"سايكس بيكو" والتحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط خلال 100 عام

الكاتبة: ظلّ الشرق الأوسط يمر عبر مراحل متتابعة من الصياغة والتعديل، لا بقوة الذات السياسية الداخلية فحسب، بل أيضًا تحت تأثير التدخلات الجيوسياسية الغربية والروسية (الجزيرة)
21/7/2025
تنطلق المقالة من إشكالية مفادها: كيف ساهمت التحولات التاريخية منذ اتفاقية سايكس بيكو في صياغة الشرق الأوسط المعاصر؟ وما هي المخاطر والفرص المتوقعة بعد 2025؟ حيث يساهم الربط بين الإرث الاستعماري والتحديات المستقبلية في تعزيز فهم أعمق للواقع الجيوسياسي الذي يميز منطقة الشرق الأوسط.
أغلب الدراسات الحديثة، التي بيّنت أن ما يُعرف بـ"النظام الإقليمي العربي" بات أقل مركزية بعد 2011، وأكثر عرضة لعمليات التداخل الخارجي، تؤكد أن هذا الواقع قد أوجد فراغًا جيوستراتيجيًّا سهّل إعادة تشكل المنطقة
لم يكن اتفاق سايكس بيكو لعام 1916 مجرّد تقاسم استعماري للنفوذ بين بريطانيا وفرنسا على أنقاض الدولة العثمانية، بل كان بمثابة لحظة تأسيسية لنمط من إعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق منطق إستراتيجي خارجي، يتجاوز الحساسيات المحلية والبنى الاجتماعية والسياسية للمنطقة، وهو ما أنتج تركيبة جيوسياسية هشة، ظلّت تترنّح تحت ضغط التحولات الدولية، والثورات المحلية، والاستقطابات الإقليمية المستمرة منذ قرن من الزمان.
من هذه النقطة التاريخية، ظلّ الشرق الأوسط يمر عبر مراحل متتابعة من الصياغة والتعديل، لا بقوة الذات السياسية الداخلية فحسب، بل أيضًا تحت تأثير التدخلات الجيوسياسية الغربية والروسية، وصعود قوى إقليمية كإيران وتركيا، وأخيرًا بروز تأثير الصين في مساحات الاقتصاد والطاقة والأمن السيبراني.
إن قراءة المخاطر والفرص، التي ستواجه الشرق الأوسط بعد عام 2025، تتطلب فهمًا تركيبيًّا لمراحل إعادة التشكيل الممتدة من سايكس بيكو وصولًا إلى ما يُعرف اليوم بـ"الشرق الأوسط الجديد"، والذي لا يزال مشروعًا متنازعًا بين من يراه مدخلًا للاستقرار القائم على توازنات جديدة، ومن يراه مرحلة انتقالية لصراعات أكثر تعقيدًا وتشظيًّا.
ان إعادة تشكيل الإقليم السياسي (الدولة) تخضع لتحولات بنيوية تُفرض من خلال تداخلات ثلاثة: التغيرات في موازين القوى، والانهيارات المؤسسية الداخلية، والتدخلات الخارجية متعددة الأبعاد؛ حيث أصبحت إعادة التشكيل لا تتعلق فقط بإعادة ترسيم الحدود أو مأسسة الأنظمة، بل أيضًا بتحوّل الحقول الأمنية والاقتصادية والديمغرافية، وتفاعلها مع شبكات عالمية فاعلة.
فأغلب الدراسات الحديثة، التي بيّنت أن ما يُعرف بـ"النظام الإقليمي العربي" بات أقل مركزية بعد 2011، وأكثر عرضة لعمليات التداخل الخارجي- بالاشارة إلى انهيار الهياكل القديمة بعد حرب العراق، والثورات العربية، والصراعات في اليمن وسوريا- تؤكد أن هذا الواقع قد أوجد فراغًا جيوستراتيجيًّا سهّل إعادة تشكل المنطقة.
