامة الأميركية بام بوندي للإعلان عن مضاعفة المكافأة المرصودة لمَن يدلي بمعلومات تؤدي إلى
القبض على الرئيس الفنزويلي؛ إلى 50 مليون دولار، فضلا عن مصادرة 700 مليون دولار من الأصول التي يملكها.
مادورو من جانبه لم يتأخر في الرد، تحدث عن "نضال مسلح منظم" إذا ما وقع أي هجوم على بلاده، وأعلن تعبئة 4.5 ملايين من عناصر المليشيا المدنية، وفتح مراكز تجنيد في أنحاء البلاد، لكنه في الوقت نفسه دعا ترامب إلى الحوار والتخلي عن سياسات تغيير الأنظمة في أميركا اللاتينية.
وهكذا تبرز بين ثنايا خطاب أميركا عن الحرب على المخدرات رواية أطول عن التنافس الأميركي-الفنزويلي، تعود جذورها إلى عقود من التدخلات والعقوبات، التي تصاعدت في عهد الرئيس السابق هوغو تشافيز (1999-2013)، وبلغت ذروتها في عهد الرئيس مادورو مع عودة أشباح المحاولات الأميركية لتغيير الأنظمة المناوئة في الفناء الخلفي
لواشنطن، وفي مقدمتها النظام الفنزويلي.
فنزويلا دولة تمتد على أكثر من 912 ألف كلم مربع جنوب البحر الكاريبي، ويقطنها أكثر من 28 مليون نسمة، وهي من أبرز مؤسسي منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك"، حيث بلغ إنتاجها في عام 1970 نحو 3.8 ملايين برميل نفط يوميًا، وتحوي حاليا أكثر من 17% من الاحتياطيات العالمية المؤكدة، وتُعرف في الذاكرة المعاصرة بأنها "جمهورية فنزويلا البوليفارية"؛ الاسم الذي أطلقه عليها الرئيس السابق
هوغو تشافيز عام 1999 بعد استفتاء شعبي أقرّ دستورًا جديدًا، في محاولة لإعادة صياغة هوية جديدة تستحضر إرث المحرر اللاتيني الشهير
سيمون بوليفار.
مع الطفرة النفطية التي رافقت صعود تشافيز (1999-2013) لمنصب الرئاسة، عمل الرئيس على استخدام أرباح النفط في توسيع دور الدولة في الاقتصاد، وأنشأ مجموعة من البرامج والخدمات الاجتماعية التي ساهمت في الحد من الفقر وتقليص نسب البطالة.
وعمل على محو الأمية وتوفير الرعاية الصحية، كما وظف كاريزميته في بناء شعبية امتدت إلى دول مناوئة للولايات المتحدة، مثل كوبا التي قدم لها النفط بأسعار مخفضة، وتبنى خطابا مناهضا لواشنطن، وللإمبريالية العالمية، وعدل التعاقدات مع شركات النفط الأميركية، مما دفع شركتي إكسون وكونوكو لوقف أنشطتهما ورفع دعاوى قضائية ضد الحكومة الفنزويلية بحجة انتهاكها للتعاقدات، كما زار العراق في عام 2000 والتقى الرئيس
صدام حسين، في أول زيارة لرئيس أجنبي إلى بغداد منذ عام 1990.
ولكن بجوار هذه الصورة الجذابة، تشكلت قصة أخرى خلف الأبواب الحديدية لعنابر السجون. ففي عهده، تحولت السجون الفنزويلية إلى بؤرة للعنف.
ومع عجز الحكومة عن السيطرة على تلك الفوضى، اضطرت إلى الاعتراف بسلطة الشبكات الإجرامية داخل السجون، حيث جرى توزيع السيطرة بحيث تتولى كل عصابة إدارة سجن بعينه، في تسوية غير معلنة لتجنب استمرار صراع دموي أسفر عن مقتل نحو 6000 شخص، بحسب تقارير مركز أبحاث
الكونغرس الأميركي.
في غضون ذلك، تعرض شافيز لمحاولة انقلاب اتهم واشنطن بالتورط فيها عام 2002، ونجحت في الإطاحة به لمدة يومين، قبل أن يتمكن الضباط الموالون له -رفقة مظاهرات شعبية ضخمة- من إعادته إلى منصبه.
ومنذ منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، لجأت واشنطن إلى ملف حقوق الإنسان لمحاصرة نظام تشافيز، كما تفاقم التوتر بسبب غياب التعاون الثنائي في ملفات حساسة مثل مكافحة المخدرات والإرهاب.
ففي عام 2005، أنهت حكومة كاراكاس تعاونها مع إدارة مكافحة المخدرات الأميركية، متهمةً عناصرها بالتجسس، وهو اتهام رفضته واشنطن. قبل ذلك بعام، وصلت المفاوضات بخصوص مسودة اتفاقية تعاون أمني في مجال المخدرات، تتضمن آليات لتبادل المعلومات وتعزيز التنسيق؛ إلى حائط مسدود، ولم توقعها فنزويلا قط.
ومنذ عام 2006، أصدر وزير الخارجية الأميركي تقييما يتجدد سنويًا ينص على أن فنزويلا "لا تتعاون بشكل كامل مع جهود الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب".
وتوالت الاتهامات الأميركية لأعضاء في الحكومة الفنزويلية بوجود روابط مع عناصر من
حزب الله اللبناني، ومع منشقين من الجماعات الكولومبية اليسارية المسلحة مثل "القوات المسلحة الثورية الكولومبية".
وسط هذه التجاذبات بين واشنطن وكاراكاس، برز نجم نيكولاس مادورو، النقابي السابق، الذي صعد بهدوء منذ أواخر التسعينيات.
بدأ حياته العامة نائبًا في الهيئة التشريعية بين عامي 1998 و2006، قبل أن يترأس الجمعية الوطنية لفترة وجيزة، ثم انتقل ليشغل منصب وزير الخارجية نحو 7 سنوات. وفي عام 2012، ومع إعادة انتخاب تشافيز، وقع اختيار الرئيس عليه ليكون نائبًا له، في خطوة أشارت إلى ثقة الزعيم به وولائه المطلق للنهج التشافيزي.