يجب أن يؤخذ بالحسبان تقييم فاعلية الفواعل غير الرسمية كالمليشيات، والجماعات العابرة للحدود، والشبكات الاقتصادية غير الرسمية، وعنصر التطور في مجال التكنولوجيا والفضاء السيبراني، الذي بات عاملًا جوهريًّا في إعادة تشكيل السلطة والمعلومات والأمن
من جهة أخرى، تؤكد هذه الدراسات أن التفاعلات المحلية، خاصة في دول مثل لبنان والعراق، تلعب دورًا مركزيًّا في تعطيل أو إعادة صياغة الأنماط المفروضة خارجيًّا، مما يؤكد الطابع الهجين لهذه التحولات؛ حيث إن إعادة التشكيل لا تحدث وفق نمط خطي، بل عبر موجات من الهدم والبناء تتفاوت في نتائجها بناء على التفاعلات المحلية والخارجية.
كما أن انتقال الولاءات من الدولة إلى الطائفة أو العشيرة، في سوريا والعراق واليمن، يدل على أن إعادة التشكيل تمر بأدوات لا ترتبط مباشرة بالنظام الدولي، بل بالتحلل الداخلي المؤسسي الذي يعاد تشكيله.
ومع ذلك، يجب أن يؤخذ بالحسبان تقييم فاعلية الفواعل غير الرسمية كالمليشيات، والجماعات العابرة للحدود، والشبكات الاقتصادية غير الرسمية، وعنصر التطور في مجال التكنولوجيا والفضاء السيبراني، الذي بات عاملًا جوهريًّا في إعادة تشكيل السلطة والمعلومات والأمن، خصوصًا في ظل تصاعد الحروب السيبرانية بين إيران وإسرائيل، واستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في التتبع والمراقبة. ومن هنا تبرز الحاجة إلى دمج أبعاد القوة الرقمية والشبكية ضمن أدوات إعادة التشكيل في الشرق الأوسط الجديد.
من المتوقع أن تعيد الصين تشكيل ملامح الاقتصاد الإقليمي في الشرق الأوسط بعد 2025 من خلال مبادرة "الحزام والطريق"، التي ستركز على البنية التحتية والطاقة، وهذا قد يسهم في خفض الاعتماد على الغرب
السيناريوهات المستقبلية المحتملة لمنطقة الشرق الأوسط بعد 2025
بما أن منطقة الشرق الأوسط واحدة من أكثر المناطق تعقيدًا في العالم، وذلك بسبب التداخلات الجيوسياسية، والطائفية، والاقتصادية، والتي خلقت ديناميكيات غير مستقرة منذ عقود، فإن من المتوقع في المستقبل القريب، وخاصة بعد 2025، أن تشهد المنطقة تحولات كبيرة في كافة الأصعدة: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية. وهذه التحولات قد تتخذ عدة سيناريوهات، تتراوح بين فرص لتحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي، ومخاطر الانزلاق نحو صراعات أعمق.
وفقًا للدراسات الحديثة والتوقعات الجيوسياسية، يمكن تصور عدد من السيناريوهات المستقبلية المحتملة للمنطقة:
السيناريو الأول، والأكثر تداولًا، هو استمرار التصعيد الإقليمي في شكل نزاعات طويلة الأمد، وتزايد المنافسة بين القوى الكبرى على النفوذ في المنطقة. يشير Gause (2019) إلى أن التوترات بين إسرائيل وإيران، خاصة في ضوء الحرب في اليمن، قد تستمر في تأجيج الصراعات الإقليمية، وأن هذه الصراعات يمكن أن تمتد إلى دول أخرى مثل العراق وسوريا، مما يزيد من تعقيد الوضع الإقليمي. كما يمكن أن تستمر الحروب بالوكالة في غياب رؤية شاملة للتسوية السياسية بين الأطراف المتنازعة.
علاوة على ذلك، قد تدخل قوى إقليمية- مثل تركيا- في إعادة تشكيل المنطقة بناءً على مصالحها الإستراتيجية الخاصة، ما يزيد من فرص التصعيد والتدخلات العسكرية.
السيناريو الثاني هو إعادة التوازن الإقليمي عبر تحولات اقتصادية وتكتلات جديدة؛ فقد تشهد المنطقة تحولات اقتصادية كبيرة، خاصة في ظل التعاون المتزايد بين الدول الخليجية ودول شرقي آسيا، لا سيما الصين.
ومن المتوقع أن تعيد الصين تشكيل ملامح الاقتصاد الإقليمي في الشرق الأوسط بعد 2025 من خلال مبادرة "الحزام والطريق"، التي ستركز على البنية التحتية والطاقة، وهذا قد يسهم في خفض الاعتماد على الغرب، ويمنح الشرق الأوسط خيارات اقتصادية وسياسية جديدة، وهو ما سيؤثر بشكل مباشر على النظام الأمني الإقليمي.
من المحتمل أن تشهد منطقة الشرق الأوسط تحولات نحو إنشاء تحالفات إقليمية مستقرة، تركز على الأمن والتنمية المستدامة، حيث يصبح التعاون الإقليمي أكثر أهمية من أي وقت مضى في مواجهة التحديات المشتركة
السيناريو الثالث يتعلق بالتحولات السياسية الداخلية؛ فقد تطرأ تغييرات في أنظمة الحكم في بعض الدول بسبب الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، وبعض الدول قد تشهد تحولات سياسية كبيرة، نتيجة للأزمات الاقتصادية والاحتجاجات الشعبية المستمرة.
فمع تطور الأوضاع في لبنان والعراق، هناك احتمال كبير لتحولات دستورية أو حتى تغييرات في النظم الحاكمة، وهي التحولات التي ستكون لها تداعيات كبيرة على النظام السياسي في المنطقة.
قد يؤدي هذا السيناريو إلى تشكيل "دول جديدة" تخرج من النظام التقليدي القائم، بالإشارة إلى إمكانية قيام ترتيبات سياسية جديدة تركز على الشراكة بين الحكومات والمجتمع المدني، بدلًا من الأنظمة السلطوية التي سادت لعقود.
السيناريو الرابع هو التقارب الإقليمي والتعاون الأمني، بعد تطورات جديدة مثل اتفاقات السلام والمصالحة بين الدول المتنازعة؛ حيث يمكن أن تشهد المنطقة عودة للدبلوماسية والتعاون بين الدول التي طالما كانت على خلاف، خاصة في ظل الفجوة التي خلفتها التدخلات العسكرية الغربية في المنطقة.
في هذا السيناريو، من المحتمل أن تشهد منطقة الشرق الأوسط تحولات نحو إنشاء تحالفات إقليمية مستقرة، تركز على الأمن والتنمية المستدامة، حيث يصبح التعاون الإقليمي أكثر أهمية من أي وقت مضى في مواجهة التحديات المشتركة، مثل تغير المناخ والإرهاب والهجرة.
يتعين على صناع السياسة في المنطقة أن يأخذوا في الحسبان المخاطر والفرص في هذا السياق المعقد، واتخاذ خطوات منسقة لتحسين الاستقرار والتنمية المستدامة
السيناريو الخامس يتنبأ بـ"التمزق الداخلي" وتفاقم الفراغات الأمنية في بعض الدول، مثل سوريا وليبيا. قد تستمر هذه الدول في مواجهة صعوبات كبيرة في استعادة الاستقرار السياسي، ما يفتح المجال لزيادة النفوذ الخارجي، وزيادة أعداد الفاعلين غير الحكوميين في المنطقة، وقد تكون تلك الدول عرضة لمزيد من الانقسام الداخلي على أساس عرقي وطائفي، مما قد يؤدي إلى تمزيق الدولة أكثر.
في جميع هذه السيناريوهات، تظل الفرص والمخاطر مترابطة، حيث يمكن للمنطقة أن تشهد تعاونًا إقليميًّا فعالًا واستقرارًا اقتصاديًّا في حال تم إيجاد حلول سياسية متوازنة، أو قد تشهد مزيدًا من الصراعات والانقسامات إذا استمر الوضع كما هو عليه.
كما يمكن لتلك التحولات الجيوسياسية أن تعتمد على التفاعل بين القوى الكبرى والقوى الإقليمية، وعلى استجابة الحكومات المحلية لمطالب شعوبها في ظل بيئة دولية مليئة بالتحديات.
وبالتالي، يتعين على صناع السياسة في المنطقة أن يأخذوا في الحسبان المخاطر والفرص في هذا السياق المعقد، واتخاذ خطوات منسقة لتحسين الاستقرار والتنمية المستدامة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
وداد حماد مخلف حمادي
كاتبة، دكتوراه في الجغرافيا السياسية، العراق
المصدر: الجزيرة نت